لوتر: مقدمه لنډه
مارتن لوثر: مقدمة قصيرة جدا
ژانرونه
تصدير
1 - لوثر وحركة الإصلاح الديني
2 - التحول إلى إصلاحي
3 - جهود الإصلاح
4 - إنجيل لوثر
5 - المسيحية الجديدة
6 - الإصلاح السياسي
7 - من راهب إلى رب أسرة
8 - ملائكة وشياطين
خاتمة
ناپیژندل شوی مخ
مراجع وقراءات إضافية
تأريخ الأحداث
مسرد للمصطلحات وتراجم مختصرة
تصدير
1 - لوثر وحركة الإصلاح الديني
2 - التحول إلى إصلاحي
3 - جهود الإصلاح
4 - إنجيل لوثر
5 - المسيحية الجديدة
6 - الإصلاح السياسي
ناپیژندل شوی مخ
7 - من راهب إلى رب أسرة
8 - ملائكة وشياطين
خاتمة
مراجع وقراءات إضافية
تأريخ الأحداث
مسرد للمصطلحات وتراجم مختصرة
مارتن لوثر
مارتن لوثر
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
ناپیژندل شوی مخ
سكوت إتش هندريكس
ترجمة
كوثر محمود محمد
مراجعة
هبة عبد العزيز غانم
إحياء لذكرى
هيلمار يونجهانس (1931-2010)
مارتن لوثر، بريشة لوكاس كراناش، 1533. (Germanisches Nationalmuseum, Nuremberg. © Interfoto/Alamy)
تصدير
في عام 2010، أشير إلى كتاب «مارتن لوثر» على موقع تويتر، الذي يعد وسيلة مثالية لنشر مقدمة بالغة القصر عن لوثر؛ لأن الموقع لا يسمح إلا بكتابة 140 حرفا فقط في التغريدة الواحدة. ويسهب هذا الكتاب قليلا في حديثه عن مارتن لوثر، لكنه مع ذلك معد ليكون مقدمة موجزة لحياة وأعمال رجل كان هو نفسه ميالا إلى الإسهاب. وعلى الرغم من إسهابه، كان مارتن لوثر كاتبا مهما ومثيرا للجدل، صنعت كلماته التاريخ، الأمر الذي كان مصدر حماسة للبعض وإحباط للبعض الآخر. لم تؤثر كلماته في أساليب الحديث باللغة الألمانية والكتابة بها فحسب، بل أثرت أيضا في ديناميات الدين والثقافة في العالم الحديث. أكد لوثر على قوة تأثير الكلمات بوجه عام، وكما يليق بعالم لاهوت، فقد أكد على فعالية الكلام المقدس، على وجه الخصوص، لكن هذا الكتاب يدور بالأساس حول كلمات لوثر نفسه وتأثيرها على العالم الأوروبي في القرن السادس عشر. وعلى هذا، فإنه ليس سيرة ذاتية أو شرحا لعقيدة لوثر، بل هو سلسلة من اللقطات التي تحاول أن تصور حياته وعلاقاته وأهدافه وأعماله وتصوراته وآراءه، وتصف إيمان ومشاعر إنسان قلما أعجزه البحث عن الكلمات، وأفصح بسبب هذا عن نفسه أكثر مما جرؤ أي شخص أن يفعل.
ناپیژندل شوی مخ
لا يحوي هذا الكتاب أي حواش سفلية أو تعليقات ختامية، لكن مصادر الاقتباسات وشروح ما كتبه لوثر وردت بالفعل في إصدارات محلية لكتاباته يشير إليها النص، لكنني ترجمت بعض كتاباته، ويسعدني تقديم أوراق توثيقها لدى التواصل معي عبر ناشري أو عبر موقع
scott.hendrix@ptsem.edu
وقد قمت بتبسيط تاريخ مارتن لوثر في مواضع قليلة، لأغراض المساحة والتوضيح. على سبيل المثال، لم يكن لوثر قط راهبا يعتكف الأديرة، لكنه كان عضو أخوية؛ يحيا في دور أوغسطينية في إيرفورت وفيتنبرج، دور لا تشبه الأديرة بالمعنى الدقيق، غير أنه أشار إلى نفسه كراهب، وكتب نقدا للنذور الرهبانية، ولم يفصل فصلا بينا بين الرهبان الذين يعتكفون الأديرة وأعضاء الأخويات كالأوغسطينيين والفرنسيسكانيين والدومينيكيين؛ لذا كان تلافي استخدام كلمة «راهب» وكلمة «الاعتكاف» وكلمة «دير» أمرا مصطنعا وغير ضروري.
أدين بالشكر لكل من جمعت منهم معارفي عن حركة الإصلاح الديني من أساتذة وزملاء وطلاب، لا سيما من دعوني على مر السنوات أن أنظر إليها بمنظور مختلف. كما أدين بالامتنان لمن قرءوا كتابي قبل طباعته على اقتراحاتهم، لا سيما إيما ميرشانت من مطبعة جامعة أكسفورد؛ لتشجيعها الدائم لي ونصائحها المحنكة. كذلك يسرني أن أعرب عن تقديري وشكري لساندرا كيمبال، التي وضعت فهرس هذا الكتاب وكتبي الثلاثة السابقة، فمعارفها عن القرن السادس عشر ومهارتها ودقتها جعلت هذه الكتب أكثر إفادة للقراء.
أهدي هذا الكتاب إلى ذكرى هيلمار يونجهانس، الذي أمضى سنين طوالا في منصبه كمحرر لصحيفة «لوثر يار بوخ»، وهو أستاذ تاريخ الكنائس في لايبزيج؛ إذ زودني وزود آخرين بسخاء بمعارفه التي لا تضاهى عن لوثر على مدى سنوات عديدة ملأتها الصداقة والود، وقد توفي في جولة بالدراجة قبل أسبوع واحد من انتهاء هذا الكتاب.
سكوت إتش هندريكس
عيد العنصرة 2010
المواقع التي زارها لوثر بألمانيا.
الفصل الأول
لوثر وحركة الإصلاح الديني
ناپیژندل شوی مخ
في الرابعة من عصر الأربعاء، الموافق 17 من أبريل عام 1521، مثل مارتن لوثر الراهب المحروم كنسيا والأستاذ الجامعي البالغ من العمر 37 عاما أمام أعيان «الإمبراطورية الرومانية المقدسة»، الذين اجتمعوا لعقد مجلسهم التشريعي، وهو مجلس مكلف ومطول يناقش الشئون المالية والعسكرية الملحة والهرطقة، كما في هذه الحالة. قبل انعقاد هذا المجلس بيوم واحد ، كان لوثر قد بلغ مدينة فورمس الألمانية على نهر الراين، بعد رحلة دامت لأسبوعين، كانت أشبه بموكب للنصر منها إلى مسيرة مهيبة شعائرية قد تفضي إلى مقتله. كان الإمبراطور شارل الخامس، الذي كان عمره آنذاك 21 عاما فقط، ولم يمض على تقلده عرش الإمبراطورية الرومانية سوى عامين، قد استدعى لوثر إلى مدينة فورمس ليعترف علنا بخطأ الكتب التي كان قد كتبها؛ الكتب التي كانت آنذاك مكدسة على الطاولة أمامه في قصر ضيافة الأسقف الفخم بجوار الكاتدرائية. وعلى الرغم من أن لوثر أمل في جلسة استماع عادلة بمدينة فورمس، فقد وجد كل العوامل ضده؛ إذ أخبره المسئول عن الجلسة أنه مسموح له بالإجابة عن سؤالين فقط، هما: هل هو مؤلف الكتب التي نشرت باسمه؟ وإن كان الجواب نعم، فهل يؤيد ما كتبه أم أنه يرغب في التراجع عن أي شيء قاله؟
قد تكون قصة مارتن لوثر مألوفة إلى هذا الحد، لا سيما إن اعتبرنا أن جوابه هو رفض إنكار ما قاله أو التراجع عنه، وأنه قال كلماته الأخيرة الشهيرة: «هأنذا أقف، ولا يسعني أن أفعل غير ذلك، فليساعدني الرب. آمين.» على مدار نصف القرن الماضي، تشكك الدارسون في أن لوثر نطق حقا بعبارة: «هأنذا أقف، ولا يسعني أن أفعل غير ذلك.» التي أوحت لرولاند باينتون بعنوان سيرة شهيرة. ومع ذلك، فتلك العبارة هي سبب شهرته بأنه بادئ «حركة الإصلاح البروتستانتي» الشجاع المقدام، وهي شهرة عززها على مدار السنين الكتاب ومنتجو الأفلام والفنانون الذين صوروا هذا المشهد، وتثبيت لوثر «الأطروحات الخمس والتسعين» على جدار الكنيسة عام 1517 كأعمال صدرت عن متمرد على السلطة ومدافع عن الحرية الفردية. غير أن ذلك التصوير مضلل؛ فلو كانت «الأطروحات» قد علقت فعلا، فقد كان لوثر يهدف فقط إلى لفت الانتباه إلى مناقشة أكاديمية، وقد طلب في مدينة فورمس مهلة يوم لصياغة رده على الأسئلة المتعلقة بكتبه، وتبين أن الرد الذي تلاه على مجلس فورمس في 18 من أبريل عام 1521 أقل حدة وأكثر تعقيدا من خطاب تقريع مضاد للسلطة. وقد أقر بأن بعض كتاباته تضمنت نقدا لخصومه أشد مما يليق براهب، لكنه أضاف أن قوانين البابوية وتعليمات الكنيسة عذبت ضمائر سواد الناس، إلى حد أنه إذا تبرأ من كتاباته، فسوف «يدعم الطغيان ويفتح ليس فقط النوافذ، بل الأبواب أيضا على مصاريعها أمام شقاء عظيم». كان لوثر أيضا منتبها إلى ما يمليه عليه ضميره الذي لجأ إليه في الاستنتاج الذي كثيرا ما يستشهد به، والذي أسماه إجابة بسيطة مطلقة: «ما لم أقتنع بأدلة من نصوص الكتب المقدسة أو حجة لا جدال فيها، فأنا مصمم على النصوص المقدسة التي استشهدت بها وبما يمليه علي ضميري الذي هو أسير لكلمة الله.»
لم يؤسس مارتن لوثر تراثا غربيا للحرية الدينية، أو يسع لتحدي بابا الكنيسة الرومانية والإمبراطور للدفاع عن المفاهيم الحديثة للديمقراطية. ومن الواضح أن لوثر لم يكن يقصد نشر أفكاره إلى هذا المدى، وما كان في وسعه ذلك، مع أن نضاله من أجل الحرية المسيحية على حد وصفه لها في عام 1520 مهد بالفعل لصراعات تالية من أجل الحرية الدينية. كما أنه لم يحطم القيود عمدا، بل أكد على أن «حركة الإصلاح الديني» لم تكن حملة مبيتة، لكن جاءت كرد فعل لكتاباته. فما إن شكك لوثر علنا في العقائد التي تعلمها والمعتقدات الدينية التي كانت سائدة تلك الأيام، شعرت السلطات الدينية - التي كانت مستفيدة من ممارسات كصكوك الغفران - بالخطر. وفي روما، فتح مستشارو البابا تحقيقا أدى إلى عزل مارتن لوثر من الكنيسة، بعدما لم يجد دليلا تاريخيا أو إنجيليا مقنعا يؤيد ادعاءاتهم بالسلطة المطلقة للبابا. قال لوثر إنه لا يوجد دليل على أن الحواري بطرس، الذي زعم البابوات أنهم خلفاؤه، قد وطئت أقدامه روما، وكلمات المسيح عن بناء كنيسته على صخرة تحمل اسم بطرس لا علاقة لها بالبابوات أو بسلطتهم، لكن اقتراحات مارتن لوثر بتغيير ممارسات المسيحية لتتفق على نحو أوثق مع الكتاب المقدس أكسبته تأييد المثقفين والعامة على حد سواء. وبحلول الوقت الذي وصل فيه لوثر إلى مدينة فورمس عام 1521، كان في طريقه إلى أن يصبح أشهر كتاب ألمانيا والقائد الناجح، بعكس أسلافه، لحركة إصلاح ديني انتشرت على مستوى العالم، وظلت باقية حتى القرن الحادي والعشرين.
اقتبس باينتون في كتابه العبارة الأخيرة من خطاب لوثر، كما سجل في محضر مجلس فورمس، حيث لا يقول لوثر إلا العبارة التالية: «فليساعدني الرب. آمين.» أما الجزء الأول من عبارته «هأنذا أقف ...» فلم يظهر إلا في الرواية اللاتينية المتعاطفة لجلسة الاستماع لأقوال لوثر، التي طبعت لأول مرة في مدينة فيتنبرج، ويمكن قراءتها في المجلد السابع من طبعة فايمار. كان رأي باينتون في الجزء الأول من العبارة كما يلي: «قد تكون كلماتها مع أنها لم تسجل على التو صادقة؛ ذلك لأن المستمعين في تلك اللحظة ربما يكونون قد تأثروا إلى حد أعجزهم عن الكتابة.» (هأنذا أقف، ص185)
بعد أن غادر لوثر وأغلب نوابه مدينة فورمس، أصدر الإمبراطور شارل الخامس مرسوما يعلن أن لوثر ومؤيديه خارجون على القانون. ولما كان الناخب فريدريك (يطلق عليه هذا اللقب؛ لأنه من الأمراء المخول لهم انتخاب الإمبراطور الروماني المقدس) المؤيد للوثر والملقب بحكيم ساكسونيا قد توقع هذا المرسوم، فقد أمر باعتراض طريق جماعة لوثر في طريق عودتهم إلى الوطن، ومكث لوثر في بقعة سرية، تبين أنها قلعة «فارتبورج» القريبة من مدينة إيزيناخ على بعد ما يزيد عن 100 ميل جنوب غرب فيتنبرج؛ البلدة الصغيرة التي أقام فيها لوثر وألقى دروسه بها. كان الأمير فريدريك يقدر الشهرة التي أكسبها لوثر لجامعته الناشئة، لكنه في ذلك التوقيت كانت تواجهه مشكلة متمثلة في النحو الذي ينبغي أن يتعامل في ضوئه مع أستاذ جامعته المحروم كنسيا والخارج عن القانون. فما إن أذيع مرسوم الإمبراطور شارل الخامس حتى أصبح الأمير وأراضيه الساكسونية معرضين للخطر، ومن ثم قرر أن يبقي لوثر بمعزل عن الناس. وفي الوقت الذي توارى فيه لوثر عن الأنظار، لم يهدر زملاؤه في فيتنبرج بقيادة آندرو كارلشتادت وقتا، بل استغلوا الرأي العام لإحداث أول تغييرات ظاهرة في العبادة والحياة الدينية حولت الأفكار إلى أفعال، غير أن هذه التغييرات أثارت القلاقل وأزعجت مجلس بلدية فيتنبرج الذي حث لوثر على العودة، وعليه غادر لوثر فارتبورج مخالفا رغبة الناخب فريدريك في مارس عام 1522 ليستأنف قيادة «جماعته» في فيتنبرج، ولم يمض وقت طويل قبل أن ينحى كارلشتادت عن منصبه، ليتولى لوثر قيادة حركة الإصلاح الديني التي غيرت الثقافة الأوروبية، وجعلته إحدى الشخصيات العامة التي لا تنسى.
على مدى أعوام، عرض على زوار مقر لوثر في قلعة فارتبورج بقعة في الحائط، اصطدمت عندها محبرة ألقاها لوثر على الشيطان. يعود تاريخ أولى القصص التي تدور حول محبرة إلى نهاية القرن السادس عشر، عندما زعم أحد طلبة فيتنبرج أنه سمع أن الشيطان، مرتديا زي راهب، قد ألقى محبرة على لوثر. وظهر أول كتاب يشير إلى بقعة الحبر على الحائط عام 1650، وفيما بعد صورت القصة التقليدية لوثر وهو يلقي المحبرة على الشيطان. وشيئا فشيئا ظهرت نقطة حبر بجميع المباني التي كان لوثر قد أقام فيها، وأضحت هذه القصة أسطورة ممتعة للكثيرين. بالمثل، ثمة قصص كاذبة تذهب إلى أن لوثر، حال مكوثه بقلعة فارتبورج، قد زاره الشيطان في صورة ذبابة تطن حول رأسه، وكلب أسود كبير يرقد في فراشه.
لم يكن مارتن لوثر كمفكر سياسي أو فلسفي أول من امتلك أفكارا عصرية، لكنه كان آخر مصلح ديني شهدته العصور الوسطى؛ لأن الإصلاحات التي أجراها نجحت، بينما عجز الآخرون عن تغيير الموقف العام داخل أوروبا. فلولا قيام «حركة الإصلاح الديني» التي فاقت شخص لوثر وأتباعه الأوائل، لظل لوثر مجرد ناقد آخر عاثر الحظ للكنيسة الرومانية في العصور الوسطى، وربما كان سيعدم شأن غيره من المصلحين المخلصين الذين خلفوا ميراثا متواضعا على أفضل تقدير. ففي مدينة فورمس، يحيي النصب التذكاري الذي يخلد ذكراه، كذلك أربعة مصلحين سابقين له تم إقصاؤهم أيضا عن الكنيسة الرومانية، أحدهم من منطقة بوهيميا، وآخر من إيطاليا، وثالث من فرنسا، ورابع من إنجلترا. ويقف نصب لوثر منتصبا في المنتصف بما أنه الوحيد الذي صمد في وجه الحرمان من الكنيسة وخطر الإعدام، ليصبح بطلا في أعين بروتستانتيي القرن التاسع عشر الذين شيدوا النصب. وستوضح إشارة بسيطة إلى السابقين لمارتن لوثر السبب الذي يجعل نجاته من الإعدام ليست سوى سبب واحد من الأسباب التي جعلته الأكثر تأثيرا من بينهم جميعا؛ فلم يطلق مصلح آخر في العصور الوسطى حركة دينية بلغت المدى الجغرافي وحظيت بالتأييد السياسي الذي استأثرت به «حركة الإصلاح الديني البروتستانتي» في القرن السادس عشر.
كان أقدم أسلاف لوثر الذي احتل اسمه ركنا من النصب التذكاري هو بيتر والدو؛ وهو تاجر ثري عاش في القرن الثاني عشر من مدينة ليون الفرنسية، وتصرف والدو بناء على وازع شاع في العصور الوسطى، فتخلى عن ثرواته وأملاكه ليحذو حذو المسيح وحوارييه الأوائل كالقديس فرنسيس الأسيزي، لكنه بعكس الأخير لم يتلق قط هو وأتباعه غير الإكليريكيين (العلمانيون) إذنا بابويا بإلقاء الدروس الدينية أو تشكيل الجماعات الدينية، ومن ثم فقد استهانوا بالسلطة الكنسية، وألقوا الدروس الدينية بدون موافقتها، مستخدمين تراجم جزئية للإنجيل باللهجات المحلية، وفي غضون وقت قصير اكتسبوا أتباعا في جنوب فرنسا وإيطاليا. وأعلن أن هؤلاء الولدينيسيين - أو مساكين ليون كما لقبوا - مهرطقين بعد أن انتقدوا بذخ الكنيسة وممارساتها؛ كالدعاء للموتى وتقديم صكوك الغفران، ونبذوا من الكنيسة في عام 1184. لكن على الرغم من هذه الوصمة نجا الولدينيسيون من محاكم التفتيش التي كانت مهمتها معاقبة الهراطقة بالهجرة إلى أجزاء أخرى من أوروبا، مختبئين في وحدات صغيرة بين جبال الألب، وبتأسيس كنيسة متواضعة. وانضم أغلب الولدينيسيين فيما بعد إلى الجناح الكالفيني من حركة الإصلاح الديني البروتستانتي، لكن هذا لم يحصنهم من النفي والاضطهاد. واندلعت مذبحة غير مبررة لأتباع الحركة الولدينيسية الإيطاليين في عام 1655، امتدح على أثرها الشاعر جون ميلتون مبادئ أتباع الحركة ومعاناتهم في سونيتته الثامنة عشرة بعنوان «سونيتة مذبحة بيدمونت الأخيرة».
ثاني من احتل اسمه أحد أركان النصب التذكاري من أسلاف لوثر هو جون ويكليف، محاضر جامعة أكسفورد (الذي توفي عام 1384). كان ويكليف، الذي عد لزمن طويل أول مترجم للإنجيل إلى الإنجليزية، أقرب إلى الفلاسفة منه إلى فقهاء الإنجيل أو الناشطين الدينيين، لكن اسمه ارتبط بثورة الفلاحين التي قامت عام 1381، وبجماعات اللولارد السرية التي نشرت تراجم غير مصرحة للكتاب المقدس لم يكتبها ويكليف بقلمه. شكك ويكليف في أحقية الكنيسة في السيطرة على أملاك المواطنين، ورأى أن القس الفاسق يفقد حقه في ممارسة مهامه ويحتمل أن يقصى عن عضوية الكنيسة بمفهومها الحقيقي؛ بمفهومها كمجتمع من المؤمنين الصالحين الذين قدر لهم الرب سلفا الخلاص. واتهم لكل هذه الأسباب ولغيرها بالهرطقة، وأدان البابا وجامعة أكسفورد ومجلس كنسي عام معتقداته. ويرجح أن ويكليف أثناء عزلته في مدينة لوتروورث في العامين الأخيرين من حياته عانى من سكتة دماغية قبل أن توافيه المنية في عام 1384، ودفن في فناء الكنيسة، لكن نبش قبره وأخرجت عظامه عام 1428، بأمر من البابا مارتن الخامس، وأحرقت وألقي رمادها في نهر السويفت.
صمدت الكثير من كتابات ويكليف بعد وفاته، ويعود هذا بالأخص إلى الشعبية التي تمتعت بها أفكاره في أوساط الدارسين التشيكيين، الذين درس بعضهم في أكسفورد ونسخوا أعماله وعادوا بها إلى مدينة براج، حيث اطلع عليها جون هس ثالث أعلام حركة الإصلاح الديني الذين تظهر أسماؤهم على نصب مدينة فورمس التذكاري. كان هس دارسا وناطقا شهيرا باسم أفكار حركة الإصلاح الديني، واختير عام 1402 رئيسا لجامعة براج، ونصب الواعظ الرئيس لكنيسة بيت لحم الممولة بتمويل خاص، والتي أسست عام 1391 لخدمة الجامعة وشعب براج. ومن منبرها هاجم هس صكوك الغفران وشراء المناصب الكهنوتية والانتهاكات الأخلاقية البابوية، ورأى - شأنه شأن ويكليف - أن الكنيسة الحقة تتألف من مجتمع من المؤمنين المختارين، وتضمنت أطروحته في هذا الصدد فقرات من كتاب ويكليف، لكن لما عارضه بقوة أساتذة الجامعة الألمان، الذين شجبوا أطروحات ويكليف الخمس والأربعين، خسر في نهاية المطاف تأييد رئيس أساقفة مدينته، وأصدر البابا مرسوما بحرمانه كنسيا (طرده من المجتمع الكنسي). وفي عام 1414 استدعي للمثول أمام مجلس عام للكنيسة في مدينة كونستانس بجنوب ألمانيا، وفشل الملك سيجسموند في حمايته كما وعد، وسجن لعام بتهمة اعتناق آراء ويكليف الهرطقية التي أدانها المجلس الكنسي، وحوكم محاكمة غير منصفة أدين على إثرها، وغض الطرف عن احتجاجاته. وبعد أن تعرض للسخرية والإذلال لكونه مهرطق، أحرق على وتد في السادس من يوليو عام 1415، ونثر رماده على نهر الراين.
ناپیژندل شوی مخ
غير أن هس خلف زملاء مؤيدين وحركة إصلاح حقيقية في مسقط رأسه بوهيميا؛ إذ هب أتباعه التشيكيون وقد ثارت ثائرتهم لإعدامه، وألهبت نيران سخطهم مشاعر قومية ليقفوا في مجابهة ملك تشيكوسلوفاكيا والكنيسة الرومانية، واختاروا كأس العشاء الرباني شعارا يرمز لمطالبتهم بالخمر الذي حرموا منه في قداس العشاء الرباني، والذي اقتصر تقديمه على القسيسين. وأطلق على المعتدلين من أتباع هذه الحركة «الأتراكوست» (وهو اسم مشتق من اللاتينية يعني «كلا»)؛ لأن أتباعها احتفلوا بقداس العشاء الرباني بتقديم الخبز والخمر كليهما لجميع المتناولين، واستجاب مجلس بازل عام 1431 لمطالبهم، بعد سلسلة من المعارك التي فشلت في قمع ثورتهم، وصمدت جماعتهم تحت اسم الإخوان البوهيميين، مع بقاء عدد قليل من الكاثوليكيين المخلصين للكنيسة الرومانية حتى حرب الثلاثين عاما (التي امتدت من عام 1618 إلى عام 1648). اندلعت تلك الحرب بعد أن قذف بعض البروتستانتيين الساخطين مسئولين من الكنيسة الكاثوليكية ومساعدهما من نوافذ قلعة براج، متهمين إياهم بتقويض حريتهم الدينية، وعلى الرغم من أن الرجال الثلاثة هبطوا على كومة من الروث ونجوا من الموت، قادت تلك الواقعة إلى هزيمة البروتستانتيين ونهاية حركة الإصلاح الديني الهسية.
آخر أسلاف لوثر الذين صوروا على نصب فورمس التذكاري هو جيرولامو سافونارولا (1452-1498) وهو راهب دومينيكي حرمه البابا أليكساندر السادس كنسيا، ثم أعدم بعدما ارتدت عليه محاولاته لقلب فلورنسا إلى جمهورية مسيحية ملتزمة، فبعد أن طردت القوات الفرنسية أسرة ميديشي الحاكمة من إيطاليا، ليخلفها هو كحاكم فلورنسا الفعلي، بذل مع مؤيديه قصارى جهده لقمع الخطيئة والقضاء على صور العبث بالمدينة؛ فأصدر قوانين تحرم الميسر والإسراف في الملبس للاقتصاد في الإنفاق، حتى إن نساء المدينة تدفقن على ميدانها العام سنة 1497 لإلقاء أدوات الزينة والمرايا والملابس الفاخرة والحلي الباهظة الخاصة بهن في محرقة هائلة أضرمت في الخلاء، عرفت باسم حادثة «حرق الباطل». وبرر سافونارولا هذه الإجراءات في عظات حماسية ، تستند إلى رؤى خاصة به، تنبأت بميلاد عصر روحاني جديد، بعد أن تطهر العالم من آثامه من خلال المحن الهائلة التي تعرض لها. ولما رفض سافونارولا الامتثال لأوامر استدعائه إلى روما، هدد بابا الكنيسة الرومانية بحرمان فلورنسا بأسرها من تلقي القرابين المقدسة. ونظرا لحرمان شعب فلورنسا من التأييد الفرنسي، انقلب على سافونارولا، واقتحم بعض الغوغاء دير سان ماركو وأسروه مع اثنين من مساعديه، وسلموا الثلاثة إلى السلطات المدنية، حيث خضعوا للاستجواب وعذبوا وشنقوا جميعا في 23 من مايو عام 1498 في وسط المدينة، وأحرقت جثامينهم.
كان لمصممي نصب مدينة فورمس أسباب قوية لتصوير الولدينيسيون وويكليف وهس وسافونارولا كأسلاف للوثر، فقد اشتركوا معه في الكثير من السمات؛ فكان الإنجيل هو أصل دعواهم لإصلاح الحياة الدينية، وقد أيدوا ترجمة أجزاء منه إلى اللغة العامية؛ ليتسنى لعامة الناس قراءة الكتاب المقدس بأنفسهم، وشجعوا أتباعهم على أن يجعلوا تعاليم المسيح والمسيحيين الأوائل في العهد الجديد مثلهم الأعلى، وكان الوعظ الديني أداة قوية لنشر أفكارهم، وواصلوه حتى بعد أن أثنوا عنه وحرموا كنسيا. علاوة على ذلك، فقد انتقدوا سلوك رجال الدين بالكنيسة الرومانية وتحدوا السلطات البابوية، وتمتعت حركة إصلاحهم بتسامح سياسي وتأييد جعلها تصمد لفترة في فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وبوهيميا؛ فالإصلاح من المبادئ القديمة في المسيحية، وأغلب محاولات التغيير على مر تاريخها بما في ذلك التجديدات الرهبانية اتسمت بسمة أو أكثر من تلك السمات.
ما الذي ميز لوثر إذن عن الإصلاحيين الآخرين الذين يحمل نصب فورمس أسماءهم؟ فيما يتصل بجون هس - وهو أكثر من ألم لوثر به من أسلافه في الإصلاح - فقد أجاب لوثر عن هذا السؤال أكثر من مرة؛ ففي مناظرة في مدينة لايبزيج عام 1519 اتهم رجل الدين الكاثوليكي جون إيك لوثر بأنه اعتنق ثلاثا من هرطقات هس، فكان رد الأخير هو اتهام أتباع هس بأنهم بوهيميون منشقون، غير أنه أعلن أيضا أن بعضا من تصريحات هس التي أدينت في كنيسة كونستانس؛ استمدت إلى حد كبير مصدرها من الإنجيل وتعاليم الدين المسيحي. وقد أرسل له اثنان من جماعة الأتراكوست في براج نسخة من كتاب هس عن الكنيسة في وقت لاحق من هذا العام، والراجح أنه قرأ الكتاب قراءة سريعة، ففي أوائل عام 1520 قال لوثر واصفا تأثير الكتاب:
آمنت واعتنقت إلى الآن جميع تعاليم جون هس دون أن أعرف ذلك ... باختصار، جميعنا نتبع هس دون أن ندري ... وتذهلني هذه الأحكام الإلهية المريعة التي تصدر بحقنا. أبرز حقائق الكتاب المقدس - التي أحرقت علانية قبل أكثر من مائة عام - تدان اليوم ولا يسمح لأحد بأن يقر بها.
هذه الكلمات التي تقر بأن هناك فارقا ضئيلا فقط، أو فارقا لا يذكر، بين هس ولوثر بدا كأنها تحقق نبوءة شهيرة، عزاها لوثر بعد 11 عاما إلى هس الحبيس الذي قال: «سيحرقون هذه الإوزة (فاسم هس يعني إوزة)، لكن بعد 100 عام سيضطرون رغما عنهم إلى تحمل الاستماع إلى أغنية بجعة.» لا يوجد ما يدل على أن هس قد أدلى بهذه النبوءة، لكن أتباع لوثر في كتاباتهم ورسوماتهم التي صوروا فيها بجعة إلى جانب لوثر آمنوا بأنها تحققت بالأخير.
غير أن لوثر لم يتوحد مع هس على الدوام، ففي عام 1520 زعم أن نقد هس للبابوية لم يبلغ الحد الكافي، وأن نقده هو لها بلغ خمسة أضعاف ما حققه هس. وفي كتاب «أحاديث المائدة» - وهو عبارة عن نسخ منقحة لمحادثاته على الموائد - ينتقد تشبث هس بخرافات العامة واهتمامه بانتهاج السلوكيات السليمة أكثر من اهتمامه بالتعاليم الصحيحة، فقال:
لا بد من التمييز بين العقيدة والسلوك. نحن نسيء السلوك كما يسيء البابويون، لكننا لا نحارب البابويين أو نشجبهم لهذا. لم يع ويكليف وهس هذا وهاجما البابوات لسلوكهم ... (أما مهاجمة العقائد) فهي ما أدعو إليه.
يرجح أن لوثر كان يشير إلى كتابات ويكليف وهس التي تهاجم السيمونية (شراء المناصب الكهنوتية) والفساد الأخلاقي بين رجال الدين، لكن الفارق البين الذي وضعه للفصل بين العقيدة والسلوك مغالى فيه، فمع أنه أكد على أن عقيدة المسيحية الأساسية لا تتمحور حول الفضيلة، بل حول الإيمان، فقد ذكر أيضا أن الإيمان الحق لا يتجزأ عن المحبة والرأفة، ففي عظة أدلى بها بعد عودته من مدينة فيتنبرج عام 1522 وبخ مستمعيه قائلا:
أنتم على استعداد للتمتع بكل الأطياب التي وهبها لنا الرب في القرابين المقدسة، لكنكم لا تبدون استعدادا لمنحها ثانية في صورة محبة ... وا أسفاه! لقد استمعتم إلى الكثير من الخطب الدينية عن هذا، وكتبي مليئة بالموضوعات التي تتناول هذا الشأن، والتي كتبت لهذا الغرض؛ لحثكم على الإيمان والمحبة.
ناپیژندل شوی مخ
اقترب لوثر من تفسير السبب الذي جعله - بعكس أسلافه - يطلق حركة الإصلاح الديني عندما قال إن كتابات هس هاجمت صكوك الغفران قبل أن يحين الأوان لذلك. ويشير نصب مدينة فورمس التذكاري إلى السبب الذي جعل الأوان مناسبا لذلك عام 1517، عندما أطلقت أطروحات لوثر الخمس والتسعون عن قوة صكوك الغفران - وهي نص لاتيني أعد للمناظرة الأكاديمية - حركة دينية مدعومة سياسيا لا يمكن احتواؤها. حملت الأركان الأمامية لقاعدة النصب اسمي أبرز زعيمين سياسيين للحركة البروتستانتية الألمانية، وهما: فيليب حاكم هيسي، وفريدريك الثالث الأمير المختار لساكسونيا الملقب بالحكيم؛ فدون حماية الأمير فريدريك وورثته، لما أمكن للوثر أن يفلت من المرسوم الذي صدر ضده وضد أتباعه في فورمس، ودون النفوذ العسكري والسياسي الذي تمتع به فيليب - المناصر للحركة البروتستانتية من بدايتها - لما أمكن للبروتستانتيين صد محاولات الإمبراطور شارل الخامس لعرقلة حركة الإصلاح الديني. يحمل النصب أيضا رموزا لثلاث مدن ألمانية، هي: ماجديبورج، وشباير، وأوجسبورج. ليرمز للدور الحاسم الذي لعبته مدن الإمبراطورية الألمانية الحرة التي تبنت حركة الإصلاح الديني ودعمتها بثبات. ففي أوجسبورج عام 1530 نشر اللوثريون دفاعا عن عقيدتهم فيما صار يعرف باسم «إقرار أوجسبورج»، لكن الإمبراطور شارل الخامس رفض قبول الإقرار. مع ذلك، في عام 1555، منح البروتستانتيون الألمان الذين والوا الإقرار وضعا شرعيا في الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وتخلى شارل الخامس عن حملته ضدهم.
أما الأركان الخلفية لنصب مدينة فورمس فتضم تمثالا لفيليب ملانكتون - وهو زميل أصغر سنا للوثر، وعالم لغة إغريقية شارك في قيادة الحركة اللوثرية - وتمثالا ليوهانز ريوكلين، وهو معلم فيليب ملانكتون وعالم عبرية شهير، ويمثل الرجلان معا أثر الحركة الإنسانية الألمانية على حركة الإصلاح الديني. كان هس وويكليف بدورهما عالمين، لكنهما لم ينتفعا من حركة دراسة اللغات المكثفة والارتفاع المفاجئ في عدد المواد المطبوعة اللذين أعقبا ابتكار طباعة جوتنبرج في خمسينيات القرن الخامس عشر. درس أغلب مصلحي القرن السادس عشر العلوم الإنسانية، وأمكنهم قراءة الإنجيل باللغة العبرية والإغريقية، وبفضل علماء كإراموس من مدينة روتردام أتيحت للوثر طبعات منقحة من الإنجيل لكتاب كلاسيكيين ولرجال الدين الأوائل التابعين للكنيسة الرومانية مثل أوغسطين.
كما كانت أعمال زملائه وغيره من المصلحين ضرورية لنشر حركة الإصلاح الديني. فتصور رسوم على ميداليات على نصب مدينة فورمس التذكاري أربعة من زملاء لوثر. جون بوجنهاجن - الذي كان راعي أبرشية وأستاذا في فيتنبرج - نقل الحركة البروتستانتية إلى شمال ألمانيا والدنمارك؛ لأنه انحدر من مدينة بوميرانيا، وألم باللهجة الألمانية السفلى التي كانت مستخدمة في الشمال، واستطاع أن يضع دساتير للكنائس اللوثرية الجديدة في هذه المناطق. أما يوستوس يوناس، الذي كان زميل وصديق لوثر في فيتنبرج، فقد نقل حركة الإصلاح إلى بلدات أخرى عبر خطب الوعظ الديني التي ألقاها، وبقدرته على ترجمة اللاتينية التي كتب بها لوثر إلى الألمانية لجمهور أكبر من القراء. فيما ألقى أولريخ زفينجلي عالم الإنسانيات السويسري خطب الوعظ الديني، مستندا مباشرة إلى الإنجيل باللغة الإغريقية، وأتى إلى مدينة زيوريخ بحركة إصلاح ديني منفصلة عن الحركة اللوثرية الألمانية، اتحدت فيما بعد بحركة جون كالفن المصلح الفرنسي الأصل من جنيفا، الذي تأثرت به الكثير من أنحاء أوروبا. كانت الحركة الكالفينية أكثر تأثيرا من الحركة اللوثرية على حركة الإصلاح الديني في إنجلترا؛ إذ حولتها إلى دولة بروتستانتية بعد عام 1559.
لا ترجع جميع أسباب نجاح حركة الإصلاح الديني التي شهدها القرن السادس عشر إلى لوثر أو فيتنبرج مباشرة، مع أن من المستحيل الجزم بما إن كان الإصلاح الديني ليتحقق على مدى واسع دون لوثر. لكن لا شك أن مارتن لوثر لم يكن ليظهر في هذه السلسلة لولا الثورة الدينية التي تجاوزت أي حركة إصلاح تخيلها، وكان لها آثار أكبر على العالم الحديث من مبادرات أسلافه.
الفصل الثاني
التحول إلى إصلاحي
بحلول الوقت الذي اختطف فيه لوثر اختطافا وديا بعد انعقاد مجلس فورمس كان - بسنوات عمره السبع والثلاثين - قد جاوز أواسط العمر، وقد أخذ - دون أن يعي ذلك - يسلك مسارا مهنيا جديدا إلى جانب منصب الأستاذية الذي شغله، هذا إذا كان مسموحا له أن يحتفظ به. ملأ لوثر وقته في العشرة شهور التي أمضاها في قلعة فارتبورج (من مايو 1521 إلى مارس 1522) بالدراسة والكتابة والتأمل، مما أقنعه بأن يأخذ على عاتقه مهمة جديدة؛ فلم يعد راهبا، وإنما خادما تقوده العناية الإلهية لإعادة صورة أصدق للمسيحية إلى ألمانيا، عوضا عن مسيحية العصور الوسطى التي بدت له مليئة بالفساد والخرافات. فكيف استطاع ابن مقاول المناجم القادم من بلدة صغيرة في ألمانيا أن يجد مثل هذه الثورية في نفسه؟
وصف لوثر والديه بأنهما من الفقراء، ووصف نفسه بأنه ابن فلاح، لكن هذه الكلمات توحي بانطباع خاطئ عن طفولته. كان والده هانز ابن أحد المزارعين في قرية موهرا الصغيرة، التي لا تبعد بمسافة كبيرة عن بلدة آيزيناخ مسقط رأس والدته مارجريت ليندمان، لكن أقارب مارجريت ليندمان كانوا من أعيان البلدة، ومع أن هانز والد لوثر تزوج من طبقة اجتماعية رفيعة، إلا أنه شق طريقه في صناعة المناجم ليصبح صاحب مصهر؛ أي وكيلا لشركات النحاس، وهو ما تطلب منه استثمار أمواله الخاصة في العمل. ولد مارتن لوثر وتوفي في مدينة آيسلبن، لكنه أمضى طفولته في بلدة مانزفيلد الأصغر حجما، والتي انتقل إليها والداه عقب مولده بوقت قصير. ازدهرت أعمال هانز وجعلته أحد مواطني البلدة البارزين، وتشير الاكتشافات الحديثة إلى أن أسرة لوثر كان لديها زاد كاف من الطعام، وعاشت حياة موسرة في منزل كبير، شيد حول فناء ربما لعب فيه مارتن في طفولته بكرات زجاجية صغيرة عثر عليها هناك تعود إلى القرن السادس عشر. نمت ثروة هانز والد مارتن وتقلصت مع تذبذب سعر النحاس، لكن مارتن وإخوته - الذين ضموا على الأقل أخا يدعى ياكوب وثلاث أخوات - لم يعرفوا قط الفقر بمعناه الحقيقي، وأصبح ياكوب - الذي جمعت بينه وبين لوثر علاقة وثيقة - صاحب مصهر بدوره، وعاش في منزل الأسرة بعد أن توفي والده.
ربما كان هانز ابن فلاح، لكن مارتن نفسه - على حد أقصى ما بلغه علمنا - أقام في المدينة ولم يجرب قط الحياة الريفية، ورغم أنه شكا فيما بعد من أنه تلقى تعليما سيئا للغاية، عانى فيه الأمرين، فإن هذا المستوى التعليمي لم يعده للالتحاق بالجامعة وحسب، بل للعمل أيضا كمدرس وكاتب ومترجم وواعظ. ارتاد لوثر حتى الرابعة عشرة من العمر مدرسة لاتينية في مانزفيلد، لقن فيها قواعد اللغة، وتعلم مبادئ المنطق والخطابة. وفي عام 1497 تقريبا أرسل مع صديقه هانز راينيكي إلى مدينة ماجديبورج الكبيرة - مقر إقامة رئيس الأساقفة - حيث يرجح أنهما التحقا بمدرسة كاتدرائية البلدة، وأقام لدى جمعية إخوة الحياة المشتركة، وهي جمعية غير رهبانية، يشبه مقرها الدير، آوت الطلاب ودرست لهم في بعض الأحيان. واجهت مدينة ماجديبورج لوثر الشاب القادم من بلدة صغيرة ببيئة حضرية ودينية متشددة، لكننا لا نعرف الكثير عن أثرها فيه، فبعدها بعام أرسل لوثر إلى مدينة آيزيناخ للالتحاق بمدرسة قريبة من أقارب والدته، وأقام هناك مع هاينز شالبي، وهو أحد مواطني البلدة البارزين وراع لديرها الفرنسيسكاني، وارتاد مع ابن شالبي؛ كاسبار مدرسة أبرشية سان جورج، حيث نشأت صداقة وثيقة بينه وبين جون براون، وهو قس مسن دعاه لوثر فيما بعد إلى قداسه الأول. غير أن لوثر لم يدر بالطبع أنه سيختبئ بعد عشرين عاما في قلعة فارتبورج المطلة على البلدة.
كانت الخطوة التالية للوثر الطالب النابغة هي الجامعة، فاختار عام 1501 مدينة إيرفورت، وهي مدينة تجارية تقع على بعد 60 ميلا جنوب مدينة مانزفيلد، والتي كانت مزدهرة في عام 1392 بما يكفي لتأسيس جامعة خاصة بها. أقام لوثر لعشر سنوات من الأحد عشر عاما التالية من حياته في إيرفورت، وأمضى هناك أربعة أعوام بالجامعة وستة أعوام بالدير، وقيد شأنه شأن الطلاب المقبلين على الدراسة الجامعية في كلية الفنون الحرة؛ حيث اجتاز اختبار البكالوريا عام 1502، لكنه استغرق وقتا أطول للتأهل للتدريس، وتعين عليه دراسة أعمال أرسطو دراسة مكثفة، وأنهى الدراسة محتلا الترتيب الثاني على صف من سبعة عشر طالبا في أوائل عام 1505، وتسلم أوسمة المعلمين بالجامعة، وهي بريتة (قلنسوة مربعة الشكل) وخاتم إصبع، وهو ما أهله لإلقاء المحاضرات وعقد المناقشات، فضلا على أنه صار مؤهلا للدراسة في الكليات المهنية، ككليات القانون والطب وعلوم الدين، فعكف مباشرة على خوض المرحلة الأخيرة من تعليمه سيرا على خطة أبيه، الذي ارتأى أن دراسة القانون هي أفضل الطرق للوصول إلى وظيفة مرموقة آمنة، لكنه واصل الدراسة لأقل من شهرين، وبعد العودة إلى دراسته من زيارة إلى بلدته في يوليو عام 1505، أقلع فجأة عن دراسة القانون وجمع أصدقاءه - الذين ذهلوا من جراء ذلك - لحفل وداع بهيج، والتحق بدير أوغسطينيان المجاور.
ناپیژندل شوی مخ
يبدو أن التقوى كانت دافعا حاسما قاد لوثر إلى هذه النقلة المفاجئة؛ فعندما شارف على الوصول إلى مدينة إيرفورت عند عودته، أفزعته عاصفة عاتية إلى حد أنه أقسم على أن يصبح راهبا إن نجا سالما. ولكن لكي يقطع على نفسه هذا العهد الذي قد يغير حياته كلها - حتى في مواجهة الموت - لا بد أن لوثر كان له مآخذ على الاشتغال بالقانون، وأنه درس احتمال أن يهب حياته للدين بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ أن يهبها للدير. كما أن الدين كان يحيط به في كل مكان عاش فيه وتعلم فيه، ولا سيما في مدينة ماجديبورج وآيزيناخ وفي مدينة إيرفورت التي امتلأت بالكنائس والأديرة ومجالس رجال الدين. وكان بمقدوره أن يدرس علم اللاهوت دون أن يصبح راهبا، لكنه لم يسع إلى تغيير مسار دراسته، بل إلى حياة مختلفة.
شكل 2-1: لوثر كراهب، بريشة لوكاس كراناش، 1520.
عندما تأمل لوثر هذا القرار بعد أربعين عاما، تذكر أنه عاش حياة راهب مستقيمة دون تأنيب، لكنه ظل يشعر أمام الرب بأنه «كان آثما مؤرق الضمير إلى أقصى حد»، وقد كرر رأيه هذا عن الستة عشر عاما التي قضاها كراهب؛ فقد حاول أن يكون مثالا للراهب ، لكن ضميره لم يهدأ قط، رغم طمأنة معلمه يوهان فون شتاوبيتس له؛ النائب الأسقفي العام للمتشددين للمذهب الأوغسطيني في ألمانيا. لكن قلقه - رغم ذلك - لم يمنعه من الترقي في المناصب الكنسية؛ فبعد إتمامه فترة الإعداد للرهبنة وإعلان نذوره، درس ليصبح قسيسا، ووسم قسا في 3 من أبريل عام 1507 بعد أقل من عامين من التحاقه بالدرجة الكهنوتية، وبعدها بشهر احتفل بقداس العشاء الرباني للمرة الأولى في حياته؛ فقدم والده هانز لوثر إلى الحفل مع عشرين فردا من أصدقائه وأقاربه، وقدم هدية سخية إلى الدير، رغم أنه لم يكن قد تناسى تماما الإحباط الذي سببه له قرار لوثر بأن يصبح راهبا. أكد لوثر أثناء محادثته مع والده أنه لم يقسم طواعية على أن يصبح راهبا، وإنما أجبرته على ذلك ظروف عصيبة؛ إذ تشكك والده في أنه يعاني وهما، وذكره بوصية طاعة الوالد، في هذا أشار لوثر عندما تذكر هذا اللقاء مع والده أن كلمات والده تلك كانت أكثر كلمات آلمته ولازمته لوقت طويل.
بدأ لوثر بعد أن أصبح قسا في دراسته لعلوم الدين التي استمرت - بمقاطعات تخللتها - حتى عام 1512، الذي منح فيه لوثر درجة الدكتوراه، وخلف شتاوبيتس كأستاذ علم اللاهوت في جامعة فيتنبرج الجديدة. كان لأتباع المذهب الأوغسطيني في إيرفورت مدارس بمعلمين تابعين للجامعة، ومع أن لوثر كان قد أصبح بالفعل أستاذا بالجامعة تعين عليه الوفاء بمتطلبات منهج علم لاهوت تحكمه الفلسفة المدرسية أو السكولاتية؛ التي أسميت بذلك الاسم لاستخدامها في المدارس والجامعات. أطلق على هذا المقرر الثابت للجامعة - الذي أعده بيتر لومبارد في القرن الثاني عشر - «الأحكام»؛ لأنه بني على التصريحات العقائدية التي استقى منها لومبارد حججه من المراجع القديمة كمذهب أوغسطين، وقد تعين على جميع حاملي درجة الدكتوراه في علم اللاهوت إلقاء المحاضرات عن هذه الأحكام التي خضع الكثير منها للمراجعة وتم تداولها كتفاسير. وفي القرن الثالث عشر، كان توما الإقويني قد ألقى في شبابه هذه المحاضرات، ودرس لوثر فيما بعد تفسير الأحكام لجابريال بيل، وهو عضو بجمعية أخوة الحياة المشتركة ، درس علم اللاهوت في جامعة توبنجن وعاصره لوثر في طفولته. أسمي مذهب بيل بالمذهب الإسماني أو الأوكامي نسبة إلى الراهب الفرنسيسكاني الإنجليزي ويليام الأوكامي، الذي اعتنق لوثر مذهبه فيما بعد كما أقر؛ أسوة بمعلمه الأول في إيرفورت الذي تدرب على هذا المذهب.
أكد علماء اللاهوت من أتباع المذهب الأوكامي - بعكس توما الإقويني - أن الإيمان والعقيدة يعتمدان على إلهام الكتاب المقدس أكثر مما يعتمدان على المنطق والمعرفة الطبيعية. وعلى الرغم من أنهم فصلوا فصلا بينا بين الفلسفة وعلم اللاهوت، فقد أيدوا دراسة أعمال أرسطو التي أتمها لوثر في وقت سابق مع دراسة الإنجيل. ومن ثم، كان لوثر قادرا وراغبا في إلقاء محاضرات حول كتاب أرسطو «علم الأخلاق» والإنجيل وكتاب لومبارد «الأحكام». وألقيت في جامعة فيتنبرج المحاضرات عن أرسطو عام 1508 و1509؛ حيث عمل لوثر بأمر من شتاوبيتس كبديل مؤقت في أول منصبين خصصا لأتباع المذهب الأوغسطيني؛ محاضر فلسفة وأستاذ في علم اللاهوت. وظل لوثر في فيتنبرج لعام قبل أن يعود إلى الدير الأوغسطيني في إيرفورت ويلقي محاضراته عن «الأحكام». وفي أواخر عام 1510 قاطع هذه المحاضرات بالقيام بالرحلة الأهم في حياته؛ رحلته إلى روما التي قام بها ليقدم طلبا نيابة عن أتباع المذهب الأوغسطيني المتشدد.
رفض طلبه لكن روما خلفت انطباعا عميقا على هذا الراهب الشاب الجاد الذي لم يكن يعلم شيئا عن أمور العالم - كما أقر هو فيما بعد. بث فيه ما رآه في هذه المدينة المقدسة والبلدات الواقعة على الطريق إليها الرهبة والاستياء، حتى إنه وصف «زيارته إلى روما» بعد عشرين عاما، كما بدت له من منظور إصلاحي، فأطلق على نفسه «القديس المتشدد الذي اندفع بين الكنائس وسراديبها مصدقا كل مظاهر الكذب والتزييف البغيضة بتلك الأماكن». فقد أسف في ذلك الوقت؛ لأن والديه كانا لا يزالان على قيد الحياة؛ إذ اعتقد أن صلوات القداس في روما - شأنها شأن صكوك الغفران التي تقدم هناك - قادرة على تخليصهم من آثامهم. فقد شاع في روما مثل قائل: «بوركت الأم التي يقرأ ولدها القداس يوم السبت في سانت جونز.» عن ذلك قال لوثر: «كنت أود أن أبارك أمي، لكن المكان كان مزدحما للغاية فلم أستطع الدخول؛ فتناولت سمك الرنجة المدخن بدلا من ذلك.» رغم هذه النبرة المتطاولة، تنم كلمات لوثر عن صدق تقوى الرهبان التي تمتع بها وإحساسه بالواجب، وهو الصدق الذي تمتع به في وصفه لذاته قبل حركة الإصلاح الديني ك «كاثوليكي متحمس» متشرب بأفكار الرهبنة.
في أواخر عام 1511 نقل لوثر إلى الدير الأوغسطيني في فيتنبرج، حيث أقام لما تبقى من حياته كراهب في البداية ثم كزوج وأب، وعين في العام التالي أستاذ جامعة، وهو المنصب الوحيد الذي تقاضى فيه راتبا ثابتا، حيث أقنعه شتاوبيتس بالسعي للحصول على درجة الدكتوراه في علم اللاهوت، ووافق ناخب ساكسونيا على دفع المصروفات المتعلقة بذلك. كان الحصول على الدكتوراه إجراء شكليا كلل دراسته لعلم اللاهوت، وضمن تمتعه في فيتنبرج بالمزايا التي يحصل عليها أستاذ الجامعة في إيرفورت. أشرف الأستاذ آندرو بودينشتاين - الذي لقب بكارلشتادت؛ نسبة إلى البلدة التي ينحدر منها - على القسم الذي تعهد فيه لوثر بألا يدرس أي شيء تدينه الكنيسة ويؤذي أسماع المتقين. وبالإضافة إلى بريتة أخرى وخاتم إصبع آخر، منح لوثر كتاب إنجيل مفتوح وإنجيل مغلق. وتخلى شتاوبيتس عن منصبه بالكلية، كما كان مخططا، ليخلفه لوثر في منصب أستاذ علم اللاهوت. وكانت وتيرة الأحداث المتسارعة تلك هي أفضل دفاع للوثر أمام الاتهامات التي زعمت أنه لا يملك الحق لاعتناق الآراء التي آمن بها، فقد رأى لوثر أنه ملزم كأستاذ لعلم اللاهوت أدلى بقسمه علانية بأن يدرس ما يجده في الإنجيل، حتى إن خالف تعاليم الكنيسة الكاثوليكية وممارساتها. وهكذا أعد شتاوبيتس، دون علم، لوثر لبدء حركة إصلاح لم يستطع أن يحمل نفسه على الانضمام إليها.
في أول مقرر درسه لوثر، اختار أحد أسفار الإنجيل التي كانت تسمع وتنشد يوميا بالدير، والتي حفظها عن ظهر قلب تقريبا، ألا وهو سفر المزامير؛ لكن لأنه درسه آية آية - كما فعل أسلافه بالعصور الوسطى - لم ينه المقرر إلا بعد حلول عام 1515. وبعدها خصص عاما لتدريس كل رسالة من رسائل العهد الجديد؛ الرسالة إلى أهل رومية، والرسالة إلى أهل غلاطية، والرسالة الإنجيلية إلى العبرانيين، لتنتهي هذه المقررات عام 1518، الذي كان أول عام يشهد على مداره جدلا حول صكوك الغفران؛ مما أضاف إلى مهامه المزيد من الرحلات والكتابات. ولعله قرر إلقاء المحاضرات عن كتاب المزامير مجددا لهذا السبب، أو لأنه كان أكثر استعدادا لتدريسه هذه المرة، كما قال، غير أنه لم يتم المقرر قط، وبحلول الوقت الذي غادر فيه فيتنبرج متجها إلى مدينة فورمس في أبريل عام 1521، لم يكن قد وصل إلا إلى المزمور الثاني والعشرين، فقد تولى مسئوليات أخرى في المجتمع الكنسي، بالإضافة إلى إلقاء المحاضرات في الجامعة، حتى إن لوثر شكا لصديقه وأخيه في المذهب الأوغسطيني جون لانج انشغاله الشديد بكتابة الرسائل، وإلقاء العظات، والإشراف على دراسة الرهبان الآخرين، وإلقاء المحاضرات عن الحواري بولس، وزيارة الدور الأوغسطينية، بصفته راعي الأبرشية المحلي لها.
وفوق ذلك، كان لوثر يعد أطروحات للنقاش في الجامعة، تكونت مجموعة منها من ثمان وتسعين أطروحة انتقدت المذهب المدرسي أو السكولاتي، الذي انتقل إليه من معلميه من أتباع المذهب الإسماني وجابريال بيل. كان هذا النقاش العقائدي في منظور السواد الأعظم - بما في ذلك رجال الدين الأعلى مقاما - أكاديميا ومن ثم محمودا، وهذا على عكس مجموعة الأطروحات الثانية التي كتبها لوثر أيضا باللاتينية، وعلقت على الأرجح على باب كنيسة جميع القديسين في فيتنبرج في 31 من أكتوبر عام 1517. ولو أن هذه الأطروحات - المكونة من خمس وتسعين أطروحة عن قدرة صكوك الغفران - قد نشرت ذاك اليوم، عشية يوم عيد جميع القديسين، لاستقبلت الحشود التي حضرت العرض المهيب لآثار الأمير فريدريك الحكيم؛ أملا في نيل صكوك الغفران التي ستختصر إقامتهم في المطهر.
روج أيضا لصكوك الغفران على أنها ضمان بغفران الخطايا، رغم أنها كانت تغني وحسب عن العقوبات المفروضة على الخطايا (الكفارة) بعد الاعتراف بالخطايا للقس. أكد لوثر بعدها بأعوام أنه لم يحسب قط أنه سيمضي إلى الحد الذي ذهب إليه ، فيقول: «لم أعقد العزم إلا على مهاجمة صكوك الغفران، ولو أخبرت في مجلس فورمس بأنه سيكون لي في غضون بضعة أعوام زوجة ومنزل خاص بي، لما صدقت ذلك.» في الواقع، لم تهاجم أطروحات لوثر الخمس والتسعين الدعاة لصكوك الغفران وحسب، بل هاجمت أيضا بابا الكنيسة الرومانية لسماحه بمنح هذه الصكوك نظير أموال رصدت لتشييد كاتدرائية سانت بيتر الجديدة في روما، وقد اتسمت بعض هذه الأطروحات بالجرأة؛ فكتب لوثر أنه «من الغرور الثقة في نيل الخلاص بصكوك الغفران، حتى إن وهب البابا روحه ضمانة لذلك». وتساءل لم لا يشيد البابا الكاتدرائية بأمواله الخاصة بدلا من أموال المسيحيين الفقراء؟ فكان يجب أن يعلم المسيحي أن إخراج الصدقات للفقراء والمحتاجين خير من شراء صكوك الغفران.
ناپیژندل شوی مخ
صورت العديد من الرسوم لوثر كراهب ثوري يعلق أطروحاته الخمس والتسعين على باب كنيسة قلعة فيتنبرج في 31 من أكتوبر عام 1517، لكن لوثر نفسه لم يرو أنه ارتكب هذا العمل المعارض ... يعود وصفه وهو يعلق الرسائل على باب الكنيسة إلى فيليب ميلانكتون، الذي لم يشهد تلك الأحداث وسجل تلك الواقعة بعد وفاة لوثر، لكن في عام 1961، شكك المؤرخ الروماني الكاثوليكي إروين إيزرلوه في تعليق هذه الأطروحات. وقد أثار تحديه اعتراضات العلماء البروتستانتيين، وما تزال هناك محاولات لإثبات تعليق لوثر لتلك الأطروحات، حتى إن لم يكن قد فعل هذا إلا للدعوة إلى إعلان مناظرة. وقد اكتشف مارتن تروي عام 2006 كتابات (تعود إلى عام 1544) خطها جورج رورار مساعد لوثر على عجل، زعم فيها أن لوثر علق الأطروحات على أبواب كنائس فيتنبرج عشية يوم عيد جميع القديسين في عام 1517.
أثار نقد لوثر اللاذع مشاكل لم يكن يتوقعها؛ إذ أرسلت أطروحاته إلى روما على يد رئيس الأساقفة ألبرت، مطران مدينة ماينتس، الذي كان يتربح أيضا من صكوك الغفران التي خصصت أموالها لكاتدرائية سانت بيتر في منطقة نفوذه. وسرعان ما غطت قضية السلطات البابوية على قضية صكوك الغفران، واستدعي لوثر عام 1518 إلى روما، إلا أنه سافر بدلا من ذلك - بناء على طلب ناخب ساكسونيا فريدريك - إلى مدينة أوجسبورج؛ حيث أمر الكاردينال توماس كاييتان بأن يدفعه إلى إنكار آرائه، لكن لوثر رفض التراجع عنها، وعندما طالب كاييتان بتسليم لوثر إلى السلطات أو نفيه من ساكسونيا، رفض الناخب فريدريك ذلك، وحسمت المسألة؛ فأصدر البابا ليو العاشر أمرا رسميا يدعم التعاليم البابوية عن صكوك الغفران، ودافع رجال الدين الذين يدينون بالولاء للبابا عن أصول السلطة البابوية السماوية. ونشأ جدل حول هذا الصدد في مدينة لايبزيج في عام 1519 بين لوثر وجون إيك، الذي استفز الأول للدفاع عن هس وصار أعند خصومه. وفي بداية عام 1520، أعيد فتح قضية لوثر مجددا في روما، وهدد لوثر في يونيو بحرمانه كنسيا بأمر رسمي بابوي، أحرقه هو ومؤيدوه في ديسمبر، وأعقب ذلك مباشرة أمر رسمي بحرمانه كنسيا في 3 من يناير عام 1521.
كان لوثر قد حشد في غضون هذا الوقت قطاعا عريضا من المؤيدين، وألف الكثير من الكتابات باللغة الألمانية واللاتينية، فجعلته منشوراته باللغة الألمانية عن القرابين المقدسة والصلوات من الكتاب المشهورين في شئون الدين في وقت قصير. وحتى أطروحاته الخمس والتسعين، فقد نشرت في أرجاء ألمانيا وقرأتها جماعات الإنسانيين، الذين عدوا تجارة صكوك الغفران أداة بغيضة استغلت بها روما أتقياء ألمانيا. وفي عام 1520، عندما تناول لوثر هذا الاستغلال الذي تمارسه الكنيسة الرومانية وإساءاتها الأخرى في مقاله «خطاب إلى النبلاء المسيحيين»، زاد التأييد السياسي له. وبحلول ذلك الوقت كان يلقى دعما وتأييدا من زملائه في هيئة التدريس، وأيضا من متبعي المذهب الأوغسطيني؛ فقد اشترى كارلشتادت جميع نسخ أعمال أوغسطين التي كانت قد نشرت لتوها في مدينة بازل، وأشعل الجدل الذي دار بين لوثر وإيك في مدينة لايبزيج بطرح 380 نقطة تتحدى حجج الأخير. كما صحب نيكولاس فون آمسدورف - وهو من زملاء لوثر الأوائل الذين انضموا إلى الإصلاحيين - لوثر إلى مدنية لايبزيج، وحضر اجتماع المجلس الكنسي بفورمس. وقدم فيليب ميلانشتون إلى فيتنبرج عام 1518 لتعليم اللغة الإغريقية، ولم يلبث أن انضم إلى مؤيدي لوثر. وكان ميلانشتون العالم الأبرع بينهم جميعا، وكان مناصرا للحركة الإنسانية من الأجيال الشابة التي أيدت حركة الإصلاح الديني.
علاوة على تمتع لوثر بالدعم من مصادر خارجية، صار أيضا إصلاحيا بفعل تجليين تبينا له ونبعا من حياته ودراساته. اتضح التجلي الأول له قبل مجلس فورمس، فيما تبين له الثاني فيما بعد في قلعة فارتبورج، وأصبح الأول الأساس العقائدي لحركة الإصلاح الديني، ويشار إليه في العموم باسم «تجلي حركة الإصلاح»، على الرغم من أن لوثر لم يتحدث عنه بالتفصيل حتى العام السابق على وفاته. ووفقا لما رواه عندما تذكر هذا التجلي، أدرك أخيرا بعد محاولات عديدة ما الذي عناه الرسول بولس عندما كتب إلى أهل رومية (17:1) أن بر الله أو عدله يتجلى في الكتاب المقدس وليس في الناموس. وبما أن الآية السابقة على هذه الآية عرفت البشارة - التي تعني حرفيا الخبر السار - بأنه قدرة الرب التي خلصت المؤمنين، فلم يستطع لوثر أن يتفهم كيف يكون عدل الرب خبرا سيئا؛ بمعنى كيف يكون معيار البر، الذي حاول تحقيقه دون طائل، مخيفا. فلم تكن المشكلة عقائدية وحسب بالنسبة للوثر، بل كانت شخصية أيضا، وبدا حلها له وكأنه ميلاد جديد، فهو يقول:
بدأت أرى أن بر الرب يعني أن الأبرار يحيون بهبة منه، وهي البر السلبي الذي يرانا الله من خلاله أبرارا كما ورد: «أما البار فبالإيمان يحيا.» (حبقوق 4:2). شعرت بأنني ولدت من جديد، وبأنني دخلت الجنة من أوسع أبوابها.
الإيمان المقصود هنا هو الثقة في وعود الرب التي تحققت بيسوع المسيح. ونظرا لأن الإيمان حل محل الصوم والحج والصلوات إلى القديسين والقداسات الخاصة، وغيرها من الطرق التي بر بها مسيحيو العصور الوسطى الرب وتقربوا إليه، لم تنتقص رؤية لوثر من أهمية النظام اللاهوتي السائد وحسب، بل من أغلب مظاهر التقوى التي ميزت المسيحية في العصور الوسطى.
أشارت السير القديمة للوثر إلى اكتشافه ما عناه الرسول بولس بالبشارة باسم «تجربة البرج» الخاصة بلوثر؛ لأن هذا الاكتشاف ربما يكون قد حدث في برج الدار الأوغسطينية في فيتنبرج. وفي كتاب «أحاديث المائدة»، ذكر أن لوثر قد حدد المكان الذي وصل فيه إلى هذا الاكتشاف في برج الدار وفي حمام الدير. ويفسر بعض العلماء، الذين يؤثرون إعطاء تفسير مرتبط بالتحليل النفسي، كلمة حمام بأنها تشير إلى دورة مياه الدير، وصوروا مشهدا يربط اكتشاف لوثر بالتنفيس أو الراحة الجسمانية والعاطفية، لكن الأبحاث الأخيرة في هذا الصدد انصرفت عن فكرة تجربة البرج على وجه العموم. ويؤكد لوثر في نهاية روايته لمشهد الاكتشاف على الوقت الطويل والجهد الذي بذله لفهم الكتاب المقدس، وليس أنه وجد الإجابة فجأة. ولعل دورة المياه كانت رمزا يحقر الحياة الدنيا بوجه عام، أو رمزا لعذاب العيش دون أمل في إرضاء الرب.
ثاني تجل للوثر وصف في خطاب وضح به لوثر لأبيه أسباب رفضه للنذور الرهبانية. بدد هذا الخطاب، الذي كتبه لوثر في فارتبورج في نوفمبر من عام 1521، الندم الذي شعر به لوثر إزاء إفساد خطط والده له، فيما يتعلق بالزواج والعمل باتخاذه قرارا بالرهبنة. كان لقاء لوثر الصعب بأبيه عقب القداس الأول له قد أثقل كاهله، ولكنه الآن، وفقا لما كتبه، أدرك أن خيبة أمل أبيه لم تكن إلا تعبيرا عن حرصه على ولده الذي أحبه، وأنه أدرك أن والده كان محقا؛ وكان يتعين عليه أن يطيع الوصية الرابعة التي تنص على أن يكرم والديه. لكن نظرا لأن والده لم يستطع أن يستدرجه إلى ترك الدير، تدخل الرب ليحرره ويجعله مخلوقا جديدا «لا يتبع البابا بل المسيح»، غير أن هذا ليس كل شيء، فقد آمن لوثر أنه دعي لقيادة حركة ستجلب الحرية التي صار يتمتع بها لغيره من الأبناء؛ فكتب إلى والده معربا عن ذلك قائلا:
آمل أن يكون المسيح قد انتزع منك أحد أبنائك ليأخذ بيد العديد من أبنائه الآخرين، وأنا واثق أنك لن ترتضي هذا وحسب - كما ينبغي لك - بل ستسر بهذا سرورا عظيما!
حثت هذه الدعوة لوثر على تحدي ناخب ساكسونيا فريدريك والعودة إلى فيتنبرج ليضطلع بقيادة حركة إصلاح وليدة، شكلت فيما بعد حركة الإصلاح الديني الأوروبية.
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الثالث
جهود الإصلاح
عاد لوثر إلى فيتنبرج في 6 مارس عام 1522، في اليوم نفسه الذي قرر فيه مجلس بلدية المدينة أن يمنحه ثوب قماش ليصنع منها زي الراهب الجديد الخاص به. واتساقا مع هذا التناقض الذي تعبر عنه عبارته التي قالها قبل ذاك بأربعة أشهر «لست راهبا لكنني ما زلت راهبا»، ارتدى لوثر ثياب الرهبانية حتى عام 1524، في الوقت نفسه الذي أصبح فيه قائد الحركة الإنجيلية البروتستانتية. ولم يكن يتوهم أنه سيحقق الإصلاح الديني بنفسه، ففي خطاب كتبه في فارتبورج حث ميلانشتون وزملاء آخرين على أن يحملوا رسالتهم إلى خارج فيتنبرج، فكتب يقول:
أنت تلقي المحاضرات، وآمسدورف يلقي المحاضرات، ويوناس سيلقي المحاضرات، لكن هل تودون أن تعلن مملكة الرب في بلدتكم فقط؟ ألا يحتاج الآخرون إلى الكتاب المقدس؟ ألن تنجب أنطاكيتكم سيلا أو بولس أو برنابا لمهمة روحانية أخرى؟
تبين الإشارة إلى هؤلاء المبشرين البارزين الواردين في «سفر أعمال الرسل»، وتشبيه مدينة فيتنبرج بأنطاكية؛ أن لوثر تصور حركة الإصلاح الديني كمهمة تبشيرية تنبثق من فيتنبرج؛ حيث تعين عليه أن يرسخ قيادته ويرسم معالمها. وفي 9 من مارس عام 1522، ألقى في كنيسة البلدة أول عظة دينية من العظات الثمانية التي تصف الكيفية التي سيغير بها وتيرة واتجاه حركة الإصلاح التي مهد لها زميله كارلشتادت. دعت عظات الصوم الكبير الثمانية تلك (التي أطلق عليها هذا الاسم نسبة إلى أحد الصوم الكبير في تقويم الطقوس الدينية) إلى إبداء تعاطف أكبر مع العامة الذين أزعجتهم وأربكتهم التغيرات المفاجئة التي طرأت على طقوس العبادة والطاعة، وهذا تطلب آنذاك أن تأخذ حركة الإصلاح وتيرة أبطأ. دافع كارلشتادت بقوة عن موقفه في هذا الشأن، لكنه لم يملك خيارا إلا ترك تلك المبادرة للوثر.
إلا أن لوثر لم ينو الإبطاء كثيرا، فوفقا لمنظوره الديني إلى التاريخ، يجب اغتنام لحظة الإصلاح؛ فكتب أن كلمة الرب وفضله كانا دائما كسيل المطر العابر الذي لا يعود قط إلى مكان مر به. وبين عامي 1522 و1530 دفعه هذا الشعور بالعجلة إلى البحث مع زملائه في فيتنبرج عن إجابات لقضايا مهمة، منها: السرعة التي يجب أن تلغى بها صلوات القداس الخاصة (التي تضم رجال الدين وحدهم)، والتي يجب أن يقدم بها الخمر والخبز معا إلى العامة في العشاء الرباني، وتبنى بها طقوسا دينية عامة جديدة؛ والكيفية التي يجب أن ينظم بها الزواج، وتوضيح حدوده في ضوء أن عزوبية رجال الدين لم تعد شرطا، وأن المحاكم الأسقفية لم تعد موجودة للفصل في الخلافات الزوجية؛ وحدود طاعة المسيحيين للسلطات المدنية، بالأخذ في الاعتبار أن الأمراء ومجالس المدن تحديا الإمبراطور ودعما حركة الإصلاح؛ وهل يجب أن تمنع النذور الرهبانية؛ والشروط التي يجب أن توضع للرهبان والراهبات الذين يرفضون ترك أديرتهم؛ والكيفية التي يجب أن يجري بها العامة معاملاتهم الشخصية والمالية مع اقتراب نهاية العالم - كما اعتقد لوثر؟ للإجابة على القضية الأخيرة لجأ لوثر إلى عظة الجبل، وخلص منها إلى أن المسيحيين يجب ألا يطالبوا بفوائد. أما فيما يتصل بالسلوكيات المجتمعية فكان لوثر أكثر واقعية؛ حيث خفف تعاليم المسيح التي تنهى عن مقاومة الشر بالإصحاح الثالث عشر من رسائل العهد الجديد إلى أهل رومية التي أوصت بطاعة الحاكم. وكتب أن المسيحي الحق لا يحتاج إلى الحكومات؛ لأنه لن يرتكب الشر أو يقاوم وقوعه عليه، غير أنه أدرك أن القليل من مخلصي الإيمان يحيون حياة مسيحية نموذجية، ومن هنا كانت السلطات المدنية ضرورية لإحكام السيطرة على الشرور. وحث لوثر المجتمعات المسيحية عام 1523 مدفوعا بحبه للدين المسيحي، وليس فقط بشعوره بواجبه الوطني، على أن تعيد توجيه ثروة مجالس الرهبان والأديرة لإغاثة الفقراء وإلقاء العظات والتعاليم البروتستانتية.
سيرت الأحداث الجارية آنذاك لوثر وقادته إلى اتخاذ مواقف خلافية، فوضعته ثورة الفلاحين، التي قامت عام 1525، بين شقي رحى، فأعلن من ناحية أن تظلمات العامة مشروعة، لكنه رفض من ناحية أخرى العنف الذي عمدوا إليه لتحقيق غاياتهم. وعندما دافع عن السبل القاسية التي استخدمها أمير فيتنبرج وغيره من الحكام لإخماد الثورة، اتهم بأنه تابع خنوع للحكام. وبعد أن هزمت الجيوش العثمانية التركية الجيش المسيحي في المجر عام 1526، وحاصرت فيينا عام 1529؛ رأى لوثر أن للمسيحيين الحق في الالتحاق بالجندية، وأن الحرب ضد الأتراك مبررة ما دامت لا تعد حربا صليبية، وطالما وعى الجنود المسيحيون أن مهمتهم تنحصر في الدفاع عن جيرانهم وأحبائهم. ووصف لوثر في رسالته «حرية المسيحي» - التي كتبها في أواخر عام 1520 وأرسلها إلى البابا ليو العاشر قبل أن يحرمه الأخير كنسيا بوقت ليس بطويل - أن المسيحي المثالي يجعله إيمانه سيد الأحرار، لا يخضع لأي كان، لكن حبه يجعله أكثر الخدام برا. غير أن تطبيق هذا المبدأ على النزاعات غير المتوقعة التي شهدتها عشرينيات القرن السادس عشر؛ مثل للوثر تحديا مليئا بالصعاب.
انشغل لوثر طوال هذا العقد بالانقسامات التي نشأت داخل دائرته وخارجها. أتت التحديات التي واجهها من زميله كارلشتادت وأولريش زفينجلي والدعاة إلى تجديد العماد؛ إذ تبنت جميع هذه الفرق تفسيرا مختلفا للقرابين المقدسة ومارسوها بطرق لم يقبلها لوثر. بعد أن غادر كارلشتادت فيتنبرج تخلى عن منصبه بالجامعة، واستقر في بلدة أورلاموند، ليجعلها المجتمع المسيحي الذي تصوره من أجل فيتنبرج، وتوقف عن عماد الأطفال، واحتفل بالعشاء الرباني بطقوس بسيطة باللغة الألمانية بدون ارتداء زي الرهبان، وأسس في كتيبات وجهها للوثر عقيدة روحانية دينية، تنكر أن الخلاص الذي تحقق على الصليب يجب أن ينقل بوساطة القرابين المقدسة. إزاء هذا، دافع لوثر عن إلقاء العظات في العشاء الرباني، وعن القرابين المقدسة بوصفها وسائل خارجية لنيل مباركة الرب، وتنقل من خلالها كنوز الصليب بطريقة علنية وشخصية على حد سواء. رأى كارلشتادت أيضا أن كلمات المسيح التي أسست طقس العشاء الرباني لم تعن حرفيا أن خبز المناولة هو جسد المسيح، وأن خمر العشاء الرباني هو دمه. في هذا الصدد تبنى زفينجلي نظير لوثر في زيوريخ رأيا مغايرا؛ لاعتقاد الأخير بأن المسيح يتجسد حقا في الخبز والخمر؛ إذ رأى أن المسيح عنى أن تفهم كلماته بالمعنى الروحاني والمجازي لها، بمعنى أن الخبز والخمر يرمزان فقط إلى جسده ودمه اللذين قدما لخلاص الجميع، وعد القرابين المقدسة توحدا روحانيا مع الصليب، لكنها لا تنطوي على أي حضور مادي غامض للمسيح فيها، ولم يمنح الخلاص من خلالها. من ثم لم يستطع زفينجلي ولوثر أن يتفقا حول هذه النقطة في اللقاء الوحيد الذي جمع بينهما في ماربورج عام 1529، وقاد اختلافهما إلى شقاق دائم بين الشق اللوثري والشق الإصلاحي من حركة الإصلاح البروتستانتية.
لكن المعسكرين الإصلاحيين اتحدا في معارضة دعاة تجديد العماد الذين انشقوا عن مذهب زفينجلي عام 1525، حول الوتيرة التي يجب أن تتقدم بها حركة الإصلاح في مدينة زيوريخ. اتهم زفينجلي من قبل نقاده بالمغالاة في الحذر، واتهم عماد الأطفال - الذي عده أتباع زفينجلي المتشددون منافيا لتعاليم الإنجيل - بأنه جعل الكنيسة تابعا لحكومة المدينة وأخضعها لحكامها. أما لوثر فقد نشر عام 1528 رفضا لعماد المؤمن، وامتدح عماد الأطفال، واصفا إياه بأنه ملمح طيب من ملامح المسيحية قبل مولد حركة الإصلاح؛ إذ إن رهن العماد باتخاذ قرار متعمد باعتناق الإيمان، يجعل الخلاص قائما على القرارات البشرية المزعزعة ويبخس نعمة الله حقها. شكلت حدود اختيار الإنسان حجة لوثر أيضا أمام إراسموس، رائد الحركة الإنسانية، الذي هاجم رفض لوثر لإرادة الإنسان الحرة عندما يتعلق الأمر بالفضل الإلهي والخلاص؛ فأوضح لوثر في رسالة كتبها عام 1525 بعنوان «الإرادة المقيدة» أن قوة الخطيئة سيطرت على الإرادة البشرية قبل أن يحررها الروح القدس لتثق بالرب، وبعد العماد يظل المؤمن يستند إلى قدرة الروح القدس على الإبقاء على إيمانه ووقاية إرادته من الوقوع مجددا في الخطيئة. عرضت هذه الفكرة في منظور لوثر جوهر المسيحية الذي وصفه بأنه البشارة للخطر؛ فالسبيل الوحيد إلى الخلاص هو الإيمان بالمسيح، وهذا الإيمان هو هبة من الروح القدس، وليس خيارا يتخذ بالإرادة المحايدة التي أنكر لوثر وجودها. كانت المخاوف نفسها تقف وراء جدل لوثر مع خصومه الكاثوليكيين حول صلوات القداس الخاصة والحج والصوم وصكوك الغفران والنذور الرهبانية وعزوبية رجال الدين وإخراج الصدقات والتضرع إلى القديسين؛ حيث امتدحت تلك الأعمال على أنها متممة للإيمان، أو أعمال صالحة يمكن أن تستخدمها إرادة الإنسان الحرة في إسعاد الرب ونيل الخلاص بسهولة أكبر من الوصول إليه بالإيمان وحده. وشعر لوثر وزملاؤه أن من الأهمية بمكان نبذ هذه الأعمال أو تقويمها، ولكن تعين عليهم أيضا إيجاد طرق جديدة يغذي بها المؤمن إيمانه ويعبر عنه.
شكل انتشار حركة فيتنبرج الإصلاحية الدينية السريع بألمانيا وخارجها وصولا إلى بلاد أوروبا الشرقية وإسكندينافيا قوة دافعة تهيئ لذلك. فعندما تتحول بلدة أو منطقة إلى المذهب البروتستانتي، تمنع السلطات المدنية صلوات القداس على طريقة العصور الوسطى، مؤثرة طقوس العبادة اللوثرية، وتسحب من المناطق الخاضعة لسلطتها الأساقفة الكاثوليك، وتسمح للرهبان والراهبات والقسيسين بالزواج، وتحرم علنا أغلب مظاهر العبادة القديمة، وتوضع قوانين لهذه الإجراءات لكل إمارة في هيئة دساتير دينية جديدة، وصفت بأنها أوامر كنسية. اضطلع زميل لوثر جون بوجنهاجن آنذاك بجزء كبير من هذه المسئولية في شمال ألمانيا والدنمارك. وقد خلفت ثورة الفلاحين في ساكسونيا وحولها في آثارها أبرشيات مهملة، يشعر رعاتها بالحيرة ويحتاجون إلى إرشاد ومواد جديدة، يتمكنون من خلالها من تحويل رعاياهم إلى المذهب البروتستانتي. وقدم لوثر نفسه أهم الأدلة الإرشادية في هذا الصدد؛ أدلة عن إلقاء العظات الدينية حول النصوص الإنجيلية وطقوس العبادة البروتستانتية في كتابه «القداس الألماني» (عام 1526)، بالإضافة إلى الترانيم الدينية وتراجم الكتاب المقدس، وكتب تلخيص العقيدة المسيحية (الكبيرة والصغيرة في عام 1529) التي تفسر لعموم الناس ورجال الدين الوصايا العشر وقانون الإيمان والصلاة الربية والقرابين المقدسة. وكتب مع ميلانشتون أمرا كنسيا لمقاطعة ساكسونيا عام 1528، استخدمته فرق التفتيش البروتستانتية لتقييم حال أبرشيات ساكسونيا، ونصح رعاتها بوسائل تدريس الرسالة البروتستانتية وإعادة تنظيم الكنائس.
ناپیژندل شوی مخ
أوى حصن كوبورج على أطراف ساكسونيا الجنوبية عام 1530 لوثر الخارج عن طاعة الإمبراطور أثناء انعقاد مجلس أوجسبورج، الذي رفض فيه شارل الخامس الإعلان العقائدي، الذي كان قد طلبه من الإصلاحيين الألمان والسويسريين، وأصبحت المواد الثماني والعشرون التي قدمها إصلاحيو فيتنبرج وحلفاؤهم - والتي شاعت تسميتها باسم إقرار أوجسبورج - الوثيقة المؤسسة للكنائس التي استخدمت تدريجيا اسم لوثر للتمييز بين حركتها النامية من روما ومن الكنائس البروتستانتية المتأثرة بحركة الإصلاح التي ظهرت في زيوريخ وجنيف. أرضى انضمام المناطق الخاضعة لدوق ساكسونيا (النصف الذي ظل على ولائه لروما) إلى قائمة المناطق المدينة بالمذهب اللوثري؛ لوثريي فيتنبرج إلى حد هائل. وفي عام 1539، احتفل لوثر بالمناسبة بإلقاء عظة في مدينة لايبزيج؛ حيث تناظر هو وكارلشتادت قبل عشرين عاما مع جون إيك أمام عيني الدوق الكاثوليكي جورج، دوق ساكسونيا المعادي لهما. افتتح لوثر هذه العظة التي ألقاها يوم سبت بالإقرار بأنه لم يشعر بأنه على ما يرام، وبأنه يحتاج إلى الالتزام بدرس الكتاب المقدس المخصص لليوم التالي، الذي تصادف أنه يوافق عيد الخمسين. بدأ النص (إصحاح جون 14 من الآية 23 إلى 31) بالتوكيد على أن المسيح وأباه سيسكنان مع من بلغتهم كلمة المسيح وحافظوا عليها. وجد لوثر هذا النص مطمئنا، لكنه وجد فيه أيضا أن مفهوم الكنيسة الحقة (هؤلاء الذين حافظوا على كلمة المسيح) يتنافى مع مفهوم البابا وكنيسته، اللذين وجد في نفسه عزما كبيرا على انتقادهما، وألقى في عصر اليوم التالي عظة دينية في كنيسة سانت توماس، التي اشتهرت فيما بعد بفضل الموسيقي باخ، ثم غادر يوم الإثنين من الأسبوع نفسه إلى مسقط رأسه برفقة يوناس وميلانشتون والدوق البروتستانتي الجديد هنري الذي صاحبهم للعشرين ميلا الأولى من رحلتهم.
مثلت الرحلة إلى لايبزيج المرحلة الأكثر إمتاعا في حياة لوثر للسنوات القادمة، لكنها كانت كغيرها من الرحلات القصيرة التي سافر فيها إلى الوجهات القريبة من فيتنبرج في ثلاثينيات القرن السادس عشر؛ إذ قام سنويا - باستثناء عام 1535 - برحلة أو أكثر من تلك الرحلات، رغم أنه كان يعاني بين الفينة والفينة خلالها من أمراض مؤقتة. وقد حملت أغلب تلك الرحلات - كزياراته إلى مقار الإقامة الأخرى لأمير ساكسونيا جون فريدريك - أهدافا سياسية، لكن في أكتوبر عام 1538 اصطحبه يوناس وإراسموس شبيجيل قائد حرس فيتنبرج في رحلة صيد قصيرة، سقط فيها جواد الأخير أثناء ملاحقته أرنبا بريا ولقي حتفه، فاعتقد لوثر أن الأرنب البري كان شبحا شيطانيا، وعندما دعي للعودة إلى فيتنبرج لأن ناخب المدينة أراد مقابلته، رفض المغادرة لأن زميله يوناس أصيب بنوبة ألم شديدة جراء الإصابة بحصوات في الكلى. استقبل لوثر آنذاك في بلدته الكثير من الزوار البارزين ، من بينهم الإصلاحيان مارتن بوسر وفولفجانج كابيتو، وزملاؤهما من جنوب ألمانيا الذين سعوا للتوصل إلى اتفاق حول طقوس العشاء الرباني لتعزيز التحالف البروتستانتي. كان لوثر قد طلب من هؤلاء القدوم إلى فيتنبرج لاعتلال صحته، لكنه لم يبد عند وصولهم إلا ميلا ضعيفا للتفاوض، والمدهش رغم ذلك هو أنهم توصلوا إلى اتفاق حقيقي لم يتطلب إلا تنازلات لا تذكر من كلا الطرفين؛ فقبل لوثر من ناحية بتصريح بوسر بأن جسد المسيح ودمه كائنان في الخمر والخبز ويقدمان للمؤمن، كما اتفق كلاهما على أن جسد المسيح ودمه يتلقاهما غير الجديرين بهما، على الرغم من أن كليهما ربما لم يتفقا على معنى كلمة «غير الجديرين». وأعلن أستاذا علم اللاهوت أنهما أخوان، واحتفلا معا بالعشاء الرباني، لكن اتفاقهما لم يفض إلى جبهة بروتستانتية موحدة؛ إذ لم يقبل السويسريون به، غير أنه أتاح للمزيد من سكان جنوب ألمانيا، الذين تحيروا ما بين اختيار مذهب زفينجلي ولوثر، الانضمام لأتباع الحركة اللوثرية في شمال ألمانيا.
في أواخر عام 1535، بلغ فيرجيريو السفير البابوي، مدينة فيتنبرج للتعرف على أفكار لوثر حول نية البابا بعقد مجمع كنسي، وتساءل - وقد انتابه فضول أثناء إفطاره مع بوجنهاجن ولوثر في قلعة فيتنبرج - عن الشعائر الكنسية اللوثرية كتنصيب الكهنة، فأكد له لوثر أن شعائر تنصيب رعاة الكنائس استمرت رغم عدم وجود أساقفة لتأديتها. وانخرط الثلاثة في تبادل المزحات الساخرة بود، ووعد لوثر بحضور المجمع الكنسي إن عقد. وفي عام 1536 دعا البابا بولس الثالث بالفعل إلى عقد مجمع كنسي يبدأ في العام التالي في مانوتا، فاجتمع كل من الحكام وعلماء اللاهوت في فبراير عام 1537 في مدينة شمالكالد للبت في إرسال مبعوثين إلى المجمع الكنسي من عدمه، ثم رفضت الدعوة التي قدمها المبعوث البابوي لحضور المجمع الكنسي بوقاحة من قبل جون فريدريك ناخب ساكسونيا، الذي تشبث بعناد برفضه لحضور البروتستانتين المجمع، رغم نصح لوثر له بقبول الدعوة. وظل لوثر يذكر هذه المقابلة جيدا؛ لأنه ابتلي حينها بانسداد في المسالك البولية، ورفض الاستجابة للعلاجات الطبية إلى أن استجاب لها أخيرا في طريق عودته إلى المنزل. اشتدت معاناته من المرض في شمالكالد، حتى إن النقاشات الدينية قوطعت اضطرارا آنذاك، وتخوف الجميع من أن يلقى حتفه. واستغرقت صحبته أسبوعين في طريق الرجوع عبر إيرفورت وفايمار للوصول إلى فيتنبرج، حيث كانت تشق طريقها بحذر.
شكل 3-1: فيليب ميلانشتون، بريشة لوكاس كراناش، 1537.
1
استأنف لوثر لدى عودته إلى فيتنبرج برنامج عمل مزدحم بالكتابة وإلقاء المحاضرات والعظات والعمل كعميد لجامعة فيتنبرج الدينية، فيما عني أصدقاؤه وزملاؤه الآخرون كميلانشتون وبوجنهاجن ويوناس وآمسدورف بالإصلاحات في المناطق الأخرى، وما تزال محاضراته عن أهل غلاطية التي ألقاها عام 1531 (التي نشرت عام 1535 و1538) ودورته عن سفر التكوين، التي بدأت عام 1535 واستمرت لعقد، من أهم مصادر نظريته اللاهوتية؛ إذ شعر لوثر وهو يخاطب جيلا أصغر من الطلاب أن عليه أن يذكرهم بالسبب الذي يجعل حركة الإصلاح ضرورية، وبمدى أهمية حماية ما تم إنجازه، وقدم عام 1538 أسبابا مماثلة للاجتهاد لأخيه الأوغسطيني جيمس بروبست الطالب لديه، والذي كان آنذاك أحد مناصري حركة الإصلاح بمدينة بريمن. ورغم أن لوثر كان بحلول هذ الوقت عجوزا منهك القوى، أضنته الجهود الجهيدة الكثيرة التي بذلها؛ تجدد شبابه كل يوم نظرا لظهور طوائف جديدة لمناوءته. بعد ستة أعوام، سر لوثر بإهداء كنيسة صغيرة جديدة في مقر إقامة حاكمه الساكسوني في تورجاو، حيث صممت الكنيسة - التي تعد من أولى الكنائس التي شيدت كأحد أماكن العبادة اللوثرية - حول منبر الوعظ للتوكيد على أن العظات هي محور العبادة اللوثرية، وزينت أطرافها الأنيقة بلوحات من أعمال صديق لوثر؛ لوكاس كراناش، ووضع عند الحائط الموجود بنهاية الكنيسة أعلى مائدة الاحتفال بالعشاء الرباني آلة الأرغن الموسيقية، ليعزف عليها يوهان فالتر قائد جوقة ناخبو ساكسونيا ومؤلف موسيقى حركة الإصلاح في بدايتها. أكد لوثر أن المسيح منح أتباعه حرية التجمع للعبادة في الوقت والمكان الأنسب لهم، ومن ثم لم تكن كنيسة تورجاو كنيسة مخصصة لحاشية البلاط، بل كانت مكان عبادة لكل من يرغب في زيارتها، حتى إنه قال إن من الممكن كذلك إلقاء العظات عند النافورة الموجودة خارج الكنيسة.
كانت الخسارة من فقدان كل شيء تقف خلف النبرة الحادة التي ميزت الكثير من كتاباته الأخيرة، ففي عام 1544 حث زميل له على الدعاء بلا توقف من أجل الكنيسة؛ لأنها واجهت خطرا كبيرا. ومن ناحية كانت بعض مخاوفه مبررة؛ ففي أربعينيات القرن السادس عشر أعرب مجلس ترينت الكاثوليكي عن صدق رغبة روما في إصلاح نفسها؛ مما جعل صبر الإمبراطور شارل الخامس ينفد، ودعاه إلى أن يقرر أن يجبر البروتستانتيين الألمان على الخضوع لسلطة البابا من جديد. لكن من ناحية أخرى غالى لوثر في تقدير بعض التهديدات التي شكلها خصومه الذين حشرهم جميعا في زمرة أعداء الإنجيل، واتهم الأتراك واليهود ومؤيدي السلطة البابوية ومن يؤمنون بمجازية القرابين المقدسة (البروتستانتيون المعارضون لنظرته إلى القرابين المقدسة) بأنهم عملاء الشيطان في عزمه على تدمير الحقيقة التي استعادتها الحركة اللوثرية. لقد سبب زحف الأتراك العثمانيين على أوروبا الوسطى مخاوف حقيقية، لكن قلق لوثر والإصلاحيين الآخرين من الكيان اليهودي في أوروبا كان غير منطقي. نبع هذا القلق من خيبة أملهم التي تشي بسذاجة لفشل الرسالة البروتستانتية في إقناع اليهود بالتحول إلى البروتستانتية بأعداد كبيرة، ومن المناخ المعادي لليهود في أواخر العصور الوسطى بأوروبا الذي قاد إلى طرد اليهود واضطهادهم. ونظر لوثر في عام 1546 - كما فعل عام 1521 - إلى حركة الإصلاح الديني على أنها من عمل الرب، وأنه هو نفسه أداة الرب في صراعه العظيم مع الشيطان.
شكل 3-2: منبر الوعظ في الكنيسة اللوثرية بقلعة تورجاو، 1544.
2
في باكورة صباح 18 من فبراير عام 1546، توفي لوثر في آيسلبن، في البلدة نفسها التي ولد بها، بعد أن نجح في تسوية خلاف بين كونتات مانزفيلد. أقام هناك في منزل للدكتور فيليب دراتشتيدت، الذي كان كوالده صاحب مصهر بارز في مانزفيلد، ودرس القانون وأصبح مستشارا بالمحكمة، ووفقا لشاهدين - صديق لوثر يوستوس يوناس، وراعي أبرشية مانزفيلد مايكل كوليوس - رحل لوثر عن العالم بهدوء بعد أن أقر بإيمانه. وقبل أن يعاد جثمانه إلى فيتنبرج، صب قالب من الشمع لوجهه ورسمت لوحات له بعد وفاته . ودفن لوثر بالقرب من منبر كنيسة القلعة، بعد خطبة ألقاها بوجنهاجن وخطاب تأبين رثائي ألقاه ميلانشتون، وقال فيه للمعزين: «نحن كالأيتام حرمنا من أب صالح مخلص.» كان ميلانشتون قد أعلن في وقت سابق وفاة لوثر لطلاب الأخير، مشبها وفاته بعروج إيليا إلى السماء في مركبة النيران قائلا: «رحل قائد مركبة إسرائيل الذي وجه الكنيسة في الأيام الأخيرة لهذا العالم.»
ناپیژندل شوی مخ
هوامش
الفصل الرابع
إنجيل لوثر
لم يكن مارتن لوثر ليعزو الإنجيل لنفسه قط، لكن ثمة أسباب وجيهة لتسمية هذا الفصل بهذا الاسم؛ «إنجيل لوثر». لقد أمضى لوثر وقتا أطول في ترجمة الإنجيل مما أمضاه في تأليف أي كتاب آخر، وظلت ترجمته إلى اللغة الألمانية بمساعدة زملائه (التي ما تزال تدعى إلى الآن بإنجيل لوثر) رمزا ثقافيا لقرابة 500 عام. وكانت ترجمة لوثر للعهد الجديد التي أتمها في غضون ثلاثة أشهر في فارتبورج الأكثر مبيعا آنذاك، فبعد أن نشرت في سبتمبر عام 1522 - لتعرف من ثم ب «عهد سبتمبر» - نفد ما بين 3000 و5000 نسخة منها في غضون ثلاثة أشهر، وصدرت في ديسمبر طبعة جديدة منها، ثم ظهرت طبعات أخرى يقارب عددها المائة طبعة على مدى الاثني عشر عاما التالية، حتى بلغ عدد نسخ ترجمة لوثر للعهد الجديد، التي وزعت في البلاد بحلول الوقت الذي صدر فيه إنجيل فيتنبرج الكامل قبل عام 1534؛ حوالي 200 ألف نسخة.
على الرغم من ذلك، لم ير لوثر قط أن ترجمته هي الترجمة الوحيدة المقبولة للإنجيل؛ فلم يستهزئ بمحاولات العلماء الآخرين لمساعدته، ولم يثبط عزمهم على إصدار تراجم لهم. وبعد أن صدرت الطبعة الإغريقية والنسخة اللاتينية من العهد الجديد لإراسموس عام 1516 وعام 1519، استخدمهما في دراساته وتراجمه. وكاتب من قلعة فارتبورج، التي أوى إليها في أواخر عام 1521، جون لانج أخاه في المذهب الأوغسطيني قائلا:
سأظل مختبئا هنا حتى عيد الفصح، وأنوي أثناء تلك الفترة أن أكتب تعليقات توضيحية على الإنجيل، وأن أترجم سفر العهد الجديد إلى العامية كما يرغب أصدقاؤنا. سمعت أنك تقوم بالمثل. واصل ما بدأت. آه لو أن لكل مدينة مترجمها الخاص، وأمكن العثور على هذا الكتاب بكل اللغات، ووصل إلى جميع الأيدي والأبصار والأسماع والقلوب.
تشير التعليقات التي يذكرها لوثر هنا، إلى إرشادات القراءة والوعظ عن النصوص الإنجيلية من أجل أيام الآحاد والأعياد في العام الكنسي. وقد أوفى لوثر بعهده، وصدرت أول ثلاث مجموعات لعيد المجيء الثاني للمسيح وعيد الميلاد في عام 1521 و1522، ثم نشر قبل وفاته سبع مجموعات من التعليقات التوضيحية، بعضها احتوى على تكرارات ومراجعات لم يكتبها لوثر وحررت ونشرت. لم يهدف لوثر إلى أن تكون هذه المجموعات خطبا نموذجية؛ فقد تباينت تباينا كبيرا في أسلوبها وطولها، ولم تكن مناسبة لقراءتها على الحشود المجتمعة بالكنيسة، غير أن بعض الفقرات القصيرة بها تتسم بالخيال الخصب وبالقوة، كالتعليق التالي للوثر على قصة الميلاد:
عندما قدما [مريم ويوسف النجار] إلى بيت لحم كانا من المستتفهين المزدرين. كان عليهما أن يفسحا للجميع حتى اقتيدا إلى إسطبل، اضطرا فيه إلى مشاطرة الحيوانات في الإقامة والطعام والنوم، فيما احتل الكثير من الأوغاد بالحانة مناصب الشرف وعوملوا كالأسياد. لم ينتبه أحد أو يفهم ما الذي يفعله الرب في إسطبل للحيوانات. ترك المنازل الكبيرة والغرف الباهظة خاوية، لكن سمح لهم أن يأكلوا ويشربوا وأن يبتهجوا، إلا أن هذا العزاء - وهذا الكنز [في المزود] - خفي عن أهل بيت لحم. لا شك أن ظلام بيت لحم كان حالك السواد حتى يخفي معه هذا النور.
حفظ لوثر أيضا جزءا كبيرا من الإنجيل عن ظهر قلب، لا سيما سفر المزامير الذي أنشده هو وغيره من الرهبان يوميا، وتمتلئ محاضراته عن أسفار الإنجيل على مدى أربعة وثلاثين عاما بإشارات لفقرات من الإنجيل استشهد بها من ذاكرته، ولكن ليس كما وردت بالضبط باللغة العبرية أو الإغريقية أو اللاتينية أو الألمانية، بل إن لوثر لم يترفع عند ترجمة الإنجيل عن إضافة كلمة إلى النص الأصلي لتعزيز معنى الفقرة. ومن الأمثلة الواضحة، والمثيرة للجدل، على ذلك هو إضافته لكلمة «وحده» إلى نص رسالة رومية في الآية الثامنة والعشرين من الإصحاح الثالث التي تقول: «رأينا إذا أن الإنسان يتبرر بالإيمان [وحده]، بدون أعمال الناموس.» وقد أوضح ردا على نقد هذه الإضافة أنها لا تعبر وحسب عن روح النص، ولكنها كذلك من أساليب الألمانية الفصيحة، وتجعل النص المترجم أكثر وضوحا وقوة. فقد رأى أن ترجمته يجب أن تعبر عن روح اللغة الألمانية لا الإغريقية أو اللاتينية، وعلى المترجم ألا يسأل النص اللاتيني كيف يتحدث بألمانية فصيحة، بل يجب أن ترشده «لغة الأم في المنزل، والأطفال في الشارع، والعامة في الأسواق».
على الرغم من أن نص الإنجيل لم يترجم دائما حرفيا، فقد ظل مأخوذا على محمل الجد. ورفض لوثر فكرة أن الكتاب المقدس ك «أنف من الشمع» أو «ضلع أعوج» يمكن أن يطوع لدعم الآراء الشخصية، فتعزيز المعنى الأصلي للفقرة الواردة باللغة الإغريقية أو العبرية بجعلها تتحدث باللغة الألمانية؛ يختلف عن تحميلها معنى خارجا عن نصها لكون هذا يتفق مع آراء المترجم. وعندما يتعذر فهم النص العبري أو الإغريقي، وتتعارض المخطوطات القديمة بهاتين اللغتين بعضها مع بعض؛ قد يصبح المعنى الدقيق للفقرة ملتبسا، ولاكتشاف المعنى لم يعتمد لوثر على مهارته اللغوية وحسب، حتى عندما ترجم رسائل العهد الجديد، وهي مهمة - حسبما أقر - فاقت قدرته. ففضلا على الاسترشاد بنسخة إراسموس اللاتينية، استعان على أقل تقدير بإنجيل أو اثنين من الأناجيل الألمانية الثمانية عشرة المطبوعة التي كانت متوفرة قبل عام 1522، وأرسل قبل عودته إلى فيتنبرج جزءا من ترجمته إلى سبالاتين الذي أرسلها بدوره إلى ميلانشتون أستاذ اللغة الإغريقية الجديد بجامعة فيتنبرج، والذي نقح معه المسودة الأولى للترجمة في الفترة ما بين عودته إلى فيتنبرج في مارس ونشر العهد الجديد بالألمانية في سبتمبر.
ناپیژندل شوی مخ
برز المزيد من جهود التعاون تلك أثناء ترجمة العهد القديم، فكان لوثر في عشرينيات القرن السادس عشر جزءا من فريق ضم ميلانشتون وماثيو أوروجالوس، الذي قدم إلى مدينة فيتنبرج عام 1521 لتدريس العبرية، وبلغ المدينة في الوقت المناسب للعمل على الترجمة. كان كل من ميلانشتون وأوروجالوس أكثر إلماما بالعبرية من لوثر، لكن إجادة الأخير لها كانت قد تحسنت مع إلقائه المحاضرات عن سفر المزامير مرتين، وإعداده ترجمة وشرح لمزامير التوبة السبع، والتي ظهرت في عام 1517. غير أنه تبين أن ترجمة العهد القديم تستغرق وقتا طويلا حتى مع أداء فريق من العلماء لها، فكانت مهمة ترجمة سفر أيوب بالغة الصعوبة، حتى إنه كان بالإمكان ترجمة 3 أسطر فقط من السفر كل 4 أيام، وبعض أسفار العهد القديم ظهرت وحدها قبل تضمينها في الإنجيل الألماني الكامل الذي نشر في فيتنبرج عام 1534. وبحلول ذلك الوقت كان سفر المزامير قد ظهر بالكامل في عدة طبعات، نشرت أفضلها عام 1531، بعد أن اجتمع فريق الترجمة لستة عشر عصرا وليلة لعمل التعديلات النهائية على الترجمة. وقال لوثر دفاعا عن ترجمته: «كانت ترجمتنا في بعض الأحيان حرفية، رغم أنه أمكننا أن نترجم المعنى على نحو أوضح بطريقة أخرى؛ لأن كل شيء يتوقف على الكلمات نفسها.» وساق مثالا على ذلك الآية الثامنة عشرة من الإصحاح الثامن والستين من سفر المزامير التي تقول: «قد صعدت إلى الأعالي، وسبيت الأسر.» والتي جرت طقوس العبادة الكنسية على الربط بينها وبين صعود المسيح إلى السماء، فرأى لوثر أن الألمانية الفصحى تقضي بترجمة الآية كالآتي: «قد أطلقت الأسرى.» لكن هذه الترجمة لا تعبر عن ثراء وجمال معنى العبرية الذي يدل على أن المسيح لم يطلق الأسرى وحسب، بل هزم قدرة الخطيئة على أسر الآثمين وأتى بالخلاص الأبدي.
طبعت أول نسخة كاملة من الإنجيل بالألمانية عام 1534 في ورشة هانز لوفت في فيتنبرج، وكانت طبعة عام 1541 هي أكثر طبعة أخضعها لوثر وفريقه للمراجعة الدقيقة من بين الاثنتي عشرة طبعة الإضافية التي أصدرتها مطبعة لوفت قبل عام 1546. ذهب الفضل الأكبر على هذه التراجم للوثر قبل وفاته وبعدها، فبعد وقت قصير من صدور الطبعة الأولى أعرب الإصلاحي أنتون كورفينوس عن حماسته لظهور إنجيل ألماني بترجمة منقطعة النظير «على يد لوثر العزيز»، وامتدح ميلانشتون لوثر في رثائه للأخير في جنازته؛ لأنه نقل الكتاب المقدس إلى الألمانية بهذا الوضوح الذي يهتدي به المزيد من القراء في المستقبل أكثر مما يهتدون بالشروح . وضم هذا الإنجيل الكامل أيضا مقدمات لوثر التمهيدية للعهدين القديم والجديد وأسفار الأبوكريفا، وللأسفار المتعددة في كلا العهدين القديم والجديد والأبوكريفا. وتشمل هذه المقدمات الكثير من أفضل تعليقاته حول قراءة الكتاب المقدس وتفسيره، وقد أتيحت لكل من اطلع على الكتاب المقدس، كما وجدت في الحواشي تعليقات بليغة، كتبها لوثر دفاعا عن ترجمته، وقدمت تفسيرا للنص، وأسهمت ورشة لوكاس كراناش في هذا الإنجيل الكامل بأكثر من 120 صورة توضيحية مطبوعة بكليشيه محفور على الخشب، وتظهر ملونة يدويا على نحو جميل في نسخة عام 2003 من إنجيل لوثر المكون من مجلدين.
شكل 4-1: العهد القديم والعهد الجديد. صفحة العنوان في الإنجيل الصادر باللغة الألمانية، 1545.
تتصل عبارة «إنجيل لوثر» أيضا بفهم الكيفية التي فسر بها لوثر الكتاب المقدس ونظر بها إلى سلطته، فقد ورث نهج القرون الوسطى في استنتاج المستويات المختلفة للمعنى من فقرات الإنجيل، غير أنه لم يطبق هذا النهج على الدوام. ففي بعض الأحيان كان يتبنى تفسيرا مجازيا، لكنه في الأغلب كان يتأرجح بين التفسير الحرفي والروحاني، وتتجلى تفسيراته الروحانية في إشارته - شأنه شأن كتبة أسفار العهد الجديد - إلى أن فقرات الكتاب المقدس بالعبرية كانت تشير إلى يسوع المسيح، وهذا التفسير ينبئ عن مذهب جليل في تناول كلا العهدين على أنهما كتاب مقدس واحد، لكنه لم يقدم إرشادات محددة عن الكيفية التي يجب أن يستجيب بها المسيحي لأوامر العهد القديم، كالأوامر الواردة في سفر اللاويين. فكان جوابه العام على ذلك منمقا وبسيطا؛ فيجب إجلال كلمات العهد القديم وردها إلى المسيح في المواضع التي تقدم فيها وعودا إلهية بالرحمة والخلاص، ويجب الالتفات إليها في المواضع التي تقدم فيها الأمثلة على الإيمان والكفر، أما في المواضع التي تقدم فيها الأحكام والقوانين، فيجب أن يتساءل القارئ هل تنطبق على المسيحيين، وأن يستخدمها كما يرتضي وفقا لمصلحته؟ وفيما يتصل بالتقاليد المسيحية رأى لوثر أن الوصايا العشر تتفق مع ناموس الطبيعة، وتمثل مرآة للحياة يرى الجميع فيها مواضع قصورهم، من ثم كانت الوصايا العشر موضوع عدد من عظات لوثر ، وشكلت شروحه لها الجزء الأول من الملخصات التي وضعها للعقيدة المسيحية في قالب سؤال وجواب.
كان المعيار الذي استخدمه لتفسيره للكتاب المقدس هو الإنجيل؛ الذي عرفه بأنه - «بمنتهى الاختصار» - «حديث عن المسيح، وعن كونه ابن الرب، وعن أنه صار بشرا من أجلنا، ومات وبعث ونصب سيدا لجميع الأشياء». كان الإنجيل هو «دليلنا ومرشدنا في الكتاب المقدس»، وقد استخدمه لوثر لتقدير مدى نفع الأسفار في كلا العهدين الأخرى، فصنف في مقدمته للعهد الجديد إنجيل يوحنا ورسائل بولس وبطرس في مرتبة تعلو على مراتب الأسفار الأخرى؛ إذ كشفت عن المسيح، وعلمت كل ما هو ضروري عن الخلاص. وفي هذه المقدمة نفسها وصف لوثر رسالة يعقوب بأنها «ليست ذات أهمية»؛ لأنها لا تمت للإنجيل بصلة. لكن رغم هذا التعليق المشين، لم يكن لوثر على استعداد لنبذ رسالة يعقوب من الإنجيل؛ فقد امتدح في المقدمة المخصصة لسفر يعقوب ويهوذا هذا السفر؛ لأنه أعلن بقوة قوانين الرب واشتمل على العديد من الأقوال الطيبة المأثورة، إلا أنه لم ير أن رسالة يعقوب كتبت على يد أحد حواريي يسوع، ولم يحصها من بين أسفار الإنجيل الرئيسة؛ ومن ثم فصل فهرس العهد الجديد الألماني، الذي صدر عام 1522، بين سفر يعقوب وثلاثة أسفار أخرى من جهة - هي سفر الرسالة إلى العبرانيين وسفر رسالة يهوذا وسفر رؤيا يوحنا - وبين الثلاثة والعشرين سفرا الأوائل من العهد الجديد من جهة أخرى، بمسافة كبيرة في أسفل صفحة الفهرس، وكان هذا الفصل هو أكثر ما أبرز بقوة العبارة التي اقتبست كثيرا عن لوثر: «كل الأسفار الأصيلة المقدسة تتفق في هذا الجانب: جميعها يعظ عن المسيح ويرسخه في الأذهان.»
لكن رغم ثقة لوثر الكبيرة ويقينه الظاهر حيال الكيفية التي يجب أن يفسر بها الكتاب المقدس؛ بدا أحيانا أنه مزعزع الثقة، ولين الجانب؛ فعندما نشرت أولى محاضراته عن رسالة أهل غلاطية بعد الكثير من المراجعات، أرسل إلى شتاوبيتس التعليق التالي:
حضرة الأب المبجل، أرسل إليك نسختين من ترجمتي الخرقاء لرسالة أهل غلاطية. لست راضيا عنها كما كنت في بادئ الأمر، وأعتقد أنه كان بإمكاني أن أقدم لها شرحا أكثر وضوحا ووفاء، لكن من ذا الذي يستطيع أن يفعل كل شيء في وقت واحد؟ ليس هناك في الواقع من يمكنه أن يقدم الكثير على الدوام، رغم هذا أنا واثق من أن رسالة بولس ترجمت بوضوح أكثر من ذي قبل، مع أنها لم ترق لذوقي بعد.
في عام 1521، كتب لوثر تعليقا مماثلا إلى ناخب ساكسونيا الأمير فريدريك حول محاضراته عن المزامير الاثنين والعشرين الأولى من كتاب المزامير، والتي وصفها بأنها مهمته الجارية. ومقرا بأنه لا يدري إن كان قد وقع على الدوام على التفسير الصحيح، رأى لوثر أن معاني المزامير لم يفها مفسر حقها تماما من التفسير من قبل، مهما بلغت شهرته، فكل شارح للإنجيل قصر عن ذلك رغم أن بعض الشارحين تفوقوا على غيرهم؛ فانتبه لوثر في كتاب المزامير إلى ما لم ينتبه إليه أوغسطين، وانتبه بعده آخرون إلى ما لم يكتشفه هو. كان السبيل الوحيد لشارحي الإنجيل هو أن يساعد أحدهم الآخر، وأن يغفروا لمن يقصر منهم، فالجميع - بما في ذلك لوثر - يقصرون في نهاية المطاف عن التفسير الوافي؛ فمن ذا الذي يجرؤ حقا على أن يزعم أنه فهم مزمورا واحدا فهما تاما؟ في هذا يقول لوثر - هنا وفي مواضع أخرى: «حياتنا تتألف من بداية ثم ازدهار، ولكن لا تصل أبدا إلى الاكتمال.» ولخص في مقدمته للمجلد الأول من أعماله الألمانية المجمعة لعام 1539 منهجه في تفسير الإنجيل في ثلاث كلمات تكشف تكوينه الرهباني: الدعاء والتأمل ثم التجربة؛ أي على المرء قبل الشروع في تفسير فقرات الإنجيل أن يتوجه بالدعاء إلى الروح القدس طلبا للإرشاد، وأن يرسخ في ذهنه كلمات النص بالتأمل، وألا يفر من أعبائه الشخصية أو نقد الآخرين له. أما التجربة، فسوف تعلمك «ليس فقط أن تعرف وتفهم، بل أن تختبر مدى صحة وحقانية وعذوبة وجمال وقوة وتشجيع كلمة الرب، إنها حكمة لا تضاهى». كان لوثر هنا يقصد تجربته مع البابوية وعلماء اللاهوت في النظام البابوي؛ إذ زعم أنه مدين لهم بشدة لهجومهم واضطهادهم وتضييقهم الشديد عليه إلى الحد الذي جعله «عالم لاهوت جيد إلى حد ما»، ولولا هذا لما كان كذلك.
بدا بفعل هذه التعليقات أن أحكام الكتاب المقدس خاضعة إلى حد ما للأهواء الشخصية، وقد كانت كذلك بالفعل؛ فعبارة «بالكتاب المقدس وحده» (
sola scriptura ) - التي أصبحت بالنسبة للبعض شعارا للبروتستانتية - لم تعن للوثر قط أن الإنجيل هو المرجع الوحيد في الشئون كافة، أو أنه يقدم جوابا قاطعا موضوعيا لجميع المسائل، لكنها عنت أنه المرجع الرئيس في جميع مسائل الكنيسة الخلافية. برز مذهب «بالكتاب المقدس وحده» في صراع لوثر مع النظام البابوي كتعبير عن رجحان سلطة أحكام الإنجيل على آراء علماء اللاهوت الأوائل، والقوانين الكنسية وأوامر المجالس الكنسية والبابوات، فقد استعان كلا الطرفين بهذه السلطات في وقت أو آخر، فاقتبس لوثر في دفاعه عن موقفه أمام الكاردينال كاييتان في عام 1518 أقوال أوغسطين، وأقوال برنارد راهب دير كليرفو، وبعض فقرات الكتاب المقدس، إلا أن لوثر رأى أن الدليل القاطع المؤيد لموقفه يأتي من الكتاب المقدس، فيقول: «الحقيقة الإلهية ممثلة في الكتاب المقدس تعلو فوق البابا، ولا أرتقب أحكام البشر بعدما عرفت أحكام الرب.» وقد فسر في مناظرته مع جون إيك كلمات المسيح إلى الحواري بطرس في إنجيل متى في الإصحاح السادس عشر، وإنجيل يوحنا في الإصحاح العشرين كدليل قاطع في قضيته، ينفي انحدار البابوية من أصول إلهية. وفي فورمس، اختتم لوثر خطبته بالاحتكام، ليس فقط إلى الكتاب المقدس، بل إلى الحجج المقنعة أيضا وإلى ضميره. إذن ما المرجعية الحقيقية التي استند إليها هنا؟ هل هي الكتاب المقدس، أم الحجج المنطقية، أم الضمير؟ الإجابة الصحيحة هي كل ما سبق؛ إذ رأى أن الإنجيل في المواضع التي تتصل بمنبع الخلاص وكيفية الفوز به اتسم بالوضوح المطلق، إلا أنه أيضا وعى أن الحجج المقنعة يجب أن تبين هذا الوضوح في جميع المسائل الخلافية؛ حتى ينحاز الضمير إلى الاستقامة. فبالنسبة للإصلاحيين، مرجعية الكتاب المقدس لها شق ذاتي وشق موضوعي.
ناپیژندل شوی مخ
شكل 4-2: صفحة العنوان، «حرية المسيحي»، 1520.
1
من المهم بالقدر نفسه أن تقترن مرجعية الكتاب المقدس بمبدأ الحرية المسيحية الذي فسره لوثر بتبسيط بليغ في مقاله عام 1520 عن الموضوع ذاته، وفي عظاته بفيتنبرج عام 1522. عنت الحرية المسيحية - وفقا لما جاء في الكتاب المقدس - أن الإيمان بالمسيح يجب أن يكون شرط الخلاص الوحيد، وفيما عداه لا يفرض على المسيحي شيء آخر. فلو كان الإنجيل ليستخدم - على سبيل المثال - كسلطة وهمية لعزل واستبدال كبير أساقفة روما، لما كان لحركة الإصلاح الديني غاية. وكما فطن لوثر وزملاؤه أثناء تنظيمهم للكنائس البروتستانتية، كان من الضروري وضع بعض القواعد والسياسات التي يقوم مبدؤها الرئيس، لا على اتباع الآيات والتقاليد الإنجيلية بحذافيرها، بل على تيسير الحرية المسيحية وحمايتها. ويقول لوثر بوضوح شديد: «أنا أعلم الناس ألا يثقوا إلا في يسوع المسيح وحده، لا في الدعاء أو فضائلهم أو حتى أعمالهم.» لعل الكتاب المقدس كان في حد ذاته المرجع الرئيس للبروتستانتيين الآخرين، إلا أنه لم يكن كذلك للوثر؛ كان مرجعا لأن قصته عن الوعد والخلاص عرفت الحرية المسيحية وأصرت عليها.
كان مفهوم مرجعية الكتاب المقدس لدى لوثر واسعا، واتسمت مبادؤه في التفسير بالمرونة؛ بأنها مزيج من الأشياء التي يميل المفسرون المعاصرون إلى الفصل بينها، مثل ما عناه النص المقدس في الماضي على سبيل المثال، وما الذي يجب أن يعنيه اليوم. ففي بعض الأحيان كان يطبق حكما إنجيليا تطبيقا حرفيا على صفه الدراسي أو على رعايا كنيسته في القرن السادس عشر، فيما رفض في أحيان أخرى الالتفات إلى بعض فقرات الإنجيل لأنها اتصلت بالماضي ولم تجمعها علاقة مباشرة بالحاضر. بل كانت كلمة «اليوم» إحدى الكلمات المفضلة لديه في عظاته ومحاضراته التي بدت أحيانا بدورها شبيهة بالعظات. وكان الإنجيل إلى حد كبير هو عالمه، فالتقويم الذي اتبعه هو التقويم الكنسي، والتاريخ الذي اعتنقه هو تاريخ الخلاص البشري وتمامه يوم البعث، أما معلموه فهم البطاركة والرسل والحواريون والمعلمون على مر تاريخ المسيحية، وعنت الكنيسة له جموع المؤمنين في مختلف أنحاء الأرض. والإنجيل هو كتاب كنيسته، ولم يؤمن بعكس ما كان سائدا في هذه الأيام بأن للأفراد وحدهم أن يفسروا الإنجيل كيفما شاءوا، ليفرضوا تفسيرهم بعدئذ على من سواهم في الكنائس والمجتمع؛ إذ عاش في عهد سابق على إتاحة شراء الأناجيل واستخدامها كمرجع مستقل لكلم الرب يكفي في حد ذاته بدون الكنيسة، ومن ثم لم يكن قادرا على تخيل سيناريو كهذا رغم أن المطبوعات والتراجم التي صدرت عنه وعن غيره من أنصار حركة الإصلاح الديني جعلت هذا السيناريو واقعا. لكن آخر الأقوال التي نسبت إليه عارضت مباشرة الفصل بين الإنجيل والكنيسة، فيقول:
لا يستطيع أحد أن ينغمس في الكتاب المقدس كليا، ما لم يكن قد حكم الكنائس لألف عام، مع الرسل. نحن فقراء إلى الكنيسة. إنها الحقيقة.
هوامش
الفصل الخامس
المسيحية الجديدة
لم يجد لوثر - شأنه شأن غيره من المصلحين الدينيين - الكثير من مظاهر الصلاح الديني التي مارسها المسيحيون من حوله في الإنجيل. وكانت إحدى هذه الممارسات - وهي الحصول على صكوك الغفران لتجنب دفع كفارة الخطايا واختصار الإقامة في منطقة المطهر - موضع انتقاده في أطروحاته الخمس والتسعين التي أشعلت فتيل حركة الإصلاح الديني. بحلول الوقت الذي حرم فيه كنسيا بعد أربعة أعوام، اقترح لوثر طريقة بديلة لممارسة شعائر المسيحية، وهي طريقة اعتمدت على ما آمن أن مسيحية أواخر العصور الوسطى أهملته وحرفته، لكن لم تكن المسيحية التي أتى بها جديدة تماما بالطبع، فعندما انبرى له الإصلاحيون الأكثر تطرفا عام 1540 قال مقرا:
نقر من جانبنا أن الكثير من ملامح المسيحية ومما هو خير قائم تحت النظام البابوي؛ فنجد بالفعل كل شأن من شئون المسيحية والخير قائما في ظل النظام البابوي ونبع منه. على سبيل المثال ... النصوص المقدسة الحقيقية، والتعميد الحق، وقرابين المذابح الحقة، ومفاتيح غفران الخطايا الحقيقية، ودور الدير الصحيح، وخلاصة العقيدة الحقيقية متمثلة في الصلاة الربية، والوصايا العشر، وقوانين الإيمان.
ناپیژندل شوی مخ
لماذا إذن انتقد لوثر الكنيسة الرومانية، وعد البابا المسيح الدجال؟
لأن [البابا] لا يتشبث بكنوز المسيحية التي ورثها عن الحواريين، بل هو يلحق بها إضافات من الشيطان، ولا ينتفع بهذه الكنوز لإصلاح الكنيسة، بل يسعى لخرابها بإعلاء أوامره فوق أوامر المسيح. إلا أن المسيح حفظ مسيحيته حتى في غمرة هذا الخراب ... كلاهما يبقى في الواقع؛ فالمسيح الدجال يجلس في هيكل الله (الإصحاح الثاني من رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل تسالونيكي، الآيتان 3 و4)، بينما يظل الهيكل إلى الأبد معبد الرب بقوة المسيح.
لم يعتزم لوثر تأسيس كنيسة جديدة، بل تمثلت خطته، التي تبلورت بعد أن قرر أن يصبح إصلاحيا دينيا، في استعادة المسيحية الحقة التي فقدت، ومع ذلك انطوت خطته على تغييرات ثورية في مظاهر وطقوس العبادة إلى حد دفع ببعض رجال الدين والعامة إلى مقاومة هذه التغييرات. فهؤلاء الذين اعتنقوا المذهب البروتستانتي قد مارسوا شعائر مسيحية مختلفة تماما عما عهدوه؛ لأنها لم تكن مذهب أجدادهم.
كان منظور لوثر إلى مظاهر صلاح العذراء مريم في أواخر العصور الوسطى من النماذج التقليدية المعبرة عن خطته؛ فرفض أن تستخدم أي طقوس أو ألقاب تعبر عن حب مريم إذا كانت تنتهك دور ابنها؛ فهي لم تكن شريكا للمسيح في منح الخلاص، ولم تكن الأم الرحيمة التي تقي المؤمنين من قسوة الحساب. كان لقبها «ملكة السماء» مناسبا لها من ناحية، إلا أنه «لا يجعلها إلهة تمنح الهبات وتقدم يد العون كما يفترض البعض عندما يتضرعون ويفرون إليها بدلا من اللجوء إلى الله»؛ فأعظم لقب يمكن أن يدعوها المؤمن به هو لقبها القديم «أم الله»، ومن ثم حذر لوثر أن من يود إجلال السيدة مريم عليه ألا يفردها بذلك:
بل عليه أن يتأملها في وجود الله، وفي منزلة أدنى بكثير منه، وأن يجردها من كل مراتب الشرف، وأن يعدها في مرتبة «متواضعة» (سفر لوقا، الإصحاح الأول، الآية الثامنة والأربعون)، ثم عليه أن يتعجب من فيض نعمة الله الذي نظر إلى هذه الفانية المزدراة واحتضنها وباركها ... إنها لا تريدكم أن تلجئوا إليها، بل تريدكم أن تلجئوا من خلالها إلى الله.
لم يعترض لوثر على مكانة مريم كقديسة شافعة في كنيسة بلدة فيتنبرج ، أو يسع إلى إزالة صورتين لها من بوابة الكنيسة الغربية؛ فوفقا لأحد المصادر زينت صورة للعذراء أحد جدران مكتبه، وألهمته بقول العبارة التالية: «ينام الطفل يسوع على ذراع مريم ليستيقظ يوما ما ويسألنا كيف أدرنا حياتنا.» وقد قبل بتقاليد مقبولة في إجلال السيدة مريم في المسيحية، تقاليد وجب أن تتطهر من صور المغالاة التي أضفيت إليها.
استهدف لوثر كثيرا صور المغالاة تلك وغيرها من ملحقات العصور الوسطى، ففي عظة ألقاها في أوائل ثلاثينيات القرن السادس عشر عرف «فاعلي الإثم» والرسل الكاذبين الذين يشير إليهم سفر متى (في الإصحاح السابع، في الآيتين الثانية والعشرين والثالثة والعشرين) بأنهم خصومه في الكنيسة الرومانية، وعلل استنكاره لهم قائلا:
تعرضون علي تعاليمكم وبراهينكم التي ترشدني إلى تسابيح ورحلات حج وعبادة قديسين وصلوات قداس ورهبنة وغيرها من الأعمال الخاصة التي اخترتم بأنفسكم القيام بها، لكنني لا أجد فيها شيئا عن المسيح، عن الإيمان، عن المعمودية، أو عن القرابين [المذابح] المقدسة أو الأعمال الصالحة التي علمني المسيح أن أمارسها في موقفي تجاه الآخر.
لا يحدد هذا الاتهام الذي وجهه لوثر «الإضافات» التي رفضها وحسب، لكنه يوضح من جديد «كنوز» المسيحية التي أراد أن يطهرها ويحفظها، ألا وهي تمجيد المسيح وحده فوق كل شيء، والإيمان الحق والأعمال الصالحة الحقيقية، والاستخدام السليم للقرابين المقدسة، وسيوضح تناول كل هذه الموضوعات على الترتيب المسيحية المجددة التي أراد لوثر إعادتها لألمانيا.
أول هذه الموضوعات - وهو تمجيد المسيح وحده - شكل المبدأ الرئيس لحركة الإصلاح الديني؛ لأنه كان المعيار الذي أصدر به لوثر حكمه على عقائد الكنيسة الرومانية ومظاهر العبادة بها في أواخر العصور الوسطى، ووظيفة هذا المعيار هي حماية تفرد المسيحية بمنع أي فرد كان من انتزاع مكانة المسيح كالمخلص الأوحد للعالم. وقد كان التهديد الأقرب لمكانته هو رفع مكانة السيدة مريم إلى مكانة شريكه في منح الخلاص، لكن عبادة القديسين بوجه عام كانت مرفوضة بسبب بعض الشعائر المتصلة بها كالتضرع إلى القديسين بدلا من الرب ، وإسناد معجزات وقوى حارسة خاصة بالقديسين الشافعين - كالقديسة أورسولا والقديس كريستوفر - وكجمع الآثار المقدسة وإيداعها في الأضرحة المحلية، وتقديم الوعود بحصول المعجزات وبالغفران للمسيحيين الذين يحجون إلى تلك الأضرحة، وإضافة مذابح لأضرحة بعض القديسين التي تجذب نساكا مخلصين أكثر من المذبح الرئيس الذي يحتفل فيه بالقداس، وتسمية الأخويات وكنائسها الصغيرة بأسماء القديسين، وتأجير القساوسة لتلاوة صلوات خاصة لأنفسهم ولأقاربهم. رغم هذا تمتعت عبادة القديسين بشعبية؛ لأنها أتاحت للمؤمن منفذا مباشرا ومحددا وشخصيا إلى عالم القوى المقدسة بدلا من الثالوث المهيب المنفصل عنه، ومن هنا لم يتقبل العامة على الدوام فكرة تمجيد المسيح وحده أو يتفهموها حتى، فلم يضطرون إلى ترك منفذهم المباشر المادي إلى العون الإلهي لآخر لا يلمسونه بالقدر نفسه؟ بل لم يتخلوا عن قناة الوصل تلك حتى عندما تحولوا إلى البروتستانتية، وعليه أتاح لوثر والإصلاحيون الآخرون اللجوء إلى ملائكة حارسة بدلا من القديسين (ولو ببهرجة أقل وقوى أضعف)، فتقبلها المسيحيون البروتستانتيون بسرور.
ناپیژندل شوی مخ
واجه لوثر والإصلاحيون الآخرون التحدي نفسه لدى تدريس تعاليم الإيمان الحق والأعمال الصالحة؛ ففهم الفروق الدقيقة التي ميزت مبدأ «الإيمان وحده» كان أصعب على العامة من فهم مبدأ «تمجيد المسيح وحده»، فكان مبدأ «الإيمان وحده» في مسيحية لوثر الجديدة يعني أن الرب يتقبل المؤمن لإيمانه بالمسيح وحسب، وليس لتمام إيمانه وتفعيله بالأعمال الصالحة التي تستأهل الثواب. ومع ذلك، يتوقع من المؤمن عمل الصالحات؛ لأن الأعمال الصالحة تترتب دائما على الإيمان الحقيقي. كتب لوثر في مقدمته عن سفر أهل رومية في الإنجيل الألماني أن الإيمان «شيء نابض بالحياة مفعم بالحركة والنشاط والقوة»، ينجز على الدوام الأعمال بدون أن يسأل عما إذا كان إنجازها ضروريا أم لا. فهو يقول: «الفصل بين الأعمال والإيمان مستحيل بقدر ما يستحيل الفصل بين الحرارة والنور اللذين ينبعثان من النار.» فكان مفاد رسالته التي وصلت إلى سامعيه وقراء كتاباته أن: «الإيمان وحده يخلصكم، لا الأعمال الصالحة، لكن مع ذلك عليكم بعمل الصالحات؛ فهي لا تمنحكم الخلاص، لكن لا غنى عنها للعيش كمسيحيين.» كان هذا هو أول الفروق الدقيقة التي ميزت مبدأ «الإيمان وحده»؛ الأعمال الصالحة ضرورية، ولكنها ليست ضرورية للفوز بالخلاص.
ثاني الفروق الدقيقة التي ميزت هذا المبدأ هو تعريف الأعمال الصالحة. كانت الأعمال الصالحة في عرف العصور الوسطى هي بالأساس أنشطة دينية تستأهل الثواب كالأنشطة الدينية التي عددها لوثر أعلاه. وكانت هذه الأعمال موجهة للرب؛ لأن فاعليها حسبوا أنها تكسبهم الخلاص. وبالنسبة للوثر، كان هذا هو النوع الخاطئ من الأعمال الصالحة التي يختارها المسيحي بنفسه؛ ولكن كان ثمة نوع صائب فسره في رسالة رائعة (نشرت عام 1520) تطرح مقدمة مباشرة لعقيدة لوثر ومنطقه لحركة الإصلاح الديني. يتألف النوع الصائب من الأعمال الصالحة في منظوره من الالتزام بالوصايا العشر، التي توصي أولاها بالإيمان نفسه الذي يفي بوصية عدم إشراك إله مع الله، وقد فسر ببساطة متناهية في ملخصه القصير للعقيدة المسيحية كيف يفي الإيمان بهذه الوصية قائلا: «علينا أن نتقي الرب ونحبه، ونثق به فوق كل شيء.» نقيض الإيمان هو الشرك، وهو الثقة في آلهة أخرى من أي نوع، سواء الأوثان التي تصنع بالأيدي، أو غيرنا من البشر، أو المثل العليا أو السلع المادية. فكان الإيمان كأول الأعمال الصالحة الحقة موجها للرب، وكذلك كان إجلال اسم الرب في (الوصية الثانية)، وتذكر يوم السبت (في الوصية الثالثة) ولكن ليس لأن اتباع هذه الوصايا الثلاث الأولى يمنح الخلاص، بل الإيمان بالله هو مصدر جميع الأعمال الصالحة الحقة التي توجه للخارج نحو إخواننا في الإنسانية في طاعة سائر الوصايا، فهذه الأعمال ليست من تعاليم الدين، ولكنها تكريس من المرء لحياته العامة والخاصة للأعمال الخيرية والصدق والتعاطف، وتقديم التشجيع والدعم والعون والإنصاف. ويوجز لوثر الاختلاف بين الأعمال الصالحة حقا وغير الصالحة كالآتي:
أي عمل لا يمارس فقط لإخضاع الجسد للسيطرة أو لخدمة إخواننا في الإنسانية (ما داموا لا يطالبون بما يخالف مشيئة الرب)؛ غير مجد وليس من تعاليم المسيحية؛ لذا أخشى أن القليل فقط من الجمعيات الكهنوتية والأديرة والمذابح والطقوس الكنسية القائمة اليوم، إذا وجدت، تعد حقا من تعاليم المسيحية، ويدخل في ذلك الصيام والصلوات الخاصة التي تتلى في بعض أيام أعياد القديسين؛ لذا أكرر أنني أخشى أننا في جميع هذه الأعمال لا نهدف إلا إلى صالحنا؛ اعتقادا منا بأننا عبرها نتطهر من آثامنا وننال الخلاص.
لكن يرجح أن الكثيرين حسبوا رغم هذه التحذيرات المتكررة بعدم إهمال إخواننا في الإنسانية أن «الأعمال الصالحة لا تستأهل الثواب، ومن ثم لا داعي لعمل الصالحات من أي نوع».
لا شك أن لوثر والوعاظ الذين حاولوا إقناع عوام الناس بغير ذلك لم يهدفوا إلى دفعهم لإهمال الكنيسة أو الأعمال الخيرية، فمع أن الأنشطة الدينية لم تعد تستأهل الثواب وانتقصت أهميتها، احتاج البروتستانتيون لتغذية الإيمان في القلوب إلى مصادر دينية، كالعظات والترانيم والقرابين المقدسة وملخصات العقيدة والصلوات الموجهة لله، والإلمام بالكتاب المقدس، ومن هنا شرع لوثر وزملاؤه في توفير ذلك، فأصبحت العظات الطويلة حول النص المقدس - عوضا عن العظات القصيرة - هي محور العبادة البروتستانتية، حتى في الكنائس اللوثرية والأنجليكانية التي تبنت نسخا معدلة من طقوس العبادة التاريخية. فاستخدمت جميع المذاهب البروتستانتية المزامير والترانيم لإثراء عبادتها وللتعبير عن تقواها. ووفقا لكريستوفر براون كان أكثر المظاهر إفصاحا عن نجاح حركة الإصلاح الديني في بلدة يوخيمستال الألمانية هو إنشاد الترانيم اللوثرية في المنازل. وبعض الترانيم كانت أدوات لتلخيص العقيدة، فكانت ترنيمة الإصلاحي بول شبيراتوس «أتانا الخلاص» ملخصا للتعاليم البروتستانتية. وقد عبرت كاثارينا شوتس زيل عام 1534 عن أهمية الموسيقى في مقدمة طبعتها عن كتاب أناشيد استخدمته الأخوية البوهيمية قائلة: «علي بشدة أن أصف هذا الكتاب بأنه كتاب تعاليم وصلوات وتسابيح، لا كتاب أناشيد، رغم أن كلمة «أناشيد» البسيطة جيدة ومناسبة، فأعظم مديح للرب عبر عنه في الأناشيد.» لتعليم الناس المسيحية الجديدة، نشر لوثر عام 1529 ملخصات عقائدية صغيرة وكبيرة استخدمت في النهاية للإرشاد في أغلب الأبرشيات البروتستانتية، مع أنه شجع رعاة تلك الأبرشيات على كتابة الملخصات العقائدية لأبرشياتهم بأنفسهم، وشملت ملخصاته شروحا لثلاثة نصوص موروثة؛ هي الوصايا العشر وقوانين الإيمان والصلاة الربية، غير أن هذه النصوص أوضحت أيضا الشكل الجديد الذي اتخذته شعائر القرابين المقدسة التي أدخلت على الكنائس البروتستانتية.
أوضح لوثر في رسالة كتبها عام 1520 بعنوان «السبي البابلي للكنيسة» أن الأسرار المقدسة السبعة لكنيسة أواخر العصور الوسطى، يجب أن ينخفض عددها إلى ثلاثة؛ هي العماد، والعشاء الرباني، والكفارة. وأسمى السر الأخير من هذه الأسرار بسر الاعتراف والإبراء؛ فالأسرار المقدسة في عرفه يجب أن يأمر بها الكتاب المقدس، وأن تتصل بوعد روحاني وعنصر مادي يرى ويسمع بوضوح عند أدائها. كما رأى لوثر أن العماد والعشاء الرباني وحدهما يفيان بلا شك بهذه الشروط؛ فالماء يستخدم في العماد، ويتم تناول الخمر والخبز في العشاء الرباني، أما الاعتراف والإبراء فلم يدخل فيه عنصر مادي؛ ومن ثم في غضون وقت قصير لم يعد من أسرار الكنيسة - لا سيما أنه لم يكن له دور سوى تجديد وعد الغفران والخلاص الأبدي الذي يمنح في العماد. كان طقس الكفارة قد أصبح في العصور الوسطى أهم طقوس الأسرار المقدسة؛ لأن العماد لم يمثل إلا بداية حياة المسيحي، وما أن ترتكب الخطيئة بعد العماد يجب أن يعترف بها المؤمن وأن تغتفر وأن يعوض عنها بكفارة يحددها القس. أبقى لوثر في مذهبه على الاعترافات العلنية ولم يرفض الاعترافات الخاصة، لكنه منع الكفارة لأنها دعمت طقس استحقاق الثواب؛ فالآثمون التائبون لا يغفر لهم تماما إلا بدفع ما يدينون به لخطيئتهم عبر الكفارة التي يحددها القس، أو بالحصول على صكوك الغفران التي تبرئهم من الإثم، في حين رأى لوثر أن الإبراء من الخطايا سواء سرا أو علنا يسري فورا؛ لأن الغفران غير المشروط كفله العماد؛ إذ إن الوعد بالغفران والخلاص الذي يمنح في العماد يسري إلى الأبد، ويصبح عماد حياة المسيحي أيا كان عمر من يعمد، ولهذا السبب أبقى لوثر على عماد الأطفال وعده أهم الأسرار المقدسة.
رفض لوثر تفسير العصور الوسطى للعشاء الرباني، بكل ما ينطوي عليه من تداعيات، على أنه شبه تجديد لتضحية المسيح على الصليب لغفران الخطايا، وكان يبغض الممارسات التي تسيء إلى هذه المناسبة، كالإكثار من صلوات القداس التي أباحها هذا التفسير. كان من السهل عد صلاة القداس - بوصفها قربانا مقدسا يتوجه به القس إلى الرب - عملا صالحا إعجازيا، يمكنه أن يثيب العامة الذين يشاهدون أداء القداس أو يدفعون المال للقساوسة لتلاوة صلاة القداس بانتظام لهم ولأحبائهم بعد موتهم، فالبعض حسب أنه سيجمع ثوابا أكبر كلما حضر المزيد من صلوات القداس في يوم محدد، وقيل لآخرين إن العمر لا يتقدم بهم في الوقت الذي يمضونه في صلوات القداس.
أما لوثر فرأى أن العشاء الرباني (الذي يدعى أيضا بالقداس والقربان المقدس والعشاء الإلهي) ليس قربانيا بل مقدسا؛ أي إنه ليس طقسا لتقديم القرابين إلى الله، بل هو هبة الله إلى متلقي هبته، وقد أسسه المسيح في العشاء الأخير، وعفا فيه باستمرار عن الخطايا بتجديد وعد المعمودية بالخلاص وتعزيز الإيمان. وللتأكيد على أنه هبة من الله أدخل لوثر وغيره من البروتستانتيين تغييرات جذرية على أسلوب الاحتفال به؛ فأولا: كانت الصلاة تتلى باللغة العامية لا اللغة اللاتينية. وثانيا: حلت كلمات المسيح البسيطة (كلمات التأسيس) في العشاء الأخير محل الصلوات الطويلة التي صاحبت تقديم القرابين، عندما قال: «هذا الخبز هو جسدي الذي يبذل عنكم، وهذه الكأس هي العهد الجديد بدمي الذي يسفك عن الناس أجمعين لمغفرة الخطايا.» وثالثا: بناء على هذه الكلمات لم يقتصر تقديم الخمر على القسيسين فقط، ولكنه قدم بعد الخبز للحاضرين من العامة، وكان منح الخبز والخمر (كليهما) هو أكثر التغييرات تحريكا لمشاعر بعض العامة الذين تناولوا كأس الخمر التي لم يلمسوها من قبل بأيد مرتعشة، ولم يعد القداس عرضا يشاهد، بل وجبة تتلقاها الأرواح المشتاقة لها بالتوبة والشكر والسرور؛ ومن ثم لم يكن من المتوقع أن يحصل الجميع المشاركون في القداس على الأسرار المقدسة، ليس في الكنائس اللوثرية على الأقل. فكان طقس الاعتراف والإبراء - سواء العلني أو السري - يسبق في العادة العشاء الرباني، ولا يشارك في وجبة الأسرار المقدسة إلا من يودون الحصول عليها. ولم يعد تلقي الأسرار المقدسة فرضا كما كان منذ مجمع اللاتيران الرابع (الذي عقد عام 1215)، بل صار عطية إلهية تسكن الضمائر ولا تثقلها بعبء، كما لم يعد طقسا رسميا. كتب لوثر هذا قائلا: «إن كان المرء يصبح مسيحيا لمجرد أنه تلقى الأسرار المقدسة (الخمر والخبز معا)، فلن يكون هناك ما هو أبسط من التحول إلى المسيحية، فيصبح حتى ممكنا أن يوسم خنزير بأنه مسيحي.» أكل الخبز وشرب الخمر لا يكفيان لذلك، بل يجب أن يستمع متلقو الخمر والخبز بعناية إلى وعد الغفران، وأن يؤمنوا به بقلب يملؤه الامتنان.
كانت رسالة «طقس القداس والعشاء الرباني» التي صدرت عام 1523 هي أولى مراجعات لوثر لطقوس القداس، ومثلت نقلة في سياساته. كان قد استعان إلى تلك النقطة بالكتب والعظات فقط للدعوة للعدول عن «الآراء المشينة للدين» فيما يتصل بالعبادات، أما سياسته الجديدة فلم تهدف إلى التأثير في القلوب بالكلمات وحسب، بل إلى إعمال الأيدي وتحقيق نتائح ملموسة، فنشر عام 1526 طقوسا أخرى للقداس - بالألمانية تماما هذه المرة - وأعد طقوسا دينية أخرى للعماد والزواج ولمناسبات أخرى، كما ترجم وألف أكثر من 35 ترنيمة، أشهرها هي ترنيمة «الرب قلعتنا الحصينة».
ظهرت أولى النسخ التي ما تزال قائمة إلى اليوم لترنيمة «الرب قلعتنا الحصينة» مطبوعة في عام 1531، إلا أن تاريخ كتابتها قد يرجع إلى عام 1528. قامت هذه الترنيمة على المزمور السادس والأربعين من سفر المزامير، واقترحت العديد من المناسبات في تفسير الدافع إلى تأليفها؛ كالتهديد التركي، وبناء الحصون في أرجاء فيتنبرج المختلفة، وتفشي وباء في هذا الإقليم، ووفاة ابنة لوثر إليزابيث. ونشر ترنيمة جديدة في عام 1529، وتوفرت لهذه الترنيمة بحلول عام 1900 ما يزيد عن 80 ترجمة ب 53 لغة، ويمكن اليوم إنشادها بمائتي لغة، أما ترنيمة «بعيدا في الإسطبل» الخاصة بعيد الميلاد، والتي تنسب كثيرا إلى لوثر، فقد ظهرت للمرة الأولى في أمريكا في القرن التاسع عشر.
ناپیژندل شوی مخ
غير أن لوثر رفض أن تكون طقوس العبادة التي وضعها ملزمة، فمع أن الطقوس الشكلية الصحيحة - كتلقي الخمر والخبز معا - كانت مهمة، إلا أن انتهاجها لم يكن ملزما، فكانا يتبعان الإيمان والحب في المنزلة. يقول لوثر :
قدمت تعاليمي بحيث تقود أولا وآخرا إلى معرفة المسيح؛ إلى الإيمان الخالص الصحيح والحب الصادق، ومن ثم إلى الحرية في جميع السلوكيات الظاهرة، كالمأكل والمشرب والملبس والصلاة والصوم، وفي شئون الأديرة والقرابين المقدسة، وجميع السلوكيات الظاهرة أيا كانت، ويستخدم هذه الحرية من يحمل في قلبه الإيمان والحب؛ أي المسيحي الحق، ولا يمكننا ولا ينبغي لنا أن نفرض على هذا المسيحي أي قانون بشري يقيد ضميره أو أن نسمح لأي شخص آخر بذلك.
كانت صورة المسيحية الجديدة كما تراءت للوثر صورة لمدينة فاضلة، وذكرته الخلافات التي أثارتها تلك الرؤيا بذلك كل يوم، فلم ينتقده خصومه في الكنيسة الرومانية وحسب، بل انتقده أيضا زملاء سابقون له وآخرون ممن حسبوا أنه تمادى في التغييرات التي أدخلها إلى المسيحية أو لم يحدث تغييرات كافية فيها. لقد أجمع أغلب البروتستانتيين - من حيث المبدأ - على وجوب تغيير صورة القداس، ولكنهم لم يتمكنوا من الإجماع على طبيعة العشاء الرباني، فنظر إليه لوثر على أنه قربان مقدس بجسد المسيح ودمه الحقيقيين، فيما رأى إصلاحيون آخرون - أشهرهم كارلشتادت وأولريش زفينجلي وجون كالفن - أن الإيمان بتمثل المسيح بجسده ودمه فعليا في الخمر والخبز يشبه عقيدة استحالة الشكلين التي سادت العصور الوسطى، والتي تعني تحول مادة الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. رفض لوثر تلك العقيدة، لكنه آمن بأن المسيح يتمثل حقا في الخبز والخمر؛ لأنه قال إن الخبز هو جسده، والخمر هو العهد الجديد الذي يكتبه بدمه. أما زفينجلي بالأخص فرأى أن لوثر يتبنى منظورا ماديا قد يشجع الخرافات الشائعة، كسرقة خبز القربان المقدس، وعزو قدرات خارقة إليه؛ فرأى كارلشتادت وزفينجلي أن المسيح عنى أن يرمز الخبز والخمر إلى جسده، وأن يلفتا المؤمن إلى الصليب الذي ضحى عليه المسيح لخلاصه، في حين أصر لوثر على أن العشاء الرباني لا يذكر وحسب بموت يسوع تضحية، بل يعبر في الواقع عن الغفران الذي فازت به تضحية المسيح. لم ينته هذا الخلاف بين لوثر وزفينجلي قط، وانقسم أتباعهما تدريجيا بين الكنائس اللوثرية وكنائس حركة الإصلاح الديني، التي سيطر نفوذها على أجزاء مختلفة من أوروبا.
لم يختلف البروتستانتيون إلا نادرا بشأن الصلوات، لكن تعديلاتهم على أساليبها السائدة في أواخر العصور الوسطى اتسمت بالصرامة وبأنها مثيرة للجدل؛ فقد تضرع مسيحيو أواخر العصور الوسطى كثيرا مستعينين بالتسابيح والوسائل التذكيرية إلى السيدة مريم والقديسين، وأثيبت صلوات بعينها بصكوك الغفران، كما جاء في بعض كتيبات العبادة ككتاب صلوات «حديقة الروح الصغيرة» الذي طبع للمرة الأولى عام 1498 في مدينة ستراسبورج، وتوفر بعدها بوقت قصير بالنسخة الألمانية، التي زينت بصور توضيحية جميلة، واحتوى على العديد من الصلوات المناجية لكثير من الشخصيات المقدسة من أجل الكثير من المناسبات الشخصية والشعائرية. وانتقد لوثر هذا الكتيب وغيره من الكتيبات المشابهة في مقدمته لكتابه «كتاب الصلوات الشخصي» الذي صدر عام 1522 قائلا:
أرى أن كتب الصلوات الشخصية ليست بلا شك أقل الكتب إثارة للاستهجان بين الكتب والعقائد العديدة الضارة والخادعة التي تضلل المسيحي، وتؤسس عددا لا حصر له من الاعتقادات الخاطئة. ترسخ هذه الكتب في رءوس البسطاء إحصاء الخطايا التعس والذهاب للاعتراف، وسخافات أخرى ليست من المسيحية في شيء عن الصلوات إلى الله وقديسيه! بالإضافة إلى ذلك، فهذه الكتب تمتلئ بوعود بالغفران، وتصدر بزخارف بالحبر الأحمر وعناوين جميلة. يجب إدخال تعديلات أساسية شاملة على هذه الكتب ما لم يجب محوها تماما.
طرح لوثر كتيبه عن الصلوات معللا ذلك بأنه لا يملك الوقت لإجراء مثل هذه التعديلات، ومؤكدا على أن الصلاة الربية تكفي في جميع الأوقات، وعلى أن التوجه بصدق على الدوام إلى الله أكثر أهمية من الاسترسال في كلمات الدعاء. إلا أنه - وهو نفسه يشتهر بالاسترسال في الحديث - تطرف في حثه على ذلك إلى حد قد يؤذي أسماع المتقين، حتى إنه طلب من أحد النبلاء النمساويين توفيت زوجته، في خطاب عزاء أن يتوقف عن دفع المال نظير جميع صلوات المساء والقداس والصلوات اليومية من أجل زوجته، ونصحه بدلا من ذلك قائلا:
يكفي لسموك أن تتضرع بإخلاص مرة أو مرتين من أجلها، فقد وعد الرب أن كل ما تطلبه منه وتؤمن بأنك ستناله فستناله حتما (سفر لوقا الإصحاح الحادي عشر، الآية التاسعة والعاشرة). أما إن كررت الدعاء مرة بعد أخرى من أجل الشيء نفسه، فهذا ينم عن عدم تصديق الله، فلا تزيد الرب بصلاتك التي يعوزها الإيمان إلا سخطا. لا شك أن علينا أن نتضرع على الدوام إلى الله، ولكن علينا أن نفعل ذلك موقنين ومؤمنين بأنه يسمع دعاءنا، وإلا كان دعاؤنا غير مجد.
أعرب لوثر في الأعوام الأخيرة من حياته عن رضاه عن المسيحية الجديدة الناشئة بفضل جهوده، وإحباطه منها. لكن كان من المحتم أن يولد مشروع هائل بحجم حركة الإصلاح الديني كلا الشعورين. فعلى الرغم من إصرار لوثر على أن المؤمن الذي يتبرر بإيمانه فقط وبإخلاصه في حب الرب، يظل مذنبا بحاجة إلى الغفران، فقد تصور عالما مسيحيا مليئا بقديسين أكثر من المذنبين، لكن - كما أثبتت الأجيال اللاحقة - تبين أن تلك غاية متعذرة التحقيق.
الفصل السادس
الإصلاح السياسي
ناپیژندل شوی مخ
في 25 سبتمبر عام 1513، أصبح المستكشف الإسباني فاسكو نونييز دي بالبوا أول مستكشف أوروبي شهير يتطلع إلى المحيط الهادي من شاطئ العالم الجديد من إحدى قمم برزخ بنما. كان لوثر قد ألقى قبلها بأربعين يوما في ألمانيا أولى محاضراته عن سفر المزامير، ومنذ ذاك اليوم ترقى في مساره المهني بالتوازي مع توسعات الإمبراطورية الإسبانية في الأمريكتين. وفي الفترة ما بين عامي 1519 و1521، عندما بدأ الصراع بين لوثر والكنيسة الرومانية يصعد حتى وصل إلى حرمانه كنسيا وانتقاده بعنف في فورمس، كان هرنان كورتيس آنذاك يتقدم في زحفه على المكسيك كي يضع نهاية لإمبراطورية الآزتيك، ناقلا أخبار غزوته للملك شارل ملك قشتالة، الذي أصبح بعد انتخابه عام 1519 إمبراطورا على الإمبراطورية الرومانية المقدسة وملكا يأتمر به لوثر أيضا. وعلى الرغم من أن حركة الإصلاح الديني بدأت في ألمانيا كحركة دينية معارضة، فقد كانت منذ ولادتها حركة سياسية يحدد مصيرها الإمبراطور شارل الخامس لا لوثر؛ فمع أن شارل - الذي كان أحد أنصار الكنيسة الرومانية - فرض عام 1521 مرسوما يحرم لوثر كنسيا، ظل بحاجة إلى تأييد البلدات البروتستانتية ودعم أمرائها لحماية ألمانيا من التهديد العثماني، ومن ثم سعى إلى إعادة الوحدة الدينية إلى إمبراطوريته، وسمح في سعيه نحو ذلك للحركة البروتستانتية بأن تحيا وتنمو. وقد لعب لوثر في تلك الأحداث السياسية المؤثرة دورا ملموسا، ولكن بعد عام 1529 سيرته أحداث تلك الفترة أكثر مما تحكم هو في سيرها.
ضلع لوثر وزملاؤه في الأحداث السياسية على جميع المستويات، بدءا من المستوى المحلي امتدادا إلى الإمبراطورية الرومانية بأسرها؛ لأن تأييد حركة لوثر في ألمانيا كان إما يصرح به أو يحظر من قبل الأمراء ومجالس البلديات. فكان النهج التالي هو المسلك التقليدي للحركة الإصلاحية في بلدان ألمانيا، سواء كبرت أو صغرت: يأخذ القس المتأثر بمنهج لوثر في تدريس الرسالة البروتستانتية التي مفادها أن الخلاص بالإيمان وحده، ويبدأ في تغيير أساليب الاحتفال بالقداس، وقد يدين أيضا صكوك الغفران والتضرع إلى القديسين وقواعد الصيام والنذر الرهبانية وامتناع رجال الدين عن الزواج باعتبارها غير واردة في الإنجيل، فإن جذب هذا القس عددا كبيرا من الأتباع تصدى له رجال الدين المناصرون للكنيسة الرومانية في البلدة، وأبلغوا أسقف الأبرشية عنه، بعد ذلك يرفع الواعظ قضيته لمجلس بلدية البلدة، ويطلب منها التصديق على عظاته والتعديلات التي أدخلها على القداس. وقد يعقد مجلس البلدية في بعض الحالات جلسات استماع أو مناظرات بين الواعظ البروتستانتي وبين ممثل عن رجال الدين المناصرين للكنيسة الرومانية، وقد ينظم مؤيدو كلا الجانبين مظاهرات عامة. ففي مدينة جوتنجن عام 1529 على سبيل المثال، أثناء مسيرة عبر المدينة نظمها الكاثوليكيون حاملين خبز القربان المقدس، اعترض مؤيدو البروتستانتية ملتقى طرق بالمدينة، وأنشدوا نسخة ترنيمية من المزمور رقم 130، كان لوثر قد كتبها قبل ستة أعوام، ولما بلغ الكاثوليكيون في نهاية مسيرتهم كنيسة البلدة وأنشدوا ترنيمة «نشكر الله»، وهي ترنيمة قديمة في تمجيد الله، عاود البروتستانتيون الضغط عليهم من الخلف، وحاولوا حجب أصواتهم بإنشاد ترنيمة ألمانية أخرى. كانت مجالس بلدية المدن في الحالات التي تحكم فيها لصالح المذهب البروتستانتي تسمح بالاستمرار في إلقاء العظات البروتستانتية ، وتتبنى في أغلب الحالات نظاما أو قانونا كنسيا يجعل إلقاء العظات البروتستانتية وممارسة شعائرها هو التقليد المتبع في هذا المجتمع.
كانت السياسات التي انتهجتها حركة الإصلاح الديني في فيتنبرج أثناء غياب لوثر (من أبريل عام 1521 إلى مارس عام 1522) شائكة وغير منسقة، فتولى زمام المبادرة زميل لوثر المناصر للمذهب الأوغسطيني جابرييل زفيلينج وزملاؤه في الجامعة آندرو كارلشتادت وفيليب ميلانشتون؛ فجاهر كارلشتادت بدون الحصول على موافقة ناخب مدينة فيتنبرج أو مجلس بلديتها بمعارضة تبتل رجال الدين، وبالاحتجاج على النذر الرهبانية. وعلى الرغم من أنه كان قسا وكبير شمامسة مجلس رجال كنيسة جميع القديسين، ففي يناير عام 1522 تزوج وهو في عمر الخامسة والثلاثين من آنا فون موخاو، وهي شابة لا يضاهي عمرها نصف عمره. أما ميلانشتون الذي لم يكن قد وسم كاهنا بعد، فتناول مع بعض من الطلاب الخمر والخبز معا في كنيسة المدينة، وقدم كارلشتادت في عيد الميلاد الخمر والخبز معا للعامة في صلاة القداس، واستبدل بالصلاة الربانية (صلاة القرابين المقدسة) اللاتينية بكلمات التأسيس الألمانية، لكنه بعكس ميلانشتون وزفيلينج رأى أن العامة الذين يرفضون شرب الخمر يعدون من الآثمين، الأمر الذي عارضه لوثر بقوة في كتاباته التي كتبها في قلعة فارتبورج. في الوقت نفسه، طلب زفيلينج من العامة أن يمتنعوا عن تقديم الهدايا إلى الدير الأوغسطيني ليجبر رهبان الدير على تركه، وعليه ترك بالفعل ثلاثة عشر راهبا أوغسطينيا الدير في نوفمبر عام 1521، وتزوجوا وعملوا بالحرف اليدوية. وفي أوائل ديسمبر من العام نفسه احتج حشد من الطلاب وأهالي فيتنبرج على تلاوة صلوات القداس الخاصة في كنيسة المدينة، بانتزاع كتب صلوات القداس وإجبار القساوسة على مغادرة منصات المذابح، وفي اليوم التالي، اقتحمت مجموعة من ثلاثة عشر طالبا الكنيسة الفرنسيسكانية في اليوم التالي وفككت المذبح الخشبي. أراد ناخب ساكسونيا الأمير فريدريك معاقبة المقتحمين، لولا تدخل بعض شخصيات فيتنبرج البارزة في عمل مجلس بلدية المدينة الذي وجد نفسه عندئذ محاصرا بإرادة ناخب ساكسونيا من ناحية، ومواطني فيتنبرج من ناحية أخرى.
في الوقت نفسه تقريبا، زار لوثر فيتنبرج سرا، متنكرا في هيئة فارس يدعى جورج ، وأعلن رضاه عن كل ما رآه في المدينة، لكنه لدى عودته إلى قلعة فارتبورج دعا إلى ضبط النفس في كتيب قصير عبر عنوانه عن مضمونه تعبيرا صادقا؛ فقد كان عنوان الكتيب: «نصيحة خالصة من مارتن لوثر لجميع المسيحيين: احذروا العصيان والتمرد»، وبعد أن توقع فيها «سقوط البابا وانهيار نظامه المخالف للمسيحية» بسخط من الله وكلمة المسيح لا بالعنف البشري، استنكر استخدام العنف، ونصح مؤيديه بانتهاج الاستراتيجية التالية:
اعكفوا على العمل الآن؛ انشروا الكتاب المقدس وساعدوا الآخرين على نشره. درسوا وتحدثوا واكتبوا وعظوا بأن قوانين البشر لا قيمة لها. وحثوا الناس على هجر مناصب القسيسين والأديرة والرهبنة وامنعوهم منها، وحثوا من لم يتركها منهم على تركها. ولا تخرجوا المزيد من أموالكم لأوامر [بابوية] أو شموع أو أجراس أو ألواح [نذر] أو كنائس، بل أذيعوا أن الحياة المسيحية قوامها الإيمان والحب.
لكن لم يلتفت كل من كارلشتادت وزفيلينج لنصح لوثر؛ فأمر الأخير، بعد اختتام مناقشة اجتماع أنصار المذهب الأوغسطيني في فيتنبرج، بإخلاء الكنائس من المذابح والصلبان وصور القديسين وأدوات المذابح التي لم تعد ضرورية لطقوس العبادة البروتستانتية، وفي الوقت نفسه صاغ كارلشتادت - الذي حصل على درجات علمية في القانون المدني والكنسي - ترتيبا كنسيا يشمل جميع التغييرات التي استحدثها هو وزملاؤه إلى تلك النقطة، إلا أن الناخب فريدريك رفض التصديق على هذا الترتيب الكنسي الجديد؛ نظرا لأن الحكومة التابعة للإمبراطورية الرومانية قد أمرته بمعارضة كل الأمور المستحدثة في فيتنبرج. وبعد أن أشعلت عظة كارلشتادت التي انتقدت الصور المعلقة بالكنائس أعمال شغب في كنيسة البلدة، استدعى ميلانشتون ومجلس البلدية لوثر إلى فيتنبرج ليأخذ بزمام حركة الإصلاح، فأذعن لوثر لطلبهما رغم أن الناخب فريدريك رفض أن يمنحه الإذن، وطلب منه أن يوثق هذا الرفض، فأبرأ لوثر ذمة فريدريك في هذا الشأن، إلا أنه أكد على أن فيتنبرج هي أبرشيته «جماعتي التي عهد لي بها الرب»، ولا يسعه التخلي عنها، وخشي أن يبتلي الرب ألمانيا ب «ثورة حقيقية »؛ لأن شعبها لم يعرف كيف يستخدم الكتاب المقدس على الوجه الصحيح.
تحققت مخاوف لوثر بعد ثلاثة أعوام في حرب الفلاحين أو ثورة عام 1525 - إن أردنا الدقة - لكونها انتفاضة شاملة امتدت إلى جميع الطبقات الاجتماعية والاقتصادية. كانت هذه الثورة قد اندلعت بالفعل في جنوب ألمانيا، عندما قرأ لوثر مطالب الفلاحين الاثني عشر في سوابيا، وكان الهدف الذي نصت عليه هذه المطالب «هو مغفرة عصيان الفلاحين وتمردهم سيرا على نهج المسيحية»، بإثبات أن الكتاب المقدس يدعم شكواهم ومطالبهم. ورد لوثر على هذه المطالب في منشور سمي وفاقا ب «نصح من أجل السلام»؛ إذ ظل مثار خوفه الأكبر هو احتمال اندلاع ثورة تتمخض عن فوضى أو - على حد تعبيره - عن «دمار ألمانيا إلى الأبد بالإطاحة بكلمة الله والسلطات المدنية»؛ من ثم ألقى لوثر اللوم على كل من الحكام ورعاياهم، فوبخ الأمراء والأساقفة لأن دورهم اقتصر على «غش وسرقة» الشعب لينعموا بحياة «البذخ والترف»، إلا أن شرورهم وإجحافهم لا يبرران فوضى العامة وتمردهم؛ لأن مسئولية معاقبة الشر وفقا للكتاب المقدس تقع على جهة الحكم الشرعية. بالإضافة إلى ذلك، إن كان الفلاحون مسيحيين مخلصين كما يزعمون، فعليهم أن يذعنوا لوصية المسيح بأن يديروا الخد الآخر؛ «المسيحي لا يذود عن نفسه بالسيوف والبنادق، بل بالصليب والمعاناة». من ثم خلص لوثر في النهاية إلى أن كلا الطرفين لم يعدلا أو يسلكا النهج المسيحي، وأوصى بمفاوضات تقضي بإقلاع الحكام عن ممارساتهم القمعية الطاغية، وأن يخفف العامة من حدة مطالبهم.
شكل 6-1: الناخبون فريدريك الحكيم، وجون المخلص، وجون فريدريك ناخب ساكسونيا. لوحة ثلاثية بريشة لوكاس كراناش، عام 1535 تقريبا.
1
لكن بدلا من المفاوضات امتدت الثورة بخطى ثابتة إلى الشمال لتدنو أكثر من محيط لوثر، حيث حشد عالم اللاهوت المتطرف توماس منتسر - الذي أيد محو الحقبة الضالة التي تسبق حكم يسوع الذي امتد لألف عام (سفر الرؤيا، 20 :4-6) - أتباعه لمعركة حاسمة في فرانكنهاوزن. لكن في مواجهة اتحاد القوى التابعة للأمراء، لم يملك هو وأتباعه أدنى فرصة للنصر، وسحقوا سحقا، وأجبر منتسر الذي عثر عليه مختبئا تحت فراش على توقيع إقرار بذنبه ثم أعدم. قبل ذلك بأسابيع قليلة، وبعد أن شهد لوثر الخراب الذي حل على أيدي عصابات الفلاحين المتجولة، كتب أنه يحق للأمراء ذبح تلك العصابات إن اقتضي الأمر لوقف غاراتهم، لكن بعد تلك المذبحة وجهت له انتقادات حادة، وحث على كتابة تراجع عن أقواله. لكن تبين أنه كتب بدلا من ذلك دفاعا عن رأيه، فقال إن العامة تمردوا، وأنهم يستحقون الموت لخروجهم على السلطة وهدمهم للنظام الاجتماعي. كما أكد لوثر على زعمه أن الأمراء طغاة لا يشبعون من إراقة الدماء، لكن غض الطرف عن هذا الجزء من بيان تراجعه عن أقواله، واستهزئ به ل «تملقه» الأمراء، وهي وصمة لازمته رغم إصراره على أنه قصد فقط أن يرشد العامة والحكام كليهما لواجبهم كمسيحيين.
ناپیژندل شوی مخ
توفي الناخب فريدريك في أوائل مايو عام 1525، بعد أن سمح للوثر ضمنيا بالمضي قدما في الإصلاح الديني، وكانت وفاته بروتستانتية على نحو جلي، فقد توفي بعد تلقي الخمر والخبز معا في آخر عشاء رباني شارك به. وخلفه أخوه جون، الذي دافع بقوة عن حركة الإصلاح الديني، وعمل جنبا إلى جنب مع مواطني فيتنبرج لتأسيس كنيسة بروتستانتية في ولاية ساكسوينا، وطلب منه لوثر - بعدما وجد أن الأبرشيات قد حلت بها الفوضى بعد الثورة، وأنه لم ينضم إليه أي أساقفة يضطلعون بأداء مهامهم التقليدية في الكنائس - أن يعين أربعة مفتشين لمعاينة أوضاع الأبرشيات الاقتصادية والدينية. وبدأ هذا التفتيش - أو هذه الزيارت الرسمية بالتعبير الذي وصفت به - عام 1527، وأعد ميلانشتون ولوثر مجموعة من التعاليم العقائدية والإجرائية، التي شكلت معا أول دستور للأبرشيات البروتستانتية المعاد تنظيمها في منطقة لوثر، إلا أن مواطني فيتنبرج لم يؤسسوا كنيسة خاضعة لسلطة الدولة. فقد فصلت التعاليم فصلا واضحا بين النظام الكنسي والحكومة المدنية، فجاء فيها:
يجب أن تطاع جميع السلطات المدنية، لا لأنها تمثل وسيلة جديدة لطاعة الله، بل لأنها تتيح حياة منظمة يسودها الحب والسلام؛ لذا يجب أن تطاع في كل شيء، إلا إذا أمرت بما يخالف ناموس الله؛ كأن تأمر على سبيل المثال بإهمال الكتاب المقدس أو أجزاء منه. ففي هذه الحالة سنتبع القاعدة الواردة في الآية 29 من الإصحاح الخامس من سفر أعمال الرسل، التي تنص على أنه «ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس».
لكن اتساع حركة الإصلاح الديني الألمانية وترسخها نبع في الواقع من التعاون الوثيق بين الحكام البروتستانتيين وعلماء اللاهوت؛ إذ كان تهديد الإمبراطور شارل الخامس ومستشاريه الكاثوليكيين بالقمع له أبعاد سياسية ودينية. ففي عام 1526 شكل سبعة أمراء بروتستانتيين اتحاد تورجاو الدفاعي، الذي أصبح مع خلفائه عماد مقاومة مساعي الإمبراطورية الرومانية لإجبار المقاطعات البروتستانتية (المدن والأقاليم الحرة التي تبنت حركة الإصلاح الديني) على الخضوع مجددا للسلطة البابوية. وأتيحت لتلك المقاطعات مساحة من الحرية، عندما سمح اجتماع شباير الأول (الذي عقد عام 1526) لكل مقاطعة بإدارة شئونها الدينية كما ترتضي، إلى أن يفصل في تلك الشئون مجلس كنسي. لكن في عام 1529 طالبت الولايات الكاثوليكية التي هيمنت على مجلس شباير الثاني بإلغاء اتفاق عام 1526، ونادت بتنفيذ المرسوم الصادر ضد لوثر وأتباعه في مجلس فورمس عام 1521، فعارضت المقاطعات البروتستانتية التي شكلت الأقلية في ذلك الوقت هذا المرسوم، وألفت اتحاد شباير البروتستانتي.
أتيحت لحركة الإصلاح الديني فترة راحة أخرى عندما زحف الأتراك العثمانيون على أوروبا الوسطى؛ إذ احتاج الإمبراطور شارل للدعم العسكري والمالي من الأقاليم البروتستانتية والكاثوليكية على حد سواء، من أجل الدفاع عن الإمبراطورية. فطلب شارل، بعد حصار الأتراك لفيينا في خريف عام 1529، من أتباع المذهب البروتستانتي والكاثوليكي أن يقدموا بيانا بتعاليم مذهب كل منهما وشعائره في اجتماع العام التالي في أوجسبورج، راميا إلى تحقيق وحدة دينية بين أصحاب المذهبين. تجاهل الكاثوليكيون مطلبه، أما مؤيدو لوثر من أتباع المذهب البروتستانتي فأعدوا في اجتماع بساكسونيا مجموعة من المواد المتصلة بالممارسات البروتستانتية، وألحق فيليب ميلانشتون، الذي ترأس علماء اللاهوت اللوثريين الحاضرين الاجتماع، المواد العملية بلائحة للتعاليم البروتستانتية، ووقع هذه المواد، البالغ عددها ثمانيا وعشرين مادة، سبعة من أمراء ألمانيا وممثلون عن مدينتين ألمانيتين في اجتماع أوجسبورج في يونيو عام 1530، بعد مناقشة علماء اللاهوت ومراجعتهم لها، وقدمت للإمبراطور شارل كبيان ديني وإعلان سياسي في الوقت نفسه. وأصبحت تدريجيا بعد أن رفضها علماء اللاهوت الكاثوليكيون - ليطلق عليها من ثم إقرار أوجسبورج - ميثاقا للمدن والأقاليم البروتستانتية التي بدأت تنسب نفسها إلى المذهب اللوثري. وانسحبت أغلب الفصائل البروتستانتية من اجتماع أوجسبورج، قبل أن يصدر مرسوم باسم شارل يعلن مجددا خروج لوثر عن القانون، ويمهل البروتستانتيين ستة أشهر لإلغاء جميع المبتدعات الدينية في المناطق التابعة لهم.
لم يسمح للوثر بحضور اجتماع أوجسبورج؛ لأنه لم يثق بتمتعه بالحصانة إلا في ساكسونيا فقط، إلا أنه أبقى على تواصله مع ميلانشتون وغيره من علماء اللاهوت عبر مكاتبات شبه يومية، مدركا أن ذلك الاجتماع يمثل نقطة فاصلة في تاريخ حركة الإصلاح الديني. كان لوثر قلقا من نتيجته وحث زملاءه على الثبات، وبمجرد انتهاء الاجتماع، لم يضع لوثر وقتا ورد على المرسوم، فأصدر عام 1531 رسالة بعنوان «تحذير للشعب الألماني الحبيب»، أجاز فيها المقاومة المسلحة في حال سريان المرسوم الصادر ضد البروتستانت. وكان لوثر قد أوصى من قبل بطاعة الإمبراطور شارل، ودعم حربه الدفاعية ضد الأتراك، لكن بعد عام 1530 عدل لوثر عن رأيه، وأوضح أن الحفاظ على الكتاب المقدس يأتي فوق طاعة أي حاكم مدني قد يسعى إلى طمسه:
إن اندلعت الحرب - معاذ الله - لن أنتقد من يدافعون عن أنفسهم ضد الكاثوليكيين القتلة المتعطشين للدماء، ولن أسمح لأي شخص باتهام من يذودون عن أنفسهم بأنهم محرضون على الفتن، بل سأقبل أفعالهم وأتغاضى عنها باعتبارها دفاعا عن النفس.
وقبل ختام الرسالة نفسها رسم لوثر صورة حالكة السواد لما سيئول إليه الوضع إن لم يقاوم أتباعه الإمبراطور:
سيكون عليكم أن تساعدوا في استئصال وتدمير كل [منجزاتنا] ... وأن تحرقوا جميع الكتب الألمانية، وأسفار العهد الجديد، والمزامير وكتب الصلوات والتراتيل وكل الأشياء الجيدة التي كتبناها ... سيكون عليكم أن تبقوا على جهل الجميع بالوصايا العشر والصلاة الربية وأسس العقيدة؛ فتلك كانت الحال من قبل. وسيتعين عليكم أن تمنعوا الجميع من معرفة حقيقة المعمودية، والقربان المقدس ، والإيمان، والحكومة، والزواج والكتاب المقدس. سيكون عليكم أن تمنعوا الجميع من معرفة الحرية المسيحية، وتمنعوا الناس من الثقة بالمسيح واستمداد السلوى منه. فكل هذا لم يكن موجودا من قبل؛ كله مبتدع.
لكن لم يقع أي مما أشار لوثر إليه حتى عام 1548، بعد أن هزم الإمبراطور شارل في نهاية المطاف قادة المذهب البروتستانتي، واستولى على مدينة فيتنبرج. وبدلا من كل هذا، في نهاية عام 1530، عقد جون ناخب ساكسونيا وفيليب حاكم هيسي اجتماعا للأمراء ومسئولي المدن في بلدة شمالكالد لتشكيل اتحاد دفاعي سمي باسم تلك البلدة، ووافق الإمبراطور شارل عام 1532 على عقد هدنة حتى انعقاد مجلس كنسي عام، وسمحت هذه الأزمة التي تجددت عام 1539 للاتحاد بالاتساع سريعا ليشكل كتلة بروتستانتية عسكرية وسياسية هائلة في الإمبراطورية.
خلال الأربعة عشر عاما الأخيرة من حياته، خضع لوثر لناخب جديد في ساكسونيا هو جون فريدريك، الذي خلف أباه الناخب جون بعد وفاة الأخير عام 1532. لم يحاول جون فريدريك أن يكبح لسان لوثر اللاذع في الشئون السياسية، بل حثه على أن يوظف موهبته الشهيرة في مجادلة الخصوم الكاثوليكيين لاتحاد شمالكالد. وسعد لوثر بالامتثال لهذا الأمر، لا سيما أن القضية الأساسية التي واجهت الاتحاد في ذلك الوقت تمثلت في الاختيار بين حضور المجلس الكنسي العام الذي أمر البابا بولس الثالث بعقده من عدمه. ورأى الناخب جون فريدريك أن الحضور سيكون تصرفا غير حكيم، وقد اجتمع أعضاء اتحاد شمالكالد وبعض البروتستانتيين الآخرين في شمالكالد في أوائل عام 1537 لمناقشة الأمر. طلب من لوثر آنذاك أن يكتب ميثاقا لاهوتيا يدرج فيه الموضوعات التي يمكن أو لا يمكن مناقشتها في المجلس القادم، وقد أعرب لوثر عن رأيه في العديد من المنشورات الدينية في أن المجلس لا يمكن أبدا أن يكون ندوة حرة وصريحة ما دام قد انعقد بدعوة من البابا، غير أنه شدد في هذا الميثاق الذي عرف باسم مواد شمالكالد على أن البابا هو المسيح الدجال، وعلى أن النظام البابوي وهم بشري لا يجدي الكنيسة نفعا قائلا: «لو لم يرفع الشيطان مثل هذا الرأس، لكان هذا أفضل كثيرا.» إلا أن مشهد المجلس قاد لوثر إلى صياغة رسالة تاريخية وسياسية مهمة نشرت عام 1539 بعنوان «المجالس والكنيسة»، وحاول لوثر أن يوضح من تاريخ الكنيسة، أن المجالس الكنسية قد ناقضت نفسها؛ ومن ثم لا تصلح كأساس يمكن الوثوق به لإصلاح الكنيسة؛ فقد كانت وظيفتها الأولى هي الحفاظ على العقائد الإيمانية العريقة التي صححتها حركة الإصلاح الديني بناء على الكتاب المقدس، ومن ثم إن عقدت بدعوة من البابا فيستحيل أن تصب في مصلحة المسيحية الحقة التي يجددها المصلحون الدينيون.
ناپیژندل شوی مخ