ويعود «خوسيه» في اليوم التالي لمقابلة المحافظ، الذي يخبره أنه لا يستطيع أن يفعل شيئا؛ لأن لوركا ليس موجودا في المحافظة ولا يدري أين هو، ولكن المحافظ «فالديس» كان يكذب، إذ إن لوركا كان وقتها مودعا في إحدى حجرات المحافظة أعدت كزنزانة، وقضى فيها ثلاثة أيام من 16 إلى 18 أغسطس، وتشهد بذلك مربية أسرة لوركا التي ذهبت تحمل له طعاما وملابس وسجائر، وشاهدته مرة في تلك الزنزانة العارية من الأثاث، إلا من مائدة عليها محبرة وقلم وورقة، بينما كان ثمة رجل أمامه يردد: «يا لعار الابن، يا لعار الأب!» والحراس على باب الحجرة شاكي السلاح، وتقول المربية إن لوركا هتف بها حين رآها: «أنجلينا ... أنجلينا ... لماذا أتيت هنا؟» فردت عليه بأن والدته قد أرسلتها إليه.
وفي 19 أغسطس، حين ذهبت «أنجلينا» بسلة الطعام للسجين، قال لها الحراس إنه لم يعد موجودا بالمحافظة، وأنهم لا يعرفون عنه أي شيء، ولم يعرف أحد ما حدث على وجه التحقيق، ولكن كل الشواهد تدل على أن لوركا قد بقي في مبنى المحافظة، حتى نقل فجر 19 أغسطس إلى المكان الذي تم إعدامه فيه.
وقد بدأت مساع كثيرة خلال تلك الأيام لإنقاذ الشاعر، منها محاولة الموسيقار «دي فايا» التوسط من أجله عن طريق بعض شباب «الفالانخ» الذين كان على صلة بهم، ويحكى أنه ذهب معهم إلى المحافظة صباح 19 أغسطس، ثم عاد واحد منهم متجهم الوجه ليخبره بأن الأمر قد خرج من أيديهم، إذ إنه قد تم إعدام الشاعر في فجر نفس اليوم!
وتفاصيل ما حدث، كما يذكر المؤلف «جيبسون» سالف الذكر، هو أن الكولونيل «فالديس» محافظ غرناطة، قام بالتوقيع على حكم إعدام لوركا بعد اتصالات أجراها برئيسه المباشر «كيبو دي يانو» قائد إشبيلية التي تتبعها مقاطعة غرناطة، واقتيد الشاعر مع مجموعة من المحكوم عليهم مثله من مبنى المحافظة إلى قرية على مشارف المدينة تدعى «فرنار»، بها مبنى يسمى «لاكولونيا» أي المستعمرة، حولته قيادة الانقلاب إلى سجن يودع فيه المحكوم عليهم بالإعدام المرسلون من غرناطة، وكان المدانون يصلون عادة إلى «المستعمرة» حوالي الواحدة أو الثانية صباحا، فيحبسونهم في الطابق السفلي حتى الفجر، وكانوا يسمحون لمن يريد منهم الإدلاء بالاعتراف الأخير إلى قسيس القرية، وعند الفجر، يقود الحراس المحكوم عليهم بالإعدام إلى مكان حول السجن، حيث يطلقون عليهم النار، ويتركونهم حيث يسقطون، إلى أن يرسلوا بعد ذلك بفرقة عهدوا إليها دفنهم جماعيا في الأماكن التي سقطوا فيها.
وتشير كل الدلائل إلى أن هذا هو ما حدث مع لوركا، فبعد أن قضى ساعات قليلة في سجن «المستعمرة»، اقتيد في الفجر بصحبة المقرر إعدامهم يومها، وكان منهم اثنان من مصارعي الثيران العاملين في صفوف الشيوعيين والمعروفين بالتطرف السياسي، وهبطوا بهم إلى مكان قريب لا يزال يدعى بالاسم العربي له وهو «عين الدمعة»
Aainadamar ، حيث أطلقوا عليهم الرصاص، لتظل جثثهم بعد ذلك في مكانها إلى أن يحضر اللحادون ليدفنوهم تحت إحدى أشجار الزيتون.
وهكذا يقضي الشاعر الأندلسي الذين جرؤ يوما على أن يقول: سقوط غرناطة العربية في يد الإسبان كان كارثة على الحضارة والمدنية، وبقي مدفونا تحت الأشجار الحبيبة إلى قلبه، دون أن يعرف له أحد قبرا حتى الآن، لتصدق النبوءة التي رددها يوما في إحدى قصائده حين يقول:
عبر أشجار الغار
تطير حمامتان دكناوان
كانت أولاهما الشمس
ناپیژندل شوی مخ