لغز عشتار
لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة
ژانرونه
إلا أن الجنس النسائي لم يهزم دون مقاومة. ورغم أن التاريخ لم يحفظ لنا آثار ونتائج الصدام المباشر بين الجنسين، والذي حصل ولا شك في زمن ما عند أعتاب التاريخ المكتوب، إلا أن الأسطورة تستطيع تزويدنا بكثير من المعلومات في هذا الصدد. فالأسطورة في بعض جوانبها ذاكرة الإنسانية، فيها تحفظ الأحداث طرية غضة بشكل رمزي لا يتطلب فهمه سوى الإمساك بمفاتيح التفسير. من الأساطير المتعددة التي تشير إلى صراع الجنسين، سنأتي على ذكر أكثرها شهرة، وهي الأسطورة الإغريقية عن «النساء الأمازونيات». فالأمازونيات وفق الرواية الإغريقية كن قبيلة من النساء المحاربات، أتين من شواطئ البحر الأسود وسكن عند تخوم بلاد الإغريق، فأسسن عددا من المدن تحكمها ملكة، وتتعبد للإلهة «أرتميس». وبسبب عداوتهن للرجال كان مجتمع الأمازونيات وقفا على النساء وحدهن، اللواتي إذا أردن الإنجاب أتين بلادا مجاورة فضاجعن رجالها وعدن من حيث أتين، حتى إذا وضعن مواليدهن قتلن الذكور في المهد وأبقين على الإناث، اللواتي تتم تربيتهن منذ الصغر على فنون الحرب وكره الرجال. ويقال إنهن كن يقطعن النهد الأيمن في صدورهن ليستطعن استعمال القوس بسهولة. وتنسب الأساطير إلى هؤلاء بناء عدد من المدن بعيدا عن موطنهن الأصلي؛ منها مدينة إفسوس في آسيا الصغرى ، وبافوس في قبرص. كما يدعي أكثر من بطل أسطوري إغريقي قتالهن منفردا والقضاء على ملكتهن. من هؤلاء هرقل وثيسيوس.
11
إن هذه الأسطورة لتدل على أن المرأة في إحساسها بالوضع المهين الذي أخذت بالانحدار إليه على يد الرجل قد فضلت، في لحظة ما من التاريخ، فصم المجتمع والاستقلال بذاتها؛ سعيا وراء حياة أسمى وأنقى وأكثر حرية وكرامة، وراحت تدافع بضراوة عن مكتسباتها، متحولة ولو بشكل مؤقت عن طبيعتها المسالمة وغريزتها الأمومية، في سبيل نقاء القيم الأنثوية الأصلية ونبالتها. وإن شيوع هذه الأسطورة خارج الثقافة الإغريقية، ووجود شبيهاتها لدى حضارات أخرى، ليدل على حدوث ذلك الصدام في المجتمعات البشرية في زمن ما من تاريخها، وعلى رد الفعل الطبيعي لدى المرأة تجاه المحاولات الأولى لاستعبادها.
12
إن كثيرا من أساطير الشعوب تحتوي عناصر تاريخية واضحة تشير إلى الانقلاب الذكري الكبير، وإحلال حق الأب محل حق الأم. ولسوف نتعرض إلى الكثير منها خلال الفصول القادمة، ولذا سأكتفي هنا بذكر الأسطورة الإغريقية حول أصل مدينة أثينا. ففي صباح أحد الأيام، وقبل أن يطلق على مدينة أثينا اسمها المعروف، أفاق أهل المدينة على حادث عجيب؛ فمن باطن الأرض نبتت في ليلة واحدة شجرة زيتون ضخمة، لم يروا لها شبيها من قبل، وعلى مقربة منها انبثق من جوف الأرض نبع ماء غزير لم يكن هناك البارحة، وقد أدرك الناس أن وراء ذلك سرا إلهيا ورسالة تأتي من الغيب. فأرسل الملك إلى معبد دلفي يستطلع عرافته الأمر ويطلب منها تفسيرا. فجاءه في الجواب أن شجرة الزيتون هي الإلهة أثينا، وأن نبعة الماء هي الإله بوسيدون، وأن الإلهين يخيران أهل المدينة في أي من الاسمين يطلقون على مدينتهم. عند ذلك جمع الملك كل السكان واستفتاهم في الأمر، فصوتت النساء إلى جانب أثينا، وصوت الرجال إلى جانب بوسيدون. ولما كان عدد النساء أكبر من عدد الرجال كانت الغلبة لهن، وتم إطلاق اسم الإلهة أثينا على المدينة. وهنا غضب بوسيدون فأرسل مياهه المالحة العاتية فغطت أراضي أثينا وتراجعت تاركة أملاحها التي حالت دون زراعة التربة وجني المحصول. ولتهدئة خواطر الإله الغاضب، فرض رجال المدينة على نسائها ثلاث عقوبات: أولا لن يتمتعن بحق التصويت العام بعد اليوم. وثانيا لن ينتسب الأولاد إلى أمهاتهم بعد اليوم بل لآبائهم. وثالثا لن تحمل النساء لقب الأثينيات، ويبقى ذلك وقفا على الرجال.
13
إن أي نص تاريخي موثق صحيح الإسناد وفق المنهج التاريخي الصارم، لا يمكن أن يحمل من صدق الخبر ما تحمله هذه الأسطورة التي تؤرخ فعلا لانتزاع حقوق المرأة المدنية والسياسية والاجتماعية عند جذور التاريخ الإغريقي.
إلا أن المجتمع الأمومي لم يندثر تماما بحلول المجتمع الأبوي، بل استمر كثير من قيمه سائدا في بعض المجتمعات الجديدة إلى فترة متأخرة من تاريخها. ففي المجتمع المصري بقيت لمسات الثقافة الأمومية واضحة عليه طيلة تاريخه الطويل الذي استمر قرابة أربعة آلاف سنة. كان كرسي الملك ينتقل عبر سلسلة النسب الأمومي لا النسب الأبوي، وكل أميرة هي وارثة طبيعية للعرش. لذا كان على الفرعون الجديد أن يتزوج من وارثة العرش لتثبيت حقه فيه. والشيء نفسه فيما يتعلق بوراثة الممتلكات المادية لدى جميع طبقات الشعب، فكانت هذه الممتلكات تنتقل إلى البنات لا إلى الأبناء. وهذا ما رسخ زواج الإخوة من أجل الحفاظ على العرش ضمن الأسرة المالكة، والحفاظ على ممتلكات العائلة الواحدة من الخروج إلى أيدي الغرباء. أما دور المرأة ومكانتها في العائلة والمجتمع، فلم تتغير كثيرا عما كانت في العصور الأمومية، وتوضح عقود الزواج التي وصلت إلينا من فترات مختلفة من تاريخ الثقافة المصرية وضع المرأة الحقيقي. ففي أحد صكوك الزواج الذي يعود تاريخه إلى الألف الثالث قبل الميلاد، يقول الزوج موجها كلامه إلى سيدة المستقبل: «منذ اليوم أقر لك بجميع الحقوق الزوجية، ومنذ اليوم لن أفوه بكلمة تعارض هذه الحقوق. لن أقول أمام الناس بأنك زوجة لي؛ بل سأقول بأنني زوج لك. منذ اليوم لن أعارض لك رأيا، وتكونين حرة في غدوك ورواحك دون ممانعة مني. كل ممتلكات بيتك لك وحدك، وكل ما يأتيني أضعه بين يديك ...» وبعد ألفي عام من هذا الصك، نجد المرأة في صك آخر يرجع تاريخه إلى الفترة البطلمية تقول لزوج المستقبل : «إذا تركتك في المستقبل لكرهي لك أو لمحبتي رجلا آخر، فإنني أتعهد أن أدفع لك مكيالين ونصفا من الفضة، وأعيد إليك هدايا الزواج.» في هذه العائلة القائمة على سيادة المرأة كان الأطفال في مصر ينتسبون لأمهاتهم، ويعودون إليها في حال الانفصال؛ لذلك لم يكن مفهوم الطفل غير الشرعي معروفا، ولم يكن هناك فرق بين الطفل المولود ضمن مؤسسة الزواج، وبين الطفل المولود خارجها.
14
وفي جزيرة كريت الموطن التقليدي للثقافة الأمومية، استمرت القيم العشتارية محركا أساسيا للمجتمع، منذ أن هبط إليها المهاجرون الأول قادمين من المراكز النيوليتية في الشرق الأدنى خلال الألف الخامس، وحتى انهيارها أواسط الألف الثاني قبل الميلاد. فالأعمال التشكيلية التي وصلت إلينا من فترة ازدهار الحضارة الكريتية، كانت في غالبيتها تتخذ المرأة موضوعا رئيسيا لها. فبالإضافة إلى رسوم وتماثيل الأم الكبرى التي لم يعبد الكريتيون سواها طيلة تاريخهم، كانت الأعمال التشكيلية الأخرى تصور المرأة في أبهى وضع وحلة؛ فهي إما سيدة قصر، أو أميرة، أو راكبة عربات منطلقة تسوقها نسوة لا رجال. أما الأعمال التي كان الرجال موضوعا لها أو جزءا من موضوعها، فكانت تصور أولئك الرجال كجنود أو موسيقيين أو حصادين، أو سقاة وحملة أكواب، ولم يتم العثور على أعمال تصور الرجال كحكام ومتنفذين وما إلى ذلك من المهن العالية. وفي ذلك دلالة واضحة على ما تمتعت به المرأة من مكانة في ذلك المجتمع الذي استمر فيه «حق الأم» مؤثرا شأن المجتمع المصري. فحبل النسب هنا أيضا كان مرتبطا بالأم لا بالأب، وكانت المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق والواجبات التي ينص عليها عقد الزواج، فإذا انفصم الزواج لرغبة أحد الطرفين عاد للمرأة أولادها وأموالها، ونشأ الأولاد تحت رعايتها وحماية أخيها الذي يلعب، منذ البداية وقبل انفصام الزواج دورا أساسيا في تربيتهم والاهتمام بهم؛ لأن صلة الأخ بأولاد أخته في المجتمع الأمومي لا تقل، إن لم تزد، على صلة الأب .
ناپیژندل شوی مخ