الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
اللص والكلاب
اللص والكلاب
تأليف
نجيب محفوظ
الفصل الأول
مرة أخرى يتنفس نسمة الحياة، ولكن في الجو غبار خانق، وحر لا يطاق، وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء، وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحدا. ها هي الدنيا تعود، وها هو باب السجن الأصم يبتعد منطويا على الأسرار اليائسة. هذه الطرقات المثقلة بالشمس، وهذه السيارات المجنونة، والعابرون والجالسون، والبيوت والدكاكين، ولا شفة تفتر عن ابتسامة .. وهو واحد، خسر الكثير، حتى الأعوام الغالية، خسر منها أربعة غدرا، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحديا، آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة. نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسما واحدا؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديما ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر، ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر، وسناء إذا خطرت في النفس انجاب عنها الحر والغبار والبغضاء والكدر، وسطع الحنان فيها كالنقاء غب المطر، ماذا تعرف الصغيرة عن أبيها؟ .. لا شيء، كالطريق والمارة والجو المنصهر، طوال أربعة أعوام لم تغب عن باله، وتدرجت في النمو وهي صورة غامضة، فهل يسمح الحظ بمكان طيب يصلح لتبادل الحب، ينعم في ظله بالسرور المظفر؟ والخيانة ذكرى كريهة بائدة، استعن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية، كصبرك الطويل وراء الجدران، جاءكم من يغوص في الماء كالسمكة، ويطير في الهواء كالصقر، ويتسلق الجدران كالفأر، وينفذ من الأبواب كالرصاص. ترى بأي وجه يلقاك؟ كيف تتلاقى العينان؟ أنسيت يا عليش كيف كنت تتمسح في ساقي كالكلب؟ ألم أعلمك الوقوف على قدمين؟ ومن الذي جعل من جامع الأعقاب رجلا؟ ولم تنس وحدك يا عليش، ولكنها نسيت أيضا، تلك المرأة النابتة في طينة نتنة اسمها الخيانة، ومن خلال هذا الكدر المنتشر لا يبسم إلا وجهك يا سناء، وعما قريب سأخبر مدى حظي من لقياك، عندما أقطع هذا الشارع ذا البواكي العابسة، طريق الملاهي البائدة، الصاعد إلى غير رفعة، أشهد أني أكرهك، الخمارات أغلقت أبوابها، ولم يبق إلا الحواري التي تحاك فيها المؤامرات، والقدم تعبر من آن؛ لأن نقرة مستقرة في الطوار كالمكيدة، وضجيج عجلات الترام يكركر كالسب، ونداءات شتى تختلط كأنما تنبعث من نفايات الخضر، أشهد أني أكرهك، ونوافذ البيوت المغرية حتى وهي خالية، والجدران المتجهمة المقشفة، وهذه العطفة الغريبة عطفة الصيرفي، الذكرى المظلمة، حيث سرق السارق، وفي غمضة عين انطوى، الويل للخونة، في هذه العطفة ذاتها زحف الحصار كالثعبان ليطوق الغافل، وقبل ذلك بعام خرجت من العطفة ذاتها تحمل دقيق العيد، والأخرى تتقدمك حاملة سناء في قماطها، تلك الأيام الرائعة التي لا يدري أحد مدى صدقها، فانطبعت آثار العيد والحب والأبوة والجريمة فوق أديم واحد، وتراءت الجوامع الشاهقة، وطارت رأس القلعة في السماء الصافية، وانساب الطريق في الميدان، وتجلت خضرة البستان تحت الأشعة الحامية، وهبت نسمة جافة رغم القيظ منعشة، ميدان القلعة بكل ذكرياته المحرقة، وكان على الوجه الذي لفحته الشمس أن ينبسط، وأن يصب ماء باردا على جوفه المستعر؛ كي يبدو مسالما أليفا، فيمثل دوره المرسوم كما ينبغي، واجتاز وسط الميدان متجها نحو سكة الإمام، ومضى فيها يقترب من البيت ذي الأدوار الثلاثة في نهايتها، وعلى مفرق عطفتين جانبيتين يتفرع إليهما الطريق الأول، في هذه الزورة البريئة سيكشف العدو عما أعده للقاء، فادرس طريقك ومواقعه، وهذه الدكاكين التي تشرئب منها الرءوس كالفيران المتوجسة، وجاءه صوت من وراء يقول: سعيد مهران! .. ألف نهار أبيض!
توقف عن المسير حتى أدركه الرجل، فتصافحا وهما يغطيان على انفعالاتهما الحقيقية بابتسامة باهتة، إذن بات للوغد أعوان، وسيرى قريبا ما وراء هذا الاستقبال، ولعلك تنظر من الشيش مستخفيا كالنساء يا عليش. - أشكرك يا معلم بياظة!
ولحق بهما كثيرون من الدكاكين على الجانبين، وارتفعت حرارة التهاني، وسرعان ما وجد نفسه مطوقا من جميع الجهات بحشد من أصدقاء غريمه ولا شك، واستبقت الحناجر قائلة: الحمد لله على سلامتك! - مبارك للأصدقاء والأحباب! - قلنا من القلوب سيفرج عنه في عيد الثورة!
فقال وهو يتفحصهم بعينيه اللوزيتين العسليتين: الشكر لله ولكم!
فربت بياظة على منكبه قائلا: تعال إلى الدكان لنشرب الشربات!
فقال بهدوء: فيما بعد، عند العودة. - العودة؟!
وصاح أحد الرجال موجها حنجرته إلى الدور الثاني من البيت: يا معلم عليش! .. يا معلم عليش، انزل هنئ سعيد مهران!
لا داعي للتحذير يا خنفساء، إني قادم في ضوء النهار .. وأعلم أنكم تترقبون .. وعاد بياظة يتساءل: العودة من أين؟ - لدي حساب يجب أن أسويه!
فتساءل بوجه ممتعض: مع من؟ - أنسيت أنني أب؟ .. وأن ابنتي الصغيرة عند عليش؟ - نعم، ولكل خلاف حل في الشرع!
وقال آخر: والتفاهم خير!
وثالث قال بنبرة المسالم: سعيد، أنت قادم من السجن، والعاقل من اتعظ!
فقال وهو يداري حنقه المختنق: من قال إني جئت لغير التفاهم؟!
وفتحت نافذة من الدور الثاني، وأطل منها عليش؛ فارتفعت الرءوس إليه في توتر، وقبل أن تبدر كلمة خرج من باب البيت رجل طويل عريض، في جلباب مقلم، ينتعل حذاء حكوميا، فعرف سعيد فيه المخبر حسب الله، وسرعان ما تظاهر بالدهش، وقال منفعلا: ماذا دعا إلى إقلاقك، وما جئت إلا للتفاهم؟
فمضى نحوه مسرعا، وتحسسه مفتشا عما يريب في صدره أو جيوبه، فعل ذلك بمهارة وخفة ودربة وهو يقول: اسكت يا بن الثعلب، ماذا تريد؟ - جئت للتفاهم على مستقبل ابنتي. - أنت تعرف التفاهم؟! - نعم، من أجل ابنتي! - عندك المحكمة! - سألجأ إليها عند اليأس!
وصاح عليش من أعلى: دعه يدخل، تفضلوا!
اجمعهم حولك يا جبان، إنما جئت أجس حصونك، وعند الأجل لا ينفع مخبر ولا جدار. ودخلوا حجرة استقبال، فتفرقوا فوق الكنب والمقاعد، وفتحت النوافذ، فاندفع الضوء والذباب، وتبدت في البساط السماوي نقط سود من أثر حروق، وحملق عليش من صورة كبيرة في الجدار، معتمدا بقبضتيه عصا غليظة، أما المخبر فقد جلس إلى جانب سعيد، وراح يعبث بحبات مسبحة، ودخل عليش سدرة في جلباب فضفاض منتفخ حول جسم برميلي، رافعا وجها مستديرا ممتلئ اللغد تحت ذقن مربعة، وأنف غليظ محطم العرنين، صافح سعيد متظاهرا بالشجاعة، وقال: حمدا لله على سلامتك!
وسرعان ما تأزم الجو بالصمت، وتبودلت نظرات قلقة حتى عاد عليش يقول وكأنما يرغب في فتح صفحة جديدة: ما فات فات، وكل ما حصل يقع كل يوم، وقد تحدث أمور مؤسفة، وتنهار صداقات قديمة، ولكن لا يعيب الرجل إلا العيب!
بدا سعيد وهو يتابعه بعينيه البراقتين، وجسمه النحيل القوي، كأنه نمر يتربص بفيل، ولم يسعه إلا أن يردد قوله: لا يعيب الرجل إلا العيب.
وحدجته أعين كثيرة عقب ترديده، وكفت يد المخبر عن العبث بحبات المسبحة؛ فأدرك هو ما يجول بخاطرهم، فقال مستدركا: أوافقك على ما قلت حرفا بحرف!
فقال المخبر بضجر: ادخلوا في الموضوع، واعفونا من اللف.
فتساءل سعيد بسخرية خفية: من أي ناحية؟ - ناحية واحدة هي التي يجوز الكلام فيها، وهي ابنتك!
وزوجتي وأموالي يا جرب الكلاب! الويل ... الويل! أريد أن أتلقى نظرة من عينيك؛ كي أحترم من الآن فصاعدا الخنفساء والعقرب والدودة، سحقا لمن يطرب لأنغام امرأة، لكنه هز رأسه بالإيجاب، فقال أحد ماسحي الجوخ: بنتك في الحفظ والصون، مع أمها، وشرعا يجب أن تبقى مع أمها بنت ستة أعوام، وإن شئت أزورك بها كل أسبوع ...
فرفع سعيد صوته متعمدا ليسمع من في الخارج: شرعا هي حق لي؛ لشتى الملابسات والظروف!
فتساءل عليش في غلظة: ماذا تقصد؟
ولكن المخبر عاجله قائلا: لن يجيء من الكلام إلا وجع الدماغ!
فقال عليش بيقين: لم أرتكب جريمة، ولكنها القسمة والنصيب، والواجب أيضا، واجب المروءة دفعني إلى ما فعلت، ومن أجل البنت الصغيرة أيضا!
واجب المروءة يا ابن الأفعى! الغدر والخيانة المزدوجة، المطرقة والفأس وحبل المشنقة، ولكن ما شكل سناء الآن؟ وقال بهدوء ما استطاع: لم أتركها في حاجة، كانت لديها أموالي؛ أموال طائلة!
فهتف المخبر: تقصد مسروقاتك؟! تلك التي أنكرتها في المحكمة! - ليكن، ولكن أين ذهبت؟!
فصاح عليش: ولا مليم! صدقوني يا رجال، كانت الحال لا يسر بها عدو ولا حبيب، وحقا قمت بالواجب.
فتساءل سعيد في تحد: خبرني، كيف أمكنك أن تعيش في سعة وأن تنفق على الآخرين؟
فصاح عليش محتدا: هل أنت ربنا حتى تحاسبني؟!
وقال رجل من ماسحي الجوخ: اخز الشيطان يا سعيد!
وقال المخبر: أنا عارفك وفاهمك، أنا خير من يقرأ داخل رأسك، ولكنك ستهلك نفسك، لا تخرج عن موضوع البنت، فهذا خير لك!
فتراجع سعيد باسما وهو يخفي عينيه في الأرض، وقال باستسلام: بالحق نطقت يا حضرة المخبر ... - أنا عارفك وفاهمك ولكنني سأماشيك احتراما لهؤلاء الرجال، هاتوا البنت، أليس الأفضل أن نعرف رأيها أولا؟ - كيف يا حضرة المخبر؟ - يا سعيد، أنا فاهمك، أنت لا تريد البنت، ولا تستطيع أن تأويها، ولن تجد لنفسك مأوى إلا بعد الجهد، ولكن من العدل والرحمة أن تراها، هاتوا البنت.
بل هاتوا أمها، كم أرغب أن تلتقي العينان؛ كي أرى سرا من أسرار الجحيم، الفأس والمطرقة. وقام عليش ليجيء بها، وعندما ترامى وقع الأقدام القادمة خفق قلب سعيد خفقة موجعة، وتطلع إلى الباب وهو يعض على باطن شفتيه، مسح تطلع شيق وحنان جارف جميع عواصف الحنق، وظهرت البنت بعينين داهشتين بين يدي الرجل، ظهرت بعد انتظار طال ألف سنة، وتبدت في فستان أبيض أنيق، وشبشب أبيض كشف عن أصابع قدميها المخضوبتين، وتطلعت بوجه أسمر، وشعر أسود مسبسب فوق الجبين، فالتهمتها روحه، وجعلت تقلب عينيها في الوجوه بغرابة، وفي وجهه خاصة باستنكار لشدة تحديقه، ولشعورها بأنها تدفع نحوه، وإذا بها تفرمل قدميها في البساط، وتميل بجسدها إلى الوراء. لم ينزع منها عينيه، ولكن قلبه انكسر، انكسر حتى لم يبق فيه إلا شعور بالضياع، كأنها ليست بابنته، رغم العينين اللوزيتين والوجه المستطيل والأنف الأقنى الطويل، ونداء الدم والروح ما شأنه؟ أم هو الآخر قد خان وغدر؟ وكيف له رغم ذلك كله بمقاومة هذه الرغبة الجامحة في ضمها إلى صدره حتى الفناء؟
وقال المخبر بضجر ودون اكتراث: أبوك يا شاطرة!
وقال عليش بوجه لا يبين عن شيء: سلمي على بابا.
كالفأرة! مم تخاف؟! ألا تدري كم يحبها؟! ومد نحوها يده، ولكنه بدل الكلام شرق فازدرد ريقه، وابتسم في رقة وإغراء، وقالت سناء: لا. وتحركت لتتسلل راجعة، لولا الرجل وراءها، وهتفت «ماما» فدفعها الرجل برقة وهو يقول: سلمي على بابا!
وتجلت في الأعين نظرات اهتمام، وشماتة، وآمن سعيد بأن جلد السجن ليس بالقسوة التي كان يظنها، وقال متوسلا: تعالي يا سناء!
ولم يعد يحتمل رفضها، فقام نصف قومة ومال نحوها، فهتفت: لا! - أنا بابا.
فرفعت عينيها إلى عليش سدرة مستغربة، فقال سعيد بإصرار: أنا بابا، أنا، تعالي!
فتأبت واشتد ميلها إلى الوراء، جذبها نحوه بشيء من القوة؛ صرخت، ضمها إلى صدره فدافعته باكية، ومال نحوها ليلثم - رغم هزيمته ويأسه - فاها، أو خدها، ولكن شفتيه لم تلثما إلا ساعدها المتحرك في عصبية غير راحمة. - أنا بابا، لا تخافي، أنا بابا!
وأفعمت رائحة شعرها روحه بذكرى أمها؛ فتقبضت أساريره، وازدادت البنت مدافعة وبكاء، حتى قال المخبر: على مهلك، البنت لا تعرفك!
فتركها تجري يائسا، ثم اعتدل في جلسته وهو يقول بغضب: سوف آخذها!
ومضت هنيهة صمت قبل أن يقول له بياظة: هدئ نفسك أولا!
فقال بإصرار: لا بد أن تعود إلي!
فقال المخبر بحدة: دع القرار للقاضي!
ثم التفت نحو عليش متسائلا: نعم؟!
فقال عليش: الأمر لا يخصني في شيء، ولكن أمها لن تفرط فيها إلا بالشرع!
فقال المخبر: كما قلت أول الأمر، كلمة واحدة لا ثاني لها، وهي المحكمة!
وشعر سعيد بأنه لو تمادى في الغضب لانفجر جنونه، فتسلط على مشاعره بقوة غير طبيعية مذكرا نفسه بأشياء كاد ينساها، وقال بهدوء نسبي: نعم، المحكمة!
فقال بياظة: والبنت كما ترى تعيش في رعاية وراحة!
وقال المخبر في لهجة لم تخل من سخرية: ابحث أولا عن طريق مستقيم تأكل منه لقمتك!
ورغم هذا بدا أنه يسيطر على نفسه أكثر فأكثر، حتى قال: نعم، كل هذا حق، ولا داعي للأسف من ناحيتي، وسأعاود التفكير في الأمر كله، ولا شك أنه خير أن أنسى الماضي، وأن أبحث عن عمل حتى أهيئ للبنت مكانا طيبا في الوقت المناسب.
وساد الصمت دهشة، فتبودلت نظرات مصدقة وغير مصدقة، وكور المخبر قبضته على المسبحة متسائلا: انتهينا؟
فقال سعيد: نعم، ولكني أريد كتبي! - كتبك؟! - نعم.
فصاح عليش: ضاع أكثرها بيد سناء، وسأحضر لك ما بقي منها.
وغاب الرجل برهة ثم عاد حاملا على يديه عامودا متوسطا من الكتب، فوضعه وسط الحجرة، وقام سعيد إلى المجموعة فتناول كتابا إثر آخر وهو يقول بأسف: ضاع أكثرها حقا!
وضحك المخبر متسائلا: من أين لك هذا العلم؟
ثم وهو ينهض معلنا انتهاء المقابلة: أكنت تسرق - فيما تسرق - الكتب؟
وابتسم الجميع، ولكن سعيد أقبل يحمل الكتب دون أن يبتسم.
الفصل الثاني
نظر إلى الباب المفتوح، المفتوح دائما كما عهده من أقصى الزمن، وهو يقترب منه ضاربا في طريق الجبل، مثوى ذكريات ورحمة في حي الدراسة القائم بين ذراعي المقطم؛ الأرض أطفال ورمال ودواب، وهو من التعب والانفعال يلهث، وجرت عيناه وراء الصغيرات من البنات بلا ملل، وما أكثر الكسالى المستلقين في ظل الجبل، بعيدا عن الشمس المائلة، ووقف على عتبة الباب المفتوح قليلا، ينظر ويتذكر، ترى متى عبر هذه العتبة آخر مرة؟ يا له من مسكين بسيط كالمساكين في عهد آدم؛ حوش كبير غير مسقوف، في ركنه الأيسر نخلة عالية مقوسة الهامة، وإلى اليمين من دهليز المدخل باب حجرة وحيدة مفتوح، لا باب مغلق في هذا المسكن العجيب، وخفق قلبه فأرجعه إلى عهد بعيد طري، طفولة وأحلام وحنان أب وأخيلة سماوية، المهتزون بالأناشيد يملئون الحوش، والله في أعماق الصدور يتردد، انظر واسمع وتعلم وفتح قلبك .. هكذا كان يقول الأب، وفرحة كالجنة بعثها الحلم والإيمان، وفرحة بالغناء والشاي الأخضر أيضا، ترى كيف حالك يا شيخ علي يا جنيدي يا سيد الأحياء؟ وترامى إليه صوت من داخل الحجرة وهو يختم الصلاة، فابتسم سعيد ومرق من باب الحجرة حاملا كتبه. هاك الشيخ متربعا على سجادة الصلاة، غارقا في التمتمة. هي الحجرة القديمة، لم يكد يتغير منها شيء؛ الحصر جددت شكرا للمريدين، وما زال الفراش البسيط لصق الجدار الغربي، وشعاع الشمس المائلة ينسكب من كوة عند قدميه، أما بقية الجدران فقد اختفى أسفلها وراء أرفف المجلدات، ورائحة البخور المستقرة كأنما لم تتبخر منذ عشرات الأعوام. تخفف من حمله واقترب من الشيخ قائلا: السلام عليكم يا سيدي ومولاي!
أتم الشيخ تمتمته، ثم رفع رأسه عن وجه نحيل فائض الحيوية بين الإشراق، تحف به لحية بيضاء كالهالة، وعلى الرأس طاقية بيضاء منغرزة في سوالف كثة فضية، حدجه بعين رأت الدنيا ثمانين عاما، ورأت الآخرة، عين لم تفقد جاذبيتها ونفاذها وسحرها، فلم يملك سعيد من أن يهوي على يده فيقبلها وهو يدفع دمعة باطنية استقطرها من جو الذكريات والأب والأمل والسماء في الماضي البعيد. - وعليكم السلام ورحمة الله.
هذا صوت زمان! ترى كيف كان صوت أبيه؟ كأنما يتذكر صوت أبيه بعينيه، فيرى وجهه وشفتيه وهما يتحركان، ولكن الصوت انتهى. وأين المريدون؟ أين أهل الذكر؟ يا سيدي محمد على بابك! وتربع أمامه على الحصيرة وهو يقول: أجلس دون استئذان لأني أذكر أنك تحب ذلك!
شعر بأن الشيخ ابتسم من دون أن ترتسم على شفتيه الغارقتين في البياض ابتسامة، ترى هل تذكره؟ - لا تؤاخذني لا مكان لي في الدنيا إلا بيتك ...
ترك الشيخ رأسه يهوي في صدره وهو يقول بصوت هامس: أنت تقصد الجدران لا القلب!
فتنهد سعيد، وبدا لحظة كأنه لم يفهم شيئا، ثم قال بصراحة ودون مبالاة: خرجت اليوم فقط من السجن!
فأغمض الشيخ عينيه متسائلا: السجن؟! - نعم، أنت لم ترني منذ أكثر من عشرة أعوام، وفي تلك الفترة من الزمن حدثت أمور غريبة، ولعلك سمعت عنها من بعض مريديك الذين يعرفونني! - لأنني أسمع كثيرا لا أكاد أسمع شيئا! - على أي حال، لا أحب أن ألقاك متنكرا؛ لذلك أقول لك: إنني خرجت اليوم فقط من السجن!
فهز رأسه في بطء وهو يفتح عينيه قائلا فيما يشبه الأسى: أنت لم تخرج من السجن!
فابتسم سعيد، كلمات العهد القديم تتردد من جديد، حيث لكل لفظ معنى غير معناه، وقال: يا مولاي، كل سجن يهون إلا سجن الحكومة!
فرنا إليه بعين رائقة ثم تمتم: يقول إن كل سجن يهون إلا سجن الحكومة!
فابتسم سعيد مرة أخرى، كاد ييأس من التلاقي. ثم تساءل في حرارة: هل تذكرتني؟
فغمغم الشيخ دون مبالاة: ولك الساعة التي أنت فيها!
ومع أنه لم يشك في أنه تذكره، إلا أنه تساءل مستزيدا من الثقة: وأبي عم مهران الله يرحمه؟ - الله يرحمنا! - ما أجمل الأيام الماضية! - قل ذلك إن استطعت عن الساعة! - ولكن ... - الله يرحمنا! - قلت: إني خارج اليوم من السجن!
فهز رأسه في طرب مفاجئ قائلا: «وقال وهو على الخازوق باسما: جرت مشيئته بأن نلقاه هكذا!» - أبي كان يفهمك، كم أعرضت عني حتى خلتك تطردني طردا، ورجعت بقدمي إلى جو البخور والقلق، هكذا يفعل موحش القلب الذي لا بيت له. وقال: مولاي، قصدتك في ساعة أنكرتني فيها ابنتي!
فقال الشيخ متأوها: يضع سره في أصغر خلقه!
فقال جادا: قلت لنفسي إذا كان الله قد مد له العمر، فسأجد الباب مفتوحا.
فقال الشيخ بهدوء: وباب السماء كيف وجدته؟ - لكني لا أجد مكانا في الأرض، وابنتي أنكرتني! - ما أشبهها بك! - كيف يا مولاي؟ - أنت طالب بيت لا جواب.
فأسند رأسه المفلفل إلى يده المعروقة الدكناء وقال: كان أبي يقصدك عند الكرب، وجدت نفسي ...
فقاطعه بهدوء لا يخرج عنه: أنت تريد بيتا ليس إلا!
تضاعف شعوره بأنه يعرفه، وقلق دونما سبب مفهوم، وقال: ليس بيتا فحسب، أكثر من ذلك، أود أن أقول: اللهم ارض عني!
فقال الشيخ كالمترنم: قالت المرأة السماوية: «أما تستحي أن تطلب رضا من لست عنه براض؟!»
وضج الخلاء في الخارج بنهيق حمار ختم بحشرجة كالبكاء، وغنى صوت لا حلاوة فيه «البخت والقسمة فين؟» كما ضبطه أبوه وهو يغني «حزر فزر»؛ فلكمه برحمة وقال له: أهذه أغنية مناسبة ونحن في الطريق إلى الشيخ المبارك؟ وترنح الأب وسط الذكر، غابت عيناه، بح صوته، تصبب عرقا، وجلس هو عند النخلة يشاهد صفي المريدين تحت ضوء الفانوس، ويقضم دومة، وينعم بسعادة عجيبة، وكان ذلك سابقا لنزول أول قطرة حارقة من شراب الحب، وأغمض الشيخ عينيه فكأنه نام. وألف هو المنظر والجو، حتى البخور لم يعد يشمه، وطرأت فكرة بأن العادة أساس الكسل والملل والموت، وهي المسئولة عما عانى من خيانة وجحود وضياع جهد العمر سدى، وتساءل ليوقظه: ألا تزال تحيا الأذكار هنا؟
فلم يجبه، وساوره القلق، فعاد يسأل: ألا ترحب بي؟
ففتح الشيخ عينيه قائلا: ضعف الطالب والمطلوب! - لكنك صاحب البيت!
فقال في مرح طارئ: صاحب البيت يرحب بك، وهو يرحب بكل مخلوق، وبكل شيء.
فابتسم سعيد متشجعا، فاستدرك الشيخ قائلا: أما أنا فصاحب لا شيء!
وكان ضوء الشمس المرسوم على الحصيرة قد انسحب إلى الجدار، فقال سعيد: على كل حال فهذا البيت بيتي، كما كان بيت أبي، وبيت كل قاصد، وأنت يا مولاي جدير بكل شكر!
فقال الشيخ: اللهم إنك تعلم عجزي عن مواضع شكرك، فاشكر نفسك عني، هكذا قال بعض الشاكرين!
فقال سعيد برجاء: إني في حاجة إلى كلمة طيبة.
فقال في عتاب حليم: لا تكذب!
وأحنى رأسه حتى انتشرت لحيته على صدره وراح مستغرقا، انتظر سعيد صابرا، ثم تزحزح إلى الوراء ليسند ظهره إلى رف من رفوف الكتب، وجعل يتأمل الشيخ الجميل، ولما طال انتظاره سأله: هل من خدمة أؤديها لك؟
فلم يعن بالالتفات إلى قوله، ومضى زمن صامت، وعينا سعيد تتابع طابورا من النمل يزحف بخفة بين ثنيات الحصيرة، وإذا بالشيخ يقول: خذ مصحفا واقرأ!
فارتبك سعيد قليلا، ثم قال بلهجة المعتذر: غادرت السجن اليوم ولم أتوضأ! - توضأ واقرأ!
فقال بلهجة جديدة شاكية: أنكرتني ابنتي، وجفلت مني كأني شيطان، ومن قبلها خانتني أمها!
فعاد الشيخ يقول برقة: توضأ واقرأ! - خانتني مع حقير من أتباعي، تلميذ كان يقف بين يدي كالكلب، فطلبت الطلاق محتجة بسجني، ثم تزوجت منه! - توضأ واقرأ!
فقال بإصرار: ومالي، النقود والحلي، استولى عليها، وبها صار معلما قد الدنيا، وجميع أنذال العطفة أصبحوا من رجاله! - توضأ واقرأ!
بعبوس وقد انتفخت عروق جبينه: لم يقبض علي بتدبير البوليس، كلا، كنت كعادتي واثقا من النجاة، الكلب وشى بي، بالاتفاق معها وشى بي، ثم تتابعت المصائب حتى أنكرتني ابنتي!
فقال الشيخ بعتاب: توضأ واقرأ:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ، واقرأ:
واصطنعتك لنفسي
وردد قول القائل: «المحبة هي الموافقة، أي الطاعة له فيما أمر، والانتهاء عما زجر، والرضا بما حكم وقدر.»
ها هو أبي يسمع ويهز رأسه طربا، ويرمقني باسما كأنما يقول لي: اسمع وتعلم، وأنا سعيد وأود غفلة لأتسلق النخلة، أو أرمي طوبة لأسقط بلحة، وأترنم سرا مع المنشدين، ومع العودة ذات مساء إلى بيت الطلبة بالجيزة رأيتها مقبلة تحمل سلة، جميلة وجذابة، طاوية هيكلها على جميع ما قدر لي من هناء الجنة وعذاب الجحيم. ماذا كان يعجبك من إنشاد المنشدين؟ لما بدا لاح منار الهدى، ورأيت الهلال ووجه الحبيب، لكن الشمس لم تغرب بعد. آخر خيط ذهبي يتراجع من الكوة، أمامي ليلة طويلة، هي أولى ليالي الحرية، وحدي مع الحرية، أو مع الشيخ الغائب في السماء، المردد لكلمات لا يمكن أن يعيها مقبل على النار، ولكن هل من مأوى آخر آوي إليه؟
الفصل الثالث
قلب صفحات جريدة «الزهرة» حتى عثر على ركن الأستاذ رءوف علوان، وراح يقرأ بشغف وهو لم يزل على مبعدة أذرع من بيت الشيخ علي الجنيدي، حيث قضى ليلته، لكن من أي مداد يستمد رءوف علوان وحيه؟ ملاحظات عن موضة السيدات، مكبرات الصوت، رد على شكوى زوجة مجهولة! أفكار لذيذة حقا، ولكن أين رءوف علوان؟ بيت الطلبة وتلك الأيام العجيبة الماضية، الحماس الباهر الممثل في صورة طالب ريفي، رث الثياب، كبير القلب، والقلم الصادق المشع، ترى ماذا حدث للدنيا؟ وماذا وراء هذه الأعاجيب والأسرار؟ وهل ثمة أحداث وقعت كأحداث عطفة الصيرفي؟ حوادث نبوية وعليش والبنت الصغيرة المحبوبة التي أنكرت أباها، علي أن أقابله، الشيخ أعطاني فراشا فوق الحصيرة للنوم، ولكني في حاجة إلى نقود، علي أن أبدأ الحياة من جديد يا أستاذ علوان، أنت لا تقل عظمة عن الشيخ علي، أنت أهم ما لدي في هذه الحياة التي لا أمان لها، وتوقف عن السير أمام مبنى جريدة الزهرة بميدان المعارف، ضخم حقا، بحيث لا يسهل السطو عليه! وهذا الطابور من السيارات المحدق به كحراس الجدران الرهيبة، وأصوات المطابع وراء قضبان البدروم، كهينمة الراقدين في العنابر، ودخل ضمن تيار الداخلين، ثم وقف أمام مكتب الاستعلامات وسأل بصوته الغليظ النبرات: الأستاذ رءوف علوان؟
فرمقه الموظف فيما يشبه الامتعاض لنظرة عينيه اللوزيتين الجريئة لحد الوقاحة، وأجابه بجفاء: الدور الرابع.
قصد من توه المصعد، فوقف بين قوم بدا فيهم غريب المنظر ببدلته الزرقاء، وحذائه المطاط، وزاد من غرابته نظرته الحادة الجريئة، وأنفه الأقنى الطويل، ولمح بين الواقفين فتاة فلعن في سره نبوية وعليش، وتوعدهما بالويل، وما إن انتهى إلى طرقة الدور الرابع حتى مرق إلى حجرة السكرتير قبل أن يتمكن الساعي من اعتراضه، وجد نفسه في حجرة كبيرة مستطيلة زجاجية الجدار المطل على الطريق، وليس بها موضع لجالس، وسمع السكرتير وهو يؤكد لمتحدث في التليفون أن الأستاذ رءوف مجتمع برئيس التحرير، وأنه لن يعود قبل ساعتين، شعر بأنه غريب حقا، لكنه وقف دون مبالاة، يحملق في الوجوه بوقاحة كأنما يتحداهم، وقديما كان يرمق أمثالهم بعين تود ذبحهم، فما حال هؤلاء اليوم؟ أما رءوف فلن يصفو له هنا، وما هذا المكان بالملتقى المناسب للأصدقاء القدامى، ورءوف اليوم رجل عظيم فيما يبدو، عظيم جدا كهذه الحجرة، ولم يكن فيما مضى إلا محررا بمجلة النذير، مجلة منزوية بشارع محمد علي، ولكنها كانت صوتا مدويا للحرية، ترى كيف أنت اليوم يا رءوف ؟ هل تغير مثلك يا نبوية؟ هل ينكرني مثلك يا سناء؟ ولكن بعدا لأفكار السوء، هو الصديق والأستاذ، وسيف الحرية المسلول، وسيظل كذلك رغم العظمة المخيفة والمقالات الغريبة، وسكرتاريته الرفيعة، وإذا كانت هذه المجلة لن تمكنني من عناقك، فمن دفتر التليفون سأعرف مسكنك!
افترش العشب الندي عند كورنيش النيل بشارع النيل، ومضى ينتظر، انتظر طويلا على كثب من شجرة حجبت ضوء المصباح الكهربائي، تحت سماء غاب عنها الهلال مبكرا تاركا النجوم تومض في ظلمة رهيبة، وجرت نسمة رقيقة لطيفة مقطرة من أنفاس الليل عقب نهار أحمر، طغى فيه الصيف طغيانه، ولم تفارق عيناه الفيلا رقم 18 لحظة واحدة، موليا النيل ظهره، شابكا راحتيه حول ركبتيه، يا لها من فيلا خالية من ثلاث جهات، والجهة الرابعة حديقة مترامية، وأشباح هذه الأشجار تتناجى حول جسد الفيلا الأبيض، منظر قديم طالما شهد بالثراء وذكريات التاريخ. ولكن كيف؟ ما الوسيلة؟ وفي هذه المدة القصيرة؟ حتى اللصوص لا يحلمون بذلك، اعتدت في الماضي ألا أنظر إلى الفيلا هكذا إلا عند رسم خطة للسطو عليها، فكيف آمل اليوم مودة وراء فيلا؟! رءوف علوان أنت لغز، وعلى اللغز أن يتكلم، أليس عجيبا أن يكون علوان على وزن مهران؟! وأن يمتلك عليش تعب عمري كله بلعبة الكلاب؟
ووثب واقفا عند توقف سيارة أمام باب الفيلا، ولما رأى البواب يفتح الباب على مصراعيه عبر الطريق بسرعة خاطفة، ثم تصدى للسيارة منحنيا قليلا ليراه صاحبها، ولكن الرجل لم يعرفه في الظلام، فهتف بصوته الغليظ القوي: أستاذ رءوف .. أنا سعيد مهران!
اقترب رأس الرجل من النافذة المفتوحة وهو يقول بصوت حلقي متزن: سعيد! .. أووه!
لم يستطع قراءة وجهه، لكنه وجد في لهجته ما شجعه، ومضت هنيهة صمت وجمود دون أن يفتح باب السيارة، ثم فتح الباب وجاءه الصوت قائلا: اركب!
بداية حسنة، رءوف علوان هو رءوف علوان بالرغم من السكرتارية الزجاجية والفيلا العجيبة. وانحدرت السيارة في ممشى كضلع القيثارة متجهة نحو مدخل السلاملك. - سعيد، كيف حالك يا رجل، ومتى خرجت؟ - أمس ... - أمس؟ - نعم ، كان يجب أن أقصدك ولكني شغلت بمسائل عاجلة، وكنت في حاجة إلى الراحة فبت ليلتي عند الشيخ علي الجنيدي، أتذكره؟
فقال وهما يغادران السيارة إلى بهو الاستقبال: أوووه! شيخ المرحوم والدك، شهدت حلقاته معك أكثر من مرة! - كانت مسلية! - وكان يعجبني غناء المنشدين.
وأضاء خادم النجفة فخطفت بصر سعيد بمصابيحها الصاعدة، ونجومها وأهلتها. وعلى ضوئها المنتشر تجلت مرايا الأركان عاكسة الأضواء، وتبدت التحف الثاوية على الحوامل المذهبة، كأنما بعثت من ظلمات التاريخ، وتهاويل السقف، وزخارف الأبسطة والمقاعد الوثيرة، والوسائد المستقرة عند ملقى الأقدام، وأخيرا استقر البصر على وجه الأستاذ الممتلئ المستدير، ذلك الوجه الذي طالما عشقه وحفظه عن ظهر قلب، لطول ما أحدق فيه منصتا، وبينا راح الخادم يفتح بابا مطلا على الحديقة في الجدار الأيسر، ويكشف عنه ستائره، مضى وهو ينظر إلى الأستاذ، ويلحظ الروائع مسترقا، وسرعان ما جرى تيار دسم مفعم بالعبير، واختلطت الأضواء بالشذا، فأوشك رأسه أن يدور، وجهه امتلأ كوجه بقرة، وشيء خفي سرى في شخصه جعله ممتنعا رغم طلاقة الوجه وحسن السلوك وابتسامة الثغر، وثمة رائحة سحرية لا تصدر إلا عن دم أزرق رغم أنفه المائل إلى الفطس، وفكيه البارزين، وقلبه يخفق في إشفاق، ويتساءل عن المقر إن انهدم الركن الوحيد الباقي، وجلس رءوف على كنبة قريبة من باب الفراندا، وأشار إليه أن يجلس على مقعد وثير يمثل جانبا من ضلع لمربع من المقاعد تطوق عامودا نورانيا شفافا موشى بصور أسطورية، فجلس بلا تردد وبلا مبالاة كعادته، ومد الأستاذ ساقيه الطويلتين متسائلا: هل جئتني في الجريدة؟ - نعم ولكني اقتنعت بأنها مكان غير مناسب للقاء!
فضحك عن أسنان اكتنف منابتها لون أسود، ثم قال: الجريدة عبارة عن دوامة لا تهدأ، وهل انتظرت هنا طويلا؟ - عمر كامل!
فضحك رءوف مرة أخرى وقال بلهجة ذات معنى: لا شك أنك عرفت هذا الطريق من قبل؟!
فضحك سعيد أيضا قائلا: طبعا، عرفت فيه زبائن لا ينسى فضلهم، فيلا فاضل باشا حسنين وقد خرجت من زيارتها بألف جنيه، وقرط ماسي نادر من فيلا الممثلة كواكب ...
وجاء الخادم يدفع أمامه نضدا قامت عليه زجاجة وكأسان، وجردل صغير أنيق بنفسجي اللون ملئ ثلجا، وطبق نضد فوقه التفاح على هيئة هرم، وصحاف فواتح شهية، وإبريق مياه فضي، وأومأ الأستاذ للخادم فانسحب وراح يملأ بنفسه الكأسين، ثم قدم إحداهما إلى سعيد، ورفع الأخرى قائلا: صحة الحرية!
وأفرغ سعيد كأسه دفعة واحدة على حين تناول رءوف رشفة ثم سأله: وكيف حال بنتك؟ أوووه، نسيت أسألك: لم بت ليلتك عند الشيخ علي؟
إنه لم يدر شيئا، ولكنه ما زال يذكر أنه أنجب بنتا، وفي إيجاز بارد وقاس سرد له تاريخ مأساته حتى قال: أمس زرت عطفة الصيرفي فوجدت مخبرا في انتظاري كما توقعت، وأنكرتني ابنتي وصرخت في وجهي!
وملأ كأسا أخرى دون استئذان، فقال رءوف: حكاية مؤسفة، أما بنتك فمعذورة أنها لا تتذكرك، وسوف تعرفك وتحبك ... - لم تعد لي ثقة في جنسها كله! - هكذا أنت الآن، أما غدا فمن يدري؟ ستغير رأيك بنفسك، وهذا هو حال الدنيا!
ورن جرس التليفون فقام رءوف إليه وتناول السماعة، ثم أصغى قليلا، وسرعان ما ابتهج وجهه بابتسامة عريضة، فرفعه ومضى به إلى الفراندا، تابعه سعيد من أول الأمر بعينيه الحادتين، امرأة؟! هذه الابتسامة وهذه الرحلة إلى الظلام لا تكونان إلا لامرأة، ترى أما زال أعزب؟ ها هما يجلسان جنبا إلى جنب، يتبادلان الشراب والحديث، ولكن ثمة شعور كالإحساس الخفي المنذر باكتشاف دمل يوسوس له بأن معاودة هذا اللقاء شيء عسير حقا، لا يدري لماذا يطبق عليه؟ وهو يصدقه كإنسان يعتمد كثيرا على غرائزه الملهمة، إنه اليوم من أهل الطريق الذي لم يعتد زيارته إلا معتديا، ولعله تورط في الترحيب به مضطرا، ولعله تغير حقا فلم يبق من الشخص القديم إلا ظل صورته، وجلجلت ضحكة في الفراندا فازداد تشاؤما، وتناول تفاحة بهدوء ومضى يقضمها، ما حياته إلا امتداد لأفكار هذا الرجل الضاحك في التليفون فإذا كان قد خانها فالويل له، وأخيرا عاد رءوف علوان من الفراندا، فوضع التليفون على حامله، ثم جلس وهو يبدو راضيا تماما: مباركة عليك الحرية، هي كنز ثمين يعزي عن فقد أي شيء مهما غلا!
فتناول قطعة من البسطرمة وهو يهز رأسه بالإيجاب، ولكن دون اهتمام جدي: وها أنت تخرج من السجن لتجد دنيا جديدة!
وملأ كأسين ومضى سعيد يلتهم ألوان الطعام بشراهة، وحانت منه نظرة إلى صاحبه فابتسم هذا بسرعة ليغطي على نظرة امتعاض! أنت مجنون إن تصورت أنه يرحب بك من قلبه، ما هي إلا مجاملة بنت حياء، ولن يلبث أن يتبخر هذا الحياء، كل خيانة تهون إلا هذه، يا للفراغ الذي سيلتهم الدنيا. ومد رءوف يده إلى علبة سجائر محلاة بنقوش صينية في تجويف بالعامود المضيء فتناول سيجارة وهو يقول: يا عم سعيد، زال تماما جميع ما كان ينغص علينا صفو الحياة!
فقال سعيد من فم مكتظ: طالما هزتنا الأنباء في السجن، من كان يحلم بشيء كهذا؟!
ثم وهو يحدجه بنظرة باسمة: لا حرب الآن! - لتكن هدنة! ولكل جهاد ميدان!
وألقى سعيد نظرة فيما حوله قائلا: وهذا البهو الرائع كالميدان.
وأسف على إفلات هذه الملاحظة، ولمح في عيني صاحبه نظرة باردة، ألا يعرف لسانك ما الأدب! وتساءل رءوف بهدوء غاضب: أي وجه شبه بين هذا البهو والميدان؟
فزاغ قائلا: أقصد أنه مثال للذوق الرفيع!
فضيق رءوف عينيه امتعاضا، وقال بسخط واضح: المراوغة عبث، أفصح عما بنفسك، أنا أفهمك وأنت خير من يعرف ذلك!
فضحك سعيد متوددا وهو يقول: لم أقصد سوءا على الإطلاق! - يجب أن تذكر دائما أني أعيش بعرقي وكدي. - هذا ما لا شك فيه مطلقا، بالله لا تغضب هكذا.
فراح يدخن السيجارة بسرعة عصبية دون أن ينطق، حتى اضطر سعيد إلى التوقف عن الأكل، وقال بلهجة المعتذر: لم أتخلص بعد من جو السجن، فيلزمني وقت طويل حتى أسترجع آداب الحديث والسلوك، ولا تنس أن رأسي ما زال دائرا من أثر المقابلة الغريبة التي أنكرتني فيها ابنتي ...
والظاهر أن رءوف أعرب عن عفوه برفع حاجبيه الصاعدة شعيراتهما إلى أعلى، ولما رأى عيني الرجل تنتقلان بين وجهه وبين الطعام كأنما يستأذنه في معاودة الأكل قال بهدوئه السابق: كل!
فهجم سعيد على بقايا الصحاف - بلا تردد ولا تأثر بما كان - حتى مسحها، وعند ذاك قال رءوف، ولعله رغب في إنهاء المقابلة: يجب أن يتغير الحال تماما، هل فكرت في المستقبل؟
فقال سعيد وهو يشعل سيجارة: لم يسمح الماضي بعد بالتفكير في المستقبل! - يخيل إلي أن النساء أكثر عددا من الرجال، فلا تكترث لخيانة امرأة، أما بنتك فستعرفك يوما وتحبك، المهم الآن أن تبحث لك عن عمل.
فقال وهو ينظر إلى تمثال إله صيني بدا آية في الوقار والنعاس: تعلمت في السجن الخياطة!
فتساءل الأستاذ في دهشة: أترغب في أن تفتح دكان خياط؟
فقال بهدوء: بكل تأكيد كلا! - ماذا إذن؟
فقال وهو يحدجه بنظرة وقحة: لم أتقن في حياتي إلا حرفة واحدة.
فتساءل كالمنزعج: أترجع إلى اللصوصية؟ - هي مجزية جدا كما تعلم!
فصرخ بحدة: «كما تعلم»؟! من أين لي أن أعلم؟!
فرمقه بدهشة قائلا: لم تغضب هكذا؟ قصدت أن أقول كما تعلم عن ماضي، أليس كذلك؟
وخفض رءوف عينيه كأنما يقنع نفسه بقوله، ولكن وضح أنه لم يعد في الإمكان أن يعود وجهه إلى صفائه الطبيعي، وقال بلهجة من يرغب في الإجهاز على الحديث: سعيد، ليس اليوم كالأمس، كنت لصا وكنت صديقا لي في ذات الوقت لأسباب أنت تعرفها، ولكن اليوم غير الأمس، إذا عدت إلى اللصوصية فلن تكون إلا لصا فحسب!
فانتتر واقفا في عصبية وهو يواجه اليأس في صراحته القاسية، ولكنه خنق انفعاله بإرادة من حديد، فعاد إلى الجلوس وهو يقول بهدوء: اختر لي عملا مناسبا! - أي عمل، تكلم أنت وأنا مصغ إليك!
فقال بسخرية خفية في الأعماق: يسعدني أن أعمل صحفيا في جريدتك! أنا مثقف، وتلميذ قديم لك، قرأت تلالا من الكتب بإرشادك، وطالما شهدت لي بالنجابة.
فهز رءوف رأسه في ضجر حتى لعب الضوء فوق شعره الأسود الغزير وقال: لا وقت للمزاح، أنت لم تمارس الكتابة قط، وأنت خرجت أمس فقط من السجن ، وأنت تعبث وتضيع وقتي بلا طائل!
فقال بامتعاض: إذن، علي أن أختار عملا حقيرا؟ - لا عمل حقير على الإطلاق ما دام شريفا.
غلبته المرارة بعد اليأس، فلم يعد يبالي شيئا، وبسرعة جرى ببصره في أنحاء البهو الأنيق، ثم قال فيما يشبه التحدي: ما أجمل أن ينصحنا الأغنياء بالفقر!
فكان جوابه أن نظر في ساعته، فقال سعيد برقة: أنا واثق من أنني أخذت من وقتك أكثر مما يجوز!
فقال رءوف بصراحة شمس يوليو: نعم، فأنا مرهق بالعمل!
فوقف وهو يقول: أشكر لك الضيافة والعشاء ونبل الأخلاق!
وأخرج روءف حافظة نقوده فأعطاه منها ورقتين من ذات الخمسة الجنيهات قائلا: حتى تفرج، ولا تؤاخذني إذا قلت لك إنني مرهق بالعمل، وإنه من النادر أن تجدني خاليا كما وجدتني الليلة.
فتناول الجنيهات باسما، وصافحه بحرارة، ثم قال بنبرة رجاء: ربنا يتم نعمته عليك!
الفصل الرابع
هذا هو رءوف علوان، الحقيقة العارية، جثة عفنة لا يواريها تراب، أما الآخر فقد مضى كأمس، أو كأول يوم في التاريخ، أو كحب نبوية، أو كولاء عليش! أنت لا تنخدع بالمظاهر؛ فالكلام الطيب مكر، والابتسامة شفة تتقلص، والجود حركة دفاع من أنامل اليد، ولولا الحياء ما أذن لك بتجاوز العتبة، تخلقني ثم ترتد، تغير بكل بساطة فكرك بعد أن تجسد في شخصي، كي أجد نفسي ضائعا بلا أصل وبلا قيمة وبلا أمل، خيانة لئيمة لو اندك المقطم عليها دكا ما شفيت نفسي، ترى أتقر بخيانتك - ولو بينك وبين نفسك - أم خدعتها كما تحاول خداع الآخرين؟ ألا يستيقظ ضميرك ولو في الظلام؟ أود أن أنفذ إلى ذاتك كما نفذت إلى بيت التحف والمرايا بيتك، ولكني لن أجد إلا الخيانة، سأجد نبوية في ثياب رءوف، أو رءوف في ثياب نبوية، أو عليش سدرة مكانهما، وستعترف لي الخيانة بأنها أسمج رذيلة فوق الأرض، من وراء الظهر تبادلت الأعين نظرات مريبة قلقة مضطربة كتيار الشهوة التي يحملها، كالقطة الزاحفة على بطنها في هيئة الموت نحو عصفورة سادرة، وغلبت الانتهازية ثمالة الحياء والتردد فقال عليش سدرة في ركن عطفة، أو ربما في بيتي: «سأدل البوليس عليه لنتخلص منه»، فسكتت أم البنت، سكت اللسان الذي طالما قال لي بكل سخاء: أحبك يا سيد الرجال، هكذا وجدت نفسي محصورا في عطفة الصيرفي، ولم يكن الجن نفسه يستطيع أن يحاصرني، وانهالت علي اللكمات والصفعات، كذلك أنت يا رءوف، لا أدري أيكما أخون من الآخر، ولكن ذنبك أفظع يا صاحب العقل والتاريخ، أتدفع بي إلى السجن، وتثب أنت إلى قصر الأنوار والمرايا؟! أنسيت أقوالك المأثورة عن القصور والأكواخ؟ أما أنا فلا أنسى!
وبلغ جسر عباس، فجلس على أريكة حجرية، وانتبه إلى الطريق لأول مرة؛ وقال بصوت مسموع كأنما يخاطب الظلام: خير البر عاجله، الساعة وقبل أن يفيق من دهشته! لا سبيل إلى التردد، فمهنتك هي مهنتك، صالحة وعادلة، وبخاصة عندما تطبق على فيلسوفها، وعندما أفرغ من تأديب الأوغاد فسأجد في الأرض متسعا للاختفاء، هل يمكن أن أمضي في الحياة بلا ماض، فأتناسى نبوية وعليش ورءوف؟ لو استطعت لكنت أخف وزنا، وأضمن للراحة، وأبعد عن حبل المشنقة، ولكن هيهات أن يطيب العيش إلا بتصفية الحساب، لن أنسى الماضي لسبب بسيط، هو أنه حاضر - لا ماض - في نفسي. وستكون مغامرة الليلة خير ابتداء أفتتح به العمل، وستكون مغامرة دسمة، وجرى النيل كأمواج من الظلام تنغرس في جنباتها أسهم الضياء المنعكسة من مصابيح الشاطئ، وساد صمت شامل مريح، ثم دنت النجوم من الأرض عندما اقترب الفجر، وقام عن مجلسه فتمطى، ثم سار على مقربة من الشاطئ نحو المكان الذي جاء منه، جعل يتقدم على مهل متحاشيا الأنوار الضئيلة الباقية حتى هذه الساعة من الفجر، وتباطأ أكثر عندما لاح لعينيه القصر الخالي من نواحيه الثلاث، وراقب الطريق بحدة؛ أرضه وأسوار القصور والشاطئ، ثم استقرت عيناه على القصر، بدا القصر مسدل الجفون، تحرسه الأشجار من كل جانب كالأشباح، نامت الخيانة في هدوء بديع لا تستحقه البتة، مغامرة دسمة ستعطي ردا حاسما على خداع العمر كله، وعبر الطريق في خطوات طبيعية دون تلفت أو حذر، ثم سار بحذاء السور في الشارع الجانبي، وهو يتفحص ما أمامه بعناية شديدة، فلما اطمأن إلى خلو المكان مال فجأة لصق السور منغرزا في الياسمين والبنفسج، وتوقف عن أية حركة، إن يكن في القصر كلب - غير صاحبه - فسيملأ الدنيا نباحا، ولكن لم تند عن الصمت همسة واحدة، يا رءوف .. تلميذك قادم ليحمل عنك بعض متاع الدنيا، وتسلق السور بخفة، وبأطراف محنكة كأنها أطراف قرد، ولم تعقه الأغصان الكثيفة الملتفة الغارقة في الأوراق والأزهار، ثم اعتمد على قبضتيه، ورفع جسمه بقوته الذاتية إلى ما فوق الأسنان المدببة، وهبط به حتى اشتبكت ساقاه بالأغصان في الداخل، فلبد فيها ريثما يسترد أنفاسه، وليراقب الحديقة المكتظة بالشجيرات والأشجار والظلمة. عليك أن تصعد إلى السطح، ومنه تهبط إلى الداخل حتى تعرف طريقك، لا آلة معك ولا بطارية ولا فكرة سابقة عن المكان، لم تسبقك نبوية إليه لتعمل غسالة أو خادمة بعض الوقت، فهي اليوم مشغولة بعليش سدرة، وقطب بعنف ليطرد عنه هذه الأفكار، ونزل بحذر إلى الأرض، ثم زحف على أربع متجها نحو جدار الفيلا، ودار مع البناء متحسسا الحيطان حتى عثر على ماسورة، وأخذ يتسلق بمهارة البهلوان، وكان السطح مقصده، غير أنه مر بنافذة مفتوحة غير بعيدة منه، وفي الحال قرر تجربتها؛ سدد ساقه نحو النافذة حتى انطرحت على حافتها، وشد أعصاب يديه متنقلا بهما فوق كورنيش الحائط، حتى استقر جميعه فوق حافة النافذة، وانزلق إلى الداخل، فوجد نفسه في مكان حدس أنه مطبخ، وضايقته كثافة الظلمة؛ فجد باحثا عن الباب، وكان يتوقع ظلمة أكثف في الداخل، ولكنه حلم بحافظة نقود رءوف، أو بعض التحف، وكان عليه أن يتقدم؛ تسلل من الباب متلمسا الجدار بيديه، وقطع مسافة غير قصيرة، وكثافة الظلام تكاد تصده، ثم أحس تيارا خفيفا من الهواء يلفح وجهه، من أين يجيء الهواء؟
وانعطف مع انعطاف الجدار الأملس وتقدم مادا ذراعه محركا أصابعه حتى لمست أسلاكا بلورية مسدلة محدثة وسوسة خفيفة انقبض لها قلبه، ستارة لا شك في ذلك، اقترب الآن من هدفه، واتجه فكره نحو علبة الثقاب في جيبه دون أن يمد لها يدا، وفتح بخفة ثغرة دلف منها إلى الداخل، وضيق ما بين ذراعيه، ليعيد الستارة إلى وضعها الطبيعي دون صوت، وتقدم خطوة فارتطم بمقعد أو بقائم ما، لا يدريه، وتفادى منه وهو يرفع رأسه متلمسا نورا خافتا ساهرا - وقد تعلق أمله بالوصول إليه - ولكنه رأى ظلاما مطبقا كالكابوس، وفكر في إشعال عود ثقاب للحظة واحدة .. وبغتة دهمه نور ساطع من كل ناحية، نور شديد انقض عليه كلكمة قاضية، انغلق جفناه بلا إرادة ولما فتحهما رأى رءوف علوان على بعد ذراعين، على بعد ذراعين في روب طويل، بدا فيه عملاقا، ويده مدسوسة في جيبه، مشدودة كأنها تقبض على سلاح، هكذا ظن، ونظرة عينيه الباردة زادت قلبه المهزوم برودة، وانطباق شفتيه الناطق بالعداوة والكراهية، والصمت القاتل أثقل من سور السجن، والسجان عبد ربه سيقول هازئا: ما أسرع أن رجعت، وانطلق صوت نحاسي من وراء ظهره يتساءل: ننادي البوليس؟
فالتفت وراءه فرأى ثلاثة من الخدم يقفون صفا، غير أن رءوف خرج عن صمته قائلا: اذهبوا خارجا وانتظروا.
ولما فتح الباب ثم أغلق وراءهم أدرك خطفا أنه باب خشبي ذو زخارف عربية محلى الرأس بحكمة أو مثل أو آية من الصدف، وأرجع رأسه من التفاتته ليتلقى النظرات العابسة ويسمع صوته الخشن وهو يقول: من الغباء أن تجرب ألاعيبك معي أنا، أنا فاهمك وحافظك عن ظهر قلب!
لم ينبس ومضى يفيق من ضربة المفاجأة، ولكن على استسلام كاليأس، وإن داخله شعور بأنه لن يستسلم إلى القبضة التي أفلت منها أمس، أو هكذا شعر! - كنت في انتظارك، على أتم استعداد، بل ورسمت لك طريق السير، وددت لو يخطئ ظني، ولكن أي سوء ظن فيك يخطئ؟
غض بصره لحظات فرأى ما تحت قدميه من مشمع لامع، ثم رفعهما دون أن يحاول الخروج عن صمته. - لا فائدة، لن تنتهي من حقارتك، وستموت حقيرا، وخير ما أفعله الآن أن أسلمك إلى البوليس!
فاختلج جفناه، وانفرجت شفتاه في عصبية، فتساءل رءوف بحدة: ماذا جئت تريد؟
فغض بصره مرة أخرى. - أنت تفصح عن عداوتك، نسيت الإحسان وتركزت في الحقد والحسد، إني أعرف أفكارك بقدر ما أعرف حركاتك!
وبصوت خافت، وبعينين تختفيان في الأرض قال: رأسي دائر، ما زال دائرا منذ خرجت من السجن! - كذاب، لا تحاول خداعي، أنت تتوهم أني صرت واحدا من الأغنياء الذين كنت أحمل عليهم، وعلى هذا الأساس أردت أن تعاملني. - ليس الأمر كذلك! - إذن، لم تسللت إلى بيتي؟ ولم تريد أن تسرقني؟
تردد سعيد مليا ثم قال: لا أدري، لست في حالة طبيعية، وأنت لن تصدقني! - طبعا، لأنك تعلم أنك كاذب، لم تقتنع بكلماتي الطيبة، ثار حسدك وغرورك، اندفعت كالجنون نفسه كما هي عادتك، ولك ما تشاء، فستجد نفسك في السجن مرة أخرى!
فقال في تسليم: اعذرني، ما زلت أعيش بعقلية السجن وما قبله. - لا عذر لك، أنا أقرأ أفكارك، قرأت كل جملة مرت بعقلك، كل جملة، الصورة الكاملة التي تتصورني فيها، والآن آن لي أن أسلمك للبوليس!
فمد يده كالرجاء قائلا: كلا ... - كلا؟! ألا تستحقه؟ - بلى، ولكن كلا ...
فنفخ غاضبا وهو يقول: إن رأيتك مرة أخرى فسأسحقك كحشرة!
وهم بالتحرك في سبيل النجاة، ولكنه صاح به: أرجع النقود!
فجمد بصره دقيقة، ثم دس يده في جيبه فأخرج الورقتين فتناولهما الآخر قائلا: لا ترني وجهك مرة أخرى!
عاد إلى شاطئ النيل وهو لا يصدق أنه نجا، ولكن راحة النجاة تكدرت بالهزيمة، وعجب تحت أنفاس الفجر الرطيبة كيف أنه لم ينتبه إلى هوية الحجرة التي ضبط فيها، وأنه لم يكد يرى منها إلا بابها المزخرف وأرضها الشمعية، واستسلم لرحمة الفجر الندية، متعزيا إلى حين عن كل شيء حتى عن ضياع الورقتين، ثم رفع رأسه إلى السماء، فهاله لمعان النجوم المتألق في هذه الساعة من الفجر.
الفصل الخامس
حملق الرجال القليلون بأعين لا تصدق، وقاموا قومة رجل واحد: يا أرض احفظي ما عليك! - ليلة بيضا بالصلاة على النبي.
وأحدقوا به وعلى رأسهم معلم القهوة وصبيه، وعانقوه وقبلوا وجنتيه، وشد سعيد مهران على أيديهم واحدا فواحدا، وهو يقول بامتنان: أشكرك يا معلم طرزان، أشكركم يا إخوان ... - متى؟ - أول أمس. - تفاءلنا خيرا بأخبار العيد. - الحمد لله. - وبقية الجدعان؟ - بخير، وكل شيء بأوان!
ولبثوا يتبادلون الأخبار حتى أخذه المعلم إلى أريكته، ورجاهم أن يعودوا إلى مجالسهم فعادت القهوة إلى هدوئها، لم يتغير شيء كأنه تركها بالأمس؛ الحجرة المستديرة، النصبة النحاسية، الكراسي الخشبية ذات المقاعد من القش المفتول، الزبائن القلائل المعروفون الموزعون في الأركان، يحتسون الشاي ويعقدون الصفقات، ومن خلال النافذة الكبيرة والباب لاح الخلاء شاملا متراميا إلى غير نهاية، والظلام كثيفا لا تخففه بارقة، والصمت مهيبا عدا ضحكات متقطعة يرمي بها الهواء من الخارج، وجرى تيار جاف منعش ما بين الباب والنافذة، يحمل طابع الصحراء من القوة والنقاء، تناول سعيد قدح الشاي من الصبي، ثم رفعه إلى فيه قبل أن يبرد، ومال نحو المعلم متسائلا: كيف حال الشغل؟
فلوى طرزان شفته السفلى في امتعاض وقال: ندر من يعتمد عليه من الرجال! - لم كفى الله الشر؟ - تنابلة، كأنهم موظفو الحكومة!
فندت عنه نفخة ساخرة وقال: التنبل على أي حال خير من الخائن، بسبب خائن دخلت السجن يا معلم طرزان. - يا لطف الله!
فحدجه بنظرة نافذة متسائلا: ألم تسمع بالخبر؟
فهز المعلم رأسه في أسف، ولاذ بصمت مبين، فهمس سعيد في أذنه: يلزمني مسدس جيد!
فقال طرزان بلا تردد: تحت أمرك.
فربت على منكبه شاكرا، ثم قال بشيء من الارتباك: لكن ليس ...
فوضع أصبعه الغليظ على شفتيه قاطعا كلامه في عتاب وهو يقول: لا عاش من أحوجك إلى اعتذار!
وأتى على ما في القدح في ارتياح، ثم قام ماضيا إلى النافذة، وقف وراءها ناصبا قامته النحيلة المفتولة المتوسطة الطول، فبسط الهواء جناحي جاكتته كالشراع، ومد البصر إلى الخلاء المنتشر على الأرض المفعم بالظلام، فتبدت النجوم في السماء الصافية كالرمال، وكأن القهوة جزيرة في محيط، أو طيارة في سماء، وفي أسفل الهضبة التي تقوم عليها القهوة تحركت السجائر - كالنجوم - في أيدي الجالسين في الظلمة من رواد الهواء الطلق، وعند الأفق الغربي لاحت أنوار العباسية بعيدة جدا يشعر بعدها بمدى توغل القهوة في الصحراء، وأطل من النافذة، فصعدت إليه أصوات الجالسين حول الهضبة، النازحين إلى الصحراء، طلبا للهواء والراحة، وانحدر إليهم صبي القهوة حاملا نارجيلة تتوهج جمراتها، ويتطاير منها الشرر مطقطقا، واحتدم السمر تتخلله الضحكات، وقال صوت يافع ملتذا بالحديث فيما بدا: دلوني على مكان واحد في الأرض ينعم بالطمأنينة؟
فأجابه آخر متحديا: هذا المجلس، ألا ينعم مجلسنا الآن بالطمأنينة؟ - تقول «الآن» وهذه هي المأساة! - لم نلعن القلق والمخاوف، ألا تعفينا في النهاية من التفكير في المستقبل؟ - إذن، فأنت عدو للسلام والاستقرار! - إذا كان حبل المشنقة حول عنقك فالطبيعي أن تخشى الاستقرار. - هذه مسألة خاصة يمكن معالجتها فيما بينك وبين عشماوي. - أنتم تثرثرون في هناء لأنكم في حمى الظلام والصحراء، ولكنكم لن تلبثوا أن تعودوا إلى المدينة، فما الفائدة؟ - المأساة الحقيقية هي أن عدونا هو صديقنا في الوقت نفسه!
أبدا، المأساة الحقيقة هي أن صديقنا هو عدونا! - بل أننا جبناء، لم لا نعترف بهذا؟ - ربما، ولكن كيف تتأتى لنا الشجاعة في هذا العصر؟ - الشجاعة هي الشجاعة. - والموت هو الموت! - والظلام والصحراء هما هذا كله!
يا له من سمر، ماذا يقصدون؟ لكنك شعرت بأنهم يعبرون عن حالك على نحو ما، نعم على نحو غامض كأسرار هذا الليل، أنت أيضا كانت لك يفاعة متوثبة، والقلب سكران برحيق الحماس، والسلاح تحصل عليه للجهاد لا للاغتيال، وراء هذه الهضبة التي تقوم عليها القهوة كان فتية يتدربون على القتال بثياب رثة وضمائر نقية، وساكن القصر رقم 18 كان على رأسهم، على رأسهم يتمرن ويمرن ويلقي بالحكم، المسدس أهم من الرغيف يا سعيد مهران، المسدس أهم من حلقة الذكر التي تجري إليها وراء أبيك، وذات مساء سألك: «سعيد، ماذا يحتاج الفتى في هذا الوطن؟» ثم أجاب غير منتظر جوابك: «إلى المسدس والكتاب؛ المسدس يتكفل بالماضي، والكتاب للمستقبل، تدرب واقرأ.» ووجهه وهو يقهقه في بيت الطلبة قائلا: «سرقت؟ .. هل امتدت يدك إلى السرقة حقا؟ برافو! كي يتخفف المغتصبون من بعض ذنبهم، إنه عمل مشروع يا سعيد، لا تشك في ذلك.» وشهد هذا الخلاء مهارتك، قالوا: إنك الموت نفسه، وإن طلقتك لا تخيب، وأغمض عينيه مستسلما للهواء النقي، وإذا بيد توضع على كتفه، فالتفت وراءه فرأى المعلم طرزان مادا يده الأخرى بالمسدس وهو يقول: نار على عدوك بإذن الله!
فتناوله ومضى يتفحصه ويختبره، ثم سأله: بكم يا معلم؟ - هدية! - كلا، كل ما أرجوه أن تمهلني إلى ميسرة! - كم طلقة تحتاج؟
وعادا معا متجهين نحو أريكة المعلم، وعندما مرا بباب القهوة لعلعت في الخارج ضحكة أنثوية، فضحك المعلم طرزان، وقال: نور، ألا تذكرها؟
نظر سعيد إلى الظلام خارج الباب فلم ير شيئا وتساءل: أما زالت تجيء إلى هنا؟ - من حين لآخر، ستفرح لرؤيتك! - صايدة؟ - طبعا، ولد ابن صاحب مصنع حلوى.
ولما جلسا على الأريكة نادى المعلم صبيه، وقال له: بصنعة لطافة قل لنور أن تأتي!
لتأت؛ ليرى ماذا فعل الزمان بها، التي - عبثا - أرادت امتلاك قلبه، قلبك الذي كان ملكا خالصا للخائنة، وليس أقسى على القلب من أن يروم قلبا أصم، عندما تخاطب البلابل حجرا أو تداعب النسمة أسنانا مدببة، حتى هداياها إليه كان يهديها إلى نبوية عليش، وربت المسدس وهو مستكن في جيبه، وعض على أسنانه، وظهرت نور عند الباب غير متوقعة للمفاجأة التي تنتظرها، فلما رأته توقفت على بعد خطوات في ذهول، ونظر إليها باسما وفي إمعان، بدت أنحل مما كانت، واختفى وجهها تماما تحت المساحيق الدسمة، ونطق بالإغراء فستان أبيض، انطلقت منه الأذرع والسيقان بلا حرج، وقد شد حول جسدها كالمطاط حتى صرخ التهتك، وعربد شعر رأسها القصير في تيار الهواء، وسرعان ما هرعت إليه حتى تلاقت الأيدي وهي تقول: حمدا لله على سلامتك ...
وضحكت ضحكة عصبية تداري بها تأثرها، ثم اندست بينه وبين المعلم طرزان. - كيف حالك يا نور؟
فأجاب طرزان باسما: هي كما ترى نور ونور!
وقالت المرأة: بخير، وأنت؟ صحتك عال، لكن عينيك؟ أنا أعرفك وأنت غضبان!
فتساءل باسما: كيف؟ - لا أدري كيف أقول، نظرة محمرة! وإنذار يتحرك في شفتيك ...
ضحك، ثم قال بأسف: سيأتي صاحبك ليأخذك!
فقالت وهي تهز رأسها لتزيح خصلة شعر عن عينيها: إنه لا يعرف رأسه من رجليه! - على أي حال، فأنت مقيدة به!
فرمته بنظرة ماكرة، وهي تتساءل: أتحب أن أدفنه في الرمال؟ - ليس الليلة، سنلتقي فيما بعد!
ثم بشيء من الاهتمام: قيل إنه لقطة؟! - نعم، وسنذهب بسيارته إلى مدفن الشهيد؛ فهو يحب الخلاء!
وتجلت في عينيه نظرة اهتمام لم تخف عليها، وتساءل وكأنما يحدث نفسه: يحب الخلاء عند مدفن الشهيد؟
اضطرب جفناها، وازداد اضطرابها عندما التقت عيناهما، ثم تساءلت في عتاب: أرأيت أنك لا تفكر في؟
وهو لا يكاد يلقي بالا إلى عتابها: لم؟ أنت عزيزة جدا! - بل أنت تفكر في اللقطة!
فابتسم قائلا: إنه ضمن تفكيري فيك!
فقالت بقلق: إن انكشف أمري ضعت، أبوه قوي، وأهله كالنمل، هل أنت في حاجة إلى نقود؟ - في حاجة إلى السيارة أشد!
وقام وهو يقرص خدها برقة ويقول: كوني طبيعية جدا، لن يحدث شيء مما تخافين، ولن تتجه إليك الظنون، لست طفلا، وسوف نلتقي بعد ذلك أكثر مما تتصورين ...
الفصل السادس
تجنب الطريق الملاصق للثكنات، واخترق الصحراء نحو مدفن الشهيد ليبلغه في أقصر وقت، وكان كأنما يهتدي ببوصلة مركبة في رأسه، لسابق درايته بصحراء العباسية، وعندما لاحت له قبة المدفن الضخمة تحت ضوء النجوم، راحت عيناه تفتشان عن المكان الذي تنزوي فيه السيارة، ودار حول المدفن وهو يحد بصره، ولا يعثر على ضالته، حتى بلغ ضلعه الجنوبي، فتراءى له شبح هيكلها راقدا على بعد، مضى نحوها مصمما، ثم ما لبث أن أحنى ظهره حتى انخفض رأسه إلى مستوى ركبته، واقترب منها فوضح لأذنيه أن الصمت يتخلخل بهمسات مغرقة في السر، سيذعر قلب هانئ، وتتبدد مسرة، ولكن لا ذنب لك، الاختلال يطبق علينا مثل قبة السماء، وقديما قال رءوف علوان: إن نوايانا طيبة ولكن ينقصنا النظام. واشتد اقترابه فيما يشبه الزحف، حتى قبضت راحته على مقبض الباب، ونفحته حرارة النفثات، شد على المقبض وجذب الباب بقوة هاتفا: لا تتحرك!
وانطلقت من عنف المفاجأة آهتان، ولاح له الرأسان وهما يتطلعان إليه في فزع. لوح بالمسدس قائلا بوحشية: سأطلق النار لأدنى حركة، اخرجا!
وجاءه صوت نور متوسلا: في عرضك ...
وتساءل الآخر بصوت مختنق مبحوح كأنه ينطلق خلال رمل وحصى: ماذا .. ماذا تريد من فضلك؟ - اخرجا!
ألقت نور بجسمها إلى الخارج قابضة على ثيابها في كومة واحدة، وتبعها الشاب وهو يدس نفسه في بنطلونه متعثرا، ولم يمهله فقرب منه المسدس حتى هتف بصوت باك: لا ... لا ... لا تطلق!
فقال بصوت غليظ آمر: النقود! - الجاكتة في الداخل ...
فدفع نور إلى الداخل قائلا: ادخلي أنت!
فدخلت متأوهة من عنف الدفعة وهي تردد: في عرضك اتركني! - هاتي الجاكتة!
وتناولها منها، وبسرعة أخذ المحفظة ورماه بها آمرا: عندك دقيقة لتنجو بحياتك!
انطلق الشاب في الظلام كالشهاب، وارتمى هو داخل السيارة بسرعة فائقة، وسرعان ما أدار المحرك، فاندفعت مدوية، وأكملت ارتداء ثيابها وهي تقول: فزعت حقيقة كأني لم أكن أتوقعك!
فقال والسيارة تنطلق بسرعة مخيفة: بلي ريقك.
فأعطته زجاجة تناول منها جرعة، ثم ردها إليها، ففعلت مثله ثم قالت: ركبه سابت، مسكين! - قلبك أبيض، أما أنا فلا أحب أصحاب المصانع!
فاعتدلت في جلستها وهي تقول بلهجة ذات معنى: الحقيقة أنك لا تحب أحدا!
ولم يجد رغبة في المغازلة فلم يرد، وبدا أن السيارة تتجه نحو العباسية فتوسلت إليه قائلة: سيرونني معك!
وكان يفكر في ذلك أيضا، فمال مع الطريق المتفرع الذي يفضي في النهاية إلى الدراسة، وخفف من السرعة قليلا، ثم راح يقول: قصدت قهوة طرزان لأحصل على مسدس، ولأتفق إن أمكن مع سائق تاكسي من زملائنا القدامى، فانظري كيف رمى لي الحظ بهذه السيارة. - ألا ترى أنني نافعة دائما؟ - دائما، وكنت رائعة، لم لا تشتغلين ممثلة؟ - ولكني فزعت أول الأمر حقيقة! - وبعد ذلك؟ - أرجو أن أكون قد أتقنت دوري حتى لا يشك في! - لم يكن في رأسه عقل ليشك في أحد.
واتجه رأسها نحوه ثم سألته: لم تريد المسدس والسيارة؟ - لزوم العمل! - يا خبر! متى خرجت من السجن؟ - أول أمس. - وتعود إلى التفكير في ذلك؟ - هل يسهل عليك تغيير صنعتك؟
فلم تجبه، ونظرت إلى الطريق المظلم الذي تلتمع أرضه بضوء السيارة، وقد اقترب الجبل عند المنعطف كقطعة من الليل أشد كثافة، ثم قالت برقة: أتدري كم حزنت عندما علمت بسجنك؟ - كم؟
بشيء من الحدة: متى تكف عن السخرية؟ - لكني جاد جدا، وواثق من صدق قلبك! - أما أنت فلا قلب لك! - حجزوه في السجن كما تقضي التعليمات. - أنت دخلت السجن بلا قلب!
لم الإلحاح على حديث القلوب، اسألي الخائنة، واسألي الكلاب، واسألي البنت التي أنكرتني. - سنوفق يوما إلى العثور عليه! - وأين تبيت هذه الليلة؟ هل تدري زوجتك أين أنت؟ - لا أظن! - هل أنت ذاهب إلى بيتك؟ - لا أظن، ليس الليلة على أي حال.
فقالت برجاء: تعال إلى بيتي! - تسكنين وحدك؟ - شارع نجم الدين، وراء قرافة باب النصر. - رقمه؟ - البيت الوحيد في الشارع، تحته وكالة خيش، ووراءه القرافة.
ضحك سعيد قائلا: يا له من موقع فريد!
فجارته في ضحكه ثم قالت: لا يعرفني هناك أحد، ولم يزرني فيه أحد، ستكون أول رجل يدخله، وشقتي في أعلى دور.
وانتظرت كلمته، ولكنه شغل بمراقبة الطريق الذي ضاق عرضه ما بين الجبل وبين البيوت، ابتداء من مسكن الشيخ علي الجنيدي، ثم أوقف السيارة عند رأس الدراسة والتفت إليها قائلا: هنا مكان مناسب لنزولك. - ألا تأتي معي؟ - سآتي فيما بعد. - أين تذهب في هذه الساعة من الليل؟ - اذهبي من فورك إلى القسم، واحكي لهم ما حدث بالحرف كأنك لم تشاركي فيه، وأعطي لهم أوصافا بعيدة عني كل البعد، أبيض، سمين، في خده الأيمن أثر جرح قديم، قولي أني خطفتك وسرقتك واعتديت عليك. - اعتديت علي؟
فاستطرد جادا رغم ملاحظتها: وأن ذلك كان في صحراء زينهم، وأني قذفت بك خارجا ثم هربت بالسيارة! - وهل تزورني حقا؟ - نعم، أعدك بهذا وعد رجل، هل تحسنين التمثيل في القسم كما فعلت في السيارة؟ - إن شاء الله! - مع السلامة!
ثم انطلق بالسيارة.
الفصل السابع
قمة النجاح أن يقتلا معا، نبوية وعليش، وما فوق ذلك أن يصفي الحساب مع رءوف علوان، ثم الهرب، الهرب إلى الخارج إن أمكن، ولكن من يبقى لسناء؟ الشوكة المنغرزة في قلبي، أنت تندفع بأعصابك بلا عقل، عليك أن تنتظر طويلا وتدبر أمرك ثم تنقض كالحدأة، الآن لا فائدة من الانتظار، أنت مطارد، منذ علم بالإفراج عنك وأنت مطارد، وبحادثة السيارة ستشتد المطاردة، ومحفظة ابن صاحب المصنع لا تحوي إلا جنيهات معدودات، فهذا أيضا من سوء الحظ، وإن لم تضرب سريعا انهار كل شيء، ولكن من يبقى لسناء؟ الشوكة المنغرزة في قلبي، المحبوبة رغم إنكارها لي، هل أترك أمك الخائنة إكراما لك؟ أريد جوابا في الحال؛ كان يحوم حول البيت القائم على مفرق ثلاث عطفات بحارة سكة الإمام في ظلمة حالكة، والسيارة تنتظر في نهاية الطريق من ناحية ميدان القلعة؛ أغلقت الدكاكين، وخلا الطريق، وظاهر أن أحدا لم يكن يتوقعه، في هذه الساعة يأوي كل مخلوق إلى جحره، لا ينتظر أن يدهمه أحد ليحاسبه، وربما أعد عدته، ولكنه - هو - لن ينثني عن عزمه. ولو عاشت سناء وحيدة العمر كله، ذلك أن الخيانة بشعة جدا يا أستاذ رءوف، وتطلع إلى نوافذ البيت ويده قابضة على مسدسه في جيبه، الخيانة بشعة يا عليش، ولكي تصفو الحياة للأحياء يجب اقتلاع الخبائث الإجرامية من جذورها، واقترب من باب البيت ملاصقا للجدار ثم دخل، وصعد السلم في حذر شديد وظلام دامس، مارا بالدور الأول، فالثاني ثم الثالث، ها هو الباب المغلق على أدنأ النوايا والشهوات، من سيفتح إذا طرق الباب؟ هل تجيء نبوية؟ هل يكمن المخبر في مكان ما؟ النار تنتظر المجرمين، ولو اضطر إلى اقتحام الشقة، لا بد أن يعمل، وأن يعمل في الحال، فحرام أن يتنفس عليش سدرة يوما كاملا وسعيد مهران طليق، وستفوز بالهرب سالما، كما فزت عشرات المرات، وكما تتسلق العمارة في ثوان، وكما تثب من الدور الثالث فتصل الأرض سالما، وكما تطير إذا شئت، وطرق الباب يبدو ضروريا، ولكنه سيثير الريب، وبخاصة في هذه الساعة، وستصوت نبوية حتى تملأ الدنيا غبارا، ويجيء الأندال، ويظهر المخبر أيضا، فلتحطم الشراعة، هذه هي الفكرة التي كانت تدور في رأسه وهو قادم بالسيارة من بعيد، ها هو يعود إليها أخيرا، وأخرج مسدسه، ووجه منه ضربة إلى زجاج الشراعة من خلال القضبان الملتوية فتحطم وتناثر محدثا صوتا كالصراخ المبحوح في صمت الليل، اقترب من الباب حتى كاد يلتصق به، وصوب مسدسه إلى الداخل، وانتظر بقلب خافق وعين غائصة في ظلمة الردهة، وترامى صوت يصيح «من؟»، صوت رجل، صوت عليش سدرة، ميزه رغم نبض الصدغ المدوي، وفتح باب في الناحية اليسرى فخرج منه ضوء خفيف، ثم لاح شبح رجل يتقدم في حذر. ضغط سعيد على الزناد فانطلقت الرصاصة كصرخة عفريت في الليل، وصرخ الرجل بدوره وتهاوى، فأدركه بأخرى قبل أن يستقر فوق الأرض، وانطلق صراخ حاد مرتعب مستغيث يائس، صوات نبوية، فصاح بها: سيأتي دورك، لا مهرب مني، أنا الشيطان نفسه، واستدار ليهرب، ومضى يثب فوق الدرجات بلا حرص، حتى بلغ بئر السلم في ثوان، وقف يتنصت لحظة، ثم مرق من الباب، فسار على كثب من الجدار في هدوء، ثم سمع نوافذ وهي تفتح، وأصواتا وهي تتلاقى في تساؤل ونداءات غامضة، وبلغ موقف السيارة عند رأس الطريق فجذب بابها ودخل، وعند ذاك لمح شرطيا قادما يجري في الميدان نحو عطفة سكة الإمام، فغاص في أرض السيارة، وواصل الشرطي جريه نحو الصراخ فلبث في مكمنه حتى اطمأن إلى بعده من وقع قدميه، ثم نهض في حذر شديد، فجلس وراء عجلة القيادة وانطلق بالسيارة دون إبطاء، ودار مع الميدان في سرعة طبيعية والضجة تلاحق حواسه، ولكنها استقرت في أعصابه حتى بعد انقطاعها عن حواسه، ولفه ذهول شامل، فساق السيارة بلا وعي، القاتل، هناك رءوف علوان، الخائن الرفيع الممتاز، أهم في الواقع من سدرة وأخطر، القاتل، أنت من زمرة القتلة، جنسية جديدة، ومصير جديد، خطف أرواح خبيثة بعد خطف أشياء ثمينة ، سيأتي دورك، لا مهرب مني، أنا الشيطان نفسه، بفضل سناء وهبتك الحياة، لكني أحطتك بعقاب أشد من الموت، هو الخوف من الموت، الذعر الأبدي، لن تذوقي للراحة طعما ما دمت حيا، انحدرت السيارة في شارع محمد علي، وما زال يسوقها بلا وعي، ولا فكرة عنده البتة عن المكان الذي يقصده، الآن يردد كثيرون اسم القاتل، فعلى القاتل أن يختفي، عليه أن يحذر ما أمكنه حبل المشنقة، لا تمكن عشماوي من أن يسألك: ماذا تطلب؟ وعلى الحكومة أن تجود بهذا السؤال في مناسبة أفضل، وانتبه إلى نفسه فإذا بالسيارة تقطع آخر شوط في شارع الجيش، مندفعة نحو العباسية، فانزعج لهذه العودة الغريبة إلى المكان الخطر، وضاعف من سرعتها حتى بلغ منشية البكري في دقائق، ثم وقف عند أول شارع متفرع من الطريق العام، وتركها في هدوء دون أن يلتفت يمنة ولا يسرة، سار على مهل كأنه يتريض، وشعر بخمود، ثم بألم كأنه رد فعل للمجهود العصبي الشديد الذي بذله، لا مأوى لك الساعة، ولا أي ساعة، نور؟ من المجازفة أن يذهب إليها الليلة بالذات، ليلة التحقيق والشبهات، والظلام يجب أن يمتد إلى الأبد!
الفصل الثامن
دفع باب مسكن الشيخ فأطاع دون مقاومة، ثم دخل ورده وراءه، وجد نفسه في الحوش غير المسقوف، ولاحت النخلة فارعة كأنها ممتدة في الفضاء، حتى النجوم الساهرة، فقال لنفسه: يا له من مكان صالح للاختفاء! وحجرة الشيخ مفتوحة بالليل كما هي بالنهار، وغارقة في الظلمة وكأنها تنتظر أوبته، فمضى إليها في هدوء، سمع الصوت يغمغم، فلم يميز من غمغمته إلا «الله»، واستمر يغمغم كأنه لم يشعر، أو لا يريد أن يشعر بدخوله، انزوى في ركن باليسار جنب كتبه، وانحط على الحصيرة ببدلته وحذائه المطاط ومسدسه، ثم مد ساقيه، واستند إلى ذراعيه ملقيا برأسه إلى الوراء في إعياء شديد؛ رأس كخلية النحل، وأين المفر؟ تريد أن تستعيد سماع الطلق الناري، وصوات نبوية، وأن تسعد بأنك لم تسمع لسناء صرخة واحدة، ويحسن أن تقول للشيخ: السلام عليكم، ولكن نبرات صوتك عاجزة، عجز مفاجئ كالغرق، وكنت تظن أنك ستموت نوما بمجرد أن يمس جلدك الأرض؟! تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، متى ينام هذا الرجل الغريب؟ لكن الرجل الغريب ترنم بصوت مرتفع نوعا لأول مرة:
الوجد عندي جحود
ما لم يكن عن شهودي
ثم قال بصوت خيل إليه أنه ملأ الحجرة: «انفتحت عيون قلوبهم، وانطبقت عيون رءوسهم.» انتزع من آلامه ابتسامة، وقال لنفسه: لذلك فهو لا يشعر بي، ولكني أنا أيضا لا أشعر بنفسي، وبغتة سبح الأذان فوق أمواج الليل الهادئة، وذكر ليلة قضاها مسهدا حتى الأذان؛ شوقا إلى سعادة موعودة، في النهار التالي لم يعد يذكر عنها شيئا، ونهض عند سماعه الأذان، هانئا بالخلاص من رقاد أليم، فتطلع من النافذة إلى زرقة الفجر، وابتسامة المشرق، وفرك يديه حبورا بالسعادة الوشيكة التي لم يعد يذكر عنها شيئا؛ لذلك فهو يحب الفجر، للنغمة والزرقة والابتسامة والسعادة المنسية، وها هو الفجر مرة أخرى، ولكنه من الإعياء لا يستطيع حراكا ولا مسدسه. وقام الشيخ للصلاة فأشعل المصباح، ولم يبد انتباها لوجوده، وفرش سجادة الصلاة واتخذ مكانه فوقها وإذا به يتساءل: ألا تصلي الفجر؟
فلم يستطع جوابا، إلى هذا الحد بلغ منه الإعياء! وأقام الشيخ الصلاة، وما لبث سعيد أن غاب عن الوجود، حلم بأنه يجلد في السجن رغم حسن سلوكه، وصرخ بلا كبرياء وبلا مقاومة في ذات الوقت، وحلم بأنهم عقب الجلد مباشرة سقوه حليبا، ورأى سناء الصغيرة تنهال بالسوط على رءوف علوان في بئر السلم، وسمع قرآنا يتلى فأيقن أن شخصا قد مات، ورأى نفسه في سيارة مطاردة عاجزة عن الانطلاق السريع لخلل طارئ في محركها، واضطر إلى إطلاق النار في الجهات الأربع، ولكن رءوف علوان برز فجأة من الراديو المركب في السيارة، فقبض على معصمه قبل أن يتمكن من قتله، وشد عليه بقوة حتى خطف منه المسدس، عند ذاك هتف سعيد مهران: اقتلني إذا شئت، ولكن ابنتي بريئة، لم تكن هي التي جلدتك بالسوط في بئر السلم وإنما أمها، أمها نبوية، وبإيعاز من عليش سدرة، ثم اندس في حلقة الذكر التي يتوسطها الشيخ على الجنيدي كي يغيب عن أعين مطارديه، فأنكره الشيخ وسأله: من أنت؟ وكيف وجدت بيننا؟ فأجابه بأنه سعيد مهران، ابن عم مهران مريده القديم، وذكره بالنخلة والدوم والأيام الجميلة الماضية، فطالبه الشيخ ببطاقة الشخصية، فعجب سعيد وقال: إن المريد ليس في حاجة إلى بطاقة، وأنه في المذهب يستوي المستقيم والخاطئ، فقال له الشيخ إنه يطالبه بالبطاقة ليتأكد من أنه من الخاطئين؛ لأنه لا يحب المستقيمين، فقدم له مسدسه، وقال له: ثمة قتيل وراء كل رصاصة ناقصة في ماسورته، ولكن الشيخ أصر على مطالبته بالبطاقة قائلا: إن تعليمات الحكومة لا تتساهل في ذلك، فعجب سعيد مرة أخرى وتساءل عن معنى تدخل الحكومة في المذهب، فقال الشيخ: إن ذلك كله تم بناء على اقتراح للأستاذ الكبير رءوف، المرشح لوظيفة شيخ المشايخ؛ فعجب سعيد للمرة الثالثة وقال: إن رءوف علوان بكل بساطة خائن ولا يفكر إلا في الجريمة، فقال الشيخ: إنه لذلك رشح للوظيفة الخطيرة، ووعد بتقديم تفسير جديد للقرآن الشريف، يتضمن كافة الاحتمالات التي يستفيد منها أي شخص في الدنيا تبعا لقدرته الشرائية، وأن حصيلة ذلك من الأموال ستستغل في إنشاء نواد للسلاح، ونواد للصيد، ونواد للانتحار، فقال سعيد إنه مستعد أن يعمل أمينا للصندوق في إدارة التفسير الجديد، وسيشهد رءوف علوان بأمانته كما ينبغي له مع تلميذ قديم من أنبه تلاميذه. وعند ذاك قرأ الشيخ سورة الفتح، وعلقت المصابيح بجذع النخلة، وهتف المنشد: يا آل مصر هنيئا فالحسين لكم ...
وفتح عينيه فرأى الدنيا حمراء، ولا شيء فيها ولا معنى لها، ثم رأى الشيخ متربعا في هدوء يكتنفه البياض الناصع من الجلباب الفضفاض والطاقية واللحية، فلما ندت عن سعيد حركة لدى استيقاظه نظر الشيخ إليه في هدوء أيضا، وجلس سعيد في عجلة، ورنا إلى الشيخ كالمعتذر، وفي الوقت نفسه دهمته الذكريات في سرعة اللهب، وقال الشيخ: نحن في العصر، وأنت لم تذق طعاما.
نظر سعيد إلى الكوة، ثم أعاد إلى الشيخ النظر وهو يتمتم في ذهول: العصر! - نعم، قلت أدعه في نومه، وهداية الله تنزل في أي حال تريدها مشيئته!
وداخله القلق، ترى ألم يره أحد في نومه طوال النهار؟ - كنت أشعر في نومي بدخول أناس كثيرين! - أنت لم تشعر بشيء، ومع ذلك فقد جاء واحد بلقمة الغداء، وجاء آخر فكنس المكان، وسقى الصبارة والنخلة، وفرش الحوش استعدادا لاستقبال المحبين!
فسأل باهتمام: متى يجيئون يا مولاي؟ - مع المغرب، متى جئت أنت؟ - مع الفجر ...
وصمت مليا، ثم مسح الشيخ على لحيته وقال: أنت تعيس جدا يا بني!
فتساءل في قلق: لمه؟ - نمت نوما طويلا، ولكنك لا تعرف الراحة، كطفل ملقى تحت نار الشمس، وقلبك المحترق يحن إلى الظل، ولكن يمعن في السير تحت قذائف الشمس، ألم تتعلم المشي بعد؟!
فقال سعيد وهو يدعك عينيه اللوزيتين المحمرتين: فكرة مزعجة أن يراك الآخرون وأنت نائم!
فقال الشيخ بلا اكتراث: من غاب عن الأشياء غابت الأشياء عنه!
ومر بيده بخفة فوق جيب المسدس، وساءل نفسه: ترى ماذا يصنع هذا الشيخ لو أنه صوب نحوه مسدسه؟ متى يمكن أن يهتز هدوءه المثير؟ وعاد الشيخ يسأله: أنت جائع؟ - كلا.
فقال وشبه ابتسامة تلوح في عينيه: إذا صح الافتقار إلى الله صح الغنى بالله! - إذا!
ثم بلهجة ساخرة: مولاي، ماذا كنت تفعل لو ابتليت بمثل زوجتي؟ ولو أنكرتك كما أنكرتني ابنتي؟
فلاحت في العينين الصافيتين نظرة رثاء، وقال: العبد لله لا يملكه مع الله سبب ...
اقطع لسانك قبل أن يخونك ويعترف، أنت تود أن تعترف له بكل شيء، ولعله ليس في حاجة إلى ذلك، لعله رآك وأنت تطلق النار، لعله يرى أكثر من ذلك، وارتفع صوت تحت الكوة ينادي بجريدة أبو الهول، فقام بسرعة إلى الكوة فناداه، ثم مد يده بالقرش، وعاد بالجريدة إلى مجلسه، وقد نسي الشيخ تماما، التصقت عيناه بعنوان ضخم أسود «جريمة شنيعة بالقلعة!» وجرت عيناه على الأسطر بسرعة جنونية، ولم يفهم شيئا، أهي جريمة أخرى ؟ لكن ها هي صورته، ها هي صورة نبوية، ها هي صورة عليش سدرة، فمن المضرج في دمه؟ قصته بارزة أمام عينيه، فضيحة مذاعة كالغبار الخماسيني، الرجل الذي خرج من السجن ليجد امرأته زوجة لأحد أتباعه، ولكن من المضرج في دمه؟! إنه لا يفهم شيئا، وينبغي أن يقرأ من جديد، ينبغي أن يعرف من المضرج في دمه، وكيف استقرت رصاصته في صدره، القتيل رجل آخر يرى صورته لأول مرة في حياته، اقرأ من جديد، لقد ترك عليش سدرة ونبوية بيتهما في نفس اليوم الذي زارهما فيه بحضور المخبر والأعوان، وحلت مكانهما في الشقة أسرة جديدة، ولعلها دفعت خلو رجل، الصوت الذي سمعه لم يكن صوت عليش سدرة، الصوات الذي سمعه لم يكن صوات نبوية، الجسم الذي سقط كان جسم شعبان حسين، العامل بمحل الخردوات بشارع محمد علي، سعيد مهران جاء ليقتل زوجته وصاحبه القديم، فقتل الساكن الجديد شعبان حسين. وشهد أحد جيران عليش بأنه رأى سعيد مهران وهو يغادر البيت عقب ارتكاب الجريمة، وأنه نادى الشرطي، ولكن صوته ضاع في الضجة التي شملت الطريق كله، أي هزيمة جنونية؟! أي جريمة بلا جدوى؟! وسيطارده حبل المشنقة وعليش آمن، هذه هي الحقيقة كأنها جوف قبر انكشف، وانتزع عينيه من الجريدة فرأى الشيخ على الجنيدي ينظر إلى السماء من خلال الكوة ويبتسم، ولسبب ما أخافته ابتسامته، ورغب في أن يقف أمام الكوة ليمد بصره في خط نظر الشيخ، لعله يرى في السماء ما جعله يبتسم، لكنه لم ينفذ رغبته، ليبتسم، وليطلع على مكنونه إذا شاء، ولكن سيجيء المريدون عما قريب، وربما تعرف عليه بعضهم ممن رأوا صورته في الجريدة، آلاف وآلاف يتأملون صورته الآن بغرابة وخوف ولذة بهيمية خفية، قضي عليه بلا جدوى، مطارد وسيظل مطاردا إلى آخر لحظة من حياته، وحيد عليه أن يحذر حتى صورته في المرآة، حي بلا حياة كجثة محنطة، سيجري من جحر إلى جحر كفأر يتهدده السم والقطط وهراوات المشمئزين، كل هذا وأعداؤه يمرحون، والتفت الشيخ نحوه وقال برقة : أنت متعب، قم فاغسل وجهك!
فقال بضيق وهو يطوي الجريدة: سأذهب وأريحك من منظري!
فقال في مزيد من الرقة: هذا مأواك. - نعم، ولكن لم لا يكون لي مأوى آخر؟
فقال وهو يطرق: لو كان لك آخر ما جئتني!
اذهب إلى الجبل حتى يهبط الظلام، لا تغادره حتى يهبط الظلام، تحاش الضوء، ولذ بالظلام. تعب بلا فائدة، ذلك أنك قتلت شعبان حسين، من أنت يا شعبان؟ أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفني، هل لك أطفال؟ هل تصورت يوما أن يقتلك إنسان لا تعرفه ولا يعرفك؟ هل تصورت أن تقتل بلا سبب؟ أن تقتل لأن نبوية سليمان تزوجت من عليش سدرة؟ وأن تقتل خطأ ولا يقتل عليش أو نبوية أو رءوف صوابا؟ وأنا القاتل لا أفهم شيئا، ولا الشيخ على الجنيدي نفسه يستطيع أن يفهم، أردت أن أحل جانبا من اللغز، فكشفت عن لغز أغمض. وتنهد بصوت مسموع، وعاد الشيخ يقول: يا لك من متعب! - ودنياك هي المتعبة.
فقال الشيخ في رضى: نتغنى بهذا أحيانا.
ونهض، ثم قال وهو يهم بالذهاب: وداعا يا مولاي!
فقال الشيخ كالمحتج: قول لا معنى له على أي وجه قلته، قل إلى اللقاء!
الفصل التاسع
يا له من ظلام! انقلب خفاشا؛ فهو أصلح لك، وهذه الرائحة الدهنية المتسربة من باب شقة ما في هذه الساعة من الليل! متى تعود نور؟ وهل تعود بمفردها؟ هل يمكن أن أبقى في بيتها حتى أنسى؟ لعلك تظن يا رءوف أنك تخلصت مني إلى الأبد؟ بهذا المسدس أستطيع أن أصنع أشياء جميلة، على شرط ألا يعاكسني القدر، وبه أيضا أستطيع أن أوقظ النيام، فهم أصل البلايا، هم خلقوا نبوية وعليش ورءوف علوان.
وخيل إليه أنه سمع وقع أقدام صاعدة، ثم تأكد من ذلك، ونظر من فوق الدرابزين، فرأى نورا خافتا يتحرك في بطء على الجدران، نور عود ثقاب كما ظن، واقتربت الأقدام ثقيلة متمهلة، فقرر أن ينبهها إلى وجوده؛ تفاديا من مفاجأة مزعجة، وتنحنح فجاء صوتها يسأل في ارتياع: من؟
فأدلى برأسه إلى أقصى حد ممكن، وقال هامسا: سعيد مهران!
وأسرعت الأقدام في خفة، حتى انتهت إلى مكانه، وهي تلهث، والعود يلفظ أنفاسه، وقبضت على عضده في انفعال، وبنبرة تنازعها الابتهاج، وتقطع الأنفاس، قالت: أنت! يا كسوفي .. انتظرت طويلا ...؟
وفتحت الشقة، ثم دخلت جاذبة إياه من ذراعه، وأضاءت مصباحا، فظهر مدخل مستطيل صغير خال من أي شيء، ومالت به إلى حجرة جانبية كشف مصباحها الكهربائي عن حجمها المتوسط، وأضلعها المربعة، ثم سارعت إلى النافذة، ففتحتها على مصراعيها لتلطف من جوها المختنق، وارتمى على إحدى الكنبتين المتقابلتين، وهو يقول متشكيا: جئت عند منتصف الليل، ولبثت أنتظر حتى شاب شعري ...
فجلست على الكنبة الأخرى بعد أن أزاحت عنها أقمشة مفصلة، وكوما من القصاصات، وقالت: الحق أنه لم يكن عندي أدنى أمل في أنك ستجيء!
وتلاقت الأعين المتعبة، فابتسم ليداري تحجر باطنه، وتساءل: حتى بعد وعدي الصريح؟!
فابتسمت ابتسامة خفيفة ولم تجب، لكنها قالت: أمس استجوبوني في القسم حتى أزهقوا روحي، أين السيارة؟
فقال وهو يخلع جاكتته ويرمي بها إلى جانبه، كاشفا عن قميص طحيني متلبد بالعرق والغبار: قضت الحكمة بأن أتركها رغم حاجتي إليها، سيجدونها ويردونها إلى صاحبها كما ينبغي لحكومة تتحيز لبعض اللصوص دون البعض!
فسألته في قلق: ماذا فعلت بها أمس؟ - لا شيء البتة في الحقيقة، وستعلمين كل شيء في حينه.
ونظر نحو النافذة وهو يتنفس في عمق قائلا: جهة بحرية فيما أظن، هواء لطيف حقا! - خلاء حتى باب النصر، هنا القراقة!
فابتسم قائلا: لذلك فهواؤها غير فاسد!
تنظر إليك بنهم، وأنت تمتعض ضجرا، وبدل العزاء تتذكر طعنة في الكبرياء، وقالت نور راجعة إلى أفكارها الأولى: انتظرت طويلا على السلم، أنا آسفة جدا!
فامتحنها بنظرة غامضة، وهو يقول: سأنزل ضيفا عندك لأجل طويل!
فارتفع رأسها ابتهاجا وهي تقول: امكث طول العمر إن شئت!
فأومأ إلى النافذة وهو يقول باسما: حتى أنتقل إلى الجيران!
وبدا أنها لم تسمعه لتفكير لاح في عينيها، ثم تساءلت: وأهلك، ألا يسألون عنك؟
فأجاب وهو ينظر إلى حذائه المطاط: لا أهل لي! - أعني زوجتك؟
تعني الألم والجنون والرصاص الضائع، تريد اعترافا مؤذيا للكرامة، وستجد أن فتح القلب المغلق يزداد عسرا، ولكن ما جدوى الكذب والجرائد تنعق بالفضيحة؟ - قلت لا أهل لي!
أنت تفكرين في معنى القول، ويشرق وجهك بالسرور، وأنا أكره هذا السرور، وأرى الآن أن الذبول استقر تحت عينيك، وتساءلت: الطلاق؟
لوح في ضجر قائلا: طلقت وأنا في السجن، ولندع هذا الحديث جانبا.
فقالت بغضب: خنزيرة! مثلك ينتظر ولو حكم عليه بتأبيدة!
الماكرة، مثلي لا يحب الرثاء، احذري الرثاء، يا ضيعة الرصاص في الصدور البريئة! - الحق أني أهملتها كثيرا! - على أي حال هي امرأة لا تستحقك!
صدقت، ولا أي امرأة، لكنها مفعمة حيوية، وأنت تترنحين فوق الهاوية، نفخة واحدة ثم تنطفئين. وما لك في قلبي سوى الرثاء، وقال: لا يجوز أن يشعر بي أحد!
فقالت ضاحكة وكأنها وثقت من امتلاكه إلى الأبد: أحطك في عيني وأكحل عليك!
ثم برجاء: هل فعلت شيئا خطيرا؟
هز منكبيه باستهانة، فقامت وهي تقول: سأعد لك مائدة؛ عندي طعام وشراب، أتذكر كم كنت جافا معي في الماضي؟ - لم يكن عندي وقت للحب ...
فلحظته بعتاب وهي تقول: وهل يوجد ما هو أهم منه؟ .. وكنت أقول لنفسي: لعل قلبه حجر، ومع ذلك فلم يحزن أحد على سجنك كما حزنت ... - لذلك لجأت إليك أنت!
فقالت بامتعاض: أنت لم تقابلني إلا صدفة، ولعلك كنت نسيتني تماما!
فقطب عمدا وهو يتساءل: أتظنين أني لا أستطيع أن أجد مكانا آخر؟
فأشفقت من غضبه، وأقبلت عليه، فأحاطت خديه براحتيها وهي تقول معتذرة: نسيت أن العسكري يمنع زوار الحديقة من معاكسة الأسد، آسفة، ولكن ما أسخن وجهك! وذقنك خشنة جدا، ما رأيك في دش بارد؟
فأعرب عن ترحيبه بابتسامة. - إلى الحمام، وعندما تخرج ستجد المائدة معدة، سنأكل في حجرة النوم؛ فهي أجمل من هذه الحجرة، وتطل مثلها على القرافة ...
الفصل العاشر
يا للعدد العديد من المقابر، الأرض تمتد بها حتى الأفق، رافعة أيديها في تسليم، وإن يكن شيء لا يمكن أن يهددها. مدينة الصمت والحقيقة، ملتقى النجاح والفشل، والقاتل والقتيل، مجمع اللصوص والشرطة، حيث يرقدون جنبا إلى جنب في سلام لأول ولآخر مرة، وشخير نور يبدو أنه لن ينقطع إلا حين تستيقظ عند الأصيل، وستبقى أنت في هذا السجن حتى ينساك البوليس، ولكن هل ينساك البوليس حقا؟ وبقدر ما يخون الموت الأحياء فستذكر بالقبور الخيانة، ثم تذكر بالخيانة نبوية وعليش ورءوف، وأنت نفسك ميت منذ انطلقت الرصاصة العمياء، ولكن عليك أن تطلق مزيدا من الرصاص.
وسمع تثاؤبا كالتأوه، فتراجع عن شيش النافذة ملتفتا نحو الفراش، فرأى نور جالسة، شبه عارية، منكوشة الشعر تعيسة القسمات، نظرت إليه بارتياح وهي تقول: حلمت أنك بعيد، وأنني أنتظرك كالمجنونة!
فقال في كآبة: هذا في الحلم، أما في الحقيقة فأنت التي ستذهبين بعيدا، وأنا الذي سأنتظر!
وذهبت إلى الحمام، ثم عادت وهي تجفف رأسها ووجهها، وتابع يديها وهما تصوران وجهها في صورة جديدة، بهيجة شابة، هي - مثله - في الثلاثين، ولكنها تكذب علنا لتبدو أصغر، وسخافات ورذائل لا حصر لها تمارس علنا، وليست السرقة كذلك ويا للأسف، وأوصلها حتى الباب وهو يقول: لا تنسي الجرائد!
ومضى إلى حجرة الجلوس، فاستلقى على كنبة، وحيد بكل معنى الكلمة، حتى كتبه منسية عند الشيخ علي الجنيدي، وتسلى بالنظر إلى السقف الأبيض الباهت المعروق، وكأنه مرآة تعكس بساط الحجرة المنجرد، ومن خلال النافذة بدت سماء المغيب كدرة يدور بها سرب من الحمام من آن لآن، وجفولك يا سناء مؤلم حقا، كمنظر القبر، ولا أدري إن كنا سنلتقي مرة أخرى، أين ومتى؟ ولن يخفق قلبك بحبي في هذه الحياة المليئة بالرصاصات الطائشة، وكالرصاص تطيش رغائب كثيرة في الدنيا، مخلفة وراءها سلسلة من الحلقات المحزنة، ابتداء من الحلقة الأولى عند بيت الطلبة في طريق مديرية الجيزة، لم يكن عليش سدرة إلا شخصا عابرا لا قيمة له، أما نبوية فقد هزت القلب حتى اقتلعته من جذوره، ولو أن الخيانة الكامنة ظهرت في صفحة الوجه كما تظهر آثار الحميات الخبيثة لما تجلى جمال في غير موضعه، ولأعفيت قلوب كثيرة من عبث المكائد، والبقال يقع دكانه أمام بيت الطلبة، وتجيء نبوية حاملة السلطانية لتشتري ما تشاء في ثياب مهندمة، بل تعد زينة وسط أمثالها من الخادمات، لذلك عرفت بخادمة الست التركية، نسبة إلى تركية عجوز، كانت تقيم بمفردها في بيت محاط بحديقة كبيرة في آخر الطريق، وكانت غنية ومتكبرة، وتفرض على كل من يمت إليها بسبب أن يكون جميلا وأنيقا ونظيفا، فتبدت نبوية دائما ممشطة الشعر، منسابة الضفيرة حتى العجز، منتعلة شبشبا، يطوق جلبابها حيوية جسد ثائر، وحتى الأعين غير المسحورة، أي أعين الآخرين وصفت جمالها بأنه جمال فلاحي لذيذ الطعم؛ باستدارة الوجه الخمري، والعينين العسليتين والأنف القصير الممتلئ، والفم المتشرب بماء الحياة، والدقة الخضراء في الذقن كالخال، وكان يقف عند باب بيت الطلبة عند الانتهاء من الخدمة، ينظر نحو آخر الطريق الذي تجيء منه، حتى تلوح لعينيه القامة البديعة، والمشية الحبيبة، وتقترب وتقترب، باعثة باقترابها أجمل مشاعر الحياة، كأنها موسيقى عذبة، تستقبل بها حيث حلت، وتتبعها عيناك في نشوة الخمر، وتندس معها بين عشرات الواقفات أمام البقال، وتغيب حينا وتظهر حينا، وأنت تزداد غراما وسؤالا ورغبة في عمل شيء، أي شيء، ولو كلمة، أو إشارة، أو تعويذة، وتمضي هي أخيرا في طريق العودة، منذرة بالاختفاء بقية نهار وليلة كاملة، فتصعد منك تنهيدة مريرة، وتبوخ النشوة رويدا، وتخرس العصافير فوق أشجار الطريق، وينتشر جو الخريف فجأة، ثم مرة تلحظ أن عودها يميس تحت نظراتك، وأنها تتيه دلالا فلا تقف أنت عند حد، وباندفاعك الطبيعي تسبقها في الطريق، ثم تعترض سبيلها عند النخلة الوحيدة القائمة في نهاية الحقول، بجرأة غريبة تعترض سبيلها، حتى ذهلت، أو تظاهرت بالذهول، وسألتك محتجة: من أنت؟ فأجبت بدهشة: من أنا؟ أنت تسألين من أنا؟ ألا تعرفين من أنا؟ أنا صاحب العين التي يعرفها كل شبر في كائنك، فقالت بحدة: أنا لا أحب قلة الأدب، فقلت: ولا أنا، أنا مثلك لا أحب قلة الأدب، وعلى العكس أحب الأدب والجمال والرقة، وكل أولئك هو أنت أنت ألا تعرفين الآن من أنا؟ ولا بد أن أحمل عنك هذه السلة وأوصلك حتى باب البيت، فقالت: لست في حاجة إلى مساعدتك، ولا تقف في طريقي مرة أخرى، وسارت، فسرت إلى جانبها متشجعا بابتسامة خفية ضاعت في الاكفهرار المصطنع، أحسست بها كما تحس بأول نسمة رقيقة متسللة في ليلة زامتة، فقالت: ارجع، يجب أن ترجع، ستي تجلس في النافذة، وستراك إذا تقدمت أكثر من هذا خطوة واحدة، قلت: أنا عنيد وإذا أردت أن أرجع فلنرجع معا بضع خطوات ليس إلا، عند نخلتنا الوحيدة، إذ لا بد أن أتكلم، ولماذا لا أتكلم؟ هل أنا لا أملأ العين؟ وهزت رأسها في عنف، ولكنها أبطأت في السير، وغمغمت في احتجاج وغضب، ولكنها أبطأت في السير، وتقوس عنقها كالقطة المتنمرة، ولكنها أبطأت في السير، فلم أعد أشك في أني وصلت، وأن نبوية لا تخلو من بعض مشاعري، وأنها مطلعة تماما على تاريخ وقفاتي التنهدية عند بيت الطلبة، وأن نظرات الطريق ستتحول إلى أمور لها خطرها في حياتي وحياتها، وحياة الدنيا جميعا التي ستزداد بها عدا، فقلت: إلى غد، وتوقفت خشية عليها من لذع لسان تركي عجوز يقيم في شارع مديريتنا كاللغز، ثم تراجعت إلى النخلة، ومن فرحتي تسلقتها بسرعة قرد، وقفزت من علو ثلاثة أمتار إلى أرض مزروعة جرجيرا، ثم رجعت إلى بيت الطلبة، وأنا أغني بصوتي الغليظ، كأني ثور هزه الطرب، وعندما دفعتك ظروف قهرية إلى العمل في سيرك الزيات، مضت بك الحياة من حي إلى حي، ومن بلدة إلى بلدة، وخفت أن يصدق عليك المثل القائل: إن البعيد عن العين بعيد عن القلب، فقلت لها: لنتزوج على سنة الله ورسوله، وأنتما تقفان عند مشارف الجامعة التي لم تدخلها ظلما، ودخلها كثير من الأغنياء، ولم يكن في الطريق ضوء ولا في السماء إلا هلال غليظ استقر فوق الأفق، وابتهجت ونظرت إلى الأرض حتى لمع جبينها الضيق تحت شعاع الهلال، فقلت إن عملي مربح ومستقبلي هائل، ومسكني في الدراسة دور أرضي نظيف بطريق الجبل على مقربة من مسكن الشيخ علي الجنيدي، وستعرفين الشيخ المبارك عندما نتزوج، ويجب أن نتزوج في أقرب وقت إكراما لحبنا طويل العمر، وآن لك أن تتركي ستك العجوز، فقالت: أنا يتيمة ليس لي إلا عمة بسيدي الأربعين، فقلت: على بركة الله، وقبلتها أمام الهلال، والفرح من جماله عاش أحدوثة على كل لسان، والزيات نقطني بعشرة جنيهات، وعليش سدرة من سروره بدا كأنه صاحب الفرح، ولعب دور الصديق الأمين، ولكن لم يكن صديقا على الإطلاق، وأعجب شيء أني خدعت به، وأنا الذكي الذي يخافه الجن الأحمر، كنت البطل، وكان عابد البطل يحبني ويتملقني ويتجنب غضبي، ويلتقط فتات العيش من كدي وشطارتي، وآمنت بأنني لو أرسلته مع نبوية إلى الصحراء التي تاه فيها سيدنا موسى لظل يراني قائما بينه وبين نبوية، فلا يحيد عن الأدب، وهي كيف تميل إلى الكلب وتعرض عن الأسد؟ ولكن القذارة مركبة في طبعها؛ قذارة تستحق القتل في الدنيا وفي الآخرة، وعلى شرط ألا يطيش الرصاص الأعمى فيصيب الأبرياء، ويعمى عن الأوغاد والسفلة، ويترك قلوبا يمزقها الألم ويحرقها الغضب، ويعبث بها الجنون، فتنسى كل شيء طيب في الحياة، حتى ليلة الدخلة، ولعب الصبيان في الحارة، والحب قبل الفساد، ومولد سناء، ورؤية وجه سناء لأول مرة، وسماع بكائها لأول مرة، وحملها على الساعدين لأول مرة، وابتساماتها التي لم أحصها، وليتني أحصيتها أو صورتها، وليتني أنسى فيما نسيت جفولها وصراخها الذي رددته أركان الأرض، وجفت بسببه الينابيع والنسائم وكافة المشاعر الطيبة في الوجود، وانتشر الظلام، نعم انتشر الظلام في الحجرة وخارج النافذة، وزاد صمت القبور صمتا، ولا يمكن أن تضيء المصباح كي تبقى الشقة كما تبقى عادة في أثناء غياب نور، وستألف عيناك الظلام كما ألفت السجن، وكما ألفت الوجوه الكريهة، ولن تجد فرصة للسكر، خشية أن تحدث حركة عنيفة، أو ترفع صوتا منكرا، إذ يجب أن تبقى الشقة صامتة كالقبر، وحتى الأموات أنفسهم لن يفطنوا لوجودك هنا، والله وحده يعلم كيف تصبر على هذا السجن، وإلى متى؟ كما كان يعلم وحده أنك ستقتل شعبان حسين، لا عليش سدرة، ولا بد أن تخرج عاجلا أو آجلا للتجول في الليل ولو في الأماكن الآمنة، ولكن فلنؤجل ذلك إلى حين حتى يقتل البوليس تعبا في البحث عن لا شيء، ولنسأل الله ألا يدفن شعبان حسين في قبر من هذه القبور، فإن هذه المنطقة القديمة لا تتحمل ثقل المفارقات القاسية واصبر، اصبر حتى تعود نور، ولا تسأل متى تعود نور؟ وعليك أن تكابد الظلمة والصمت والوحدة ما دامت الدنيا لا تريد أن تغير من عاداتها السيئة، ونور المسكينة كذلك، فحبها القديم لك ما هو إلا عادة سيئة وهو يرتطم بقلب قتله الألم والغضب، وينفر من إقبالها كما ينفر من ذبولها، ولا يدري حقا ماذا هو فاعل بها؟ إلا أن يشاربها نخب الضياع والأسى، ويرثى لمحاولاتها الطيبة اليائسة ولن ينسى في النهاية أنها امرأة، كما أن نبوية امرأة؛ الخائنة الجبانة، سيقتلها الخوف على حياتها حتى يلتف الحبل حول عنقك، أو تستقر في قلبك رصاصة مجرمة، ويشوه البوليس سيرتك، فينقطع ما بينك وبين سناء إلى الأبد، حتى حبك لن تدري عن صدقه شيئا، كأنه رصاصة طائشة، وكذلك ...
واختلس النوم سعيد مهران وحلم بعض الوقت ولم يدرك أنه كان يحلم إلا عند يقظته، عند وعيه لوجوده في الظلام والوحدة بشقة نور، بشارع نجم الدين، وتأكده من أن عليش سدرة لم يفاجئه في مخبئه، ولم يطلق عليه الرصاص تباعا، ولم يدر عن الوقت شيئا، سرعان ما سمع همس المفتاح في القفل، وصفقة الباب وهو يغلق، وشراعة باب الحجرة وهي تنضح بضوء المدخل، وظهرت نور باسمة حاملة لفة كبيرة، فأقبلت عليه تقبله وهي تقول: وليمة! معي العجاتي وتسباس ومانولي!
فقبلها متسائلا: شاربة؟ - لزوم العمل، سأستحم ثم أرجع، إليك الجرائد!
وتابعها بعينيه حتى ذهبت، ثم انهمك في مراجعة الجرائد الصباحية والمسائية على السواء، لم يكن فيها جديد بالنسبة إليه، ولكن ثمة اهتمام بالجريمة والمجرم فاق ما كان يتوقعه، وبخاصة ما نشر في جريدة الزهرة، جريدة رءوف علوان، كتبت الجريدة في إسهاب مثير عن تاريخه في اللصوصية، وسلسلة المغامرات التي كشفت عنها محاكمته، وقصور الأغنياء التي سطا عليها، وعن شخصيته، وجنونه الخفي، وجرأته الإجرامية التي انتهت إلى سفك الدماء، يا للعناوين الكبيرة السوداء! آلاف وآلاف يناقشون الساعة جرائمه، ويتندرون بخيانة نبوية له، ويتراهنون على مصيره، إنه محور الأخبار، ورجل الساعة، وقلبه ينقبض لذلك خوفا وزهوا، الانفعال يكاد يمزق عروقه، وعشرات الأفكار تتزاحم في رأسه في اللحظة الواحدة، وتيار مثل تيار الخمر يغمر خياله، فيؤمن بأنه سيتمخض عن أمر خطير لا يقل شأنا عن الخلق أو النصر، فيود لو يتصل بالناس ليعرب لهم عما يهز صدره في الصمت والوحدة، وليؤكد لهم بأنه سينتصر، ولو بعد الموت.
إنه وحيد حيال الجميع، ولكنهم لا يعلمون، لم يفقهوا بعد حديث الصمت والوحدة، ولا يفطنون إلى أنهم أيضا لهم حديث صمت ووحدة، والمرآة التي تعكس صورهم باهتة مضللة، فيتوهمون أنهم يرون قوما غرباء، وثبتت عيناه على صورة سناء في دهشة وتأثر، وجرى بصره على الصور جميعا، صورته الوحشية وصورة نبوية التي بدت كامرأة ساقطة، ثم عاد إلى سناء المبتسمة، أجل إنها تبتسم؛ لأنها لا تراه ولأنها لا تدري شيئا، وتفحصها بكل قوة ورغبة، فدهمه شعور بأنه عبث، وأن الليل خارج النافذة يتنفس حزنا أصيلا، وتمنى في يأسه لو يستطيع الهرب بها إلى مكان لا يعرفه أحد، وأن يراها ولو كآخر طلب له في الدنيا قبل الشنق، وقام إلى الكنبة الأخرى ليلتقط المقص من بين قصاصات القماش المكومة، ثم عاد ليقتطع الصورة بعناية من الجريدة، ولما خرجت نور من الحمام كانت نفسه قد هدأت نوعا ما، ونادته من حجرة النوم، فمضى إليها وهو يعجب كيف أنها حملت إليه جميع الأنباء وهي لا تدري عنها شيئا. وتجلى كرمها في المائدة التي أعدتها؛ فسال لعابه شوقا إلى الطعام والشراب، وجلس إلى جانبها على كنبة مواجهة للفراش أمام الخوان الحافل، ولرضاه ربت شعرها المبتل وهو يقول على سبيل التحية: أنت امرأة ولا كل النساء!
وعصبت شعرها بمنديل أحمر، وراحت تملأ الأكواب، مبتسمة طوال الوقت لقوله، مبدية عن لونها الأسمر الباهت بلا زواق، منتعشة بالحمام كطعام متواضع لكنه طازج، مطمئنة في جلستها، معتزة بامتلاكه ولو إلى حين، فارتاح إلى ذلك كله دون حماس، وحدجته بنظرة ارتياب وقالت: أنت تقول هذا؟! أكاد أصدق أحيانا أن الرحمة قد تعرف قلوب رجال البوليس قبل أن تعرف قلبك! - صدقيني أنا سعيد بك. - حقا؟ - نعم، رقة قلبك لا يمكن أن تقاوم. - ألم أكن كذلك في الزمان الأول؟
هيهات أن ينسينا انتصار سهل هزيمة دامية، وقال: كنت وقتذاك بلا قلب! - والآن؟
فتناول كوبه قائلا: لنشرب ولنبتهج!
وأقبلا على الطعام والشراب بشهوة صادقة، حتى سألته: كيف قضيت وقتك؟
فأجاب وهو يغمس ريشة في الطحينة: بين الظلمة والقبور، أليس لك أموات هنا؟ - أمواتي في قبور البلينا، رحمة الله على الجميع!
وصمتا، فوضحت أصوات التمطق، واحتكاك الأكواب، وطقطقة الصينية، وعاد سعيد يقول: سأطلب منك أن تشتري لي قماشا يصلح لبدلة ضابط! - ضابط؟! - ألا تدرين أنني تعلمت الخياطة في السجن؟
فتساءلت بنظرة قلقة: ولكن لمه؟ - جاء دوري في الجهادية! - ألا تفهم أني لا أريد أن أفقدك مرة أخرى؟
فقال بثقة غريبة: لا تخافي علي، لولا الغدر ما تمكن البوليس مني أبدا!
تنهدت في امتعاض، فراح يقول من فم مكتظ: أنت نفسك .. ألست عرضة للخطر؟
ثم وهو يبتسم: كأن يهاجمك قاطع طريق في الصحراء مثلا؟
وضحكا معا، ثم مالت نحوه فقبلت شفتيه اللزجتين بشفتين لزجتين، وقالت: الحق أننا لكي نعيش يجب ألا نخاف شيئا!
فتساءل وهو يومئ إلى النافذة بذقنه: حتى الموت؟ - أعوذ بالله!
ثم باستهانة: وحتى هذا أنساه عندما يجمعني الزمان بمن أحب.
أعجب بحرارة قلبها وقوة إصراره، ولفتوره شعر نحوها بالرثاء والاحترام والامتنان.
وكانت ثمة فراشة تعانق المصباح العاري في تلك الساعة من الليل ...
الفصل الحادي عشر
لا يمر يوم دون أن تستقبل القرافة ضيوفا جددا، وكأن لم يبق لك من غاية إلا أن تقبع وراء الشيش لترى الموت في نشاطه الدائب، والمشيعون أحق بالرثاء، يذهبون في جموع باكية، ثم يعودون وهم يجففون الدموع ويتحادثون، وقوة أقوى من الموت نفسه هي التي تقنعهم بالبقاء، هكذا دفن الذاهبون من أهلك؛ عم مهران الكهل الطيب، بواب عمارة الطلبة، العمل والقناعة والأمانة، وقد اشتركت معه في الخدمة منذ الطفولة، ورغم البساطة والفقر كانت الأسرة تفوز في ختام يومها بجلسة هنية في الحجرة الأرضية بحوش العمارة، الرجل وامرأته يتحادثان والطفل يلعب. ولإيمانه بالله اعتنق الرضى، وكان الطلبة يحترمونه، ونزهته الوحيدة كانت في الحج إلى بيت الشيخ علي الجنيدي، وعن طريقه عرفت أنت بيت الشيخ .. يا سعيد، تعال معي، سأدلك على رياضة هي خير من اللعب في الحقل، ستذوق لذة العيش في جو البركة، بهذا يطمئن قلبك، وطمأنينة القلب هي خير زاد في الدنيا. وتلقاك الشيخ بنظرة عامرة بالحنان، فأعجبت أيما إعجاب بلحيته البيضاء، وقال يخاطب أباك: «هذا ابنك الذي حدثتني عنه؟ النجابة في عينيه، قلبه أبيض كقلبك، وستجده إن شاء الله من الطيبين.» والحق أنك أحببت الشيخ علي الجنيدي جدا، فتنتك وضاءة وجهه وإشعاع المحبة المنبثق من عينيه، كذلك أعجبتك الأنغام والأناشيد، فلعبت بأوتار قلبك حتى قبل أن يهذبه الحب. وقال له عم مهران يوما: «علم هذا الغلام ماذا يجب عليه أن يفعل.» فأجاب الشيخ وهو يحنو عليك بنظرة: «نحن نتعلم من المهد إلى اللحد، ولكن يا سعيد، ابدأ بأن تحاسب نفسك، وليكن في كل فعل يصدر عنك خير لإنسان!» واتبعت قوله على قدر استطاعتك، ولكنك لم تحققه على أكمل وجه إلا حين احترفت اللصوصية! وتتابعت أيام كالأحلام، ثم اختفى عم مهران الطيب، اختفى الرجل على نحو لم يفهمه الغلام، وبدا الشيخ علي الجنيدي نفسه عاجزا أمام اللغز، «يا بؤسك .. يا بؤسنا .. مات أبوك!» هكذا صاحت أمك وهي تصوت، وأنت تهز رأسك وتدعك عينيك لتفيق من النوم بعد أن أيقظك صراخها في الحجرة الأرضية بعمارة الطلبة، وبكيت فزعا لأنه لم يكن في وسعك أن تفعل شيئا، ولكن تجلت في تلك الليلة شهامة رءوف علوان، الطالب بكلية الحقوق؛ كان شهما في جميع الأحوال، وكنت تحبه كما تحب الشيخ علي الجنيدي وأكثر، وهو الذي سعى فيما بعد إلى أن تحل مكان أبيك في خدمة العمارة، أو أن تحل أنت وأمك في مكان أبيك وهو الأصدق، فنهضت بالمسئولية في سن مبكرة، ثم اختفت أمي، وكدت تهلك بسبب مرضها، كما لا بد أن يذكر رءوف علوان، ويوم النزيف الذي لا ينسى، يوم طرت بها إلى أقرب مستشفى، مستشفى صابر الذي تقوم كالقلعة وسط حديقة غناء، وجدت نفسك أنت وأمك في قاعة استقبال عند المدخل، فخيمة بدرجة لم تجر لك في خيال، وبدا المكان كله وكأنما يأمرك بالابتعاد، ولكنك كنت في مسيس الحاجة إلى إسعاف، إسعاف سريع، ودلوه على الطبيب الشهير وهو خارج من غرفة، فجرى إليه بجلبابه وصندله صائحا: «أمي ... الدم ...» فتفحصه الرجل بعينين زجاجيتين مستنكرا، ومد بصره إلى حيث استلقت الأم على مقعد وثير بثوب كالسخام، وثمة ممرضة أجنبية كانت تراقب ما يجري عن كثب، فبإزاء ذلك اكتفى بالاختفاء صامتا، ورطنت الممرضة بلغة لم يفهمها، ولكنه شعر بأنها تشاركه بعض مأساته، وغضب غضبة رجل رغم حداثة سنة، صاح محتجا لاعنا، ورمى بمقعد إلى الأرض فأحدث دويا، وتطايرت قشرة مسنده، وجاء خدم كثيرون، وما لبث أن وجد نفسه وأمه وحيدين في الطريق المسقوف بالأغصان، وعقب شهر من هذا الحادث ماتت الأم في قصر العيني، وطيلة احتضارها ظلت قابضة على يدك، وتأبى أن تحول عنك عينيها، غير أنك في غضون شهر المرض سرقت، لأول مرة، سرقت طالبا ريفيا من نزلاء عمارة الطلبة، واتهمك الطالب دون تحقيق، وانهال عليك ضربا حتى جاء رءوف علوان فخلصك من قبضته، وسوى المسألة بلا مضاعفات، كنت إنسانا حقا يا رءوف، وفضلا عن ذلك كنت أستاذي أيضا، وحين خلا إليك قال لك بهدوء: لا تخف، الحق أني أعتبر هذه السرقة عملا مشروعا! ولكنه استدرك محذرا: ولكنك ستجد البوليس لك بالمرصاد، وقال لك أيضا ساخرا: ولن يتسامح القاضي معك مهما تكن بواعثك مقنعة، فهو أيضا يدافع عن نفسه، ثم تساءل بالسخرية نفسها : أليس عدلا أن ما يؤخذ بالسرقة فبالسرقة يجب أن يسترد؟ ثم هتف غاضبا: إني أتعلم بعيدا عن أهلي وأكابد كل يوم عذابا وجوعا وحرمانا. أين ذهبت تلك الحكم يا رءوف؟ لعلها ماتت كأبي وأمي وأمانة زوجتي، ولم يكن بد من أن تهجر عمارة الطلبة سعيا وراء الرزق في مكان آخر، وانتظرت عند النخلة الوحيدة في نهاية الحقل، حتى قدمت نبوية، فوثبت نحوها وقلت لها: لا تخافي، يجب أن أكلمك، أنا ذاهب، سأجد عملا أوفر ربحا، وأنا أحبك، لا تنسيني أبدا، أنا أحبك وسأحبك دائما، وسوف أثبت لك أني قادر على إسعادك، وعلى فتح بيت محترم لك، وفي تلك الأيام كانت الأحزان تنسى، والجروح تلتئم، والأمل يحصد الصعاب، فيا أيتها القبور الغارقة في الظلمة، لا تسخري من ذكرياتي!
ونهض من استلقائه فجلس على الكنبة في الظلام، وخاطب رءوف علوان كأنه يراه أمامه قائلا في سخرية: لو قبلت أن أعمل محررا في جريدتك يا وغد لنشرت فيها ذكرياتنا المشتركة، ولخسفت نورك الكاذب!
ثم تساءل بصوت مسموع: إلام أطيق أن أبقى في الظلام حتى تعود نور قبيل الفجر؟
واستولت عليه بغتة رغبة لا تقاوم في أن يغادر البيت للقيام بجولة في الليل، وانهارت مقاومته كما ينهار بناء آيل للسقوط في ثوان، وفي دقائق كان يغادر البيت في حذر، فاتجه نحو طريق المصانع، ومنه مال نحو الخلاء، وازداد بمغادرة المخبأ وعيا بإحساس المطارد، فشارك الفئران والثعابين مشاعرها حين تتسلل، وحيد في الظلمة، تتربص به المدينة التي تلوح أضواؤها في الأفق، ويتجرع وحدته حتى الثمالة، وجلس إلى جانب طرزان على أريكته ولم يكن بداخل القهوة إلا رجل واحد من مهربي السلاح وصبي القهوة، على حين ضج سفح الهضبة بالسمر، وسرعان ما جاءه صبي القهوة بالشاي، ثم مال طرزان نحوه هامسا: لا تقم في مكان واحد أكثر من ليلة!
وقال المهرب: اهرب إلى الصعيد!
فتساءل سعيد: لا أحد لي في الصعيد!
فعاد المهرب يقول: كثيرون تحدثوا عنك أمامي بإعجاب.
فتساءل طرزان بحنق: والبوليس هل يعجب به أيضا؟
فضحك المهرب حتى اهتز جسمه هزة غريبة كأنه يمتطي جملا مسرعا، ثم قال: البوليس لا يعجبه العجب!
فتمتم سعيد: ولا الصيام في رجب!
فقال صبي القهوة بحماس: أي ضرر في سرقة الأغنياء؟!
فابتسم سعيد في ارتياح كأنه يتلقى تحية في حفل تكريم، ثم قال: الجرائد لسانها أطول من حبل المشنقة، وماذا ينفعك حب الناس إذا أبغضك البوليس؟
ونهض طرزان فجأة، فاندفع نحو النافذة، وأطل منها ملتفتا يمنة ويسرة، ثم عاد وهو يقول باهتمام: خيل إلي أني رأيت وجها ينظر إلينا!
فالتمعت عينا سعيد، وردد ناظريه بين النافذة والباب، وخرج الصبي مستطلعا، على حين قال المهرب: أنت ترى دائما أشياء لا وجود لها.
فهتف به طرزان: اسكت، أنت تظن أن حبل المشنقة لهو ولعب؟!
وغادر سعيد القهوة بيد قابضة على المسدس في جيبه، ومضى في الخلاء وهو يتلفت ويتنصت في حذر وتصميم، وتضاعف إحساسه بالمطاردة والوحدة والقلق، وأدرك أنه لا يمكن أن يستهين بكتلة الأعداء المفعمة شهوة وخوفا، والتي لن يرتاح لها بال حتى تراه جثة هامدة، وعندما اقترب من البيت بشارع نجم الدين، رأى النور في نافذة نور، فداخله أول شعور بالراحة منذ غادر القهوة، ووجدها راقدة فهم بمداعبتها، ولكنه تبين في وجهها إعياء صارخا، واحمرارا في العينين لا يكون إلا لعلة، وجلس عند قدميها وهو يسأل: ما لك يا نور؟
فقالت بصوت ضعيف جدا: ميتة! تقايأت حتى مت! - الخمر؟!
اغرورقت عيناها وهي تقول: طول عمري وأنا أشرب!
وكان يرى دمعها لأول مرة، فتأثر وهو يسأل: إذن ما السبب؟ - ضربوني! - البوليس؟ - شبان، لعلهم طلبة، وأنا أطالبهم بالحساب ...
انحرف جانب فيه في رثاء وتمتم: اغسلي وجهك واشربي قليلا من الماء! - فيما بعد، أنا تعبانة جدا!
فتمتم غاضبا: الكلاب!
وربت ساقها إعرابا عن رثائه، فقالت وهي تشير إلى لفة على الكنبة الأخرى: قماش البدلة!
فرقت يده حنانا وامتنانا، وعادت وهي تقول كالمعتذرة: لن أروق في عينيك هذه الليلة! - لا عليك، اغسلي وجهك ثم نامي!
وفصل بينهما الصمت، ونبح في مشارف القرافة كلب، وصعدت عن نور تنهدة كالبخار، ثم ارتفع صوتها وهي تقول في حزن بالغ: قالت أمامك مستقبل كالورد!
فتساءل متعجبا: من؟ - ضاربة الودع، وقالت: سيجيء الأمان والاطمئنان!
فنظر إلى سواد الليل المتراكم خارج النافذة، واستطردت هي تقول: متى يجيء؟ .. الانتظار طال ولا فائدة، ولي صديقة أكبر مني بأعوام تقول وتعيد القول إننا نصير عظاما أو أسوأ من ذلك، فحتى الكلاب تعافنا!
وخيل إليه أن الصوت المتكلم نافذ من قبر، فامتلأ شجنا ولم يجد ما يقوله، وقالت هي: ضاربة الودع، متى تصدقين؟ أين الأمان؟ أريد نومة مطمئنة وصحوة هنية، وجلسة وديعة، هل يتعذر ذلك على رافع السماوات السبع؟!
كذلك أنت حلمت بهذه الحياة، ورغم ذلك مرت حياتك وكلها تسلق مواسير، وقفز من الأسطح، ومطاردة في الظلام، ورصاصات طائشة تقتل الأبرياء، وقال لها واجما: أنت في حاجة إلى النوم! - أنا في حاجة إلى الوعد، وعد ضاربة الودع، وسوف يأتي ذلك اليوم! - حسن.
فقالت بحدة: أنت تلاطفني كأنني طفل! - أبدا. - سوف يأتي حقا ذلك اليوم!
الفصل الثاني عشر
ارتدى بدلة الضابط على سبيل التجربة، فحدجته نور بدهشة، ولكنها لم تلبث أن قالت في توسل: كن حكيما، لم يعد في وسعي أن أفقدك!
فأشار إلى البدلة وهو يقول: عن حكمة صنعتها!
وتفحص صورته في المرآة بعناية، ثم قال ساخرا: أظن من المناسب أن أقنع برتبة صاغ.
ولكنها سمعت عن أسطورته في الليلة التالية مباشرة، ورأت عديدا من صوره في مجلة أسبوعية مع صاحب من صحابها العابرين، وانهارت أمامه في يأس قائلة: قتلت؟! يا مصيبتي! ألم أتوسل إليك؟
فلاطفها بيده قائلا: حدث ذلك قبل أن نلتقي!
فزاغ بصرها، وقالت في شك ويأس: أنت لا تحبني، أنا أعرف هذا، ولكن كان من الممكن أن نعيش معا حتى تحبني! - هذه الفرصة موجودة.
فقالت في يأس أرهب: لكنك قتلت، ما الفائدة؟
فابتسم في اطمئنان وثقة وقال: ما أسهل أن نهرب معا! - ماذا ننتظر؟ - حتى تهدأ الزوبعة.
فضربت الأرض بقدمها قائلة: سمعت أن الجنود يملئون مخارج القاهرة، كأنك أول قاتل!
الجرائد .. الحرب الخفية! .. ولكنه قال في هدوء مصطنع: سأهرب حين أقرر الهرب وسترين!
وقبض على ضفيرتها كالغاضب وقال موبخا: ألا تعرفين من يكون سعيد مهران؟! الجرائد كلها تتحدث عنه، وأنت لا تؤمنين به، أصغي إلي، سنعيش معا إلى الأبد، وستصدق كلمة ضاربة الودع!
ومضى في الليلة التالية إلى قهوة طرزان، هربا من الوحدة، وطلبا للجديد من الأنباء، وما كاد يظهر عند مدخل القهوة حتى بادره طرزان فذهب به إلى الخلاء بعيدا، ثم قال معتذرا: لا تؤاخذني، حتى قهوتي لم تعد بالمكان المأمون لك!
فقال سعيد واجما - وإن أخفى الظلام وجومه: ظننت الزوبعة قد هدأت! - إنها تزداد كل يوم اشتعالا بسبب الجرائد، اختف، ولكن لا تحاول الخروج من القاهرة الآن.
فتساءل سعيد في حنق: ألا تجد الجرائد موضوعا غير سعيد مهران؟ - إنها تقص على الناس أنباء غزواتك الماضية، حتى أثارت عليك المحافظة.
وهم بالذهاب؛ فقال له طرزان وهو يودعه: فلنتقابل بعيدا عن القهوة إذا شئت!
وعاد إلى مخبئه في بيت نور، إلى الوحدة والظلمة والانتظار، وهتف بغضب: أنت يا رءوف وراء كل ذلك!
جميع الجرائد سكتت - أو كادت - إلا جريدة الزهرة ما زالت تنبش عن الماضي وتستفز البوليس، إنها توشك أن تنادي ببطولته سعيا وراء القضاء عليه؛ ولن يهدأ رءوف علوان حتى يطوق عنقه بحبل المشنقة، ومعه القانون والحديد والنار، وأنت هل لحياتك التالفة من معنى إلا أن تقضي على أعدائك؛ عليش سدرة مجهول المكان، ورءوف علوان في قصر من حديد، ولكن ما معنى حياتك إن لم تؤدب أعداءك؟ ولن تحول قوة دون تأديب الكلاب، أجل لن تحول دون ذلك قوة، وبصوت مسموع تساءل: رءوف علوان، خبرني كيف يغير الدهر الناس على هذا النحو البشع؟!
الطالب الثائر، الثورة في شكل طالب، وصوتك القوي يترامى إلي عند قدمي أبي في حوش العمارة، قوة توقظ النفس عن طريق الأذن، عن الأمراء والباشوات تتكلم، وبقوة السحر استحال السادة لصوصا، وصورتك لا تنسى وأنت تمشي وسط أقرانك في طريق المديرية بالجلابيب الفضفاضة وتمصون القصب ، وصوتك يرتفع حتى يغطي الحقل، وتسجد له النخلة، تلك هي الروعة التي لم أجد لها نظيرا، ولا عند الشيخ الجنيدي، هكذا كنت يا رءوف، وبفضلك وحدك ألحقني أبي بالمدرسة، وعند إحراز النجاح ضحكت ضحكة عظيمة ولوالدي قلت: أرأيت؟ .. لم تكن تريد أن تعلمه، انظر إلى عينيه، سيكون ممن يقوضون الأركان، وعلمتني حب الكتاب، وناقشتني كأني ند لك، وكنت بين المستمعين لك عند النخلة التي نبتت عند جذورها قصة حبي، وكان الزمان ممن يستمعون لك، الشعب .. السرقة .. النار المقدسة، الثروة .. الجوع .. العدالة المذهلة، ويوم اعتقلت ارتفعت في نظري إلى السماء، وارتفعت أكثر يوم حميتني عند أول سرقة، ويوم رد حديثك عن السرقة إلي كرامتي، ويوم قلت لي في حزن: سرقات فردية لا قيمة لها، لا بد من تنظيم! ولم أكف عن القراءة والسرقة بعد ذلك. وكنت ترشدني إلى الأسماء الجديرة بالسرقة، ووجدت في السرقة مجدي وكرامتي، وأغدقت على أناس كان من بينهم للأسف عليش سدرة، وبصوت غاضب قال في الحجرة المظلمة: أأنت حقا رءوف علوان صاحب القصر؟! أنت الثعبان الكامن وراء حملة الصحف؟! تود أن تقتلني كما كان الآخرون، وكما تود أن تقتل ضميرك، وكما تود أن تقتل الماضي، لكني لن أموت قبل أن أقتلك، أنت الخائن الأول، ما أعبث الحياة إن قتلت غدا جزاء قتل رجل لم أعرفه! فلكي يكون للحياة معنى، وللموت معنى، يجب أن أقتلك، لتكن آخر غضبة أطلقها على شر هذا العالم، وكل راقد في القرافة تحت النافذة يؤيدني، ولأترك تفسير اللغز للشيخ علي الجنيدي!
وعند أذان الفجر سمع الباب وهو يفتح، وجاءت نور حاملة الشواء والشراب والجرائد، وبدت مبسوطة شوية، كأنما نسيت أشجان الأمس وأحزان أمس الأول، وبحضورها انقشع الظلام، فوثب قلبه المنهك ليعانق الدنيا بطعامها وشرابها وأخبارها، وقبلته فقبلها بامتنان، وبلا تكلف لأول مرة، ود ألا تغيب عنه، وهي القلب الذي يودعه الحب قبل الموت، وفض سداد الزجاجة في مجلسهما المعتاد، فملأ كوبا ثم صبها في جوفه نارا، وسألته وهي ترنو إلى وجهه المتعب: لم لم تنم؟
وكان يتصفح الجرائد، فلم يجب، فمضت تقول بإشفاق: الانتظار في الظلام عذاب!
فسألها وهو يرمي بالجرائد جانبا: كيف الحال في الخارج؟ - كحاله كل يوم.
ونضت عنها ثيابها إلا قميصا شفافا، فسطعت أنفه رائحة بودرة ملبدة بالعرق، ثم استطردت: ويتحدث عنك ناس كأنك عنترة، ولكنهم لا يدرون عذابنا!
فقال ببساطة: أكثرية شعبنا لا تخاف اللصوص ولا تكرههم.
وتواصلت خمس دقائق في التهام الشواء، ثم قال: ولكنهم بالفطرة يكرهون الكلاب!
فقالت باسمة وهي تلعق أناملها: أنا أحب الكلاب! - لا أعني هؤلاء. - نعم، ولم يخل بيتي منها أبدا، حتى شهدت موت آخر واحدة، وبكيت كثيرا، فصممت ألا أعاشرها مرة أخرى.
فقال ساخرا: ينبغي أن نتجنب الحب إذا توعدنا بالتعب. - أنت لا تفهمني ولا تحبني!
فقال برجاء: لا تكوني ظالمة، ألا ترين أن الدنيا كلها ظالمة؟!
وأفرطت في الشراب حتى دار رأسها، واعترفت له بأن اسمها الحقيقي هو شلبية، وقصت عليه نوادر من عهد البلينا؛ الطفولة والمياه الراكدة والشباب والهرب، ثم قالت بخيلاء: وأبي كان عمدة!
فقال ببساطة: كان خادم العمدة.
فقطبت، ولكنه بادرها قائلا: أنت التي قلت في الزمان الأول!
فضحكت كاشفة عن أسنان مغطاة بالبقدونس، وقالت: أقلت ذلك حقا؟
فقال بحدة: ولذلك انقلب رءوف علوان خائنا!
فحدجته بنظرة إنكار متسائلة: من رءوف علوان؟
فقال بسخط: لا تكذبي، إن من يعاني الظلمة والوحدة والانتظار لا يطيق الكذب!
الفصل الثالث عشر
عقب منتصف الليل اخترق سعيد الصحراء، وفي الجانب الغربي من السماء شيء من القمر، وعلى مبعدة مائة متر من هضبة القهوة صفر ثلاثا، وراح ينتظر، لم يكن بد من أن يضرب ضربته أو يجن، وكان يأمل أن يجد عند طرزان الخبر، وما لبث أن جاء طرزان كموجة من الظلام، فتعانقا ثم سأله: هل من جديد؟
فقال الرجل وهو يلهث بما يتناسب مع سمانته: أخيرا جاء واحد منهم.
فتساءل سعيد بلهفة: من؟ - المعلم بياظة، وهو الآن في القهوة يعقد صفقة. - لم يضع الانتظار هباء، ماذا تعرف عن طريقه؟ - سيرجع من طريق الجبل .
فشد على يده قائلا: تشكر يا معلم!
وابتعد مسرعا مائلا نحو الشرق، مهتديا بالضوء الواني حتى الغابة المحدقة بعيون المياه، وسار بحذاء ضلعها الجنوبي حتى رأسها المدبب الغائص في الرمال عند بدء الطريق المنحدر نحو الجبل، توارى وراء شجرة متربصا، وجرى هواء جاف منعش، فصدرت عن رقعة الغابة الصغيرة وشوشة، وترامى الخلاء كالفناء، ويده قابضة على المسدس، يفكر في الفرصة الممكنة، في الانقضاض على عدوه غير المنتظر، ثم في بلوغ الهدف المضني، وأخيرا في الهلاك كآخر مستقر، وقال بصوت لم تسمعه إلا الأشجار الثملة بالهواء: عليش سدرة ثم رءوف علوان في ليلة واحدة، ثم ليكن ما يكون!
وتوثب يصارع الانتظار ولكن لم يطل به الانتظار، فما لبث أن لاح شبح يسرع في الظلام آتيا من ناحية الهضبة نحو رأس الغابة، ولما لم يعد بينه وبين بدء الطريق إلا متر اندفع سعيد من مكمنه مصوبا نحوه مسدسه هاتفا: قف ...
وتسمر الشبح كأنه تكهرب، وحملق في الرجل دون أن ينبس بكلمة، فقال سعيد: بياظة أنا أعرف أين كنت؟ وماذا فعلت؟ ومقدار ما تحمل من نقود!
فوضح تنفس الشبح كالفحيح، وندت عن ذراعه حركة خفية مترددة، سرعان ما همدت، وغمغم: فلوس العيال!
فلطمه على وجهه لطمة زادت الليل سوادا في عينيه، وقال بنبرات منطلقة: ألم تعرفني يا بياظة الكلب؟!
فهتف بياظة: من؟ .. عرفت الصوت ولكني لم أصدق .. سعيد مهران؟! - لا تتحرك، ستقتل عند أول حركة! - أنت تقتلني؟ لم؟ ليس بيننا عداوة!
فمد سعيد يده إلى صدره حتى عثر على الكيس المثقل، ثم انتزعه من مربطه بقوة وهو يقول: هذه واحدة!
فهتف بياظة بجزع: هذا مالي، ولست عدوا لك! - اخرس، لم آخذ كل ما أريد بعد! - بيننا زمالة يجب أن تحترم.
فحرك المسدس في يده وقال: إذا أردت النجاة بحياتك فخبرني أين يقيم عليش سدرة؟
فقال الرجل بتوكيد: لا أعرف ولا أحد يعرف!
فلطمه لطمة أخرى أشد من الأولى، وصاح بغضب: سأقتلك إن لم تدلني على مكانه، ولن تسترد نقودك حتى أتأكد من صدقك !
فقال الرجل بنبرة متألمة: لا أعرف، أقسم لك أني لا أعرف! - كذاب! - أحلف لك بالطلاق إن شئت! - هل ذاب كما يذوب الملح؟
فقال بنبرة تستجدي تصديقه: لا أعرف ولا أحد يعرف، انتقل من شقته عقب زيارتك له خوفا من بطشك، انتقل إلى روض الفرج ... - عنوانه؟ - انتظر يا سعيد، بعد قتل شعبان حسين سافر ومعه أسرته دون أن يخبر أحدا عن وجهته، كان مرتعبا وكانت المرأة مرتعبة، ولا يدري أحد عنهما شيئا! - بياظة! - أحلف لك بالطلاق بالثلاثة!
فلطمه الثالثة فتأوه وصاح بصوت ممزق: لم تضربني يا سعيد؟ ربنا يجحمه حيث يكون، أهو أخي أو أبي حتى أموت بسببه؟
وصدقه في النهاية على رغمه، ويئس من العثور على غريمه. ولو لم تكن تطارده جريمة قتل لصبر وانتظر حتى تحين الفرصة ولكن الرصاصة الطائشة أصابت أعز أمانيه، وإذا ببياظة يقول: أنت ظلمتني!
فلم ينبس فاستطرد الرجل: وفلوسي؟!
وتحسس الرجل خديه الملتهبتين ثم قال: أنا لم أسئ إليك، فلا يحق لك أن تغتصب مالي، ولي عليك حق الزمالة!
فقال باحتقار: كنت ضمن أعوانه! - كنت صديقه وشريكه، ولا يعني هذا أن أكون عدوك، ولا شأن لي بخيانته!
انتهى الصراع، ولم يبق إلا التراجع، وقال سعيد بصراحة: إني في حاجة إلى نقود!
فبادره بياظة: لك ما تشاء!
قنع سعيد بعشرة جنيهات، وذهب الرجل وهو لا يصدق بالنجاة، ووجد سعيد نفسه كما بدأ وحيدا في الخلاء، وقد تجلى ضوء القمر بوضوح أكثر، وارتفعت مناجاة الأشجار، يبدو أن عليش سدرة قد أفلت من مخالب التأديب، نجا بخيانته ليزيد الخونة الآمنين واحدا، أما أنت يا رءوف فالأمل الباقي في ألا تضيع حياتي عبثا!
الفصل الرابع عشر
رجع إلى البيت ثم غادره ضابطا برتبة صاغ والساعة تدور في الواحدة، اتجه إلى شارع العباسية متجنبا أضواء المصابيح، متخذا مشية طبيعية جدا بفضل قوة أعصابه. واستقل تاكسيا إلى جسر الجلاء، ومر في طريقه بأفراد من الشرطة، فلم يرتح لمنظرهم بطبيعة الحال، وذهب إلى مرسى القوارب القريب من الجسر، فاكترى قاربا صغيرا لمدة ساعتين، ومضى يجدف جنوبا صوب قصر رءوف علوان في هواء رطيب، وتحت سماء صافية مرصعة بالنجوم وتربيع القمر معلق فوق أشجار الشاطئ، وكان يشعر بفورة نشاط عجيب وبأن حدثا متفجرا سينطلق عما قريب من صدره، أقنع نفسه بأن نجاة عليش سدرة ليست هزيمة له ما دام سينزل عقابه برءوف علوان، إذ إن رءوف هو رمز الخيانة التي ينضوي تحتها عليش ونبوية وجميع الخونة في الأرض، وقال لرءوف علوان وهو يجدف بقوة: جاء وقت الحساب، ولو كان الحكم بيننا غير الشرطة لضمنت تأديبك أمام الناس جميعا، الناس معي عدا اللصوص الحقيقيين، وذلك ما يعزيني عن الضياع الأبدي، أنا روحك التي ضحيت بها، ولكن ينقصني التنظيم على حد تعبيرك، وأنا أفهم اليوم كثيرا مما أغلق علي فهمه من كلماتك القديمة، ومأساتي الحقيقية أنني رغم تأييد الملايين أجدني ملقى في وحدة مظلمة بلا نصير، ضياع غير معقول ولن تزيل رصاصة عنه عدم معقوليته، ولكنها ستكون احتجاجا داميا مناسبا على أي حال، كي يطمئن الأحياء والأموات ولا يفقدون آخر أمل، ومال بالقارب نحو الشاطئ في نقطة تواجه القصر على وجه التقريب، وهبط منه إلى الأرض، ثم جذبه بقوة حتى صار مقدمه فوق السفح، ثم ارتقى المنحدر إلى الكورنيش مكتسبا من بدلته الرسمية ثقة وطمأنينة، لاح الطريق خاليا ولا أثر لمخبر حول القصر، فانبعث الارتياح في نفسه، ولم يخل في الوقت نفسه من حنق. واكتنف الظلام القصر عدا مصباح الباب، فتأكد لديه أن صاحب القصر لم يرجع بعد، وأن ذلك سيعفيه من اقتحام البيت، ويذلل له أكثر من عقبة، وفي مشية طبيعية مضى إلى الشارع إلى يسار القصر، قطعه حتى آخره، ثم مال مع شارع الجيزة نحو الشارع الآخر إلى يمين القصر عائدا منه إلى الكورنيش وهو يتفحص المكان كله ببصر من حديد، ومضى نحو شجرة فلبد فيما يليها من رقعة محجوبة عن مصباح الطريق وراح ينتظر، واستقرت عيناه على القصر طيلة الوقت عدا لحظات كان يريحهما بالنظر إلى سطح الماء المعتم، ودارت أفكاره أثناء ذلك حول خيانة رءوف، والخدعة التي حطمت حياته، والضياع الذي يحدق به، والموت الذي يسد طريقه، وكيف أن كل أولئك جعل من موت رءوف أمرا لا بد منه، وكان يتابع كل سيارة قادمة وهو يتوثب، وأخيرا توقفت سيارة أمام باب القصر وراح البواب يفتح الباب على مصراعيه، وأسرع سعيد نحو الشارع إلى يسار القصر، سار ملاصقا للسور، ثم توقف عند نقطة محاذية للسلاملك، حيث سيغادر الرجل سيارته، وتهادت السيارة في ممشى الحديقة حتى وقفت أمام السلاملك، وأضيء المصباح فغمر النور المدخل كله، أخرج سعيد مسدسه وصوبه نحو الهدف، وفتح باب السيارة، نزل رءوف علوان، وصاح سعيد: رءوف!
انتبه الرجل إلى مصدر الصوت في دهشة فصاح سعيد: أنا سعيد مهران ... خذ ...
غير أنه في نفس الوقت انطلقت نحوه من الحديقة رصاصة أصاب أزيزها صميم أذنه، حدث ذلك قبيل أن يطلق مسدسه فاضطرب اضطرابا مفاجئا وهو يطلق النار، وانحنى بسرعة ليتفادى من الرصاص المتتابع، ولكنه رفع رأسه في تصميم يائس وحذر، وسدد مسدسه مرة أخرى وأطلق رصاصة وأخرى في عجلة ولهوجة، وقع ذلك كله في ثوان، ثم انطلق يعدو بأقصى سرعة نحو شاطئ النيل، فوثب نحو القارب، ودفعه إلى الماء وفي الثانية التالية كان يجدف بكل قوته نحو الشاطئ الآخر، دار شعوره حول نفسه كالدوامة، وانطلقت قواه من أعمق مكامنها مباشرة وبلا أدنى وعي، وخيل إليه أن رصاصا ينطلق، وأصواتا تتجمع، وأن بعض جسمه يذوب، وكانت المسافة بين الشاطئين في منطقة عبوره ضيقة، فسرعان ما بلغ الشاطئ، ووثب إليه تاركا القارب للموج يفعل به ما يشاء، وصعد إلى أرض الشارع بيد قابضة على المسدس في جيبه، ورغم ما شعر به من تشتت فقد سار على مهل، وفي هدوء، لا يلتفت يمنة أو يسرة، وتأكد لديه أن أقداما تتدافع نحو الشاطئ، وأن أصواتا تحتدم وتعلو فوق الجسر، واخترقت الجو الخامل صفارة مجنونة، وتوقع في كل لحظة أن يلحق به مطارد، وتأهب للتمثيل بكافة احتمالاته أو لدخول المعركة الأخيرة، ومر به تاكسي قبل أن يقع حادث فناداه، واستقله، وما كاد يتخذ مجلسه حتى شعر بألم حاد ولكنه رغم ذلك شعر بنعمة النجاة، وتسلل إلى المسكن في ظلام حالك، واستلقى على الكنبة ببدلته الرسمية، وعاوده الألم كاشفا هذه المرة عن مكانه فوق الركبة، فامتدت يده إليه فاستشعر سائلا لزجا، أووه .. هل ارتطم بشيء؟ رصاصة؟ وراء السور أم وهو يجري؟ وتحسس موضعه فرجح لديه أنه مجرد جرح سطحي، ولو كانت رصاصة فقد احتكت به ولم تنفذ فيه، وقام فخلع البدلة في الظلام، وفتش عن جلبابه فوق الكنبة فارتداه، وذرع الحجرة ليطمئن على رجله، قديما أنت قطعت شارع محمد علي جريا برصاصة مستقرة لساعتها في ساقك، أنت قادر على فعل العجائب، وقد تفوز بالهرب أيضا، أما الجرح فقليل من البن يضمده، ولكن هل قتل رءوف علوان؟ ومن الذي أطلق النار من الحديقة؟ حذار أن تكون أصبت ضعيفا بريئا آخر، ولكن لا بد أن رءوف علوان قد قتل، فيدك لا تخطئ، كما شهدت بذلك الصحراء وراء الهضبة، وسوف ترسل خطابا إلى الصحف بعنوان: «لماذا قتلت رءوف علوان؟» عند ذاك تسترد الحياة معناها المفقود، فالرصاصة التي تقتل رءوف علوان تقتل في الوقت نفسه العبث، والدنيا بلا أخلاق ككون بلا جاذبية، ولست أطمع في أكثر من أن أموت موتا له معنى.
وأقبلت نور في غاية من الإعياء محملة بالطيبات، وقبلته كعادتها، وانبسطت أساريرها لتلقي بتحية لقاء، ولكن بصرها جمد فجأة على البنطلون، فنحت اللفة على الكنبة وتناولته هاتفة: دم!
ولحظ ذلك لأول مرة، فكشف عن رجله قائلا: جرح بسيط نتيجة ارتطام بباب التاكسي.
فصاحت: أنت خرجت مرتديا البدلة لسبب، أنت لن تقف عند حد، وسوف أموت كمدا! - قليل من البن يشفي هذا الجرح قبل طلوع الصبح! - طلوع الروح! أنت تقتلني قتلا، آه .. متى يزول الكابوس؟!
ونشطت في نرفزة، فكبست الجرح بالبن، وعصبته بقصاصة من بقايا الفستان الذي كانت تخيطه، وظلت طيلة الوقت تندب حظها، وقال لها: خذي دشا فهذا أنفع لك.
فذهبت وهي تقول: أنت لا تدري النافع من الضار !
ولما رجعت إلى مجلس حجرة النوم كان قد شرب ثلث الزجاجة فعاوده شيء من الاستقرار المريح، واستقبلها قائلا: اشربي، أنا هنا في مكان آمن مطمئن، لن تمتد إليه عين البوليس.
فقالت في نكد وهي تمشط شعرها المبتل: أنا تعيسة جدا!
فتساءل وهو يواصل الشراب: من يستطيع أن يحكم على الغد؟ - عملنا! - لا شيء، لا شيء مؤكد إلا قربك الذي لا غنى عنه. - أنت تقول هذا؟! - وأكثر، أنت جنة وسط الرصاص الذي يجد ورائي!
وتنهدت تنهيدة طويلة كمناجاة في الليل فقال: أنت طيبة جدا، أحب أن أعترف بذلك! - أنا تعيسة، لا أود إلا أن تبقى في السلامة. - ما تزال أمامنا فرصة. - الهرب! فكر في الهرب! - نعم .. ولكن لننتظر حتى يغمض الكلب عينيه.
فقالت بحدة: ولكنك تخرج بلا مبالاة، تود أن تقتل زوجتك والرجل الآخر، ولن تقتلهما ولكنك ستلقي بنفسك في الهلاك! - ماذا تسمعين في الخارج؟ - سائق تاكسي، دافع عنك بحرارة، ولكنه قال: إنك قتلت رجلا ضعيفا وبريئا.
ونفخ في غضب، ودارى ألمه الطافح بشربة مليئة، وأشار لها لتشرب، فرفعت الكوب إلى فيها، وتساءل: وماذا سمعت أيضا؟ - في العوامة التي سهرت فيها قال أحدهم عنك: إنك منبه مسل في الملل الراكد! - وأنت ماذا قلت؟
فلحظته بعتاب وقالت: ولا كلمة، أنا أحافظ عليك، أما أنت فلا تحافظ على نفسك، وأنت لا تحبني ولكنك أعز علي من النفس والحياة، وطول عمري لم أعرف السعادة إلا بين يديك ولكنك تفضل الهلاك على حبي!
وبكت، والكوب في يدها فطوقها بذراعه، وهمس في أذنها: ستجدينني عند وعدي، سنهرب ونعيش معا إلى الأبد!
الفصل الخامس عشر
يا للعناوين الضخمة والصور المثيرة، كأنه الحدث الأكبر الذي تتلقفه الصحف، وسألوا رءوف علوان فأجاب أن سعيد مهران كان خادما في عمارة الطلبة على عهد إقامته بها، وأنه كان يعطف عليه كثيرا، وأنه زاره بعد خروجه من السجن مستجديا فأعطاه مالا ليبدأ حياة جديدة، ولكنه حاول سرقة بيته في الليلة نفسها، فقبض عليه وعنفه، ولكنه أطلق سراحه رحمة به، وجاء أخيرا ليقتله ! واتهمته الصحف بالجنون؛ جنون العظمة والدم، لقد أفقدته خيانة زوجته عقله، فهو يطلق النار بلا وعي، ولم يصب رءوف علوان، ولكن البواب المسكين سقط، بريء ضعيف آخر.
وصاح سعيد وهو يقرأ الخبر: اللعنة!
الدوي يقرع بقوة صاروخية، وثمة مكافأة ضخمة لمن يرشد إليه، ومقالات تحذر الشعب من العطف عليه، أنت أهم ما في الحياة اليوم، وستظل كذلك حتى تزهق روحك، إنك مثار الخوف والإعجاب كالظاهرات الطبيعية الخارقة، وسيدين لك بالسرور كل من خنقه الملل، أما مسدسك فالظاهر أنه لا يقتل إلا الأبرياء، وستكون أنت آخر ضحية له، وتساءل بصوت جاف: أهذا هو الجنون؟!
كنت دائما تطمح إلى زلزلة الكون من أساسه، حتى وأنت مجرد بهلوان، وغزواتك الظافرة للقصور كانت خمرا يسكر بها رأسك الفخور، وكلمات رءوف التي آمنت بها، وكفر بها قائلها أطاحت برأسك حتى الموت.
ولبث وحيدا في الليل، وكان في الزجاجة خمر فشربها حتى آخر نقطة، ووقف في الظلام يطوقه صمت المقابر، ودارت رأسه رويدا، وشعر بأنه يتغلب على الصعاب، ويستهين بالموت ويطرب لأنغام خفية، وقال مخاطبا الظلام: رصاصة طائشة جعلت مني رجل الساعة!
ومضى إلى الشيش فنظر من خلاله إلى القرافة وقد رقدت القبور تحت ضوء القمر، وقال: يا حضرات المستشارين، اسمعوا لي جيدا، فقد قررت الدفاع عن نفسي بنفسي.
ورجع إلى وسط الحجرة، ثم نزع عنه جلبابه لشدة الحرارة في الحجرة، ولارتفاع الحرارة في جوفه من فعل الخمر، واختلج جرحه بالألم تحت العصابة، فآمن بأنه آخذ في الالتئام، وحملق في الظلام قائلا: لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه، وهو فرق عرضي لا أهمية له البتة، أما المضحك حقا فهو أن أستاذي الخطير ليس إلا وغدا خائنا، ويحق لكم العجب، ولكن يحدث أن يكون السلك الموصل للكهرباء قذرا ملطخا بإفرازات الذباب!
ومال نحو الكنبة فاستلقى عليها، وترامى إليه من بعيد نباح كلب، ولكن كيف تطمئن قضاتك وبينك وبينهم خصومة شخصية لا شأن لها بالصالح العام؟! إنهم أقرباء للوغد، ويفصل بينك وبينهم قرن من الزمان، وأنت تطالب بشهادة الضحية! وتؤكد أن الخيانة باتت مؤامرة صامتة! - أنا لم أقتل خادم رءوف علوان، كيف أقتل رجلا لا أعرفه ولا يعرفني؟ إن خادم رءوف علوان قتل؛ لأنه بكل بساطة خادم رءوف علوان، وأمس زارتني روحه فتواريت خجلا، ولكنه قال لي: ملايين هم الذين يقتلون خطأ وبلا سبب!
ستتألق هذه الكلمات، وتتوج بالبراءة، أنت واثق مما تقول، وفضلا عن ذلك فهم يؤمنون في قرارة أنفسهم بأن مهنتك مشروعة، مهنة السادة في كل زمان ومكان، وأن القيم الزائفة حقا فهي التي تقدر حياتك بالملاليم، وموتك بألف جنيه، وقاضي اليسار يغمز لك بعينه، فأبشر. - سأطلب دائما رأس رءوف علوان، ولو كآخر طلب من عشماوي، حتى قبل رؤية ابنتي، وأنا مضطر إلى ألا أعد العمر بأيام، لأن المطارد يقتات بزمنه انفعالات تنهال عليه في وحدته كالمطر!
لن يكون الحكم أقسى من جفول سناء، قتلتك قبل المشنقة، وعطف الملايين عليك عطف صامت، عاجز كأماني الموت، ألا يغفرون للمسدس خطأه وهو ربهم الأعلى؟! - إن من يقتلني إنما يقتل الملايين، أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء، وأنا المثل والعزاء والدمع الذي يفضح صاحبه، والقول بأنني مجنون ينبغي أن يشمل كافة العاطفين، فادرسوا أسباب هذه الظاهرة الجنونية واحكموا بما شئتم!
واشتد به الدوار فقضى بأنه عظيم بكل معنى الكلمة، عظمة هائلة، ولكنها مجللة بالسواد عشيرة للمقابر، ولكن عزتها ستبقى بعد الموت، وجنونها تباركه القوة السارية في جذور النبات وخلايا الحيوان، وقلب الإنسان، وسرقه النوم؛ فلم يدر كيف سرقه، ولم يفطن إلى أنه نام حقا إلا حين استيقظ على ضوء يغمر الحجرة، وفتح عينيه فرأى نور واقفة تنظر إليه من عينين ميتتين، وقد تدلت شفتها السفلى، واحدودب ظهرها في قنوط، بدت مثالا صادقا لليأس والضياع، أدرك ما وراء ذلك في ثانية، لقد سمعت عن الجريمة الأخيرة فانكتمت أنفاسها. - أنت أقسى مما أتصور، لا أفهمك، ولكن بالله اقتلني رحمة بي !
وجلس على الكنبة دون أن ينبس. - أنت تفكر في القتل لا في الهرب، وسوف تقتل، هل تظن أنك ستهزم الحكومة بجنودها الذين يملئون الشوارع؟ - اجلسي ولنتحدث في هدوء! - من أين لي الهدوء؟ وفيم نتحدث؟ انتهى كل شيء، اقتلني رحمة بي!
فقال بهدوء رقيق: لا مسك سوء أبدا! - لن أصدق كلمة مما تقول، لماذا تقتل البوابين؟
فهتف بحدة: لم أقصد مسه بسوء! - والآخر؟ من هو رءوف علوان؟ ماذا بينك وبينه؟ أكانت له علاقة بزوجتك؟
فضحك ضحكة جافة كالسعلة: فكرة مضحكة! ثمة أسباب أخرى، إنه خائن أيضا، ولكن من نوع آخر، لا أستطيع أن أفهمك كل شيء!
فقالت بغضب: ولكنك تستطيع أن تعذبني حتى الموت! - قلت اجلسي لنتحدث في هدوء. - أنت ما زلت تحب زوجتك، تلك الخائنة، ولكنك تعذبني أنا!
فقال متوجعا: نور، لا تزيديني عذابا، أنا في غاية من النكد!
وصمتت متأثرة بتوجعه الذي لم تره من قبل، ثم قالت بحزن شديد: إني أشعر بأن أعز ما في حياتي يحتضر! - وهم وخوف، أما المغامر مثلي فلا يعترف بالشدائد، سأذكرك بذلك.
فتساءلت بلهجة ندب: متى؟
فقال مدعيا ثقة لا حد لها: أقرب مما تتصورين!
ومال نحوها فجذبها من يدها إليه، ولصق جبينها بجبينه حتى امتلأ أنفه برائحة الخمر والعرق. ولم يتقزز، بل قبلها بحنان صادق.
الفصل السادس عشر
اقترب الفجر ونور لم تعد، أنهكه الانتظار والفكر حتى شعر بضربات السهاد تنهال على جمجمته، وإذا بالظلمة الحارة تنحسر عن تساؤل أحمر: هل يمكن أن تلعب المكافأة الموعودة بقلب نور؟ حقا تلوث دمه بسوء الظن لآخر قطرة، والخيانة في عينيه أضحت كرائحة الغبار في اليوم الخماسيني، وكم ظن في الماضي أن نبوية ملك يديه، ولعلها في الواقع لم تحبه قط حتى على عهد النخلة الوحيدة في نهاية الحقل، ولكن رغم ذلك كله فنور لن تخونه، ولن تسلمه إلى البوليس طمعا في مكافأة، فقد ضجرت من المعاملات، وتقدم العمر وباتت تحن إلى عاطفة إنسانية خالصة. ينبغي أن يندم على سوء ظنه، ولكن متى تعود نور ؟ لقد اشتد بك الجوع والظمأ والانتظار، كحالك يوم وقفت تحت النخلة تنتظر؛ تنتظر نبوية ونبوية لا تجيء، وجعلت تحوم حول بيت العجوز التركية وأنت تقضم أظافرك، وكدت من اليأس أن تطرق الباب في طيش جنوني، أي هزة فرح كانت تسكر جوارحك عند بزوغ طلعتها! هزة شاملة متغلغلة مطربة مسكرة تشدك من أطراف أصابعك إلى السماء السابعة، فيها الدمعة والضحكة والاندفاع والثقة والفرحة الجامحة، ولكن لا تتذكر عهد النخلة بعدما انقضى، وفصل بينك وبينه الدم والرصاص والجنون، انظر ماذا أنت صانع بمرارة الانتظار في هذه الظلمة الحارة القاتلة، يبدو أن نور لا تريد أن تعود، لا تريد أن تنقذه من عذاب الوحدة والظلمة والجوع والظمأ، ورغم كل شيء فقد نام وهو أيأس ما يكون من الندم، ولما فتح عينيه رأى الشيش ينضح بنور النهار، ووهج الحر يشتعل في الحجرة المغلقة، ووثب إلى أرض الحجرة في انزعاج ثم انتقل إلى حجرة النوم فوجدها كما تركتها المرأة أمس، ودار بالشقة: كلا، نور لم تعد. ترى أين باتت المرأة؟ وماذا منعها عن العودة؟ وإلام يقضى عليه بهذا السجن المنفرد؟ وقرصه الجوع رغم قلقه وأفكاره، فذهب إلى المطبخ فوجد في الصحاف كسرا من الخبز، وفتات لحم عالقة بالعظام، وبعضا من البقدونس، فأتى عليها في نهم شديد، وتمصص العظام ككلب، وتقضى النهار وهو يتساءل عن غيابها، وهل تعود؟ يجلس حينا ويتمشى حينا آخر، ولم يجد من تسلية إلا في النظر من الشيش إلى القرافة، ومتابعة الجنازات، وعد القبور دون جدوى، وجاء المساء ولم تعد، لا يمكن أن يقع هذا بلا سبب، أين نور؟ مزقه القلق والضيق والجوع، نور في مأزق بلا ريب، ولكن يجب أن تخلص من مأزقها ثم تعود، وإلا فكيف تمضي به الحياة؟
وغادر البيت عقب منتصف الليل دون أن يسمع همس حذائه أحد، وقطع الخلاء نحو قهوة طرزان، وعند موقفه المعتاد صفر ثلاثا، وانتظر حتى جاءه المعلم طرزان، وصافحه الرجل وهو يقول له: كن شديد الحذر، لا يخلو شبر من مخبر! - أريد طعاما ! - يا خبر أبيض! جوعان! - نعم، لا تعجب لشيء يا معلم! - سأرسل الولد ليحضر لك الكباب، ولكن من الخطر حقا أن تخرج! - تعرضنا فيما مضى لأخطار أشد، أنا وأنت ... - كلا، الهجمة الأخيرة قلبت عليك الدنيا! - طول عمرها وهي مقلوبة! - ولكن من النحس أن تهاجم رجلا خطير الشأن.
وودعه وانصرف، وبعد ساعة جاءه الطعام فالتهمه بعنف، وجلس فوق الرمال تحت قمر أوشك أن يكتمل، ونظر من بعيد إلى النور المنبثق من قهوة طرزان فوق الهضبة، وتخيل مجمع السمار والجالسين في الحجرة، حقا إنه لا يحب الوحدة، وهو بين الناس يتضخم كالعملاق، ويمارس المودة والرياسة والبطولة، وبغير ذلك لا يجد للحياة مذاقا، ولكن نور هل عادت؟ هل تعود؟ هل يرجع إليها أو يرجع إلى الوحدة القاتلة؟! وقام فنفض الغبار عن بنطلونه، ومشى نحو الغابة ليعود من الطريق الذي يدور حول مدفن الشهيد من ناحيته الجنوبية، وعند الموقع الذي انقض فيه على بياظة انشقت الأرض عن شبحين وثبا نحوه فجأة حتى أحاطا به من الجانبين. قال أحدهما بلهجة ريفية ممدنة: قف ...
وهتف الآخر: بطاقة الشخصية!
وسلط الأول على وجهه نور بطارية، فأحنى رأسه كأنه يحمي عينيه، وصاح بعنف غير متوقع في الوقت نفسه: من أنتما؟ .. تكلما!
دهش الرجلان للهجة الآمرة ولكنهما تبينا ملبسه على ضوء البطارية وإذا بالأول يقول: لا مؤاخذة يا حضرة الضابط، لم نتبين شخصيتك في ظل الغابة!
فصاح بعنف أشد: من أنتما؟
فقالا بعجلة ولهوجة: من قوة الوايلي يا فندم.
ومع أن البطارية انطفأت إلا أنه قرأ في وجه الآخر شيئا رابه، رآه يتمعن فيه بقوة، كأن شكا داخله، وخشي أن يفلت الزمام منه، فبقوة تصميم لا تعرف التردد وجه قبضتيه معا إلى بطني الرجلين فترنحا، وقبل أن يتمالكا نفسيهما انهال عليهما لكما في مواطن الضعف كالفك وأعلى البطن حتى سقطا مغشيا عليهما، ثم انطلق في طريقه بأقصى سرعة، ولم يتجه نحو شارع نجم الدين حتى وقف عند منعطفه مليا ليتأكد من أن أحدا لا يتبعه، ورجع إلى البيت فوجده خاليا كما تركه، ووجد الوحشة والضيق والقلق في انتظاره، وخلع الجاكتة وارتمى على الكنبة في الظلام، وتساءل بصوت مسموع كئيب: نور، أين أنت؟
محال أن تكون بخير، هل قبض البوليس عليها؟ هل اعتدى عليها بعض الأوغاد؟ هي ليست على أي حال بخير، هو يؤمن بذلك بقلبه وغريزته، لن يرى نور مرة أخرى، وخنقه اليأس خنقا، ودهمه حزن شديد الضراوة، لا لأنه سيفقد عما قريب مخبأه الآمن، ولكن لأنه فقد قلبا وعطفا وأنسا. وتمثلت لعينيه في الظلمة بابتسامتها ودعابتها وحبها وتعاستها فانعصر قلبه، ودلت حاله على أنها كانت أشد تغلغلا في نفسه مما تصور، وأنها كانت جزءا لا يصح أن يتجزأ من حياته الممزقة المترنحة فوق الهاوية، وأغمض عينيه في الظلام واعترف اعترافا صامتا بأنه يحبها، وأنه لا يتردد في بذل النفس ليستردها سالمة، ونفخ غاضبا وهو يتساءل: هل تهتز شعرة في الوجود لضياعها؟
كلا، حتى نظرة الرثاء غير المجدية لن تحظى بها، امرأة بلا نصير في خضم الأمواج اللامبالية أو المعادية، وسناء كذلك قد تجد نفسها يوما بلا قلب يهتم بها، وتقبض قلبه في خوف وغضب فتناول مسدسه، ثم سدده في الظلام كأنما يحذر المجهول، وتأوه من الأعماق في يأس، وهكذا طال به هذيان الصمت والظلام حتى صرعه النوم في آخر الليل.
وفتح عينيه في ضوء النهار، وسرعان ما تنبه إلى أنه استيقظ على يد تطرق الباب، نهض منزعجا، ثم سار على أطراف أصابعه إلى مدخل الشقة والطرق متواصل، وارتفع صوت امرأة مناديا: «يا ست نور ... يا ست نور!» من المرأة؟ وماذا تريد؟ ورجع إلى الحجرة ثم عاد بمسدسه على سبيل الحيطة؛ وإذا بصوت رجل يقول: لعلها خرجت فقالت المرأة: في مثل هذا الوقت تكون في البيت، ولم تتأخر من قبل في دفع الإيجار. إذن فهي صاحبة البيت، وطرقت المرأة الباب طرقة غاضبة ثم قالت: اليوم الخامس من الشهر ولن أصبر أكثر من ذلك! وابتعدت هي والرجل وهما يتبادلان التعليق في لهجة وعيد.
وآمن سعيد بأن الحوادث تطارده كالبوليس، لن تصبر المرأة طويلا على الانتظار، وسوف تقتحم الشقة بوسيلة أو بأخرى، وخير ما يفعل هو أن يغادر الشقة في أقرب فرصة ممكنة.
ولكن أين المفر؟
الفصل السابع عشر
عادت صاحبة البيت إلى طرق الباب عند العصر ثم عند المساء، ورجعت آخر مرة وهي تقول: لا لا يا ست نور، لا بد لكل شيء من آخر.
وغادر البيت متسللا عند منتصف الليل، وبالرغم من أنه فقد الثقة في كل شيء إلا أنه مشى مشية طبيعية جدا ومتمهلة كأنما يتريض، وخيل إليه أكثر من مرة أن المارة والمتسكعين ليسوا إلا مخبرين، فتوثب لدخول آخر معركة يائسة، ولم يشك في أن البوليس يحتل منطقة طرزان كلها بعد معركة أمس، فمضى نحو طريق الجبل، وكان الجوع ينهش بطنه، ووجد نفسه يفكر في مسكن الشيخ علي الجنيدي كمرفأ مؤقت حتى يتسع له مجال التفكير والمغامرة، وتسلل إلى فناء البيت الصامت، وعند ذاك فحسب تنبه إلى أنه نسي بدلته الرسمية - بدلة الضابط - في حجرة الجلوس ببيت نور، فغضب لذلك أيما غضب، ولكنه واصل سيره إلى حجرة الشيخ، ورأى الشيخ على ضوء المصباح متربعا في ركن المصلى غارقا في نجوى هامسة، فذهب إلى جدار الحجرة حيث ترك كتبه وجلس في إعياء، واستمر الشيخ في نجواه، فقال سعيد: مساء الخير يا مولاي!
فرفع الشيخ يده إلى رأسه ردا على تحيته دون أن يقطع نجواه، فقال سعيد: مولاي، أنا جائع!
فخيل إليه أنه قطع النجوى، ورنا إليه من عينين غائبتين ثم أومأ بذقنه إلى خوان قريب، فرأى سعيد فوقه تينا وخبزا، فنهض إليه دون تردد ثم التهمه بنهم حتى أتى عليه، ووقف ينظر إلى الشيخ بعينين تنطقان بعدم شبعه، فسأله: أليس معك نقود؟ - بلى! - اذهب واشتر شيئا تأكله.
فعاد إلى مجلسه صامتا، وجعل الشيخ يتأمله مليا، ثم سأله: متى يا ترى تستقر؟ - ليس على سطح هذه الأرض! - لذلك فأنت جائع رغم نقودك! - ليكن ... - أما أنا فكنت أردد شعرا عن الأحزان، ولكن بقلب مبتهج. - أنت شيخ سعيد!
ثم بغضب: هرب الأوغاد ، كيف بعد ذلك أستقر؟! - كم عددهم؟ - ثلاثة. - طوبى للدنيا إذا اقتصر أوغادها على ثلاثة. - هم كثيرون، ولكن غرمائي منهم ثلاثة. - إذن لم يهرب أحد. - لست مسئولا عن الدنيا! - أنت مسئول عن الدنيا والآخرة!
ونفخ لنفاد صبره؛ فقال الشيخ: الصبر مقدس تقدس به الأشياء!
فقال سعيد بغم: بل المجرمون ينجون ويسقط الأبرياء!
فتساءل الشيخ وهو يتنهد: متى نظفر بسكون القلب تحت جريان الحكم؟
فأجاب سعيد: عندما يكون الحكم عادلا. - هو عادل أبدا.
فحرك سعيد رأسه في غيظ مغمغما: هرب الأوغاد، وا أسفاه!
فابتسم الشيخ ولم ينبس، فقال سعيد بنبرة جديدة يمهد بها لتغيير مجرى الحديث: سأنام ووجهي إلى الجدار، لا أود أن يراني أحد ممن يزورونك، إني ألجأ إليك فاحفظني!
فقال الشيخ برحمة: التوكل ترك الإيواء إلا إلى الله.
فسأله بإشفاق: هل تتخلى عني؟ - معاذ الله!
فتساءل في يأس: هل في وسعك بكل ما أوتيت من فضل أن تنقذني؟ - أنت تنقذ نفسك إن شئت!
فهمس سعيد لنفسه: أنا أقتل الآخرين!
ثم سأله بصوت مرتفع: هل تستطيع أن تقيم ظل شيء معوج؟
فقال الشيخ برقة: أنا لا أهتم بالظلال!
وساد الصمت فدبت الحياة خارج الكوة التي يسيل منها القمر، ورتل الشيخ بصوت هامس: «إن هي إلا فتنتك.» وقال سعيد: إن الشيخ سيجد دائما ما يقوله، وبيتك يا مولاي غير مأمون وإن تكن أنت الأمان نفسه، وعلي أن أهرب مهما كلفني الأمر، وأما أنت يا نور فلتحفظك الصدفة إن أعوزك العدل والرحمة، ولكن كيف نسيت البدلة الرسمية؟ لففتها مصمما على أخذها معك، فكيف نسيتها في آخر لحظة؟ حقا فقدت جميل مزاياك بالسهاد والوحدة والظلمة والقلق، وقد يجدون في البدلة أول خيط يوصل إليك، وقد تشمها الكلاب فتنتشر في جهات الأرض الأربع كي تكتمل المأساة التي يتسلى بها قراء الصحف، وإذا بالشيخ يقول فيما يشبه الأسى: سألتك أن ترفع وجهك إلى السماء، وها أنت تنذر بأنك ستدفنه في الجدار!
فحدجه بحزن هاتفا: وحديثي عن الأوغاد ألا تذكره؟
فقال بنبرة دسمة: واذكر ربك إذا نسيت .
فغض بصره في كرب ثم ساءل نفسه: كيف نسي البدلة، وعاودته أفكار السوء، أما الشيخ فقال وكأنما يخاطب آخر: سئل: «أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به، هل يرد من قدر الله؟» فأجاب: «إنه من قدر الله!» - ماذا تعني؟
فقال وهو يتأوه آسفا: لم يكن أبوك ليغلق عليه قولي أبدا!
فقال سعيد بشيء من الحدة: من المؤسف أنني لم أجد عندك طعاما كافيا، كما هو مؤسف أنني نسيت البدلة، كذلك عقلي يتعذر عليه فهمك، وسأدفن وجهي في الجدار، ولكني واثق من أنني على حق ...
فقال باسما في رثاء: قال سيدي: «إني لأنظر في المرآة كل يوم مرارا مخافة أن يكون قد اسود وجهي!» - أنت؟! - بل سيدي نفسه!
فتساءل ساخرا: فكيف ينظر الأوغاد في المرآة كل ساعة؟!
وحنى الشيخ رأسه وهو يرتل: إن هي إلا فتنتك. وأغمض سعيد عينيه وهو يقول لنفسه: إني متعب حقا، ولكن لن يهدأ لي بال حتى أجيء بالبدلة.
الفصل الثامن عشر
وأذاب الإرهاق إرادته فنام رغم تصميمه على إحضار البدلة، واستيقظ قبيل الظهيرة فكان عليه أن ينتظر اللليل، وفي أثناء ذلك رسم خطة للهرب، ولكن كان عليه أيضا أن ينتظر حينا من الدهر حتى يغمض البوليس عينه عن منطقة طرزان وهو قطب الخطة، وبعد منتصف الليل ذهب إلى شارع نجم الدين، فرأى ضوءا في نافذة الشقة، حملق في النافذة مذهولا حتى تأكد مما يرى، ارتفعت دقات قلبه حتى أصمت أذنيه، واكتسحته فرحة فاقتلعته من دنيا الكابوس، نور في الشقة، أين كانت؟ سيعرف أسباب غيابها، ولكنها عادت، هي الآن تتساءل عن مكانه، وتعاني لفحات الجحيم الذي احترق فيه، إن قلبه يؤكد له عودتها؛ قلبه الذي لا يكذبه قط، وهموم التشرد ستتلاشى إلى حين، وربما إلى الأبد، وسيحتويها بين ذراعيه بكل قوة، ويعترف لها من قلب ممزق بالحب الأبدي. وتسلل إلى داخل البيت نشوان بالسعادة والنصر، ورقي في السلم وهو يحلم بدرجات من النصر لا حد لها ولا حصر، سيهرب ويستقر طويلا، ثم يعود يوما لينكل بالأوغاد، واقترب من باب الشقة وهو يلهث، أحبك يا نور، بكل قلبي أحبك، وأضعاف ما أعطيتني من حب، سأدفن في صدرك ضياعي وخيانة الأوغاد وجفول ابنتي، وطرق الباب، وفتح الباب عن وجه رجل! رجل قصير في ملابسه الداخلية، تبخر سعيد فلم يبق منه إلا رماد، وحملق فيه الرجل بدهشة وهو يتساءل: من حضرتك؟
وسرعان ما حلت محل النظرة المتسائلة نظرة شك وارتياع، أيقن سعيد أن الرجل سيعرفه، ودون تردد سد فاه بيسراه، ولكمه بالأخرى في بطنه، وتلقاه بين يديه، فأنامه على العتبة كيلا يحدث صوتا، وفكر في اقتحام الشقة تنقيبا عن البدلة، ولكنه لم يكن متأكدا من خلوها؛ وإذا بصوت امرأة يتساءل من الداخل: من الطارق يا معلم؟
وتحول عن موقفه يائسا، فقطع السلم وثبا حتى بلغ الطريق، وشق طريق المصانع إلى طريق الجبل، وهناك شك في أشباح تتحرك، فلبد عند أسفل جدار وانطرح على وجهه، ولم يستأنف سيره الحذر حتى خلا الطريق من أي أثر لإنسان، وتسلل مرة أخرى إلى مسكن الشيخ قبيل الفجر، وكان الشيخ في ركنه يترقب الأذان، وخلع بدلته وتمدد فوق الحصيرة دافنا وجهه في الجدار رغم يأسه من نوم قريب، وقال له الشيخ: نم فالنوم عبادة لأمثالك!
فلم ينبس، ونادى الشيخ بصوت خافت «الله»، وظل مسهدا حتى أذان الفجر، ثم ظل مسهدا حتى ترامى صوت بياع اللبن، ولم يدرك أنه نام إلا عندما رقد فوق صدره كابوس، ولما فتح عينيه رأى ضوء المصباح الواني منتشرا في الحجرة كالضباب، إذن لم ينم إلا ساعة على الأكثر، والتفت نحو فراش الشيخ فوجده خاليا، ورأى على كثب من كتبه المكومة شواء وتينا وقلة ماء، شكرا لك يا مولاي، ولكن متى جئت بهذا الطعام؟ وسمع خارج الحجرة أصواتا فعجب لذلك، وزحف على أربع نحو الباب الموارب فنظر من زيقه فرأى لدهشته أهل الذكر يفترشون الحصر، كما رأى عاملا يوقد الكلوب في أعلى الباب الخارجي، رباه إنه المغيب لا السحر كما توهم، وإذن فقد نام طيلة النهار وهو لا يدري، يا له من نوم عميق حقا، وأجل التفكير في أي شيء حتى يأكل، فالتهم الطعام وشرب حتى روي، وارتدى البدلة ثم أسند ظهره إلى كتبه ومد ساقيه إلى الأمام، وسرعان ما ازدحم رأسه بالبدلة الرسمية المنسية، والرجل الذي فتح له باب الشقة، وسناء ونور ورءوف ونبوية وعليش والمخبرين وطرزان والسيارة التي سيخترق بها الحصار، عصفت جميعا برأسه. ليس الصبر في صالحك ولا التردد، وبأي ثمن يجب أن تتصل بطرزان الليلة ولو ذهبت إليه زحفا فوق الرمال، غدا سينطح البوليس الصخر ويركب الرعب الأوغاد، وسمع في الخارج يدا تصفق وإذا بأصوات الرجال تسكت، وجلال الصمت يسود، وردد الشيخ علي الجنيدي ثلاثا «الله» فردد الآخرون النداء في نغمة رسمت في مخيلته حركة الذكر الراقصة، الله .. الله .. الله، وازدادت النغمة سرعة وارتفاعا ثم اختزالا مع زيادة في السرعة كصوت قطار منطلق، وتواصلت دون انقطاع فترة غير قصيرة، ثم أخذ يداخلها الوهن رويدا ثم التراخي في الإيقاع والبطء، ثم ترنحت وتهاوت في الصمت. وعند ذاك علا صوت رخيم مترنما:
واحسرتي، ضاع الزمان، ولم أفز
منكم، أهيل مودتي بلقاء
ومتى يؤمل راحة من عمره
يومان، يوم قلى، ويوم تناء
وارتفعت التأوهات في الأركان، ثم ارتفع صوت آخر يترنم:
وكفى غراما أن أبيت متيما
شوقي أمامي والقضاء ورائي
وانتشرت التأوهات مرة أخرى، وتتابع الغناء حتى صفقت اليد داعية إلى الذكر من جديد، فتردد اسم الله بغير انقطاع، واستسلم للسماع، وزحف الليل، ثم ركضت الذكريات كالسحب، تمايل عم مهران الأب مع الذاكرين، وجلس الغلام عند النخلة يراقب المشهد بعينين مشدوهتين، وانبثقت من الظلمات أخيلة عن الخلود في كنف الرحمن، وومضت آمال باهرة نافضة عنها تراب النسيان، وتحت النخلة الوحيدة بشارع المديرية ندت همسات ندية كأفراح الفجر، وتكلمت سناء الصغيرة في حضنه بلغة فطرية ساحرة، ثم هبت أنفاس متقدة من أعماق الجحيم، توالت بعدها الضربات، وامتدت أنغام المنشد وآهات الذاكرين، ومتى يؤمل راحة، وضاع الزمان ولم أفز، والقضاء ورائي، وهذا المسدس المتوثب في جيبي له شأن. لا بد أن ينتصر على الغدر والفساد، ولأول مرة سيطارد اللص الكلاب.
وفرقع صوت مزعج تحت الكوة، وحاورته أصوات: يا خبر، الحي كله محاصر! - ولا أيام الحرب! - سعيد مهران!
انكمش في تكهرب، ويده تلتصق بمسدسه، وتحفزت فيه كل جارحة، وأجال في المكان نظرة زائغة؛ مكان مزدحم وفيه إغراء للمخبرين، يجب ألا تسبقني الحوادث، إنهم يتفحصون الآن البدلة وهناك الكلاب، وأنت هنا عار معرض للأبصار، وإن يكن طريق الصحراء ملغما فعلى خطوات يقع وادي الموت، وسأقاتل حتى الموت، ونهض مصمما مقتربا من الباب، الجميع غارقون في الذكر، والممر إلى الباب خال، ومرق من الباب ومضى نحو الطريق، ومال يسرة وهو يسير في هدوء مصطنع ثم انحدر في طريق المقابر؛ الليل راسخ ولكن القمر لم يطلع، والظلام جدار أسود يسد الطريق، وغاص وسط القبور في تيه من الفناء لا يهتدي بشيء، وتخبط في سيره لا يدري إن كان يتقدم أم يتأخر، ومع أن بارقة أمل واحدة لم تومض، إلا أنه طفح بحيوية خارقة .. وترامت إليه مع النسيم الدافئ ضوضاء، وتمنى أن يختفي في قبر، ولكنه لم يكف عن السير، وكان يخشى الكلاب، ولكن لم يكن في وسعه حيلة ولا في طاقته أن يقف، وبعد مسير دقائق وجد نفسه في الصف الأخير من القبور ورأى أمامه منظرا غير غريب، إنه مدخل القرافة الشمالي فيما يتصل بشارع نجم الدين. أجل هذا هو شارع نجم الدين، وهذا هو البيت الوحيد القائم فيه، وهذه هي الشقة، وها هي النافذة مفتوحة ينبعث منها نور، وأحد البصر فرأى في النافذة امرأة، ها هو رأسها مطموس المعالم، ولكنه يذكره بنور، وخفق قلبه خفقة مزلزلة، هل عادت نور؟ أو أن عينيه تخدعانه كما خدعه قلبه بالأمس؟! بت لعبة في أيدي الخدع وهذا نذير بالنهاية، وإن تكن هي نور فما يريد إلا أن ترعى سناء إذا حم القضاء. وقرر أن يناديها على ما في ذلك من مخاطرة، وقبل أن يخرج الصوت من حلقه ترامى من بعد نباح كلاب، ثم تتابع في الصمت كالطلقات المتفجرة، وتراجع في فزع، وأوغل بين القبور والنباح يشتد، وألصق ظهره بقبر ثم أشهر مسدسه وهو يحملق في الظلام موقنا بدنو الأجل، أخيرا جاءت الكلاب وانقطع الأمل، ونجا الأوغاد ولو إلى حين، وقالت حياته كلمتها الأخيرة بأنها عبث، ومن المستحيل تحديد مصدر النباح الذي ينطلق مع الهواء في كل موقع، ولا أمل في الهروب من الظلام بالجري في الظلام؛ نجا الأوغاد وحياتك عبث، واقتربت الضوضاء والنباح، وقريبا تتردد أنفاس الحقد والتشفي على وجهك. وحرك مسدسه في غضب والنباح يشتد ويقترب، وإذا بضوء ساطع باهر يغمر المنطقة في حركة دائرة، فأغمض عينيه وارتمى أسفل القبر، وهتف صوت في ظفر: سلم، لا فائدة من المقاومة!
وارتجت الأرض بوقع الأقدام الثقيلة المطوقة، وانتشر الضوء كالشمس: سلم يا سعيد!
اشتد التصاقه بالقبر متأهبا لإطلاق النار، ودار رأسه في كل مكان، وصاح صوت وقور: سلم، وأعدك بأنك ستعامل بإنسانية!
كإنسانية رءوف ونبوية وعليش والكلاب! - أنت محاصر من جميع الجهات، القرافة كلها محاصرة، فكر جيدا وسلم نفسك!
واطمأن إلى أن تناثر القبور يحول دون رؤيته، فلم يتحرك، وصمم على الموت، وتساءل صوت في حزم: ألا ترى أنه لا فائدة من المقاومة؟
وشعر باقتراب الصوت عما قبل فصاح مكرها: الويل لمن يقترب! - حسن، ماذا تنوي؟ اختر بين الموت وبين الوقوف أمام العدالة.
فصرخ بازدراء: العدالة! - أنت عنيد، أمامك دقيقة واحدة!
ورأت عيناه المعذبتان بالخوف شبح الموت يشق الظلام، وجفلت سناء بلا أمل، وأحس حركة غادرة فاستشاط غضبا وأطلق النار، وانهال الرصاص حوله فخرق أزيزه أذنيه، وتطاير نثار القبور، وأطلق الرصاص مرة أخرى، وقد ذهل عن كل شيء، فانصب الرصاص كالمطر، وفي جنون صرخ: يا كلاب!
وواصل إطلاق النار في جميع الجهات.
وإذا بالضوء الصارخ ينطفئ بغتة فيسود الظلام، وإذا بالرصاص يسكت فيسود الصمت، وكف عن إطلاق النار بلا إرادة، وتغلغل الصمت في الدنيا جميعا، وحلت بالعالم حال من الغرابة المذهلة، وتساءل عن ... ولكن سرعان ما تلاشى التساؤل وموضوعه على السواء، وبلا أدنى أمل، وظن أنهم تراجعوا وذابوا في الليل، وأنه لا بد قد انتصر، وتكاثف الظلام فلم يعد يرى شيئا ولا أشباح القبور، لا شيء يريد أن يرى، وغاص في الأعماق بلا نهاية، ولم يعرف لنفسه وضعا ولا موضعا ولا غاية، وجاهد بكل قوة ليسيطر على شيء ما، ليبذل مقاومة أخيرة؛ ليظفر عبثا بذكرى مستعصية، وأخيرا لم يجد بدا من الاستسلام فاستسلم بلا مبالاة ... بلا مبالاة ...
ناپیژندل شوی مخ