وهزت فرحانة رأسها وبكت وأخرجت من صدرها منديلا صغيرا أبيض جففت به الدموع.
وبدأت الحجرة تمتلئ بالضباب .. أتفرس في وجه الشاويش فأجده ضخم الجسد، ناصع البدلة، مدبب الملامح، صاعق النظرات، أشرطته الأربعة نافرة على كتفه، تكاد تضيء بنور أحمر وهاج، وبجواره أخوه الصغير، ملفوفا كرطل العظم المشفى في خرق بالية وقميص كتاف. وبينهما فرحانة، تبكي بحرقة وتندب حظا لا يعرف صاحبه. والعيون كلها زائغة، لا فرق بين عيون بدري العاقل أو محمد المجنون، والأعصاب مشدودة، والحقيقة قد بدأت تضيع، حتى من العسكري الواقف يحرس هذا كله ويحمي القانون، ومني أنا صاحب أسوأ موقف الوحيد من بين الحاضرين جميعا، الذي كان عليه أن يقرر، في دقيقة أو جزء منها، أين يكمن الحق، ويحكم بين أخوين لم يرهما إلا منذ دقائق، وكل منهما يكذب الآخر، ولا بد أن أحدهما على الأقل كاذب، والآخر إما مجرم أو مجنون .. وبدأ شيء يبرز وسط الضباب .. ولم يكن شيئا .. كان رجلا، ارتفع صوته بالخارج، قائلا للتومرجي: اوع .. ثم ما لبث أن اقتحم الحجرة، وانتصب قريبا من الأخوين على هيئة عسكري آخر، ضخم أيضا وطويل، وعلى صدره كوردونات خضراء كتلك التي يرتديها حرس مجلس الأمة أو الوزراء لا أعرف، وكان شاحب اللون يلهث، وقبل أن يلتقط أنفاسه بدأ يتكلم، موجها كلامه للأخ الشاويش الأكبر قائلا: بقي كدة يا بدري عايز تعملها وتودي محمد السراية؟ الله يلعن أبو الأرض .. دول ثلاث قراريط يا بدري تعمل في أخوك كدة عشانهم.
وقبل أن أسأله عمن يكون .. تطوع هو بتقديم نفسه قائلا: إنه الأخ الثالث الأوسط، وإنه علم منذ قليل أن بدري قد استصحب محمدا بالقوة ليدخله السراية، فجاء يجري ليمنع الجريمة.
وبكى، وضايقني بكاؤه، وصرخت فيه، ماذا يبكيه وهو الراجل الوافر القوة والقدرة، وإذا به يقول: ما يغركش يا بيه .. أصل أنا أعصابي تعبانة شوية، واتعالجت عند الدكتور ناشد فهمي، المدرس بتاع الأمراض النفسانية في الدمرداش.
قلت في سري: المسألة إذن وراثية .. وخيط الجنون يسري في العائلة، وسألت: اتعالجت من إيه؟ - أصلي حصل لي انهيار في أعصابي .. أصلي قتلت مرة حرامي، ومن يومها وأنا بدوخ، وكل ما اشوف بندقية نفسي تغم عليه!
ولا بد أن روح الهزل هي التي تستبد بنا أحيانا .. فقد وجدت نفسي أنسى الموقف تماما، ولا يعود يهمني سوى حالة هذا الأخ الأوسط الذي بدأ يرتجف أمامي ويهتز، وأكاد أضحك كلما قارنت بين جسده الضخم المهيب وصدره العريض الحافل بالكوردونات وبين ساقيه المرتعشتين والدموع السائلة من عينيه، ولم أكن قد رأيت قاتلا يعترف أنه قاتل من قبل، بل لم أكن أتصور أن يحدث للعسكري إذا قتل لصا كل هذا «الانهيار الأعصابي».
وسألته، وأجاب: أصلي كنت عسكري داورية وبعدين شفت حرامي بيكسر دكانة، لما شافني جري، ضربت طلقة في رجليه أهوشه ما وقفش، فضربت في المليان قام جت في ضهره ومات .. وفضلت واقف جنبه لما النهار طلع وخادوني ع القسم .. وبعدين بقيت أهلوس في الليل، وما ارضاش أطلع دوريات. قعدوا يجازوني، وبعدين لما لقيوا ما فيش فايدة حولوني ع المستشفى، وخدت 12 جلسة في مخي على سنة ونصف.
وبدأ يمد يده في جيبه ليخرج الروشتات وأوراق العلاج، ولكني لم أكن في حاجة لأدلة أو إثبات، ودهشتي الأولى كانت قد خفت قليلا، وبدأت أعود إلى القضية المعلقة أمامي في انتظار الحكم. وطلبت من القادم الجديد رأيه فيها، وبدأ الأخ الأكبر بدري يحتج ويقول: يا دكتور ما تسمعش كلامه ده مهفوف ومتضايق مني عشان أنا أغنى منه وما برضاش أديه فلوس، عايز يلبسني تهمة يا دكتور، هو ده معقول أدعي على أخويا إنه مجنون! - ده أنت تعملها .. وتعمل أبوها، دا انت مجرم .. أقسم بالله إنك مجرم .. يا بيه!
والتفت الأوسط إلي شارحا كيف مات أبوهم وترك لهم القراريط التسعة، وكيف أن أخاهم الأكبر هذا بخيل أناني جشع، يستولي على إيجار الأرض ويريد أن ينتزع ملكيتها، وكيف أنه يضع المليم فوق المليم ويحرم نفسه ويقتات بالملح والفلفل حتى يجمع ثمن فدان، وكم مرة حلف بشاربه وبتربة أبيه أنه لن يرجع حتى يصبح مالكا لزمام فدان، وكيف أنه استغل ضعفه وضعف أخيه الأصغر محمد ليفرض عليهما جبروته وسلطانه.
واحنا الثلاثة عايشين في بيت واحد، كل واحد واخد أوضة هو ومراته وولاده، ومحمد لسة مجوز جديد، وبدري ده محتل الصالة بالعافية، ويبقى الفطار عنده ويسيبه ويجي يقعد بالقوة يفطر مع واحد فينا عشان يوفر، وما يهون عليه يشتري باكو شاي واللا بقرش سكر، ولما يشم إن واحد فينا عمل شاي ييجي يستولي على البراد بالرزالة .. وآخرتها عاوز يودي محمد في داهية عشان يتعين وصي عليه ويلهف الثلاث قراريط.
ناپیژندل شوی مخ