261

أصوات :

هيا .. هيا .. (حسن ينصرف في خيلاء وهو يجر سيفه الطويل وراءه .. بينما يحييه الجمهور ويردد الأطفال الأغنية السابقة: حسن سيف .. حسن سيف).

3 (في الخلاء .. حسن يجر بغلته وراءه ويستحثها على السير .. الجبال الشامخة من حوله، والصمت ينشر الرعب والرهبة، يقف بجوار شجرة ضخمة، تختزن روح الأرض والشمس والرياح والذكريات في جذورها وساقها وأغصانها، وتبدو من بعيد كساحرة شمطاء هائشة الشعر، حسن يحاور البغلة باستمرار ويربت على ظهرها ورقبتها ورأسها ويقدم لها العلف .. الوقت عند الغروب).

حيا الله! حيا الله! انتهى السفر وآن أن تستريحي .. آن أيضا أن أستريح .. كانت رحلة متعبة .. أليس كذلك؟ الصخور وعرة ناتئة، دروب تنحدر إلى الهاوية، أغوار وكهوف ومزالق تتربص فيها أشباح الموت وتلمع عين الخطر المجهول، لكننا وصلنا .. نعم وصلنا .. ألا تصدقين؟ يمكنك الآن أن تفرحي وتأكلي .. الماء أيضا موجود .. لن تجوعي ولن تعطشي وأنت مع حسن .. هيا .. هيا (يربت على ظهرها وعنقها ورأسها ويلثمها في جبهتها) آه ... تعبت يا حسن! الباحث عن المجد يتعب دائما .. لكنه سيستريح .. انتظر وسوف تستريح .. لا ليس في القبر .. بل على العرش .. تعبت من الطريق .. من الصعود والهبوط .. تحت وهج الشمس التي لا ترحم .. لكنك أفلت من الخطر .. ضحكت على الحراس وظنوا أنهم يضحكون عليك .. عندما اقتربت من السور ورأوك على بغلتك اقتربوا منك وضحكوا .. سألوك إلى أين فقلت إلى الطاهش .. أغرقوا في الضحك وقالوا: سئمت الحياة؟ قلت: بل حبا فيها. سأل كبير الحرس: ولهذا تمضي للموت برجلك؟ قلت: طريقي يذهب للمجد. صعد نظرته في وضحك وقال: يذهب ولا يعود .. رفعت السيف فقهقه هو والحراس كأني أطلقت دعابة: ما هذا؟ كشرت عن الأنياب وصحت: هذا سيف حسن سيف. أقبلوا يفحصون ويقرءون النقش المرسوم عليه: سيف من خشب؟ صحت: وأعطاني الله القوة؛ من خشب أو من طين، هو سيفي. قالوا: قتل الألف. قلت: وأسر الألف، وهرب الجبناء وكانوا أكثر من ألف، ربت الفارس على ظهري: حياك الله .. حياك الله .. قبلك ذهب الفرسان وعادوا .. أشلاء ودماء .. أو رجعوا مذعورين، قلت: بعون الله سأرجع ومعي رأسه .. تحسس رأسي وهو يضحك: أو معه رأسك. قلت بغضب وعناد: ومعي المجد. قال كبير الحراس: حذرناك وأنذرناك. ارجع لا تذهب للموت .. كررت بصوت مشروخ ورفعت السيف: بل أذهب للمجد .. وأرجع فوق جواد المجد. ضحكوا وقالوا: هيا .. هيا .. اذهب للمجد أو اللحد .. حذرناك وأنذرناك .. الحق أنني خفت بعد أن ابتعدت عن السور .. نظرت حولي فارتعشت ساقي وزحفت أسراب النمل إلى رأسي .. تلفت أبحث عن الأشلاء .. لا شيء .. أعاين الصخور لأكتشف آثار الدماء .. لا شيء .. أين إذن ذهبوا؟ في بطن الطاهش! ها ها ها! (يضحك) الطاهش .. يا لك من كذبة! كلي كلي، أتريدين الماء؟ معك الحق .. أنا أيضا أهلكني العطش المهلك (يفتح الجراب ويخرج زمزمية يرفعها إلى فمه، ثم يصب في كفه بعض الماء ويمدها للبغلة التي تشرب منه) يا ليتهم يرونني الآن .. سيقولون أبله مجنون .. أحقا أنني أبله ومجنون؟ زوجتي تقول هذا .. تقوله وتفعله وتؤكده كل يوم .. عمي يقوله بصمته وسكوته ونظراته إلي .. هل غاب عنكم أنني أعرف هذا؟ هل غاب عنك يا عمي أنني ألمح الحسرة على وجهك وفي عينيك؟ تندم على تزويجي من ابنتك .. تعتذر لها بأنني ابن أخيك الذي وصاك على فراش الموت .. وتلوم نفسك مع ذلك كل يوم .. هل غاب عنك يا زوجتي أنني أعرف .. نعم أعرف وأحس وأفهم .. آه .. يا ليتك تعرفين أن المجانين هم ورثة الأولياء والصالحين .. إنهم أطفال كبار ملهمون .. نظراتك في وجهي تنطق باحتقارك لي .. وليتك اكتفيت بالاحتقار .. إنها تنطق بالكره المسموم ... إن كان قد غاب عنك أنني لاحظت وفهمت وسكت فأنت بلهاء، نعم أنت البلهاء لا أنا .. نظراتك للفارس، رعشات يديك وساقيك إذا ظهر أمامك .. ولقاؤكما في السر وتحت ستار الكتمان .. وأحاديث الجيران .. لا لست الأبله .. ما أنا بجبان .. لو كنت اكتفيت بالرثاء ما حزنت .. لو وقفت عند الاحتقار لقلت لنفسي: غدا تقدرك يا حسن .. غدا تعرف معدنك وتعترف بأنك شهم وشجاع .. خانك ذكاؤك يا زوجتي الحبيبة الصغيرة .. يا بغلتي الحلوة السمينة .. لم تفهمي أنني أمثل .. أنني تعلمت من أبيك كيف أنسج الخيوط وأغزل .. وقد نسجت عنكبوت المهزلة وسقطت فيها كما تسقط الذبابة الغبية .. وعندما كنت أقتل الذباب وأدوسه كالأعداء كنت أقتلك وأدوسك .. أقتل الجبن والبلاهة والحمق الذي رميتني به .. أقتل الكراهية التي طوقتني بقيودها وأغلالها طول العمر .. هل عرفت الآن أنني أذكى منك ومنه ومنهم؟ غدا تعرفين .. غدا تعرفين .. (يواصل إطعام البغلة .. يسمع صوت عواء فينتبه ويصيخ السمع) عواء .. لعلها الذئاب .. لا شك في هذا .. أو ربما كانت الريح .. أو ربما ... ولكن لا يمكن أن يكون هذا صوته ... لا يمكن أن يعوي أو ينبح أو يصرخ أو يتأوه .. لماذا يا حسن؟ لأنه غير موجود .. غير موجود إلا في عقولهم .. أنا الذي نشرت الخبر وروجته .. أنا الذي صورته ووصفته ورسمته .. منذ أن كنت صبيا يسمع الخرافات والحواديت ويحكيها لأصحابه .. يرحمك الله يا أمي .. منك سمعت عن الطاهش وتعلمت .. خوفتني به لأنام وها أنا أخيف المدينة لتنام .. وعندما تغمض عينيها سأقف على جثتها وأصيح .. خرج العفريت من القمقم يا أولاد .. انطلق المارد كالعملاق وفك يديه من الأصفاد .. يرحمك الله يا أمي ... صدقت الكذبة ورويتها علي .. هل كنت كذلك بلهاء؟ ليتك ترينني اليوم وأنا أواجهه .. دخان أخترقه وغبار أنفذ فيه .. ليتك ترينني غدا وأنا أدخل المدينة دخول البطل الظافر .. البطل؟ بل بطل الأبطال وفارس كل الفرسان .. ألم تسمعي غناء الأطفال وهتاف العجائز ودقات الطبول والدفوف؟ كم قلت وقلت لكي يفد الضيف الممتنع إلى عيني وجسدي المشدود: الطاهش وحش يا ولدي .. وحش كالأسد الفتاك .. مسخ من ذئب وأتان .. عيناه تئزان الشرر .. وقرناه موت وهلاك .. فإذا صادفت الطاهش في الجبل أو البرية، فارفع سيفك يا ولدي واحذر غدره .. بإذن الله ستنتصر عليه وتأمن شره .. حقا سأنتصر عليه .. لقد انتصرت عليه بالفعل يا أمي قبل أن ألقاه .. فأنا الذي اخترعته وصنعته .. أنا الأبله المجنون الجبان .. ألم تحلمي الحلم وتحكيه لي .. آه من هذا الحلم الذي ما زلت أحلمه .. أيقظتني من النوم ورويته لي .. رأيت يا ولدي في المنام أنك قتلت الوحش بسيفك .. ودعاك السلطان إليه وخلع عليك الحلل وزوجك ابنته في الحال .. لا لن أتزوج ابنته .. تكفيني زوجتي الوفية الحنون .. ولن أكتفي بالحلل والمال .. سأجلس فوق العرش مكان السلطان .. أنا السلطان .. أنا السلطان (يسمع الصوت قريبا منه فيرتعد ويبتعد عن البغلة التي تفزع وترتجف وتنطح الشجرة) لا لا لا ... هل صدقت أنت أيضا؟ إنه الحلم .. ألم تحلمي أنت أيضا أنك تزوجت أسدا أو ذئبا؟ أو أنك ارتفعت إلى السماء على ظهر بغل ملائكي واستقبلتك هناك بغال السماء ؟ أتذكرين هذا الحلم أم نسيته؟ أما أنا فأحلم وأحلم، هذه هي قوتي .. أن أصنع من الأحلام حقائق .. ومن الهواجس أمجادا تنتشر على كل لسان .. هيا هيا .. إنه صوت الريح .. أو صوت ذئاب جائعة مسكينة .. بل هو بالتأكيد عواء الذئب الجائع .. لا تخافي .. سيعاف لحمك وشحمك .. اطمئني فلن يعجبه علفك .. هل شبعت يا بغلتي الطيبة؟ أتشتهين قليلا من المسكرة؟ مالت الشمس للغروب ومدت رأسها على مخدة الجبل .. أتريدين أنت أيضا أن تنامي؟ خذي خذي .. قليل من المسكرة يساعد على النوم (يتثاءب) أنا أيضا تعبت .. بعد اليوم المرهق يستحق الجسد أن يتمدد ويحلم .. ما هذا؟ (يسمع خربشة خلفه، يسحب سيفه ويرتعش، يزعق ليؤنس وحدته ويبدد مخاوفه) أيكون هو الوحش؟ لا .. لا .. لا .. إنه في عقلي أنا وحدي .. كيف أمكنه أن يخرج منه على غفلة ويكتسي عظما ولحما وأظافر وأنيابا؟ لا .. لا .. لا .. هي أوهام أوهام .. لكن ما هذا أيضا؟ حتى الأوهام تخيف .. تنبت فيها عين تلمع كالنار وبالموت تطوف .. لا .. لا .. لا .. لا بد أنها عين ذئب أو ابن آوى .. هم أيضا جوعى مساكين .. ألا يجوعون مثلك يا حسن؟ ألا يتمددون في النهاية على التراب؟ إلهي .. ولكن العين تلاحقني .. عين أخرى تتربص بي .. أيشتهي الذئب لحمي؟ هل جرب لحم الفرسان فأعجبه طعمه؟ فلأصعد فوق الشجرة وأنم .. ولأغمض عيني حتى تطلع شمس الصبح على الأحلام .. أيمكن أن يكون الأمر حقيقة؟ أيمكن أن يكون هو الطاهش؟ هل أصدق الأكذوبة؟ أنا الذي نسجتها وروجتها في المدن والقرى والسهول والجبال فكيف أصدقها؟ كيف أصدقها؟ العين تطاردني .. لا بل عينان .. أين أنت أيها القمر لتكشف عنها؟ لماذا احتجبت الليلة؟ تقترب العين وتدنو العينان .. هل أنتظر حتى تحرقني؟ هل أقف هكذا حتى ينغرز الناب بلحمي؟ فلأصعد فوق الشجرة وأنم، الذئاب لا تتسلق الأشجار العالية .. هذا شيء لا يغيب عن أبله مثلي .. أبله؟ نعم سأكون الأبله لو وقفت هكذا وسلمت جسدي فريسة للذئاب؟ وداعا يا بغلتي .. أمامك الشعير فاشبعي .. وأمامك المسكرة أيضا إن شئت أن تنامي .. واحلمي أنت أيضا ولا تندمي .. يفنى العالم ولا يبقى إلا الحلم .. لكنك يا مسكينة لن تستطيعي أن تجعلي منه حقيقة. (يتسلق الشجرة مسرعا .. يتمدد على فروعها ويستسلم للنوم). (يتغير المنظر بعد قليل ويسقط الضوء على المكان .. يهبط حسن سيف من فوق الشجرة وهو يتثاءب ويتمطى).

آه .. نفس الحلم دائما .. السلطان يتقدم مني وينزل من على جواده .. ينحني وتنحني معه الحاشية والحراس والعبيد ويقول: تفضل يا ملك الزمان .. قتلت الطاهش فاقبل عرش السلطان. (يتقدم نحو البغلة ويربت على ظهرها وهو لا يزال يتثاءب).

حياك الله .. حياك الله .. أكلت وشبعت ونمت .. وحلمت أيضا؟ بماذا حلمت يا ترى؟ لا تزورنا الأحلام إلا والبطن شبعان .. هيا يا بغلتي العزيزة .. يا بطتي السمينة البطيئة. (يتثاءب ويربت على ظهرها ورأسها .. يضع السرج على ظهرها).

يبدو أنك لا زلت نائمة .. هل أفسدك النوم الطويل؟ ما هذا؟ وتغير لونك أيضا؟ سبحان الله .. اسود جلدك قليلا (يهز رأسه) هل نبت برأسك قرنان؟ لا .. لا .. لا .. لا بد أنني لا زلت نائما (يفرك عينيه) هذا جسدي .. هذا سيفي المشهور .. وهذه بغلتي وسرجي وجرابي .. لا بد أنك أكثرت من المسكرة حتى سكرت .. لا بأس عليك .. لا بأس عليك .. السفر طويل وستصحو عيناك من النوم (يمتطي ظهر البغلة) وأنا أيضا سأفيق من النوم .. النوم؟ لا بل سأسير إلى المجد .. لن أتخلى عن حلمي .. لن يتخلى عني الحلم .. وسأصبغ سيفي المشهور بدم كلب أجرب أو عصفور أبكم .. (يهز رأسه) عصفور أبكم؟ هذا من أثر النوم .. هل شاهد أحد يوما عصفورا أبكم؟! (يضحك) أما الحلم فقد فات أوان الحلم وجاء أوان العزم .. فتحقق يا حلمي اليوم وواجه شعبك وتول زمام الحكم .. قتلت الوحش .. قطعت الرأس .. سفكت الدم ... ونزعت من الناب السم ... أنا روجت الأكذوبة ونسجت خيوط الحلم .. أتقنت الصنعة فافرح يا عم .. واشمت يا فارس في ولا تغتم .. فأنا الفارس لا أنتقم ولا أهتم .. أما أنت فهذا عرشك هذا تاجك .. هيا يا زوجتي الحلوة نصعد نحو النجم (يمتطي ظهر البغلة ويحثها على السير) سيري يا بغلتي الحلوة سيري نحو المجد .. فعلى ظهرك لو تدرين أمير وغد (يضحك) أمير؟ لا لا بل سلطان الزمن الأوحد .. سيري سيري .. نحو اليمن .. ونحو السعد .. سيري .. سيري .. نحو المجد.

4 (في بيت حسن سيف طرق على الباب، يزداد الطرق شدة، أمام الباب يقف الفارس وامرأتان متشحتان بالسواد).

الفارس :

افتحي .. افتحي.

ناپیژندل شوی مخ