اللغة العربية لغة المجاز.
والمجاز هو الأداة الكبرى من أدوات التعبير الشعري؛ لأنه تشبيهات وأخيلة وصور مستعارة وإشارات ترمز إلى الحقيقة المجردة بالأشكال المحسوسة، وهذه هي العبارة الشعرية في جوهرها الأصيل.
ولا تسمى اللغة العربية - فيما نرى - بلغة المجاز لكثرة التعبيرات المجازية فيها؛ لأن هذه التعبيرات قد تكثر في لغات عديدة من لغات الحضارة.
وإنما تسمى اللغة العربية بلغة المجاز؛ لأنها تجاوزت بتعبيرات المجاز حدود الصور المحسوسة إلى حدود المعاني المجردة، فيستمع العربي إلى التشبيه، فلا يشغل ذهنه بأشكاله المحسوسة إلا ريثما ينتقل منها إلى المقصود من معناه، فالقمر عنده بهاء، والزهرة نضارة، والغصن اعتدال ورشاقة، والطود وقار وسكينة، والرسوم الهيروغليفية عنده بهذه المثابة قد انتقلت إلى حروف تتألف منها كلمات.
نعم ... إن المجاز قد انتقل في اللغة العربية من الكتابة الهيروغليفية إلى الكتابة بالحروف الأبجدية، وهذا هو المثال الصالح لتقريب المعنى الذي نريده حين نقول: إن المجاز العربي يصور لنا المعاني المجردة - مباشرة - من وراء تصوير الأشباه والأشكال.
كان الكاتب القديم في عهود الكتابة الأولى قبل اختراع الأبجدية يريد أن يكتب كلمة «يمشى»، فيرسم على الصخر أو الورق صورة إنسان يمشي على قدميه، ويبدو عليه أنه يتحرك في مشيته، ثم تطورت الكتابة فانتقلت الصورة إلى مقطع صوتي يؤخذ من الصورة، ويستخدم في الدلالة على الأصوات التي تشبهه، ثم انتقلت من المقطع الصوتي إلى حرف واحد تجتمع منه حروف الأبجدية، وهذه هي الكتابة في مرحلتها الأخيرة.
فالباء هي الحرف الأول من كلمة «بيت» التي كانت ترسم على شكل بيت للدلالة على المبيت أو المساء، ثم تولد منها مقطع بحروفه الثلاثة، ثم تولد من المقطع حرف واحد هو الذي بقي من الصورة كلها، وهو الذي نسميه الآن حرف «الباء» ونسمعه، فلا يخطر لنا رسم البيت على بال؛ لأننا تخطينا بالكتابة عهد الهيروغليفية، وعهد المقطع إلى عهد الحروف الأبجدية.
مثل هذا التطور يتكرر في الصور المجازية التي ترد على ألسنة المتكلمين باللغة العربية، فلا يلبث التشبيه المجازي أن يؤدي معناه المقصود بغير وساطة الشكل المستعار، ولا يشتغل الذهن بالصورة المحسوسة لانتقاله منها على الأثر إلى الوصف الذي يقارنها، كما تقدم في معنى القمر والزهرة والغصن والطود، وكما نرى في مئات الكلمات التي تشتمل عليها اللغة العربية، ولا تزال معانيها المجازية مقترنة بمعانيها الحقيقية جنبا إلى جنب، في استعمال كل يوم على كل لسان، وهذا الذي ألمحنا إليه في مبحث من المباحث عن الحقيقة والمجاز في اللغة العربية كما نتكلمها اليوم، وكما كان أبناؤها الأسبقون يتكلمون بها في جميع العهود.
ففي هذه اللغة الشاعرة توجد كلمات كثيرة بقي لها معناها الحقيقي مع شيوع معناها المجازي على الألسنة؛ حتى ليقع اللبس في أيهما السابق وأيهما اللاحق في الاستعمال.
ونبدأ بكلمتي والحقيقة والمجاز، وهما أقرب الشواهد على اقتران المعاني الأصيلة، والمعاني المنقولة في تلك الكلمات.
ناپیژندل شوی مخ