ويقول طه حسين إن الكتاب هام، لا لقيمته التاريخية فحسب، بل لقيمته المعاصرة أيضا، فإن أرسطوطاليس «لم يكن يشخص عصره الذي عاش فيه فحسب، وإنما كان يشخص الرقي الإنساني بوجه عام.»
وأرسطو يستعرض صور الحكومات ويختار منها حكومة وسطا، تمثل طبقات الشعب تمثيلا صحيحا معقولا، ويرفض صور كل الحكومات الاستبدادية؛ استبداد الملوك، أو استبداد الأقليات، أو استبداد العامة.
وإذن فإن هذا الدرس «الأكاديمي» الذي اختار الأستاذ الشاب طه حسين أن يلقيه على طلابه في العام الجامعي 1919-1920 لم يكن منقطع الصلة بما يجري خارج الجامعة، بل كان شديد الاتصال بما يشغل باله هو وبال غيره من المفكرين، أي بطبيعة حياة مصر السياسية بعد الاستقلال. •••
وتنتقل أسرة طه حسين من السكاكيني إلى «شقة» في شارع الحواياتي على ناصية شارع الخديو إسماعيل، وقد وصلت سجادة عجمية من الوالد الذي كان قد أرسل أيضا حوالة بريدية اشترت السيدة سوزان بقيمتها عربة للطفلة أمينة، ووصلت سجادة أخرى من الشيخ أحمد شقيق طه حسين الكبير، وكان عبد المجيد الشقيق الذي يصغره بخمسة عشر عاما يساعد في إعداد «الشقة»، إنه يتابع دراسته الثانوية ويريد أن يدخل بعد ذلك مدرسة الهندسة العليا، وهو الآن يداعب ابنة أخيه في عربتها، وهي تضحك له سعيدة بمداعبته، ولكن عبد المجيد ينصرف عن هذه المداعبة بعد قليل ليحدث شقيقه الكبير بما يحس به الشباب - حتى من كان منهم في مثل سنه الصغيرة - من غضب على المحتلين ورغبة في العمل لإنهاء الاحتلال واستعداد للتضحية في سبيل تحرير البلاد.
طه حسين يقول لشقيقه إن زعماء البلد يبذلون جهودا جدية للوصول إلى هذا الهدف، وقد عاد ملنر وبعثته إلى بريطانيا في مارس 1920 مقتنعين بضرورة التفاوض مع الوفد المصري وكيل الأمة، ومن المنتظر أن تبدأ المباحثات قريبا بين الوفد المصري والإنجليز وهو يرجو لها النجاح. ثم يذكر طه لأخيه أن نهاية العام المدرسي قد اقتربت، وقد يحسن بأخيه وبزملائه أن يهتموا الآن بدروسهم وامتحاناتهم، ولكن عبد المجيد يحتج بأن الإنجليز لا ينوون الخير لمصر، فقد نقلت الصحف أن ونستون تشرشل قد صرح أخيرا بأن مصر جزء من الإمبراطورية البريطانية، وبأنه ينوي أن يزورها قريبا بهذه الصفة، وطه حسين يرد عليه بأن هذا الهراء يجب ألا يحمل أحدا على اليأس، ويقول له إنه هو قد قال لسعد زغلول عندما قابله في باريس منذ عامين: «كيف نيأس وقد أيقظتم الشعب فاستيقظ ودعوتموه فاستجاب؟» ويكرر أنه ما دام الشعب يقظا فإن مطالبه العادلة ستتحقق دون شك.
لا يتذكر طه حسين زيارته هو لسعد زغلول في باريس فحسب، بل يتذكر أيضا زيارة أحمد لطفي السيد له في «شقته» ذات الغرفة الواحدة في باريس، لقد حضر ومعه صديق عزيز عليه هو عبد العزيز فهمي باشا، الذي حاول أن يحمل الطفلة أمينة بين يديه فصرخت في وجهه باكية، وصرخ هو فيها ينهرها لبكائها قائلا لها: «اسكتي أيتها الأفريقية!» وتركها ليحدث أباها فيطيل الحديث وتطول الزيارة ساعة يكتشف طه حسين أثناءها أن عبد العزيز فهمي ليس وطنيا عظيما ولا قانونيا فقيها متميزا فحسب، بل إنه كذلك عالم شغوف باللغة العربية أسلوبه فيها جميل ناصع قوي الأداء، وهو أيضا شاعر رصين مجيد مطيل.
4
عبد العزيز فهمي هو الذي ذهب مع سعد زغلول ومع علي شعراوي باشا فواجهوا ممثل بريطانيا في مصر يوم 13 نوفمبر 1918، يطالبونه بالاستقلال بعد أن انتهت الحرب العالمية التي تحملت فيها مصر ما تحملت، وهو الآن في باريس مع سعد مستمرين في الجهاد رغم كل العقبات التي تضعها إنجلترا، وأوروبا معها للأسف، في طريق الحركة الوطنية المصرية.
طه حسين إذن يعرف سعدا ويعرف عبد العزيز فهمي عن قرب، وهو يعرف أيضا من زعماء الحركة الوطنية عبد الخالق ثروت وكيل الجامعة، وآل عبد الرازق ومنهم حسن باشا محافظ الإسكندرية، وعلي ومصطفى صديق أخيه الشيخ أحمد وصديقه منذ أيام الأزهر، وهو واثق أن هؤلاء الرجال الكرام على أنفسهم وعلى شعبهم سيصلون باتحادهم وبصمود الشعب من خلفهم إلى تحقيق أهداف البلاد، وهو يدعو الله أن يظل الشعب متحدا صامدا خلف زعمائه، ويدعو الله أن يستمر هؤلاء الزعماء في جهادهم متحدين متآزرين.
ويحضر أخوه الشيخ أحمد لزيارته في شارع الحواياتي، ويدور الحديث عن دور الأزهر ودور الجامعة وأساتذتهما في الحركة الوطنية. يقول طه حسين إن الفيلسوف الفرنسي «سان سيمون» الذي درس مذهبه عندما كان يعد رسالته للدكتوراه في باريس، يرى أن أمور الحكم الذي يحقق العدل ويكفل رقي الشعب يجب أن تصير إلى العلماء، ومع أن طه حسين يشك في أن العلماء يمكن أن يتولوا أمور الحكم في مصر أو في غيرها من البلاد في هذا العصر الحديث، فإنه يقول إنه لمعرفته بشخصيات كثير من الزعماء يخشى أن يختلفوا في المستقبل، ويرى أن العلماء المصريين هم الذين ينبغي أن يقضوا بين الزعماء في مصر عندما يختلفون، ولذلك فإنه لا ينبغي لهم أن ينحازوا إلى زعيم من الزعماء أو إلى حزب من الأحزاب. •••
ناپیژندل شوی مخ