مقدمة
تمهيد
أدوار تاريخ اللغة
العصر الجاهلي
الألفاظ الأعجمية
التغيير في الألفاظ
اللغة العربية وحدها
الألفاظ الإسلامية
الألفاظ الإدارية
الألفاظ العلمية
ناپیژندل شوی مخ
الألفاظ العامة
الألفاظ النصرانية واليهودية
الألفاظ الدخيلة والمولدة في عصر التدهور
النهضة العلمية الأخيرة
لغة الحكومة المصرية في دواوينها
الخلاصة
مقدمة
تمهيد
أدوار تاريخ اللغة
العصر الجاهلي
ناپیژندل شوی مخ
الألفاظ الأعجمية
التغيير في الألفاظ
اللغة العربية وحدها
الألفاظ الإسلامية
الألفاظ الإدارية
الألفاظ العلمية
الألفاظ العامة
الألفاظ النصرانية واليهودية
الألفاظ الدخيلة والمولدة في عصر التدهور
النهضة العلمية الأخيرة
ناپیژندل شوی مخ
لغة الحكومة المصرية في دواوينها
الخلاصة
اللغة العربية كائن حي
اللغة العربية كائن حي
تأليف
جرجي زيدان
مقدمة
هذا كتاب صغير في بحث جديد، تنبهنا له ونحن ننشر الطبعة الثانية من كتابنا «الفلسفة اللغوية»، لأن موضوعه تابع لموضوعها، أو هي خطوة ثانية في تاريخ اللغة باعتبار منشئها وتكونها ونموها. فالفلسفة اللغوية تبحث في كيف نطق الإنسان الأول، وكيف نشأت اللغة وتولدت الألفاظ من حكاية الأصوات الخارجية كقصف الرعد، وهبوب الريح، والقطع، والكسر، وحكاية التف، والنفخ، والصفير ... ونحوها، ومن المقاطع الطبيعية التي ينطق بها الإنسان غريزيا كالتأوه، والزفير. وكيف تنوعت تلك الأصوات لفظا ومعنى بالنحت، والإبدال، والقلب، حتى صارت ألفاظا مستقلة وتكونت الأفعال والأسماء والحروف، وصارت اللغة على نحو ما هي عليه.
وأما تاريخ اللغة فيتناول النظر في ألفاظها وتراكيبها بعد تمام تكونها، فيبحث فيما طرأ عليهما من التغيير بالتجدد أو الدثور، فيبين الألفاظ والتراكيب التي دثرت من اللغة بالاستعمال، وما قام مقامها من الألفاظ الجديدة والتراكيب الجديدة، بما تولد فيها أو اقتبسته من سواها، مع بيان الأحوال التي قضت بدثور القديم وتولد الجديد، وأمثلة مما دثر أو أهمل أو تولد أو دخل. وهو بحث لغوي تاريخي فلسفي قسمنا الكلام فيه إلى ثمانية فصول باعتبار الأدوار التي مرت على اللغة، وهي: (1)
العصر الجاهلي: ويتناول تاريخ اللغة من أقدم أزمانها إلى ظهور الإسلام. أوردنا فيه أمثلة مما دخلها من الألفاظ الأعجمية من اللغات الحبشية، والفارسية، والسنسكريتية، والهيروغليفية، واليونانية وغيرها، وأسندنا ذلك إلى أسباب تاريخية. وذكرنا القاعدة في تعيين أصول تلك الألفاظ، وأمثلة مما تولد في اللغة نفسها من الألفاظ الجديدة، وأيدنا ذلك بمقابلة العربية بأخواتها، أو بالنظر إلى ألفاظها بحد ذاتها. (2)
ناپیژندل شوی مخ
العصر الإسلامي: ونريد به ما حدث في اللغة بعد الإسلام من الألفاظ الإسلامية مما اقتضاه الشرع، والفقه، والعلوم اللغوية، ونحوها. (3)
الألفاظ الإدارية في الدولة العربية: وتشمل ما دخل اللغة العربية من الألفاظ الإدارية التي اقتضاها التمدن الإسلامي عند إنشاء دولة العرب، وهي إما دخيلة وإما مولدة. ويتخلل ذلك بحث في كيفية انتقال اللفظ من معنى إلى آخر. (4)
الألفاظ العلمية في الدولة العربية: ويدخل فيها الألفاظ والتراكيب التي اقتضاها نقل العلم والفلسفة من اليونانية وغيرها إلى اللغة العربية في العصر العباسي. (5)
الألفاظ العامة في الدولة العربية: وهي الألفاظ التي تولدت في اللغة، أو دخلتها بغير طريق الشرع أو العلم، كالألفاظ الاجتماعية ونحوها. (6)
الألفاظ النصرانية واليهودية: وهي ما دخل اللغة العربية من الألفاظ والتراكيب السريانية أو العبرانية، بنقل الكتب النصرانية إلى العربية. (7)
الألفاظ الدخيلة في الدول الأعجمية: وتتناول ما اكتسبته اللغة من الألفاظ الأعجمية بعد زوال الدول العربية وتولي الدول التركية والكردية وغيرها. (8)
النهضة الحديثة: وفيها ما اقتضاه التمدن الحديث من تولد الألفاظ الجديدة، واقتباس الألفاظ الإفرنجية للتعبير عما حدث من المعاني الجديدة في العلم، والصناعة، والتجارة، والإدارة، وغيرها.
وصدرنا الكتاب بتمهيد في نواميس الحياة وخضوع اللغة لها، وختمناه بفصل في لغة الدواوين، وخلاصة في مجمل ما تقدم.
على أننا نعد ما كتبناه في هذا الموضوع الجديد خواطر سانحة، فتحنا بها باب البحث لأئمة الإنشاء وعلماء اللغة. فنتقدم إليهم أن يوفوا الموضوع حقه أو يزيدونا منه، لأنه يحتاج إلى بحث كثير ودرس طويل، وقد أصبحت اللغة بعد هذه النهضة في العلم والأدب والشعر في غاية الافتقار إليه، ليعلم حملة الأقلام أن اللغة كائن حي نام خاضع لناموس الارتقاء، تتجدد ألفاظها وتراكيبها على الدوام، فلا يتهيبون من استخدام لفظ جديد لم يستخدمه العرب له، وقد يكون تهيبهم مانعا من استثمار قرائحهم، وربما ترتب على إطلاق سراح أقلامهم فوائد عظمى تعود على آداب اللغة العربية بالخير الجزيل. ولا بد من اعتبار القواعد العامة والروابط الأساسية مما أشرنا إليه في محله، ناهيك بما ينجم عن معرفة أصل الكلمة وتاريخها من تفهم معناها الحقيقي.
جرجي زيدان
ناپیژندل شوی مخ
تمهيد
(1) نواميس الحياة
من أهم نواميس الحياة النمو أو التجدد، وهو ينطوي على دثور الأنسجة وتولد ما يحل محلها، ومعنى ذلك أن الجسم الحي مؤلف من خلايا لكل منها حياة مستقلة إذا انفضت ماتت الخلية وانحلت أجزاؤها وانصرفت، وتولدت في مكانها خلية جديدة تتكون من العصارات الغذائية كالدم ونحوه، فالجسم الحي في انحلال وتولد دائمين، حتى قالوا: إن جسم الإنسان يتجدد كله في بضع سنين، أي لا يبقى فيه شيء من المواد التي كان يتألف منها قبلا. وبغير هذا التجدد لا يكون الجسم حيا، وإذا حدث في جسم الحيوان ما يمنع من تجدد الأنسجة أسرع إليه الفناء، فالتجدد ضروري للحياة.
وحياة الأمة مثل حياة الفرد بل هي ظاهرة فيها أكثر من ظهورها فيه، لأن الأمة إنما تحيا بدثور القديم وتولد الجديد، فكأن أفراد الأمة خلايا يتألف منها بدن تلك الأمة، وهو يتجدد في قرن كما يتجدد جسم الإنسان في عقد من عقود تلك القرون.
وإذا تتبعنا نمو الأمة بتوالي الأجيال رأيناها تتفرع وتتشعب، فتصير الأمة الواحدة أمما يتفاوت البعد بينها بتفاوت الأزمان والأحوال. وكل أمة من هذه تتشعب بتوالي الدهور إلى أمم أخرى وهكذا إلى غير حد، وهو ما يعبرون عنه بناموس الارتقاء العام. (2) اللغة كائن حي
ويتبع الأحياء في الخضوع لهذه النواميس ما هو من قبيل ظواهر الحياة أو توابعها، وخاصة ما يتعلق منها بأعمال العقل في الإنسان كاللغة، والعادات، والديانات، والشرائع، والعلوم، والآداب، ونحوها. فهذه تعد من ظواهر حياة الأمة، وهي خاضعة لناموس النمو والتجدد ولناموس الارتقاء العام. ولكل من هذه الظواهر تاريخ فلسفي طويل، نعبر عنه بتاريخ تمدن الأمة أو تاريخ آدابها أو علومها أو حكومتها أو أديانها أو نحو ذلك، وهي أبحاث شائقة فيها فلسفة ونظر، ومن هذا القبيل تاريخ اللغة وآدابها. •••
والبحث في تاريخ اللغة على العموم يتناول:
أولا:
النظر في نشأتها منذ تكونها مع ما مر عليها من الأحوال قبل زمن التاريخ، كتكون الأفعال والأسماء والحروف، وتولد صيغ الاشتقاق وأساليب التعبير ونحو ذلك. والبحث في هذا كله من شأن الفلسفة اللغوية، وقد فصلناه في كتابنا «الفلسفة اللغوية».
ثانيا:
ناپیژندل شوی مخ
النظر فيما طرأ على اللغة من التأثيرات الخارجية بعد اختلاط أصحابها بالأمم الأخرى، فاكتسبت من لغاتهم ألفاظا وتعبيرات جديدة كما يقتبس أهلها من عادات تلك الأمم وأخلاقهم وآدابهم، وما يرافق ذلك من تنوع معاني الألفاظ بتنوع الأحوال مع حدوث صيغ جديدة وألفاظ جديدة.
ثالثا:
النظر في تاريخ ما حوته اللغة من العلوم والآداب باختلاف العصور وهو «تاريخ آداب اللغة».
وهذا التقسيم تقريبي، إذ لا تجد حدا فاصلا بين هذه الأقسام.
وإذا تدبرت تاريخ كل ظاهرة من ظواهر الأمة كالآداب أو اللغة أو الشرائع أو غيرها، باعتبار ما مر بها من الأحوال في أثناء نموها وارتقائها وتفرعها؛ رأيتها تسير في نموها سيرا خفيا لا يشعر به المرء إلا بعد انقضاء الزمن الطويل. ويتخلل ذلك السير البطيء وثبات قوية تأتي دفعة واحدة فتغير الشئون تغييرا ظاهرا، وهو ما يعبرون عنه بالنهضة. وسبب تلك النهضات على الغالب احتكاك الأفكار بالاختلاط بين الأمم على أثر مهاجرة اقتضتها الطبيعة من قحط أو خوف، أو يكون سبب الاختلاط ظهور نبي أو مشرع أو فيلسوف كبير، أو نبوغ قائد طموح يحمل الناس على الفتح والغزو، أو أمثال ذلك من أسباب الاختلاط. فتتحاك الأفكار وتتمازج الطباع، فتتنوع العادات والأخلاق والأديان والآداب، واللغة تابعة لكل ذلك بل هي الحافظة لآثار ذلك التغيير، فتحتفظ بها قرونا بعد زوال تلك العادات أو الآداب أو الشرائع، وإذا تبدل شيء منها حفظت آثار تبدله.
وسنقتصر في هذا البحث على تاريخ اللغة العربية في دورها الثاني، وهو تاريخ ألفاظها وتراكيبها بعد تكونها.
أدوار تاريخ اللغة
باعتبار ما طرأ من التغيير على ألفاظها وتراكيبها بعد تكونها وارتقائها
إذا تدبرنا ما مر على اللغة العربية من المؤثرات الخارجية بعد تكونها وارتقائها حتى اكتسبت ما اكتسبته من الألفاظ وضروب التعبير؛ رأيناها قد مرت في ثمانية أدوار أو عصور، هي: (1)
العصر الجاهلي: وفيه ما لحق اللغة من التنوع والتغير في ألفاظها وتراكيبها قبل الإسلام. (2)
ناپیژندل شوی مخ
العصر الإسلامي: أي أثر الإسلام في ألفاظ اللغة وتراكيبها. (3)
الألفاظ الإدارية في الدولة العربية. (4)
الألفاظ العلمية في الدولة العربية. (5)
الألفاظ الاجتماعية ونحوها. (6)
الألفاظ النصرانية. (7)
الألفاظ الأعجمية في دول الأعاجم. (8)
النهضة الحديثة.
العصر الجاهلي
ويراد به الزمن الذي مر على اللغة العربية قبل الإسلام، ولا يمكن تعيين أوله لضياع ذلك في ثنيات الدهور التي مرت قبل زمن التاريخ. ولكننا نعتقد أن اللغة العربية نشأت ونمت، أي تميزت فيها الأسماء والأفعال والحروف، وتكونت فيها معظم الاشتقاقات والمزيدات؛ وهي لا تزال في حجر أمها، أي قبل انفصالها عن أخواتها الكلدانية والعبرانية والفينيقية، وغيرها من اللغات السامية. وبعبارة أخرى إن أم هذه اللغات، ويسمونها اللغة السامية أو الآرامية، تم نموها فتكونت أفعالها وأسماؤها وحروفها واشتقاقاتها ومزيداتها، قبل أن تشتت أهلها أو نزحوا إلى فينيقية وجزيرة العرب وما بين النهرين، حيث اختلفت لغة كل قوم منهم بعد ذلك النزوح باختلاف أحوالهم، فتولدت منها اللغات السامية المعروفة.
فالساميون الذين نزلوا جزيرة العرب تنوعت لغتهم تنوعا يناسب ما يحيط بهم من الأحوال أو يجاورهم من الأمم، فتميزت عن أخواتها بأمور خاصة هي خصائص اللغة العربية. وتشعبت هذه اللغة في أثناء ذلك إلى فروع يختلف بعضها عن بعض باختلاف الأصقاع، وهي لغات الحجاز واليمن والحبشة، وتفرعت لغة كل من تلك البقاع إلى فروع باعتبار القبائل والبطون مما لا يمكن حصره، كل ذلك حدث قبل زمن التاريخ.
ناپیژندل شوی مخ
ويكفينا في هذا المقام البحث في لغة الحجاز وحدها، وهي اللغة العربية التي وصلت إلينا. لقد كانت قبل تدوينها - أي قبل الإسلام - لغات عديدة تعرف بلغات القبائل، وبينها اختلاف في اللفظ والتركيب، كلغات تميم وربيعة ومضر وقيس وهذيل وقضاعة وغيرها كما هو مشهور. وأقرب هذه اللغات شبها باللغة السامية الأصلية أبعدها عن الاختلاط، وبعكس ذلك القبائل التي كانت تختلط بالأمم الأخرى كأهل الحجاز مما يلي الشام وخاصة أهل مكة، وبالأخص قريش فقد كانوا أهل تجارة وسفر شمالا إلى الشام والعراق ومصر، وجنوبا إلى بلاد اليمن، وشرقا إلى خليج فارس وما وراءه، وغربا إلى بلاد الحبشة.
فضلا عما كان يجتمع حول الكعبة من الأمم المختلفة، وفيهم الهنود والفرس والأنباط واليمنية والأحباش والمصريون، عدا الذين كانوا ينزحون إليها من جالية اليهود والنصارى. فدعا ذلك كله إلى ارتقاء اللغة بما تولد فيها أو دخلها من الاشتقاقات والتراكيب مما لا مثيل له في اللغات الأخرى.
وزاد ذلك الاقتباس خاصة على أثر النهضة التي حدثت في القرنين الأول والثاني قبل الإسلام بنزول الحبشة والفرس في اليمن والحجاز، على أثر استبداد ذي نواس ملك اليمن وكان يهوديا فاضطهد نصارى اليمن في القرن الخامس للميلاد وخاصة أهل نجران، فطلب إليهم اعتناق اليهودية فلما أبوا قتلهم حرقا وذبحا، فاستنجد بعضهم بالحبشة فحمل الأحباش على اليمن وفتحوها واستعمروها حينا وأذلوا ملوكها أعواما، ثم أنف أحد ملوكها ذو يزن فاستنجد بالفرس على عهد كسرى أنوشروان فأنجده طمعا في الفتح، فأخرج الأحباش من اليمن بعد أن ملكوها 72 عاما. وكانوا في أثناء ذلك يترددون إلى الحجاز وحاولوا فتحه في أواسط القرن السادس، فجاءوا مكة بأفيالهم ورجالهم ولم يفلحوا، واهتم أهل الحجاز بقدوم الحبشة إلى مكة حتى أرخوا منه وهو عام الفيل. ولما فتح الفرس اليمن أقاموا فيها واختلطوا بأهلها بالمبايعة والمزاوجة وتوطنوا، وكانوا يقدمون إلى الحجاز وأهل الحجاز يترددون إليهم.
الألفاظ الأعجمية
فكان لهذه النهضة تأثير كبير في اللغة العربية فتكاثرت ألفاظها ومشتقاتها، فلما جمعوا اللغة بلغت صيغ أبنية الأسماء فقط بضع مئات، ثم صارت بعد ذلك ببضعة قرون ألفا ومائتين وعشرة أمثلة، ناهيك بما دخلها من الألفاظ الغريبة وما اقتبسه من التراكيب الأجنبية، ولكن أكثره ضاع فيها وتنوع شكله ولم يعد يتميز أصله. على أننا نستدل على تكاثر الألفاظ الدخيلة في اللغة العربية بخلو أخواتها من أمثال تلك الألفاظ، فإذا رأينا لفظا في العربية لم نر له شبيها في العبرانية أو الكلدانية أو الحبشية ترجح عندنا أنه دخيل فيها. وأكثر ما يكون ذلك في أسماء العقاقير أو الأدوات أو المصنوعات أو المعادن أو نحوها، مما يحمل إلى بلاد العرب من بلاد الفرس أو الروم أو الهند أو غيرها ولم يكن للعرب معرفة به من قبل، أو في أسماء بعض المصطلحات الدينية أو الأدبية، وأكثر ذلك منقول عن العبرانية أو الحبشية لأن اليهود والأحباش من أهل الكتاب.
ويقال بالإجمال إن العرب اقتبسوا من لغة الفرس أكثر مما اقتبسوا من سواها، ولذلك رأينا أئمة اللغة إذا أشكل عليهم أصل بعض الألفاظ الأعجمية عدوها فارسية. ومن أمثلة ما ذكره صاحب «المزهر» من الألفاظ الفارسية: «الكوز، الجرة، الإبريق، الطشت، الخوان، الطبق، القصعة، السكرجة، السمور، السنجاب، القاقم، الفنك، الدلق، الخز، الديباج، التاختج، السندس، الياقوت، الفيروزج، البلور، الكعك، الدرمك، الجردق، السميذ، السكباج، الزيرباج، الإسفيذاج، الطباهج، الفالوذج، اللوزينج، الجوزينج، النفرينج، الجلاب، السكنجبين، الجلنجبين، الدارصيني، الفلفل، الكراويا، الزنجبيل، الخولنجان، القرفة، النرجس، البنفسج، النسرين، الخيري، السوسن، المرزنجوش، الياسمين، الجلنار، المسك، العنبر، الكافور، الصندل، القرنفل.» ا.ه. وعندنا أن بعض هذه الألفاظ غير فارسي كما سترى.
ومما اقتبسوه من اليونانية واللاتينية: الفردوس، والقسطاس، والبطاقة، والقرسطون، والقبان، والأصطرلاب، والقسطل، والقنطار، والبطريق، والترياق، والقنطرة، وغيرها كثير.
وأما ما نقلوه عن الحبشية فأكثره لا يدل على أصله لتغير شكله ولأن الحبشية والعربية أختان تتشابه الألفاظ فيهما، والمشهور عند علماء العربية من الألفاظ المقتبسة من الحبشية ثلاثة: كفلين، والمشكاة، والهرج. لكننا لا نشك في أنهم اقتبسوا كثيرا غيرها وخاصة ما يتعلق منها بالاصطلاحات الدينية، من ذلك قولهم «المنبر» وهو عند العرب «مكان مرتفع في الجامع أو الكنيسة يقف فيه الخطيب أو الواعظ»، وقد شقه صاحب «القاموس» من «نبر» أي ارتفع وفي ذلك الاشتقاق تكلف، وعندنا أنه معرب «ومبر» في الحبشية أي كرسي أو مجلس أو عرش.
ومن هذا القبيل لفظ «النفاق» وهو عند العرب «ستر الكفر في القلب وإظهار الإيمان»، وقد شقوه من «نفق» راج أو رغب فيه، وليس بين المعنيين تناسب ، واضطروا لتعليله إلى استعارة خروج اليربوع من نافقائه فقالوا: «ومنه اشتقاق المنافق في الدين.» وهو تكلف نحن في غنى عنه إذا عرفنا أن «نفاق» في الحبشية معناها الهرطقة أو البدعة أو الضلال في الدين، وهي من التعبيرات النصرانية التي شاعت في الحبشية بدخول النصرانية فيها.
وكذلك لفظ «الحواري»، شقه صاحب «القاموس» من «حار» بمعنى البياض، وقال في معنى الحواري إنه سمي بذلك لخلوص نية الحواريين ونقاء سريرتهم، أو لأنهم كانوا يلبسون الثياب البيض. والأظهر أن هذه اللفظة معرب «حواري» في الحبشية ومعناها فيها «الرسول»، وهو المعنى المراد بها في العربية تماما.
ناپیژندل شوی مخ
وكذلك «برهان»، وقد شقها صاحب «القاموس» من «برهن»، وشقها غيره من «بره» بمعنى القطع وأن النون زائدة فيها. وهي في الحبشية «برهان» أي النور أو الإيضاح، مشتقة من «بره» عندهم أي اتضح أو أنار.
وقس على ذلك كثيرا من أمثاله، كالمصحف فإنه حبشي من «صحف» أي كتب، والمصحف الكتاب. ناهيك بأسماء الحيوانات أو النباتات أو نحوها، فإن «عنبسة» من أسماء الأسد عند العرب وهي اسم الأسد بالحبشية.
وقد أخذوا عن العبرانية كثيرا من الألفاظ الدينية كالحج والكاهن والعاشوراء وغيرها، وأكثرها نقل إلى الصيغ العربية لتقارب اللفظ والمعنى في اللغتين لأنهما شقيقتان. ويضيق هذا المقام عن إيراد الأمثلة.
ولا ريب أن العرب اقتبسوا كثيرا من الألفاظ السنسكريتية ممن كان يخالطهم من الهنود في أثناء السفر للتجارة أو الحج، لأن جزيرة العرب كانت واسطة الاتصال بين الشرق والغرب فكل تجارات الهند المحمولة إلى مصر أو الشام أو المغرب كانت تمر ببلاد العرب، ويكون للعرب في حملها أو ترويجها شأن. وقد عثرنا في السنسكريتية على ألفاظ تشبه ألفاظا عربية تغلب أن تكون سنسكريتية الأصل لخلو أخوات العربية من أمثالها كقولهم «صبح» و«بهاء»، فإنهما في السنسكريتية بهذا اللفظ تماما ويدلان على الإشراق أو الإضاءة، ولا يعقل أنهما مأخوذان عن العربية لأن السنسكريتية دونت قبل العربية بزمن مديد. ونظن لفظ «سفينة» سنسكريتي الأصل أيضا، وكذلك «ضياء». ولعلنا بزيادة درسنا اللغة السنسكريتية ينكشف لنا كثير من أمثال ذلك.
على أننا نرجح أن العرب أخذوا عن الهنود كثيرا من المصطلحات التجارية وأسماء السفن وأدواتها وأسماء الحجارة الكريمة والعقاقير والطيب مما يحمل من بلاد الهند، والعرب يعدونها عربية أو يلحقونها بالألفاظ الفارسية تساهلا كالمسك مثلا، فقد رأيت صاحب «المزهر» يعده فارسيا وهكذا يقول صاحب «القاموس»، وهو في الحقيقة سنسكريتي ولفظه فيها «مشكا». وذكروا «الكافور» بين الألفاظ الفارسية، وهو هندي على لغة أهل ملقا ولفظه عندهم «كابور». وقد ذكروا أيضا أن القرنفل فارسي، والغالب عندنا أنه سنسكريتي لأن أصله من الهند. وقس عليه. (1) القاعدة في تعيين أصول الألفاظ الأعجمية
وتعيين أصل اللفظ لإلحاقه باللغة المأخوذ منها يحتاج إلى نظر لا يكفي فيه المشابهة اللفظية، إذ كثيرا ما تتفق كلمتان من لغتين في لفظ واحد ومعنى واحد ولا تكون بينهما علاقة، وإنما يقع ذلك على سبيل النوادر بالاتفاق، إلا إذا دلت القرائن على انتقال إحداهما من لغة إلى أخرى وساعد الاشتقاق على ذلك.
فإذا اتفق لفظان متقاربان لفظا ومعنى في لغتين، وكان بين أهل تينك اللغتين علاقات متبادلة من تجارة أو صناعة أو سياسة؛ فإن لنا الظن أن إحداهما اقتبست من الأخرى. فإذا كان ذلك اللفظ من أسماء المحاصيل أو المصنوعات أو الأدوات فيرجح لحاقه باللغة السابقة إلى ذلك، كلفظ «المسك» مثلا فإنه موجود في العربية وفي الفارسية وفي السنسكريتية وفروعها، فإذا عرفنا أن المسك يحمل إلى العالم من تونكين وتيبت ونيبال والصين، وأن الهنود القدماء كانوا يحملون الطيب إلى الأمم القديمة ويمرون بسفنهم ببلاد العرب؛ ترجح عندنا أن العرب أخذوا هذه اللفظة عن الهنود كما أخذها الفرس منهم، أو لعلها انتقلت إلى الفارسية من العربية لأن الفرس يعدونها عربية كما يعدها العرب فارسية، أو هي في الفارسية باعتبار أنها فرع من السنسكريتية كما هي في الإنجليزية بطريق التفرع، وكما هي في اللاتينية لأنها أخت السنسكريتية، ومن اللاتينية انتقلت إلى الفرنسية لأنها فرع من اللاتينية.
ويقال نحو ذلك في «كافور» فإن العرب يعدونها فارسية والفرس يقولون إنها عربية ، وهي موجودة أيضا في السنسكريتية واللاتينية وفروعهما، فبأيها نلحقها؟ في مثل هذه الحال يجب البحث في مصدر الكافور، فإذا علمنا أنه يصدر من اليابان والصين ومن ملقا وأن اسمه باللغة الملقية «كابور»، ترجح عندنا أنه ملقي الأصل.
وكذلك «الزنجبيل» - الجذور المعروفة - فإن العرب يقولون إنها تعريب «شنكبيل» في الفارسية والفرس يقولون إنها عربية، ولم نجد «شنكبيل» في القاموس الفارسي. وإذا بحثنا عن اسم هذا العقار في اللغات الأخرى رأينا اسمه في اليونانية «زنجباريس» وفي اللاتينية «زنجبار»، فأول ما يتبادر إلى الذهن أنه من «زنجبار» البلد المعروف وأنه سمي بذلك لأنه كان يحمل منه أو لسبب آخر، فإذا رجعنا إلى منبت هذا العقار رأيناه هنديا ورأينا اسمه في اللغة السنسكريتية «زرنجابيرا» مشتقة من «كرينجا» أو «زرنجا» أي القرن لمشابهة جذوره به، فيترجح عندنا أنه سنسكريتي الأصل.
ومن هذا القبيل «الفلفل»، فإن العرب يقولون إنه فارسي والفرس يقولون إنه عربي، وهو موجود أيضا بمثل هذا اللفظ في الإنجليزية والألمانية واللاتينية، ويوجد أيضا في السنسكريتية ويلفظ فيها «ببالا» أو «فيفالا». ولما كان الفلفل من محاصيل الهند وأجوده يرد من مالابار، نرجح أن هذه اللفظة سنسكريتية الأصل، ومعنى «ببالا» عندهم أيضا «التينة المقدسة».
ناپیژندل شوی مخ
ويقال عكس ذلك في الألفاظ الدالة على محاصيل بلاد العرب أو حيواناتها، كالقهوة مثلا فإنها موجودة في الفارسية وفي كل لغات أوروبا، فالأرجح أنها عربية الأصل لأن هذه اللفظة كانت عند العرب قبل اصطناع القهوة اسما من أسماء الخمر، فأطلقوها على قهوة البن. ومثل ذلك أسماء الجمل والزرافة والغزال وغيرها من أسماء الحيوانات العربية، وربما كان بعضها مأخوذا في الأصل من لغة غير عربية.
وإذا كانت اللفظة المشتركة بين لغتين من قبيل المصنوعات، فإلحاقها بأصحاب تلك الصناعة من الأمتين أولى، فقد اختلط العرب بالفرس وخاصة بعد الإسلام وأخذوا منهم كثيرا من الملابس والأنسجة، ولم ينقلوها إلى لسانهم بل عربوها وأبقوها على ما هي، كالسراويل والقباء (ومنها الجبة) والتبان والجورب والديباج والأرجوان والسرموج والقفطان والطربوش والبابوج، كما فعل أهل هذا العصر بأسماء الملابس الإفرنجية التي اقتبسوها من الإفرنج في تمدنهم الأخير كالبنطلون والجاكت واللستيك وغيرها. •••
واقتبس العرب من الفرس كثيرا من ألوان الأطعمة وأنواع الأسلحة والفرش والأدوات وأبقوها على لفظها الأعجمي، وهي كثيرة يضيق هذا المقام عن ذكرها، ومنها الجلاب والجلنار والبنفسج والخشاف والخوذة والدسكرة والدولاب والدهقان والسرجين والسرداب والطنبور والفرسخ وغيرها كثير، فإلحاقها بلغاتها الأصلية يسوغه أولا التاريخ لأنه يدلنا على أن العرب اقتبسوا تلك المواد من الفرس، فإذا تأيد ذلك بالاشتقاق اللغوي كان الدليل أثبت، مثل: «جلاب» فإنها مؤلفة في الأصل الفارسي من «كل آب» أي ماء الزهر، و«خشاف» من «خوش آب»، و«سرداب» من «سرد آب»، أو «سردابه» بيت الثلج من «سرد» أي بارد و«آب» ماء، والطربوش من «سربوش» أي غطاء الرأس، والبابوج من «بابوش» أي غطاء القدم.
وكثيرا ما يكفي الاشتقاق اللغوي وحده في معرفة أصل اللفظة بشرط ملاحظة مقابلة اللغات، فإذا وجدنا لفظة في العربية ومثلها في الفارسية أو اللاتينية أو اليونانية مثلا ولم يساعدنا التاريخ على معرفة حقيقة أصلها، عمدنا إلى اشتقاقها وصيغتها. فإذا لم يكن لها مجانس في أخوات العربية وكان لها ذلك في أخوات الفارسية أو اللاتينية أو اليونانية، نرجح أنها من إحدى هذه اللغات، مثل «البلاط» بمعنى «قصر الملك» فقد عدها العرب عربية وشقوها من البلاط المعروف لأن القصور تفرش به، ولكن هذه اللفظة في اللاتينية
palaffum
ومعناها قصر الملك. فإذا ادعى مدع أنها عربية الأصل وأن الرومان اقتبسوها من العرب، قلنا إن الرومان يرجعون بأصلها إلى تل كان في رومية بهذا الاسم، نزل عليه أوغسطس قيصر وأقام فيه فسمي قصره به. وإذا أعجزنا الدليل التاريخي عمدنا إلى الاشتقاق، فإن
pala
في السنسكريتية معناها الحامي أو المدافع، وكان الملوك القدماء إنما يبنون القصور للتحصن بها.
وقد لا يهدينا التاريخ مطلقا، كما في لفظ «جاموس» فإن التاريخ لا يساعدنا على معرفة أصلها هل هي عربية أو فارسية، فإذا رجعنا إلى الاشتقاق لم نر لها اشتقاقا في العربية، أما في الفارسية فإنها مركبة من لفظين : «كاو» ثور أو بقرة، و«ميش» كبش، ولكن الجاموس هندي الأصل ومعنى «جاوميشا» في السنسكريتية «البقرة الكاذبة». (2) عود
وبالجملة فقد دخل العربية ألفاظ كثيرة من معظم اللغات التي كانت شائعة في التاريخ القديم، ممن خالط العرب كالمصريين القدماء والحيثيين والفينيقيين والكلدان والهنود والفرس، حتى الزنوج والنوبة وغيرهم مما لم يعد تمييز أصله ممكنا لتقادم عهده واختلاف شكله.
ناپیژندل شوی مخ
ومن أمثلة ما أخذوه عن اللغة المصرية القديمة الهيروغليفية لفظ «قبس» بمعنى الشعلة، فهي في الهيروغليفية «خبس» ومعناها مصباح.
وبعض تلك الاقتباسات أخذها العرب رأسا عن أصحابها والبعض الآخر حملت إليهم على يد الأمم الأخرى، كما نقل لهم اليهود لفظ «نبي» من اللغة المصرية القديمة «الهيروغليفية» وأصل معناه فيها «رئيس العائلة» أو «رب المنزل»، وكما نقل لهم الفرس «الشطرنج» عن اللغة الهندية السنسكريتية فحسبها العرب فارسية، وقالوا إنها تعريب «شتررنك» بالفارسية ومعناها ستة ألوان، ولعلهم يريدون «ششرنك»، والصواب أنها لعبة هندية قديمة كانت تسمى في اللغة السنسكريتية «شتورنكا»، أي الأجزاء الأربعة التي يتألف منها الجند عندهم وهي الأفراس والأفيال والمركبات والمشاة، فأخذها الفرس عنهم نحو القرن السادس للميلاد، ثم أخذها العرب عن الفرس فحسبوها فارسية وتكلفوا في تعليلها كما رأيت.
ولم يقتصر العرب على اقتباس الألفاظ من اللغات الأخرى واستبقائها على حالها، ولكنهم صرفوها وشقوا منها الأفعال ونوعوا معناها على ما اقتضته أحوالهم، فقد شقوا من لفظ النبي «نبأ» و«تنبأ» و«نابأ». وشقوا من «قبس» أفعالا وأسماء عديدة.
ومن هذا القبيل «اللجام» وهو من «لكام» في الفارسية، فشقوا منه أولا «ألجم الدابة» ألبسها اللجام، و«التجمت الدابة» مطاوع «ألجم»، وجمعوا «لجام» على «لجم» و«ألجمة»، ثم استخدموه مجازا فقالوا: «لجمه الماء»، أي بلغ فاه. وقالوا: «لفظ لجامه»، أي انصرف من حاجته مجهودا من الإعياء والعطش. وقولهم «التقي ملجم» أرادوا به أنه مقيد اللسان والكف.
و«المهر» الخاتم في الفارسية، استعاره العرب وبنوا منه فعلا فقالوا: «مهر الكتاب»، أي ختمه بالمهر.
ومن ذلك ما شقوه من لفظ «ديوان» وهي أعجمية فقالوا: «دون»، أي كتب اسمه في الجندية.
وقس على ذلك كثيرا من الألفاظ الدخيلة التي يعتقد العرب أنها عربية، وقد شقوا منها الأفعال والأسماء، مثل: «سراب» وهي تعريب «سيرآب» في الفارسية، أي مملوء ماء. والزمهرير من «زم أريز» بالفارسية، أي ضباب بارد. وجزاف من «كزاف» بالفارسية، أي العبث من الكلام. والضنك من «تنك» في الفارسية ضيق، وقد شقوا منها أفعالا وأسماء ترجع إلى هذا المعنى.
ثم إن أكثر ما أدخله العرب إلى لغتهم من الألفاظ الأجنبية، لم يكن له ما يقوم مقامه في لسانهم. على أن كثيرا منه كانت له عندهم أسماء مشهورة لا يبعد أن يكون بعضها دخيلا أيضا، فغلب استعمال الدخيل الجديد وأهمل القديم. من ذلك أن العرب كانوا يسمون الإبريق «تامورة» والطاجن «مقلى» والهاوون «منحاز» أو «مهراس» والميزاب «مثقب» والسكرجة «الثقوة» والمسك «المشموم» والجاسوس «الناطس» والتوت «الفرصاد» والأترج «المتك» والكوسج «الأثط» والباذنجان «الأنب» والرصاص «الصرفان» والخيار «القتد». فهذه الأسماء وأمثالها أهملها العرب قبل الإسلام بعد أن استبدلوها بأسماء دخيلة، فعلوا ذلك عفوا بلا تواطؤ أو قصد وإنما هو ناموس النمو يقضي عليهم بذلك.
التغيير في الألفاظ
ذكرنا فيما تقدم أمثلة مما دخل اللغة العربية من الألفاظ الأجنبية قبل زمن التاريخ الذي عبرنا عنه بالعصر الجاهلي، ونذكر الآن ما لحق ألفاظها الأصلية من التنوع والتفرع في ذلك العصر، والأدلة على ذلك كثيرة نكتفي منها بالواضح الصريح، فنذكر أولا ما نستدل عليه من مقابلة العربية بأخواتها العبرانية والسريانية، ثم ما تشهد به حال اللغة العربية نفسها. (1) مقابلة العربية بأخواتها
ناپیژندل شوی مخ
من الحقائق المقررة أن العربية والعبرانية والسريانية كانت في قديم الزمان لغة واحدة، كما كانت لغات عرب الشام ومصر والعراق والحجاز في صدر الإسلام. فلما تفرق الشعب السامي أخذت لغة كل قبيلة تتنوع بالنمو والتجدد على مقتضيات أحوالها، فتولدت منها لغات عديدة أشهرها اليوم العربية والعبرانية والسريانية، كما تفرعت عربية قريش بعد الإسلام إلى لغات الشام ومصر والعراق والحجاز وغيرها، ولكن الفرق بين فروع اللغة السامية أبعد مما بين فروع اللغة العربية لتقيد هذه بالقرآن وكتب اللغة. فإذا راجعت الألفاظ السامية المشتركة في العربية وأخواتها، رأيت مدلولاتها قد اختلفت في كل واحدة عما في الأخرى.
والأدلة على ذلك لا تحصى، إذ لا تخلو المعجمات من شاهد أو غير شاهد في كل صفحة من صفحاتها، فنكتفي بالإشارة إلى بعضها على سبيل المثال: فلفظ «الشتاء» في العربية مثلا هو أصل مادة «شتاء» في «القاموس»، وكل مشتقاتها ترجع في دلالتها إلى معنى الشتاء (الفصل المعروف)، فقالوا: شتا في المكان: أقام فيه شتاء، وشتا فلان: دخل في الشتاء، وأشتى القوم إشتاء: أجدبوا في الشتاء ... إلخ. ولم يدلنا صاحب «القاموس» على أصل هذا المعنى في هذا اللفظ، ولكنه أورد رأي المبرد في ذلك، فقال إن الشتاء جمع شتوة، وإن الشتوة «الغبراء التي تهب فيها الرياح والأرض يابسة فيهيج الغبار.» وفي قوله تكلف.
على أننا إذا راجعنا هذه المادة في اللغات السامية رأينا الأصل في دلالتها «الشرب» أو «الري» أو «الصب»، فهي كذلك في العبرانية والسريانية إلى اليوم، وقد شقوا منها الأفعال والأسماء لمعان كثيرة ترجع إلى الري ونحوه، إلا فصل الشتاء فإنهم شقوا له كلمة من أصل آخر يقرب منه لفظا. ويؤخذ من مراجعات كثيرة أن المادة الأصلية «شتا» كانت تدل على الرطوبة أو الري في اللغة السامية، فلما تفرقت القبائل كما تقدم تولدت منها المشتقات وتنوعت معانيها على مقتضى الأحوال، فتولد منها لفظ الشتاء للمعنى المعروف له في العربية وأهمل معنى الشرب أو الري منها. ومع ذلك فلو تدبرت مشتقات هذه اللفظة في أخوات العربية لرأيتها تختلف الواحدة عما في الأخرى.
وإذا بحثنا عن لفظ «شهر» في العربية بالمقابلة مع أخواتها، رأينا الأصل فيه الدلالة على الاستدارة، ثم سموا القمر به لأنه مستدير، ثم أطلقه العرب على الشهر لأنهم كانوا يوقتون بالقمر، على أن دلالته على القمر لا تزال باقية في العربية إلى اليوم، وكذلك في السريانية «سهرا» تدل عندهم على الشهر والقمر. وأما العبرانية فإن للقمر فيها لفظا مشتقا من مادة أخرى هي «يرح» والأصل في معناها «الدوران»، فاشتقوا منها «يارح» للدلالة على القمر وعلى الشهر. ومن هذه المادة في العربية «رواح» أي العشي، فكانوا يقولون: «راح فلان» أي جاء أو ذهب في العشي، أي إن أصل المعنى راجع إلى «العشي» بغير تقييد بالذهاب أو المجيء مثل قولهم: أصبح وأمسى، ثم غلبت فيها الدلالة على الذهاب في العشي، ثم صارت للدلالة على مطلق الذهاب. حدث كل ذلك التنوع بلا قصد ولا تواطؤ.
ومن بقايا «يرح» في العربية مادة أشكل على أئمة اللغة معرفة أصلها، فعدها بعضهم فارسية وعدها آخرون يونانية واكتفى غيرهم بأنها غير عربية، وهي في الحقيقة سامية الأصل نعني بها لفظ «آرخ» أو «ورخ» أو «أرخ» بمعنى وقت. والأظهر عندنا أنها من بقايا اسم الشهر عندهم «يرح» - والإبدال بين الخاء والحاء هين - ومنه «التاريخ» تعريف الوقت، ثم تنوع معنى هذه اللفظة فصاروا يدلون بها على علم التاريخ، أي ذكر الوقائع والحوادث.
ومن هذا القبيل «كتب»، فإن الأصل في دلالتها «حفر في الحجر أو الخشب»، فالظاهر أنهم استعملوها في أول عهدهم بالكتابة وكانوا يكتبون على الحجارة أو الخشب حفرا أو نحتا شأن الكتابة عند الأمم القديمة، فلما صاروا يكتبون بالمداد على الرقوق أو الأقمشة تحول معناها إلى الكتابة المعروفة ولم يبق لدلالتها على الحفر أثر في العربية، وإن كنا نرى أثر ذلك في «قطب» ونحوها من تفرعات «قط» حكاية صوت القطع. فيلوح لنا أن الأصل في دلالة كتب (أو قطب) على الحفر أنهم كانوا يقولون مثلا: «قط بالخشب»، أي قطع في الخشب أو حفر الخشب، ثم ألصقوا الباء بالفعل فصار «كتب» أو «قطب»، كما ألصق عامتنا الباء المذكورة بفعل المجيء فبدلا من أن يقولوا: «جاء به»، قالوا: «جابه»، وصرفوه فقالوا: «يجيبه، وجابوه، ويجيبوه» بدلا من «يجيء به، وجاءوا به، ويجيئون به ...»
ومثل «كتب» أيضا «سطر»، فإنها كانت تدل في الأصل على الحفر، ثم تحول معناها للدلالة على الكتابة للسبب عينه، ولا تزال «سطر» تدل على الحفر أيضا في العبرانية، وأما في العربية فقد بقيت الدلالة على ذلك في لفظ مجانس لها هو «شطر» أو نحوها.
وكثيرا ما تحول المعنى في بعض الألفاظ بانتقاله من الكل إلى الجزء أو من الصفة إلى الموصوف مثل «اللحم» في العربية، فإن معناها في اللغات السامية «الطعام» على إجماله، ثم خصصه العرب بالدلالة على أهم الأطعمة عندهم وهو اللحم، وصار في السريانية يدل على الخبز.
والأصل في «طبخ» الدلالة على «الذبح» واللفظان متشابهان، فتحول معناها في العربية إلى معالجة اللحم للطعام، واستعملوا للذبح كلمة تقرب منها لفظا.
و«الملح» أصل دلالته في اللغات السامية كلها من «ملح أو ملأ» أي نبع الماء، ثم تحول معناها إلى أكبر مستودعات الماء وهو «البحر»، ونظرا لظهور الملوحة في مياه البحر أكثر من سائر صفاتها ولأن الملح يستخرج منها سموا الملح بها. والظاهر أن هذه اللفظة كانت في أمهات اللغات السامية والآرية قبل تفرقها، فإن اسم البحر في اليونانية يشبه أن يكون مبدلا من «ملح» أو أن تكون «ملح» مبدلة منه، وكذلك في اللغة السنسكريتية.
ناپیژندل شوی مخ
و«إنبو» كانت تدل في اللغة السامية الأصلية على «الثمر» عموما، وما زالت تدل على ذلك في اللغة الآشورية، والآرامية. أما في العبرانية فقد أدغمت النون في الباء وعوض عنها بالتشديد فصارت «آبه» بتشديد الباء، عملا بقاعدة جارية في نحو ذلك باللغة العبرانية، ثم شقوا من هذه اللفظة فعلا فقالوا: «أبب» بمعنى أثمر. وأما في السريانية فقد أصاب هذه اللفظة نفس ما أصابها في العبرانية، وصارت «آبا» وهي تدل عندهم على الفاكهة كالتين والبطيخ والزبيب واللوز والرمان. وأما في العربية فقد حدث نحو ذلك، ولكن «الأب» صار عندهم للدلالة على الكلأ والمرعى أو ما أنبتت الأرض، وقالوا: «الأب للبهائم كالفاكهة للناس.» •••
وتحولت «إنبو» أيضا بالإبدال إلى «عنبو»، ومنها «عنب» للدلالة على نوع واحد من الأثمار هو ثمر الكرم، وهذه دلالتها الآن في اللغات العربية والعبرانية والسريانية، بعد أن كانت تدل في أقدم أزمانها على الثمر عموما.
ويقال نحو ذلك في «عبد»، فإنها في اللغات السامية تدل على العمل وخاصة الحرث في الحقل، ولم يبق من مشتقات «عبد» في العربية ما يدل على معناها الأصلي إلا «المعبدة»، أي «المجرفة» أو «المحراث». وفيما خلا ذلك فإن «عبد» ومشتقاتها إنما تدل على العبادة، ومنها «العبد» أي الرق و«التعبد»، لأن خدمة الحقول كان أكثرهم من الأرقاء، ولما كان أكثر الأرقاء من الزنوج دل المولدون بلفظ العبد على الزنوج السود خاصة.
ومن هذا القبيل «الثلج»، والأصل فيه الدلالة على البياض ثم أطلق على أشهر المواد البيضاء.
وكذلك «مرء» فإن أصل دلالتها في اللغات السامية على القوة، ومنها إلى الرئاسة ومنها إلى أقوى الكائنات وهو الإنسان، ولا تزال في السريانية تدل على الرب فقط، وهي عندهم «مرا» أو «مريا». أما في العربية فغلبت فيها الدلالة على الرجل. وأما العبرانية والسريانية فللدلالة على الرجل فيهما ألفاظ أخرى ترجع في أصل معناها إلى القوة، وكأن هذا اللفظ قديم مشترك في أمهات اللغات فإنه في اللاتينية
Vir
ونحوه في الهندية. •••
ولهذا السبب استعمل العرب «بعل» للزوج وهو يدل في الأصل على السيد أو الرب، ومنه البعل أكبر آلهة الشعوب السامية ومنها «هبل» كبير أصنام الكعبة. ويظهر من مراجعة أمهات اللغات الآرية أن هذا اللفظ انتقل منها إلى اللغات السامية قبل تفرق شعوبها، لأنه في السنسكريتية «بالا» القوة، وفي اللاتينية قوي
Val-ere ... أو لعل الآريين نقلوه عن الساميين، أو كان في اللغة الأصلية قبل افتراق الآريين عن الساميين.
ومن أمثلة ما فقد أصله من الألفاظ السامية في اللغة العربية وبقي فرعه لفظ «الشعر» بمعنى المنظوم، فقد شقه صاحب «القاموس» من «شعر الرجل» بمعنى فطن وأحس، فقال: «وسمي الشاعر شاعرا لفطنته وشعوره.» ويلوح لنا من خلال هذا التعليل تسامح لا يرتاح إليه العقل، والأظهر عندنا أن «الشعر» مشتق من أصل آخر فيه معنى الغناء أو الإنشاد أو الترتيل فقد من العربية وبقي في بعض أخواتها، ففي العبرانية أصل فعلي لفظه «شور» ومعناه صات أو غنى أو رتل، ومن مشتقاته «شير» قصيدة أو أنشودة، وبها سمي نشيد الأناشيد في التوراة وأمثاله من القصائد أو الأناشيد التي رتلها اليهود في أسفارهم أو حروبهم، واليهود أقدم اشتغالا بالنظم من العرب. فالظاهر أن العرب أخذوا عنهم كلمة «شير» للقصيدة أو الأنشودة، كما أخذوا غيرها من أسماء الآداب الدينية والأخلاقية، وأبدلوا باءها عينا على عادتهم في كثير من أمثال هذا الإبدال فصارت «شعر»، أطلقوها على الشعر بإجماله، فلما جمعت اللغة عدوا هذا اللفظ من مشتقات «شعر».
ناپیژندل شوی مخ
وأما أصل مادة «شور» فقد ذهب من العربية، والقياس في مقابلة الألفاظ بين العربية والعبرانية يقضي أن تلفظ هذه الكلمة في العربية «سور» بالسين، ولا نجد في هذه المادة عندنا ما يماثل هذا المعنى، إلا إذا اعتبرنا تسمية فصول القرآن سورا واحدتها «سورة» فيكون المراد بها الأنشودة أو الترتيلة من قبيل التجويد.
ومن أمثلة تنوع المعاني أن لفظ «الورق» في العربية أصله من «يرق» اخضر، ومنه ورق الشجر لاخضراره، ولا يزال من هذه المادة في العربية «اليرقان» للمرض المعروف، وهو اخضرار الجلد أو اصفراره، وقد شقه صاحب «القاموس» من «أرق».
وقس على ذلك مئات من الأمثلة تشهد على ما لحق ألفاظ اللغة العربية من تنوع معانيها ومدلولاتها قبل زمن التاريخ، باعتبار مقابلتها بألفاظ أخواتها السامية.
اللغة العربية وحدها
على أننا لو اقتصرنا على مراجعة المعجمات العربية وحدها لاتضح لنا هذا الناموس بأجلى بيان، إذ نرى للمادة الواحدة أو اللفظ الواحد عدة معان متفرعة من معنى واحد، ثم يتنوع المعنى على مقتضيات الأحوال. ولا نحتاج في إثبات ذلك إلى إيراد الشواهد لأنه بديهي، وإنما يحسن بنا أن نشير إلى أسباب ذلك التنوع وهي كثيرة، وقد ذكرنا بعضها فيما تقدم من الكلام في مقابلة الألفاظ العربية بألفاظ أخواتها كاشتقاق معنى الملح من البحر ومعنى الثلج من البياض، وغير ذلك مما بينه تناسب في المعنى.
وقد تكتسب الكلمة معنى جديدا من عادة أو عقيدة، مثل قولهم: «بنى على أهله أو بأهله» بمعنى تزوج، وليس في أصل فعل البناء هذا المعنى، وإنما اكتسبه من عادة كانت جارية عند العرب، وهي أن الداخل بأهله كان يضرب عليها قبة ليلة الزفاف. ومن هذا القبيل تحول معنى القمر إلى الشهر لأنهم كانوا يوقتون بالقمر.
ومن أسباب زيادة النمو في اللغة العربية غير النحت والإبدال والقلب «التصحيف»، وهو التبادل بين الحروف المتشابهة شكلا كالباء والتاء والثاء والنون والياء، أو الجيم والحاء والخاء، أو الدال والذال، أو الراء والزاي، أو السين والشين. وقس عليه.
فمن أمثلة ما ورد بمعنى واحد وسببه التصحيف قولهم: رجل صلب وصلت، والدبر والدير، والكرت والكرب، ورغات ورغاب، والجلجلة والحلحلة، وجاض وحاص، والنافجة والنافحة ... وهو كثير، وقد ذكر منه علماء اللغة مئات. والغالب أن ذلك التصحيف لم يحدث إلا بعد تدوين اللغة، لأنه خطأ بقراءة الخطوط.
ومما اختصت به لغة العرب من نتائج هذا النمو ورود الألفاظ الكثيرة للمعنى الواحد، فعندهم للسنة 24 اسما، وللنور 21 اسما، وللظلام 52 اسما، وللشمس 29 اسما، وللسحاب 50 اسما، وللمطر 84 اسما، وللبئر 88 اسما، وللماء 170 اسما، وللبن 12 اسما، وللعسل نحو ذلك، وللخمر مائة اسم، وللأسد 350 اسما، وللحية مائة اسم، ومثل ذلك للجمل، أما الناقة فأسماؤها 255 اسما ... وقس على ذلك أسماء الثور والفرس والحمار وغيرها من الحيوانات التي كانت مألوفة عند العرب، وأسماء الأسلحة كالسيف والرمح وغيرهما، ناهيك بمترادف الصفات فعندهم للطويل 91 لفظا، وللقصير 160 لفظا، ونحو ذلك للشجاع والكريم والبخيل مما يضيق المقام عن استيفائه.
ومن خصائص اللغة العربية أسماء الأضداد، فإن فيها مئات من الألفاظ يدل كل منها على معنيين متضادين، مثل قولهم: «قعد» للقيام والجلوس، و«نضح» للعطش والري، و«ذاب» للسيولة والجمود، و«أفسد» للإسراع والإبطاء، و«أقوى» للافتقار أو الاستغناء.
ناپیژندل شوی مخ
ومن خصائصها أيضا دلالة اللفظ الواحد على معان كثيرة، فمن ألفاظها نيف ومائتا لفظ يدل كل منها على ثلاثة معان، ونيف ومائة لفظ يدل الواحد منها على أربعة، وكذلك التي تدل على خمسة معان. وقس على ذلك ما يدل على ستة معان فسبعة فثمانية فتسعة إلى خمسة وعشرين معنى، كالحميم والفن والطيس. ومما تزيد مدلولاته على ذلك «الخال»، فإنها تدل على 27 معنى، وللفظ «العين» 35 معنى، وللفظ «العجوز» 60 معنى.
فتكاثر المترادفات والأضداد ودلالة اللفظ الواحد على معان كثيرة، لا يحدث إلا من تفرع ألفاظ اللغة ومعانيها بالنمو والتجدد وتكاثر الدخيل، وبالطبع لم يتكون للشيء الواحد مائة اسم أو مائتان إلا بتوالي الأجيال، وأحدث تلك الألفاظ أكثرها استعمالا، وأقدمها أقربها إلى الإهمال.
الألفاظ الإسلامية
(1) العصر الإسلامي
نريد بالعصر الإسلامي في صدد اللغة العربية الزمن الذي مر باللغة بعد ظهور الإسلام حتى كتبت العلوم الإسلامية، كالتفسير والحديث وسائر العلوم الشرعية واللغوية ونحوها، إلى عصر النهضة العباسية. ولا مشاحة في أن الإسلام أثر في اللغة تأثيرا كبيرا كان تابعا لتأثيره في العادات والآداب والاعتقادات.
ويدخل في ذلك ما طرأ على اللغة من الاصطلاحات الدينية والفقهية واللغوية والأدبية، وما دخلها من الألفاظ الإدارية على أثر إنشاء الحكومة ودوائرها وفروعها، ثم الألفاظ العلمية والفلسفية بترجمة كتب اليونان والفرس والهنود إلى العربية.
ولذلك قسمنا الكلام في العصر الإسلامي إلى ثلاثة فصول، نقتصر في هذا الفصل على ما دخل اللغة العربية من التغيير بسبب العلوم الإسلامية، وهو ما عبرنا عنه بالألفاظ الإسلامية، ونفرد لكل من التغييرات الإدارية والأجنبية فصلا خاصا.
فتأثير العلوم الإسلامية على اللغة يكاد يكون محصورا في تنويع الألفاظ العربية وتغيير معانيها للتعبير عما أحدثه الإسلام من المعاني الجديدة، بلا إدخال ألفاظ أعجمية إلا نادرا. (1-1) الاصطلاحات الشرعية والفقهية
وأشهر ما حدث من التنوعات في الألفاظ العربية في العصر الإسلامي المصطلحات الدينية والشرعية والفقهية واللغوية، وكانت ألفاظها موجودة قبل الإسلام ولكنها كانت تدل على معان أخرى، فتحولت للدلالة على ما يقاربها من المعاني الجديدة، فلفظ «المؤمن» مثلا كان معروفا في الجاهلية ولكنه كان يدل عندهم على الأمان أو الإيمان وهو التصديق، فأصبح بعد الإسلام يدل على المؤمن وهو غير الكافر، وله في الشريعة شروط معينة لم تكن من قبل، وكذلك المسلم والكافر والفاسق ونحوه. ومما حدث من المصطلحات الشرعية الصلاة وأصلها في العربية الدعاء، وكذلك الركوع والسجود والحج والزكاة والنكاح فقد كان لهذه الألفاظ وأشباهها معان تبدلت بالإسلام وتنوعت.
وقس على ذلك في الاصطلاحات الفقهية، كالإيلاء والظهار والعدة والحضانة والنفقة والإعتاق والاستيلاء والتعزير واللقيط والآبق والوديعة والعارية والشفعة والمناسخة والفرائض والقسامة وغيرها. (1-2) الاصطلاحات اللغوية
ناپیژندل شوی مخ
ويقال نحو ذلك في الاصطلاحات اللغوية التي اقتضتها العلوم اللغوية، كالنحو والعروض والشعر والإعراب والإدغام والإعلال والحقيقة والمجاز والنقض والمنع والقلب والرفع والنصب والخفض والمديد والطويل، وغيرها من أسماء البحور وضروب الإعراب والتصريف وهي كثيرة جدا ولها فروع واشتقاقات ... حتى لقد أصبح للفظ الواحد معنى فقهي، وآخر لغوي، وآخر عروضي، وآخر ديني، مما لا يمكن حصره. وسنذكر أمثلة أخرى عند الكلام على اصطلاحات المنطق وعلم الكلام.
وأحدث الإسلام تغييرا كبيرا في أساليب التعبير كقولهم: «أطال الله بقاءك!»، فإن أول من قالها عمر بن الخطاب لعلي بن أبي طالب. (1-3) الألفاظ المهملة
وكما أحدث الإسلام ألفاظا جديدة للتعبير عن معان جديدة اقتضاها الشرع الجديد والعلم الجديد، فقد محا من اللغة ألفاظا قديمة ذهبت بذهاب بعض اعتقادات الجاهلية وعاداتهم، منها قولهم «المرباع» وهو ربع الغنيمة الذي كان يأخذه الرئيس في الجاهلية، و«النشيطة» وهي ما أصاب الرئيس قبل أن يصير إلى بيضة القوم، أو ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل الوصول إلى الموضع الذي قصدوه، و«المكس» وهو دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية، وكذلك الإتاوة والحلوان.
ومما أبطل قولهم: «أنعم صباحا» و«أنعم ظلاما»، وقولهم للملك: «أبيت اللعن!»، وقول المملوك لمالكه: «ربي»، وتسمية من لم يحج «صرورة»، وغير ذلك. وقد نرى بعض هذه الألفاظ مستعملا في اللغة الآن، فهو إما مستعمل في غير معناه الأصلي، وإما أنه قد أرجع إليه بعد إهماله.
على أننا لا نشك في إهمال كثير من الألفاظ العربية في القرنين الأولين للهجرة، ولا سبب لذلك غير ما يقتضيه النمو من التجدد والدثور. يكفي لتحقيق ذلك مراجعة المعجمات وتدبر ألفاظها، فإنك ترى فيها مئات وألوفا من الألفاظ التي بطل استعمالها، ولا نظنهم جمعوها في صدر الإسلام إلا لأنها كانت شائعة على ألسنة العرب.
وقد يعترض على ذلك أن تلك الألفاظ إنما أهملت في العصور الأخيرة، فلا ننكر إهمال بعضها في هذه العصور، ولكن جانبا كبيرا منها أهمل في العصور الأولى فضلا عما قل استعماله قبل الإسلام، حتى لقد كان أحدهم يسمع أعرابيا يتكلم فإذا ذكر ألفاظا مهملة أغلق على السامع فهمها ولو كان لغويا: •••
يروى عن أبي زيد الأنصاري أنه قال: «بينما أنا في المسجد الحرام، إذ وقف علينا أعرابي فقال: يا مسلمون - بعد الحمد لله والصلاة على نبيه - إني امرؤ من هذا الملطاط الشرقي، المواصي أسياف تهامة، عكفت علينا سنون محش، فاجتبت الذرى، وهشمت العرى، وجمشت النجم، وأعجت البهم، وهمت الشحم، والتحبت اللحم، وأحجنت العظم، وغادرت التراب مورا، والماء غورا، والناس أوزاعا، والنبط قعاعا، والضهل جزاعا، والمقام جعجاعا، يصبحنا الهاوي، ويطرقنا العاوي. فخرجت لا أتلفع بوصيده، ولا أتقوت بمهيده، فالبخصات وقعة، والركبات زلعة، والأطراف فقعة، والجسم مسلهم، والنظر مدرهم، أعشو فأغطش، وأضحى فأخفش، أسهل ظالعا، وأحزن راكعا! فهل من آمر بمير، أو داع بخير، وقاكم الله سطوة القادر، وملكة الكاهر، وسوء الموارد، وفضوح المصادر؟!» قال أبو زيد: «فأعطيته دينارا، وكتبت كلامه واستفسرت منه ما لم أعرفه.» وأبو زيد الأنصاري من فطاحل أئمة اللغة. وأمثال هذه كثيرة في أخبار العرب.
الألفاظ الإدارية
(1) مصالح الدولة
كانت مصالح الدولة قبل الإسلام عبارة عن مناصب كبار الأمراء من قريش في الكعبة، كالسدانة والسقاية والرفادة والقيادة والمشورة والأعنة والسفارة والحكومة والعمارة وغيرها، وكلها عربية يدل لفظها على معناها. فلما ظهر الإسلام وفتح المسلمون الشام والعراق ومصر وفارس، أنشئوا على أنقاض دولتي الروم والفرس دولة دونوا فيها الدواوين، ونظموا الجند، وسنوا القوانين على ما اقتضاه تمدنهم مما لم يكن له مثيل في جاهليتهم، فاضطروا للتعبير عن ذلك إلى ألفاظ جديدة فاستعاروا بعضها من لغات القوم الذين أقاموا بينهم وخاصة الفرس واليونان والرومان، واستعملوا لما بقي ألفاظا عربية حولوا معانيها حتى تؤدي معاني تلك الموضوعات، كما فعلوا في الاصطلاحات الشرعية واللغوية. ولو شئنا ذكر كل ما استحدث من تلك الألفاظ لما وسعه غير المجلدات، فنكتفي بالأمثلة. (1-1) الألفاظ الإدارية العربية
ناپیژندل شوی مخ
أول الألفاظ الإدارية التي استحدثت في الدولة العربية «الخليفة»، فإنها كانت تدل في الأصل على من يخلف غيره ويقوم مقامه بدون تخصيص، ثم انحصر معناها فيمن يخلف النبي وأول الخلفاء أبو بكر، ومنها صارت تؤدي معنى «السلطان يحكم بين الخصوم، والسلطان الأعظم، والمحكم الذي يستخلف من قبله.» ويقال نحو ذلك في سائر مناصب الدولة، كالوزارة والإمارة والنقابة والكتابة والحجابة والشرطة ونحوها.
فإن الوزارة كانت تدل على المعاونة، ثم تغير معناها باختلاف الدول واختلاف حال الوزراء فيها، ويشتق دار مستتر لفظ الوزير من أصل فارسي قديم (بهلوي) هذا نطقه «ويجيرا»، ومعناه حكم أو أقر. •••
ومثل ذلك «الكاتب»، فقد رأيت فيما تقدم أن الأصل في دلالة «كتب» الحفر على الخشب أو الحجر لأنهم كانوا يكتبون بالحفر، فلما كتبوا بالمداد صار معناها الكتابة المعروفة. ولما ظهر الإسلام احتاجوا إلى من يكتب السور فكان الذين يكتبونها يسمون كتبة الوحي، وكان بعضهم يكتبون بين الناس في المدينة. فلما تولى أبو بكر استخدم كاتبا يكتب له الكتب إلى العمال والقواد، ولما تولى عمر ودون الدواوين استخدم الكتبة لضبط أسماء الجند وأعطياتهم، فصار الكاتب يدل على الكتابة والحساب. ولما استبد الكتاب في الدولة المصرية وغيرها صار الكاتب بمعنى الوزير، ويراد بالكاتب الآن العالم المنشئ.
ومن ذلك لفظ «الدولة»، فقد كانوا يريدون «انقلاب الزمان، والعقبة في المال، والفتح في الحرب»، ثم دلوا به على الملك ووزرائه ورجال حكومته، ولم يكن لها هذه الدلالة قبلا.
و«الحجابة» تدل في الأصل على السر والمنع فالحاجب الساتر أو المانع، فكان حاجب الخليفة من أصغر رجال الدولة. فلما ضعف الخلفاء واستبد الحجاب صار معنى الحاجب عندهم مثل معنى الوزير. •••
وقس على ذلك سائر مناصب الدولة، كالإمارة والشرطة والقضاء والحسبة والنقابة والإمامة، وغيرها من اصطلاحات الجند كالمسترزقة والمتطوعة والعلوفة والعسكر، وضروب الحرب وأبواب الهجوم كالزحف والكر والفر والبيات والكفاح والغرة، وصنوف الأسلحة كالدبابة والكبش والعرادة وغيرها. ناهيك باصطلاحات الدواوين على إجمالها، كقولهم الثغور والعواصم والإقليم والقصبة والعمل والولاية والضياع والحكومة والسكة والتوقيع والوظيفة والخراج والجزية والعشور والمرافق والصوافي والجوالي والجباية والوقف والمصادرة والمستغلات والصدقة والمكوس والمراصد ودار الضرب والضمان والدفاتر والجرائد والخرائط والإيغار والراتب والجاري والعطاء والبيعة والدعوة والختم والخطط والمطالعة والمؤامرة، وغير ذلك كثير جدا.
فالألفاظ المذكورة عربية الأصل وأكثرها معروف قبل الإسلام، ولكن مدلولاتها تغيرت بتغير أحوال المسلمين بعد إنشاء دولتهم، إذ حدث بإنشائها معان جديدة اضطروا في التعبير عنها إلى ألفاظ جديدة، فنوعوا ما عندهم إما عمدا أو عفوا فصارت إلى ما هي عليه.
ف «الخراج» مثلا كان معناه في الجاهلية الكراء والغلة، ويدل ذلك على معنى ضرب الخراج في الإسلام، فإنهم كانوا يعدون الأرض ملكا لهم وقد سلموها لأهلها على سبيل الإيجار بالكراء، فصار معنى الخراج بعد ذلك «ما وضع على رقاب الأرض من حقوق تؤدى عنها»، ثم صار الخراج مقاسمة أو مساحة أو سيحا أو سقيا، وأكثرها ألفاظ جديدة لمعان جديدة.
و«الحكومة» كانت تدل في الجاهلية على الفصل بين المتخاصمين لأنها مصدر حكم أي قضى، وتلك كانت أعمال صاحب الحكومة في الجاهلية، ثم تحول معناها إلى «أرباب السياسة أو رجال الدولة».
و«السكة» في الأصل الحديدة المنقوشة التي كانوا يضربون عليها النقود، ثم سميت النقود بها، واشتقوا منها الأفعال والأسماء لهذا المعنى. •••
ناپیژندل شوی مخ
و«التوقيع» الأصل فيه «التأثير»، من قولهم: «وقع الوبر ظهر البعير توقيعا»: أثر فيه، ثم استعملوه في الإسلام لما يوقعه الكاتب على القصص المرفوعة إلى الخليفة أو السلطان أو الأمير، فكان الكاتب يجلس بين يدي السلطان في مجالس حكمه، فإذا عرضت قصة (عرضحال) على السلطان أمر الكاتب أن يوقع عليها (يؤشر) بما يجب إجراؤه، ثم تحول معناها إلى اسم علامة السلطان كالإمضاء عندنا. وعلى نحو هذا النمط تحول معنى «الإمضاء» اليوم إلى التوقيع ومعناه في الأصل «التنفيذ»، فكان توقيع السلطان على القصة عبارة عن أمر رجال الدولة في إمضائها أي تنفيذ توقيعه، ثم تحول معناها إلى التوقيع أي وضع العلامة على الصكوك ونحوها.
ومن هذا القبيل «الوظيفة»، فإن الأصل في معناها «ما يقدر من عمل وطعام ورزق وغير ذلك»، ومنها «وظف عليه الخراج ونحوه» أي قدره، فاستعملها كتاب الدولة العربية لهذا المعنى مع بعض الانحراف فقالوا: «وظف الرجل توظيفا: عين له في كل يوم وظيفة»، فالموظف هو الذي يأخذ الوظيفة أو الراتب، ثم توسعوا في لفظ الوظيفة فدلوا بها على المنصب أو الخدمة المعينة، والمشهور أن استعمالها لهذا المعنى من اصطلاحات هذا العصر، ولكنه أقدم من ذلك كثيرا فقد استعملها لهذا المعنى جماعة من فحول الكتبة، كابن خلدون في مقدمته والمقريزي في خططه وغيرهما. وتولد في أثناء تحول هذه اللفظة إلى هذا المعنى ألفاظ أخرى تقوم مقامها في معناها الأول، كالراتب والجاري والماهية (وهذه فارسية الأصل من «ماه» شهر، والماهية الشهرية.) واستحدثوا لفظة أخرى للمنصب لم يكن لها هذا المعنى من قبل وهي «الخطة»، فمعناها في «القاموس» «الأرض التي تنزلها ولم ينزل بها نازل قبلك»، و«الخطة» بالضم «الخصلة وشبه القصة والأمر والجهل» فاستعملوها بمعنى المنصب لعلاقة لا نعلمها، ومن ذلك قول ابن خلدون: «الوزارة أم الخطط الإسلامية والرتب الملوكية.» (1-2) انتقال اللفظ من معنى إلى آخر
وانتقال الألفاظ من معنى إلى آخر بلا علاقة ظاهرة بين المعنيين كثير في اللغة العربية، ومنها الأضداد أي اللفظ ذو المعنيين المتضادين. وأسباب هذا الانتقال كثيرة يصعب تتبعها في كل ما نراه من الاختلاف في معاني اللفظ الواحد أو مشتقاته، لكننا نذكر أربعة منها على سبيل المثال: (1)
دخول كلمة أعجمية لفظها يشبه لفظ كلمة عربية فيجعلونها من مشتقاتها، كما فعلوا بالبلاط بمعنى القصر فإنهم أخذوها عن اللاتينية، فأشبهت لفظ البلاط الحجر المعروف فجعلوها من مشتقات «بلط».
ومثل قولهم «تباشير»، فقد شقها «القاموس» من «بشر» فقال: «التباشير البشرى ... وتباشير الصبح أوائله، وكذلك أوائل كل شيء، ولا يكون منه فعل.» واللفظة فارسية مركبة من «تبا» مثل، و«شير» لبن، أي أبيض كاللبن. وكان الفرس يدلون بها على بياض الصبح عند أول شروق الشمس، فاقتبسها العرب منهم ودلوا بها على أوائل كل شيء وعلى البشرى. (2)
استعمال لفظين معا لمعنى ثم إهمال أحدهما بالاستعمال التماسا للاختصار، فيبقى الآخر للدلالة على ذلك المعنى، مثل قولهم: «ارتفاع» بمعنى جباية، فيقولون: «ارتفاع الدولة» ويريدون مقدار جبايتها أي مجموع دخلها. وليس في هذه اللفظة ما يلمح منه هذا المعنى ولا ذكره لها «القاموس»، وأصل هذه الدلالة أنهم كانوا يستعملون «ارتفاع» مع لفظ «جباية» فيقولون: «ارتفاع جباية الدولة»، أي مقدار ما بلغت إليه جبايتها (من «ارتفع السعر» أي غلا)، ثم أسقطوا «الجباية» للاختصار فظلت «ارتفاع» وحدها لنفس ذلك المعنى.
ومثل ذلك قولهم: «أشفى العليل» بمعنى «امتنع شفاؤه» (أي ضد معنى المادة الأصلي الشفاء.) وسبب هذا التضاد أن «أشفى» من مشتقات «شفا» الواوية بمعنى الإشراف أو الاقتراب، وليس من مشتقات «شفى» اليائية كما أوردها «القاموس»، فكانوا يقولون: «أشفى المريض على الموت» أي أشرف عليه، ثم اختصروه فقالوا: «أشفى المريض» لنفس هذا المعنى، والتبس على صاحب «القاموس» أصل مادتها فعدها من مشتقات «شفى».
وكذلك قولهم «عقد له» بمعنى «ولاه»، وليس في مادة «عقد» ما يقرب من هذا المعنى، ولا رأينا في «القاموس» أنها تستعمل لمعنى الولاية، ولكنها كثيرة الورود في كتب التاريخ لهذا المعنى. والأصل في هذه الدلالة أن الخلفاء في صدر الإسلام كانوا إذا وجهوا جيشا إلى حرب عقدوا له الألوية وسلموها إلى الأمراء لكل أمير لواء، وكان توجيههم إلى الفتح يتضمن معنى الألوية على البلاد التي يفتحونها، ثم صار الخلفاء بعدهم يعقدون ذلك اللواء للأمراء عند توليتهم بعض الإمارات فيقال: «عقد له اللواء على البلد الفلاني»، أي ولاه إياه، ثم اختصروا فقالوا: «عقد له.»
ولمثل هذا السبب يستعمل كتابنا اليوم «برهة» بمعنى الزمن القصير وهي تدل في الأصل على الزمن الطويل، فالظاهر أنهم كانوا يقولون: «برهة قصيرة» أو «برهة وجيزة» للزمن القصير، ثم استعملوا «برهة» وحدها لهذا المعنى. (3)
تفرع اللفظ الواحد بالقلب والإبدال إلى ألفاظ كثيرة تدل على تفرعات المعنى الأصلي، وأمثلة ذلك كثيرة في اللغة لا حاجة إلى ذكرها. ولكن قد يتنوع المعنى ويبقى اللفظ على حاله فيندر أن يهتدى إلى سبب ذلك التنوع، ومن أغرب الأمثلة على ذلك «جن» ومشتقاتها، فإنها تدل على معان كثيرة ترجع إلى الظلمة والاختفاء والجنون والجن والجنة، ولا يخفى ما بين هذه المعاني من التباين والتناقض. فلنتبع هذه اللفظة إلى أصلها لعلنا نهتدي إلى تعليل هذا الاختلاف:
ناپیژندل شوی مخ
يظهر لنا أن هذه المادة قديمة في تاريخ اللغة، بدليل وجودها في جميع اللغات السامية وأمهات اللغات الآرية، فهي في العبرانية والسريانية على نحو ما هي في العربية لفظا ومعنى، وفي السنسكريتية «جان» الروح وكذلك في الفارسية. ويظهر أنها حدثت والإنسان في أول أدوار حياته، أي يوم كان المغول والآريون والساميون وغيرهم عائلة واحدة، لأن الصينيين يدلون على الروح بنحو هذا اللفظ أي «تسن»، وأما في اليونانية واللاتينية فتدل على الولادة أو التسلسل وهما من فروع المعنى الأصلي. و«جانا» في السنسكريتية «مسكن الأرواح أو الآلهة»، ولعل هذا هو الأصل في دلالة لفظ «الجنة» (الفردوس) في اللغات السامية أيضا.
ثم تنوقلت حكاية الخليقة عند الساميين أجيالا قبل تدوينها، فعرض في أثناء ذلك انتقالهم إلى اعتقاد التوحيد فأثر هذا الانتقال على معنى تلك اللفظة وتحول إلى ما نعلمه. فلما كتب سفر الخليقة كان المعنى الأول قد تنوسي من اللغة العبرانية فضاع كما ضاع معنى لفظ «عدن»، فأدى ذلك إلى الرجم في تفسيرهما بعد ذلك. أما في السنسكريتية فلفظ «أدن» أو «عدن» معناه الأكل أو الطعام، وربما كان هذا هو المراد بجنة عدن في حكاية سفر الخليقة، لأن الله خلق الإنسان ووضعه في «جنة عدن» وغرس له فيها الأشجار ليأكل ومنعه من شجرة الخير والشر، كأنه أقامه في جنة فيها أكل. •••
ثم إن دلالة مادة «جان» أو «جن» على الروح في اللغات السامية لا يزال أثرها باقيا في لفظ «الجان» العربية، والأصل في دلالتها «كل ما استتر عن الحواس من الملائكة أو الشياطين» أي الأرواح على إطلاقها. وكان اعتقاد الناس في سبب الجنون أنه حلول تلك الأرواح في المجنون، فعبروا عن الجنون بلفظ مشتق من «الجان» فقالوا: «جن الرجل، على المجهول: زال عقله أو فسد أو دخلته الجن.» ونظرا لاختفاء الأرواح عن حواس البشر وخاصة عن أنظارهم، دلوا بتلك اللفظة على الظلمة والاختفاء أو الاستتار، فقالوا: «جن الليل: أظلم، وجنه الليل: ستره»، فتعلل بذلك تنوع معنى هذه اللفظة إلى المعاني الخمسة التي ذكرناها، وكل ما لمشتقات هذه اللفظة من المعاني يرجع إلى أحدها.
ويحسن بنا في هذا المقام أن نتتبع تاريخ هذه اللفظة في الإفرنجية وما يقابلها في اللغات السامية، فقد خسرت دلالتها على «الروح» في كل اللغات الآرية (إلا الفارسية والسنسكريتية)، وصارت تدل على ما يقارب ذلك وهو التوليد من
Gen
ومشتقاتها، ومنها
Genus
في اللاتينية ومشتقاتها بمعنى الصنف من الناس، ويقابلها في العربية «جنس». ويقابل
Gen
في العربية «جيل»، واللفظ والمعنى متقاربان.
ناپیژندل شوی مخ