يومان، يوم قلى، ويوم تناء
وارتفعت التأوهات في الأركان، ثم ارتفع صوت آخر يترنم:
وكفى غراما أن أبيت متيما
شوقي أمامي والقضاء ورائي
وانتشرت التأوهات مرة أخرى، وتتابع الغناء حتى صفقت اليد داعية إلى الذكر من جديد، فتردد اسم الله بغير انقطاع، واستسلم للسماع، وزحف الليل، ثم ركضت الذكريات كالسحب، تمايل عم مهران الأب مع الذاكرين، وجلس الغلام عند النخلة يراقب المشهد بعينين مشدوهتين، وانبثقت من الظلمات أخيلة عن الخلود في كنف الرحمن، وومضت آمال باهرة نافضة عنها تراب النسيان، وتحت النخلة الوحيدة بشارع المديرية ندت همسات ندية كأفراح الفجر، وتكلمت سناء الصغيرة في حضنه بلغة فطرية ساحرة، ثم هبت أنفاس متقدة من أعماق الجحيم، توالت بعدها الضربات، وامتدت أنغام المنشد وآهات الذاكرين، ومتى يؤمل راحة، وضاع الزمان ولم أفز، والقضاء ورائي، وهذا المسدس المتوثب في جيبي له شأن. لا بد أن ينتصر على الغدر والفساد، ولأول مرة سيطارد اللص الكلاب.
وفرقع صوت مزعج تحت الكوة، وحاورته أصوات: يا خبر، الحي كله محاصر! - ولا أيام الحرب! - سعيد مهران!
انكمش في تكهرب، ويده تلتصق بمسدسه، وتحفزت فيه كل جارحة، وأجال في المكان نظرة زائغة؛ مكان مزدحم وفيه إغراء للمخبرين، يجب ألا تسبقني الحوادث، إنهم يتفحصون الآن البدلة وهناك الكلاب، وأنت هنا عار معرض للأبصار، وإن يكن طريق الصحراء ملغما فعلى خطوات يقع وادي الموت، وسأقاتل حتى الموت، ونهض مصمما مقتربا من الباب، الجميع غارقون في الذكر، والممر إلى الباب خال، ومرق من الباب ومضى نحو الطريق، ومال يسرة وهو يسير في هدوء مصطنع ثم انحدر في طريق المقابر؛ الليل راسخ ولكن القمر لم يطلع، والظلام جدار أسود يسد الطريق، وغاص وسط القبور في تيه من الفناء لا يهتدي بشيء، وتخبط في سيره لا يدري إن كان يتقدم أم يتأخر، ومع أن بارقة أمل واحدة لم تومض، إلا أنه طفح بحيوية خارقة .. وترامت إليه مع النسيم الدافئ ضوضاء، وتمنى أن يختفي في قبر، ولكنه لم يكف عن السير، وكان يخشى الكلاب، ولكن لم يكن في وسعه حيلة ولا في طاقته أن يقف، وبعد مسير دقائق وجد نفسه في الصف الأخير من القبور ورأى أمامه منظرا غير غريب، إنه مدخل القرافة الشمالي فيما يتصل بشارع نجم الدين. أجل هذا هو شارع نجم الدين، وهذا هو البيت الوحيد القائم فيه، وهذه هي الشقة، وها هي النافذة مفتوحة ينبعث منها نور، وأحد البصر فرأى في النافذة امرأة، ها هو رأسها مطموس المعالم، ولكنه يذكره بنور، وخفق قلبه خفقة مزلزلة، هل عادت نور؟ أو أن عينيه تخدعانه كما خدعه قلبه بالأمس؟! بت لعبة في أيدي الخدع وهذا نذير بالنهاية، وإن تكن هي نور فما يريد إلا أن ترعى سناء إذا حم القضاء. وقرر أن يناديها على ما في ذلك من مخاطرة، وقبل أن يخرج الصوت من حلقه ترامى من بعد نباح كلاب، ثم تتابع في الصمت كالطلقات المتفجرة، وتراجع في فزع، وأوغل بين القبور والنباح يشتد، وألصق ظهره بقبر ثم أشهر مسدسه وهو يحملق في الظلام موقنا بدنو الأجل، أخيرا جاءت الكلاب وانقطع الأمل، ونجا الأوغاد ولو إلى حين، وقالت حياته كلمتها الأخيرة بأنها عبث، ومن المستحيل تحديد مصدر النباح الذي ينطلق مع الهواء في كل موقع، ولا أمل في الهروب من الظلام بالجري في الظلام؛ نجا الأوغاد وحياتك عبث، واقتربت الضوضاء والنباح، وقريبا تتردد أنفاس الحقد والتشفي على وجهك. وحرك مسدسه في غضب والنباح يشتد ويقترب، وإذا بضوء ساطع باهر يغمر المنطقة في حركة دائرة، فأغمض عينيه وارتمى أسفل القبر، وهتف صوت في ظفر: سلم، لا فائدة من المقاومة!
وارتجت الأرض بوقع الأقدام الثقيلة المطوقة، وانتشر الضوء كالشمس: سلم يا سعيد!
اشتد التصاقه بالقبر متأهبا لإطلاق النار، ودار رأسه في كل مكان، وصاح صوت وقور: سلم، وأعدك بأنك ستعامل بإنسانية!
كإنسانية رءوف ونبوية وعليش والكلاب! - أنت محاصر من جميع الجهات، القرافة كلها محاصرة، فكر جيدا وسلم نفسك!
ناپیژندل شوی مخ