ألف خاطر وخاطر، وهما واقفان، بين دهشة الأولاد، متعانقان، وكأنهما كانا غائبين لعشر سنوات مضت، وكل هذا بغلطة، بلفتة، بنكتة، بكلمات قليلة على ورقة. •••
ولم تكف أوراق البنكنوت ذات الإهداءات عن الورود لصلاح، مكتوبة على أوراق من فئة العشرة والخمسة والجنيه والخمسين قرشا بعض الأحيان. وكلما قرأ صلاح الإهداء، وتأمل اللحظة التي لا بد سبقته واللحظة التي أعقبته، كانت سعادة غامرة تملأ جوانحه، وكأنه قد اخترع اختراعا للسعادة البشرية، أو اكتشف اكتشافا، ولفرط سعادته باكتشافه حاول ذات يوم أن يبدأ في عد الأوراق ذات الإهداءات؛ ليعرف كم من السعادات تسبب فيها وأحدثها.
ولا يزال صلاح إلى الآن يعد. ويبدو أنه لن يتوصل أبدا إلى معرفة الرقم الصحيح؛ فالأوراق لم تكف أبدا عن الورود.
يناير 1957م
فوق حدود العقل
دونت الاسم والسن والمسكن مرتين وفي صفحتين متقابلتين كما تقضي التعليمات، ولم يكن قد بقي سوى سؤال واحد أو سؤالين عن سلوك الشاب، وأوقع، وينتهي الأمر. ولكن الأمر في ذلك اليوم لم ينته أبدا .. إلى الآن، وأنا لا أعرف ماذا حدث بالضبط وجعلني أشك .. كانت وقفة الشاب عادية .. نفس الوقفة التي وقفها قبله كثيرون، والتي أعرف أن كثيرين غيره سيقفونها .. نفس النظرة الذاهلة الباحثة عن لا شيء!
سألت .. بصوت ضجر، وأذن متعبة، وعقل كان عليه أيضا أن يتلقى الكلمات الكثيرة وينقيها من الضجة، ويترجهما إلى اصطلاحات يمليها على قلمي المشروع ليسد بها الخانات وينتهي كل شيء!
سألت: ما الذي فعله؟ وجاءتني الإجابة .. قام في الليل وأمسك بالسكين وحاول ذبح زوجته التي لم يدخل بها إلا من أسابيع. وحين حاولوا منعه كاد يفتك بهم، تغلبوا عليه وأخذوا السكين منه .. اتجه إلى النافذة يريد أن يلقي بنفسه منها، فاضطروا حينئذ لتكتيفه وضربه والاستغاثة بشرطة النجدة.
وتوقف القلم وعدت أسأل: متى؟ منذ بضع ليال، وبدأ القلم يضيق بوقفته التي طالت دون أن يسد خانة .. وقلت أخيرا: ليس هذا بكاف .. هل تكررت أعماله هذه؟ هل فعل شيئا آخر؟ .. وجاءتني الإجابة: يوهوه! كتير .. يقوم في الليل ويظل يصرخ ويوقظ الجيران، ويتصور أشياء لا وجود لها؛ يعتقد أن إخوته يتآمرون عليه ويريدون انتزاع أرضه التي ورثها عن أبيه، وكثيرا ما يكلم الهواء على أنه الأب الذي مات من عام ويشكو له هذا الأخ أو ذاك!
بارانويد شيزوفرينا .. جنون الاضطهاد .. هكذا خمنت، وكتبت، وأحكمت الحيثيات .. وآخر ما كان قد تبقى ليصدر حكمي بتحويل الشاب إلى مستشفى الأمراض العقلية، ونقله من خانة العقلاء إلى خانة المجانين .. سؤال، مجرد سؤال واحد ألقيه على «المتهم» بمرضه، للتثبت من التشخيص لا أكثر، ولكي يطمئن ضمير القاضي الذي في. - صحيح كنت عايز تقتل مراتك؟
ناپیژندل شوی مخ