وترجع صلة لوركا بدي فايا إلى عهد صبا الشاعر، حين كان يقضي أمسيات عديدة مع أصدقائه من الفنانين الشبان في كرمة دي فايا بغرناطة، التي أطلق عليها اسم «السلام عليك يا مريم»، وكان الموسيقار الإسباني قد أغرم بمدينة غرناطة، وقرر بعد عودته من باريس أن يقيم فيها إقامة دائمة مع أخته في تلك الكرمة التي تحولت بعد وفاته إلى متحف. وكثيرا ما كان لوركا يجلس إلى البيانو الخاص بالموسيقار ليسمع الحاضرين ألحانا وأغاني شعبية من أدائه. وكان فايا ولوركا يكنان الإعجاب بفن أحدهما الآخر؛ فالموسيقار معجب بموسيقية الشاعر، إلى حد أنه هتف مرة متعجبا: «كم أود أن أكتب شعرا بالمهارة التي يعزف بها فديريكو على البيانو» ... أما لوركا فكان يرى في «فايا» تجسيدا لغرامه الأبدي بالموسيقى، وذوقا فنيا مشتركا بينهما في الإيمان بالرؤية الأندلسية في الحياة. وكان لوركا يحرص بعد انتقاله للإقامة في مدريد على زيارة الموسيقار، كلما عادت إلى غرناطة لقضاء إجازة من إجازاته ... وفي إحدى تلك الزيارات، نبعت من أحاديث الصديقين ومناقشاتهما فكرة عقد مهرجان ومسابقة للغناء الفلامنكو القديم، الذي يطلق عليه اسم الغناء العميق
Cante Jundo ، وهو الغناء الشعبي الأندلسي بكل فروعه، ويتصف هذا النوع من الغناء الشعبي برنة الكآبة التي تشيع فيه، وهو غناء يركز على أحاسيس المغني الفردية الدفينة، ويعبر المغني من خلاله عن طقوس من المشاعر، تنبجس من داخل النفس بشكل طوعي فطري، ويؤديه المغنون دون هدف للربح في المقاهي والحانات وصالات الرقص الشعبية. وقد أرجع كثير من دارسي الفنون هذا النوع من الغناء إلى تأثير الأغاني والألحان العربية أيام الوجود العربي الإسلامي في إسبانيا، وامتزاجها بالأغاني المحلية في الأندلس، فأخرجت هذا النوع المتميز من الغناء، الذي يختلف عن أي أغان وألحان شاعت في بقاع أوروبا الأخرى غير إسبانيا.
وقد فكر الصديقان لوركا ودي فايا في إقامة هذا المهرجان بدافع حبهما المشترك لذلك الفن، وكحافز للعاملين في هذا المجال، وحرصا على استمراره وتغذيته، وكان عليهما أن يخلقا جوا تمهيديا للمهرجان، فقام «دي فايا» بنشر مقال عنوانه «الغناء العميق: أصوله وقيمه الموسيقية وأثره في الفن الموسيقي الأوروبي»، وألقى لوركا محاضرة في المركز الفني الغرناطي عنوانها: «الغناء الأندلسي البدائي»، نشر نصها بعد ذلك في إحدى صحف المدينة. وبهدف جمع الأموال اللازمة للإنفاق على تنظيم المهرجان، ورصد جوائز للفائزين في مسابقة أفضل المنشدين، أقيم حفل خيري في فندق قصر الحمراء بغرناطة، تلا فيه لوركا أشعارا جديدة عرفت بعد ذلك باسم قصيدة الغناء العميق، وافتتح المهرجان أخيرا في مساء 13 من يونيو 1922م، في ميدان «الحب» بقصر الحمراء العربي، وتكونت لجنة التحكيم في المسابقة من «دي فايا» و«أندريس سيجوفيا» و«ماويل شاكون»، أئمة الموسيقى الإسبانية وقتذاك، وخلال ليلتين متتاليتين، اهتزت غرناطة كلها طربا بأغاني المتسابقين.
وقد كسب إنتاج لوركا من هذا المهرجان تلك القصائد التي وضعها للتمهيد له، وهي قصائد تتسم بكل ما هو قاتم وحزين من الغناء الفلامنكو، وقد صدرت في صورة ديوان مستقل بعد ذلك، في عام 1932م، ومنها تلك الأغنية المليئة بالشجن:
بدأ نحيب القيثارة
وانحطمت أقداح الفجر
بدأ نحيب القيثارة
وعبثا إسكاتها،
مستحيل إسكاتها.
تنتحب في إيقاع رتيب
ناپیژندل شوی مخ