بسم الله الرحمن الرحيم
لا إله إلا الله عدة للقائه
قال الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام، مفتي الأنام، قدوة العارفين، لسان المتكلمين، كنز الطالبين، إمامالمحدثين، أبو الحسن علي بن أيوب ابن منصور المقدسي، تغمده الله برحمته:
الحمد لله موفي الصابرين أجرهم بغير حساب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له [كبير] (¬1) الثواب، شديد العقاب، وأشهد أن محمدا رسوله الذي أنزل عليه في الكتاب: {إنما يتذكر أولو الألباب} (¬2)، صلى الله عليه وسلم ما جرى سحاب، [وحل] (¬3) مصاب، ودفن حبيب في تراب.
مخ ۱۰
أما بعد: فإن في الصبر على المصائب والبلاايا والمحن والرزايا (¬4) ما يعقب الأجر ويشرح الصدر، وفي الجزع والتسخط (¬5) بالقضاء ما يحبط (¬6) الأجر، ويعظم الوزر (¬7). وقد ابتلي الرب سبحانه عباد في هذه الدجار بالسراء والضراء، وفرض عليهم الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء؛ ليجزيهم بذلك في دار البقاء بما كان منهم في دار الفناء.
وهذه كلمات سطرتها ترغيبا في تسلية مصاب؛ لأشاركه في الثواب:
عن عبد الله بن مسعود (¬1)، رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من عزي مصابا، فله مثل أجره) (¬2).
وعن أبي [برزة] (¬3)، رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من عزى ثكلى كسي بردا في الجنة) (¬4)، رواهما الترمذي (¬5) وغيره.
مخ ۱۱
وعن عمرو بن حزم (¬1)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة، إلا كساه الله، عز وجل، من حلل الكرامة يوم القيامة). إسناده حسن (¬2)، رواه ابن ماجه (¬3).
مخ ۱۲
واعلم أن التعزية هي التصبير (¬1)، وذكر ما يسلي صاحب الميت، ويخفف حزنه، ويهون مصيبته، وهي مستحبة؛ فإنها أمر بمعروف، ومعاونة على البر والتقوى، (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) (¬2).
مخ ۱۳
الفصل [الأول] (¬1)
[آيات] (¬2) في فضل الصبر
قال الله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} (¬3). وقال المفسرون: "يوفى كل عامل أجر عمله بحساب إلا الصابرين، فإنهم يصب عليهم الأجر صبا بغير حساب" (¬4).
وقال تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما} (¬5).
وقال تعالى: {ولنبولنكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} (¬6).
وقال تعالى: {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} (¬7).
مخ ۱۴
وقال تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} (¬1).
[لأحاديث الحاثة على الصبر] (¬2).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (والصبر ضياء) (¬3).
وقال: (الصبر نصف الإيمان) (¬4).
مخ ۱۵
و[قال] (¬1): واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا) (¬2).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (وما أعطي أحد عطاء خيرا [وأوسع] (¬3) من الصبر) (¬4).
وفي صحيح مسلم (¬5) عن صهيب (¬6)، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عجبا لأمر المؤمن، [إن أمره كله] (¬7) خير، وليس [ذاك] (¬8) لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له) (¬9).
مخ ۱۶
وعن أبي هريرة (¬1)، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى، وما عليه خطيئة) (¬2).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب نوم ابتلاهم، فمن رضي، فله الرضى، ومن سخط، فله السخط) (¬3).
مخ ۱۷
[الفصل الثاني] (¬1).
فيما يقوله من مات له ميت من الاسترجاع والحمد والشكر
في صحيح مسلم: عن أم سلمة (¬2)، رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرا منها، إلا أجره الله تعالى في مصيبته، وأخلف له خيرا منها). قالت: "فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخلف الله تعالى لي خيرا منه؛ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (¬3).
وفي سنن أبي داود (¬4) عن أم سلمة أيضا زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا [أصابت] (¬5) أحدكم مصيبة، فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي، فأجرني فيها، [وأبدل لي] (¬6) بها خيرا منها" (¬7).
مخ ۱۸
وفي كتاب (¬1) الترمذي وقال: إنه حديث حسن (¬2).
عن أبي موسى الأشعري (¬3) رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا مات ولد العبد، قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد (¬4) عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله، سبحانه وتعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة، وسموه بيت الحمد) (¬5).
وفي صحيح البخاري (¬6)، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء، إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه، إلا الجنة) (¬7).
مخ ۱۹
وفي الصحيحين (¬1)، عن أسامة بن زيد (¬2)، رضي الله عنهما، قال: أرسلت إحدى بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه تدعوه وتخبره أن صبيا لها، أو ابنا، في الموت، فقال للرسول: (ارجع إليها، فأخبرها أن لله ما أخذ، ولاه ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب). وذكر تمام الحديث (¬3).
[الفصل الثالث] (¬4)
مخ ۲۰
فصل في فضل من مات له أولاد صغار فصبر عن أنس (¬1)، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مسلم يموت له ثلاثة لم يبلغوا الحلم إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته أياهم) (¬2).
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسه النار إلا تحلة القسم) (¬3).
هذان الحديثان متفق عليهما (¬4).
وعن القسم قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} (¬5). والورود:
هو العبور على الصراط (¬6)، وهو جسر منصوب على ظهر جهنم (¬7)، عافانا الله منها.
مخ ۲۱
وعن أبي سعيد الخدري (¬1)، رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوما فنأتيك (¬2) فيه، تعلمنا مما علمك الله، قال: (فائتين (¬3). يوم كذا وكذا)، فاجتمعن، فأتاهن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فعلمهن مما علمه الله، ثم قال: (ما منكن من امرأة تقدم ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجابا من النار)، فقالت امرأة: واثنين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (واثنين) (¬4). متفق على صحت (¬5).
مخ ۲۲
[الفصل الرابع] (¬1)
في النهي عن البكاء جزعا، وفي تحريم النياحة على الميت، ولطم الخد، وتسخيمه بسواد، أو رماد، أو مداد، وشق الجيب، ونتف الشعر، وحلقه، أو نشره، أو قطعه، وعن الدعاء بالويل والثبور، ودعوى الجاهلية.
في الصحيحين عن أنس، رضي الله عنه، قال مر النبي ، - صلى الله عليه وسلم -، بامرأة تبكي عند قبر، فقال: (اتقي الله واصبري)، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فلما ولى، قيل لها: إنه رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فأتت بابه، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك، فقال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) (¬2).
وعن عمر بن الخطاب (¬3)، رضي الله عنه قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: (الميت يعذب في قبره بما نيح عليه). متفق عليه (¬4).
مخ ۲۴
وعن ابن مسعود، رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) (¬1). متفق عليه أيضا.
دعوى الجاهلية: مثل قوله: وإخلاه، واكهفاه، واعزاه، ويا لقيس، ويا لعامر، ويا للمهاجرين، ونحو ذلك.
وعن أبي بردة (¬2) قال: وجع أبو موسى الأشعري (¬3)، ورأسه في حجر امرأة من أهله، فأقبلت امرأته تصيح برنة، فلم يستطع أن يرد عليها شيئا، فلما أفاق قال: "أنا بريء من برئ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ من الصالقة، والحالقة، والشاقة" (¬4). متفق عليه أيضا.
الصالقة: هي التي ترفع صوتها بالنياحة والندب (¬5).
مخ ۲۵
والحالقة: هي التي تحلق رأسها عند المصيبة (¬1)، والشاقة: هي التي تشق ثوبها (¬2).
وعن أم عطية (¬3) قالت: "أخذ علينا رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، عند البيعة ألا تنوح" (¬4). متفق عليه.
وعن المغيرة بن شعبة (¬5)، رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يقول: (من نيح عليه، فإنه يعذب بما نيح (¬6) عليه يوم القيامة (¬7).
مخ ۲۶
وعن النعمان بن بشير (¬1)، رضي الله عنهما: قال: أغمي على عبد الله بن رواحة (¬2)، فجعلت أخته تبكي: واجبلاه، واكذا، واكذا، تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئا (¬3). إلا قيل لي: أنت [كذلك؟] (¬4) " رواه البخاري (¬5).
وعن أبي مالك الأشعري (¬6)، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (النائحة إذا لم تتب، قبل موتها، تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب) (¬7).رواه مسلم.
مخ ۲۷
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن، يعذب بهذا)، وأشار إلى لسانه، [أو يرحم] (¬1). متفق عليه.
وعن أسيد بن أبي أسيد (¬2) التابعي، عن امرأة من المبايعات قالت: "كان فيما أخذ علينا رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه: أن لا نخمش وجها، ولا ندعو ويلا، ولا نشق جيبا، ولا ننشر شعرا" (¬3). رواه أبو داود بإسناد حسن (¬4).
مخ ۲۸
وعن أبي موسى، رضي الله عنه، أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: (ما من ميت يموت، فيقوم باكيهم، فيقول: واجبلاه، واسيداه، ونحو ذلك، إلا وكل به ملكان يلهزانه (¬1): أهكذا كنت؟) (¬2). رواه الترمذي، وقال: حديث حسن (¬3).
اللهز: الدفع بجمع اليد في الصدر (¬4).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اثنتان في الناس هما بهم كفر؛ الطعن في النسب، والنياحة على الميت) (¬5).
والنياحة: رفع الصوت بالندب، وكذا تعديد النادبة بصوتها محاسن الميت، وقيل: هو البكاء عليه مع تعديد محاسنه.
واجتمعت الأمة على تحريم النياحة، وما ذكر معها عند المصيبة.
والذي ينفع الميت (قضاء) (¬6) دينه، والترحم عليه، والاستغفار والتصدق عنه، وقضاء حقوق الله من حج وزكاة ونحوها.
مخ ۲۹
ومما يلي عن الميت أيضا التأسي بالأكابر، وكثرة من مات لهم، ولم يجزعوا، بل صبروا، فأوجروا، ورضوا وسلموا، فرضي عنهم، وسلموا من محبطات الأجور.
فلقد مات في طاعون كان في زمن ابن الزبير (¬1). في سنة تسع وستين من الهجرة (¬2) ثلاثة أيام في كل يوم سبعون ألفا، ومات لعبد الرحمن بن أبي [بكرة] (¬3) فيه أربعون ابنا (¬4)،ومات فيه لأنس بن مالك ثلاثة وثمانون ابنا، وقيل: ثمانية وسبعون ابنا (¬5)، فصبروا وشكروا، وحمدوا واسترجعوا، فسلموا وأجروا.
مخ ۳۰