في هذا المبحث المتقدم عرضنا الأمثلة المتكررة، التي يقترن فيها المعنى المجازي بالمعنى الحقيقي في وقت واحد؛ لأن الصورة المجازية قد استحالت إلى ما يشبه الحروف الأبجدية في تطور الكتابة، فلم يبق من البيت إلا الباء، ولم يبق من الجمل إلا الجيم، ولم يبق من اليد إلا الدال، ولم يبق على هذا القياس من الغزال إلا خفة الحركة، ولا من المرجان المفتر عن الدر النضيد إلا احمرار في الشفة يتفتح عن ثنايا الثغر المبتسم، بغير حاجة إلى استحضار آكام المرجان، وعقود اللؤلؤ وتراكيب الأفواه ذوات الشفاه.
إن قول البديعي العربي: «رأيت قمرا على غصن على كثيب» يربك السامع من غير أبناء اللغة العربية، ويجتهد هذا السامع في استخراج الصورة المحسوسة من أطوار هذه التشبيهات، فلا يدري كيف يجتمع منها رسم جميل، ثم ينفض يديه من البلاغة العربية قائلا لنفسه: إنها بلاغة مزاج آخر يسيغ ما لا يساغ في كل مزاج.
إلا أن المسألة في حقيقتها ليست من مسائل المزاج المختلف بين الأجناس، ولكنها مسألة اللغة والاصطلاح في استخدام الصور والكلمات، وليس بين الأمزجة في هذه المصطلحات كبير اختلاف لو اتفقت على المفتاح المشترك في هذا «الجفر» المكشوف.
إن العربي أيضا يزعجه أن يضع قمر السماء على غصن الشجر على كومة الرمل؛ ليستخرج منها محاسن إنسان يهواه ولا يعجب السامع من هواه.
ولكنه يبتهج ولا ينزعج حين يفهم الصورة على طريقته في ترجمة المجاز من الصور الهيروغليفية إلى الحروف الأبجدية.
إشراق كالإشراق الذي يحسه الناظر إلى القمر، وخفة كالخفة التي يتمايل بها الغصن النضير، وجسم بض كالجسم الذي يمسك ذلك الغصن، وإنسان يتقابل فيه الإشراق والخفة والبضاضة في رشاقة واعتدال، ولا موجب بعد ذلك للحيرة، ولا لنفض اليدين من بلاغة المزاج الغريب الذي يأبى أن يأتلف بكل مزاج.
وهكذا يصنع اليوم من يقرأ كلمة «أبجد» حين يذكر أنها كانت في أول عهد الكتابة خليطا من صورة الثور والبيت والجمل واليد المبسوطة، ثم ينسى هذه الصور المتراكبة في غير معنى؛ ليجمع منها حروف الألف والباء والجيم والدال. •••
يقول الكاتب المستشرق الأستاذ «أدوين هول» في كتابه عن الأندلس في ظل المسلمين: «إن أكثر هذه المنظومات مما لا يطيقه العقل الغربي»، وهو رأي يصرح به الخبراء بتلك المنظومات، ولا نعرف من أهو أحق بالحكم عليها من جارسيا جوميز الذي يجمع بين الأستاذية في العلم والذوق المرهف لفهم القريض، وهو يقول في فصل عقده للكلام على ابن قزمان أحد الشعراء المتأخرين:
إن الصناعة اللفظية هي موضع العناية الكبرى في الأدب العربي، بين نثر مقيد بالأسجاع وبين ألوان من المجازات والأشباه، والطلاوات واللوازم، تعوزها الحرارة والشعور، وكأنما هي كلها عرض من العروض المقنعة بالبراقع، حيث البسمات لآلئ، والعيون أزهار بنفسجيات، والرياحين والجداول سيوف، وإن القارئ ليجتهد اجتهاده بين ترجمات بير
أو شاك
ناپیژندل شوی مخ