58

فاليهود في يثرب أصدق جواب على هذه الأوهام؛ لأنهم غرباء عن الجزيرة العربية دخلوها في القرن الأول أو الثاني للميلاد، ولا يجوز الشك في ذلك، ولا القول: بأنهم عرب تهودوا كما قال بعض المؤرخين على غير علم ولا روية فيما يصح أن يقال! فإن القول بذلك يستلزم منا أن نفرض أن العرب الأميين تطوعوا للتحول إلى اليهودية، ثم تعلموا العبرية، وتفقهوا في كتب التوراة؛ لينقطعوا عن أسلافهم وينضووا إلى قوم مخذولين في بلادهم لا يسلمون لأحد من الأمم أنه أهل للدخول معهم في عداد شعب الله المختار، فهذا من أغرب الفروض التي لا تثبت بغير دليل قاطع فضلا عن الثبوت - ظنا وتخمينا - بغير دليل، وليس في هجرة اليهود من فلسطين إلى بلاد العرب غرابة، أو مناقضة لوقائع التاريخ بعد تشتيتهم في القرن الأول أو الثاني للميلاد، وقد كان مقامهم على الطريق بين تيماء والمدينة للتجارة والزراعة، والاشتغال بغير صناعات القبائل العربية أشبه شيء أن يكون على ذلك الطريق خاصة دون الطريق الأخرى التي يحميها النبط وقريش ، ولا يستطيع اليهود المهاجرون أن يقتحموها على أصحابها وهم مشردون مستضعفون، مع العداء بينهم وبين النبطيين، وتعصب النبطيين على إسرائيل دينا ولغة وميلا في السياسة والولاء.

وعلى جميع هذه الفروض التي لا تقبل الشك تبقى هناك الحقيقة، التي لا تختلف مع اختلاف القول في أصول يثرب وخيبر وفدك وتيماء ووادي القرى على الإجمال.

فهل هؤلاء عرب يكتبون؟

لو كانوا كذلك لقد كانوا خلقاء أن يحفظوا في صحفهم كلاما عربيا، مما قبل الإسلام بثلاثة قرون يخالف العربية الموحدة في عصر الإسلام، إن صح أن العربية لم تكن موحدة في أيام شعراء المعلقات ... وبعض هؤلاء الشعراء لم يسبقوا عصر الإسلام بأكثر من مائة عام.

وكانوا خلقاء أن يحفظوا بالكتابة العبرية لهجة غير اللهجة الموحدة التي يشك المستشرقون في سبقها للإسلام إلى عصر أولئك الشعراء، أو كانوا خلقاء أن يعلمونا من كتابتهم شيئا يؤيد ذلك الشك نوعا من التأييد.

أما إذا كانوا على القول الراجح - بل القاطع - يهودا دخلوا الجزيرة بلسان غير لسانها، وتكلموا الآرامية أو الأدومية أو العبرية، ثم تعلموا اللغة العربية الحجازية، فهذا التوحيد الذي تم بين اللغة الحجازية وبين الآرامية أو الأدومية أو العبرية ليس بالمستغرب أن يتم بين لهجة العرب في الجنوب، ولهجة العرب في الحجاز وسائر أطراف الجزيرة، فقد أقام عرب اليمن في الجزيرة، واتصلوا بالحجاز زمنا أطول جدا من مقام اليهود المهاجرين منذ القرن الأول أو الثاني للميلاد.

ولم يصل إلينا شيء من لغة اليهود الذين أقاموا بجنوب الجزيرة، أو اليهود الذين تحالف معهم ذو نواس في نجران، ولكن اليهود الذين وفدوا إلى الحجاز بعد البعثة النبوية كان منهم كتاب ومؤرخون مطلعون على تواريخ حمير، وتواريخ أسلافهم العبرانيين، وكان منهم كعب بن مانع المسمى بكعب الأحبار، وكان منهم وهب بن منبه الصنعاني الذي قال ابن خلكان: إنه رأى كتابا له عن ملوك حمير وأخبارهم وأشعارهم في مجلد واحد، ووصف هذا الكتاب بأنه مفيد، وقد كان كعب ووهب من المغربين في طلب النوادر، فلم يذكروا لنا زمنا شهداه ، أو شهده آباؤهما، وأجدادهما، كانت فيه لغة قريش مجهولة في اليمن وما جاورها. وأدنى من ذلك إلى عصر البعثة قدوم الوفود من اليمن إلى الحجاز، وذهاب الولاة من الحجاز إلى اليمن بإذن النبي - عليه السلام، ومنهم معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب، ومن كان يصحبهما في عمل الولاية والتعليم، فلم نسمع أن وفود اليمن - على النبي - جهلوا ما سمعوه أو نطقوا بكلام لا يفهمه أهل الحجاز، وهؤلاء لقد لقنوا لغاتهم من آبائهم، فلا يفوتهم ما اختلف من كلامهم إذا كان ثمة اختلاف.

وأقدم من البعثة المحمدية رحلة الصيف ورحلة الشتاء، وليس في أخبار هذه الرحلات إلماع إلى تفاهم قريش من أهل اليمن، بلغة غير اللغة القرشية في الجيل السابق للبعثة والجيل الذي تقدمه، ومن البعيد جدا أن يغيب عن ذاكرة العربي حديث جيلين قبل جيله، وقد كانت أخبارهم ورواياتهم وأنسابهم وأمثالهم كلها قائمة على الحفظ، وتسلسل الرواية والإسناد من جيل إلى جيل، فإذا كانت لغة الحجاز شائعة عامة على مدى الذاكرة في عصر البعثة المحمدية، فلا أقل من ثلاثة أجيال تقدر لهذا الشيوع وهذا التعميم، وترجع بنا هذه الأجيال إلى أقدم الأوقات التي أسند إليها نظم المعلقات، فلا نستغرب نظمها باللغة التي يفهمها العرب من الجنوب إلى الشمال.

ولقد سمع النبي - عليه السلام - قصيدة كعب بن زهير، وقد نظمها ولا شك بلغة أبيه زهير بن أبي سلمى، وكان زهير من أسرة شاعرة مسبوقا إلى النظم بتلك اللغة، ولا يعقل أن يكون التغير في لغة النظم قد طرأ عليهم فجأة في مدى سنوات معدودات. فإذا بلغنا بالمعلقات عصر هرم بن سنان - ممدوح زهير، وما تقدمه بقليل فليس من شعراء المعلقات من هو أقدم من ذلك بزمن طويل يمتنع فيه التوافق على النظم الواحد واللغة الواحدة.

ولا بد أن نذكر هنا أن أوزان العروض لا تخلق بين يوم وليلة، وأن وزن قصيدة كعب ووزن قصيدة أبيه قد وجدا قبل عصر الشاعرين، ونظمت فيهما قصائد جيل أو جيلين على الأقل قبل ذلك التاريخ، ولو أن هذه الأوزان وسعت شعرا غير شعر اللغة الحجازية لما غاب خبره إن غاب لفظه ومعناه.

ناپیژندل شوی مخ