ومن أشخاص هذا العالم العجيب طفلة عمياء لا أزال أذكرها ولن أنساها، واسمها نرجس، وكانت تلك الفتاة يتيمة تعيش مع جدة لها عجوز أحناها الكبر وأخنى عليها الدهر ونال منها الفقر منالا، تعيش مع تلك الابنة في غرفة صغيرة مظلمة ضيقة في بيت من البيوت المجاورة لبيتنا، أما العجوز فكانت ذات شمم وعفة؛ لأنها أبت إحسان المحسنين وفضلت أن تبيع الحلوى للأطفال في الأزقة على أن تستجدي، وكانت من الرحمة بحفيدتها والإشفاق عليها بحيث لا يهنأ لها بال ولا تستقر على حال ما دامت نرجس تطلب حاجة أو تشتهي شيئا. ومن المناظر التي لا تزال في ذهني صورة تلك العجوز الفاضلة تحمل حفيدتها على أكتافها والطفلة العمياء تنظر إلى العالم بعينين أخذ الله نورهما وعلى شفتيها المرجانيتين ابتسامة كابتسامة الملائكة، والمرأة تسير على مهل وهي لابسة ثيابا لا تدرأ بردا ولا تستر جسدا، وبين يديها صندوق من الخشب فيه أصناف شتى من الحلوى وألاعيب الأطفال وهي تنادي الأطفال بصوتها الضئيل الخافت وتدعوهم إلى شراء ما بيديها، فتقف تارة ويلحقها التعب فتجلس، وكانت إذا جلست ضمت نرجسا إلى صدرها وقبلتها وكأن تلك القبلة تذهب بما أصابها من التعب فتعود إليها قوتها ويتجدد لها نشاطها.
أما نرجس فكانت طفلة في الخامسة من عمرها نحيفة البدن جميلة الوجه، وكان لها شعر يشبه العسجد في لونه وحسنه وكان ثوبها على فقرها نظيفا، وكانت جدتها تتودد إلينا فوكلت إلي أمر تسريح نرجس ريثما تشتري من السوق بضاعتها، فلما دنوت من الطفلة وكنت أشفق عليها من زمن طويل، لاطفتها وداعبتها حتى اطمأنت إلي ثم سرت بها فقالت لي همسا: سر الهوينى وإلا أعثر بحجر فأسقط على الأرض؛ لأنني لا أبصر. وتأوهت الفتاة، فأثرت تلك الكلمة بنفسي تأثيرا شديدا ، وسرت بها لا أنقل قدمي حتى تنقل قدمها، ولا أنظر في طريقي إلا لأزيل ما في سبيلها من الأحجار الصغيرة، ولو استطعت حملها لحملتها، ولكنني خشيت أن نسقط جميعا، وما زلت سائرا بنرجس ويدها في يدي أنظر إلى السماء وإلى جبينها الوضاح وعينيها المغمضتين حتى بلغت بها شاطئ البحر، فلما شعرت نرجس بالهواء قالت لي: أين نحن؟ فقلت لها: نحن على شاطئ البحر. قالت: وهل بلغنا الماء؟ قلت لها: كلا. قالت: اجلس بنا هنا؛ لأنني أسمع صوتا يخيفني. فقلت لها: هذا صوت الأمواج وهي بعيدة منا. قالت لي: وما هي الأمواج؟ قلت لها: إنها قطع كبيرة من الماء تلطم الشاطئ ثم تنكسر. فقالت لي: وهل البحر كبير؟ قلت لها: نعم، لا تصل عيني إلى آخره. قالت: وهل ترى السفن؟ قلت: نعم. قالت: وكيف هي؟ قلت: هي كالطيور البيضاء. قالت لي: وكيف الطيور؟ قلت لها: للطيور أجنحة تطير بها في السماء. قالت: إنك ترى كل هذا وأنا لا أرى، إنني أشعر بالبرد. فقلت لها: اقربي مني. فقربت نرجس مني، ووضعت رأسها في حجري، ووضعت يدي على جبينها، وبقيت هكذا زمنا طويلا وهي لا تنبس ببنت شفة، وأنا أقلب طرفي بين وجهها الهادئ وبين البحر الهائج ولست أستطيع أن أصف السعادة التي شعرت بها وتلك الطفلة الضريرة نائمة في حجري، وكانت نفسي تحدثني بأنه مهما طال رقاد نرجس وهي مستريحة فأنا لا أتعب ولا أمل؛ لأنني أحسست بأن راحتي وسروري في راحة تلك الطفلة اليتيمة العمياء وسرورها، ولما أغربت في النوم كنت أقبلها بحنو ورأفة ما شعرت بمثلهما نحو إنسان طول حياتي، كان الرمل تحتنا والسماء فوقنا والبحر أمامنا والنسيم العليل يهب علينا من الشمال، وقد خيل لي أنني لا أطلب شيئا بعد اليوم سوى نرجس تأتي معي إلى شاطئ البحر وترقد في حجري مطمئنة إلي كأنني شقيقها أو حبيبها منذ القدم.
لست أدري لماذا كنت أشعر بسرور عظيم لاستسلام تلك الطفلة واطمئنانها إلي؟ فهل كان ذلك لأن نفسها كانت تقاسم نفسي بعض همومها، وقد تدرك النفوس ما لا تدرك الأجسام؟ أو لأنني لم يكن لي إخوة ولا أخوات فلم أسعد بعشرة الأطفال إلا لتلك المرة؟ أو لأن إرادة الرجل أقوى من إرادة المرأة، وتظهر تلك القوة حتى في الأطفال فيفرح الطفل إذا سكنت إليه طفلة مثله وارتاحت إلى عشرته؟
كنت أشعر أن نرجسا صارت ملكي ومتاعي، قلبها قلبي وجسمها جسمي، وودت لو أنها تستعيض بنظري عن نظرها فترى ما تروقني رؤيته وتمتع نفسها بمنظر البحر والسفن التي سألتني عنها ولم أدر كيف أجيبها.
كنت أذهب في كل يوم لأرى نرجسا وأشتري لها ولي من الحلوى التي تبيعها جدتها، وكانت جدتها كلما أرادت أن تغيب عنها تستودعني إياها، وكانت نرجس إذا سمعت صوتي زال السكون من جبينها وعلت خديها حمرة السرور وجاءت إلي تجري فآخذها بين يدي وأسير بها إلى شاطئ البحر. ولما استأنست بي كانت تطلب إلي أن أقص عليها بعض القصص، فكنت أتلو عليها ما يحضرني مما سمعته، ولما علمت شغفها بتلك الأحاديث كنت أقضي شطرا من الليل في إعداد القصص العجيبة؛ لأعيدها على صديقتي الصغيرة التي كانت تنتظرها بفارغ الصبر، وكنت إذا انتهيت من قصة ابتسمت وقبلتني ثم طالبتني بقصة أخرى، وفي يوم من الأيام خطر ببالي خاطر عجيب وهو أن أسأل عجوزا في بيتنا عن قصة فيها ذكر طفلة عمياء، فكدت قريحتها وروت لي حديثا محزنا فيه ذكر طفلة عمياء ولدتها أمها وتركتها يتيمة وحيدة، فقاست الطفلة من الآلام والأحزان ما قاست حتى كبرت ونمت، وكانت تسير في الطرق وتغني بصوت شجي فيجود عليها الناس بما تقيم به أودها، وقد رآها ابن الملك من نافذة قصره، فحن إلى صوتها، وأعجب بجمالها، فدعاها إلى القصر وأسبغ عليها ذيول النعمة وتزوج منها، «ما أسعد تلك الأيام المطوية التي كان فيها الملك يقرب السائلة من عرشه!» وقبل ليلة زفافه بها جاء إلى القصر طبيب هندي ينطق الأبكم ويسمع الأصم ويشفي الأكمه، فطلب منه ابن الملك أن يشفي زوجته الجميلة ، فعالجها وشفاها !
فلما سمعت تلك القصة قضيت ليلتي ونفسي تحدثني بأن نرجسا يتم لها ذلك في صباها وأنها تشفى مما أصابها فتستطيع أن ترى ما يراه المبصرون، ولما كان الصباح أسرعت إلى بيت جدتها، فلما سمعت نرجس صوتي أسرعت إلي وطلبت أن أسير بها إلى شاطئ البحر، فأخذتها وسرت بها حتى بلغنا مكاننا الذي اعتدنا الجلوس فيه، فجلسنا قليلا ثم طلبت مني نرجس أن أقص عليها قصة، فاندفعت كالسيل الجارف أروي لها حديث السائلة الضريرة التي تزوج بها ابن الملك وشفاها الهندي.
ولما كنت أصف ما لاقته المسكينة من صنوف الشقاء وأنواع المصائب والمتاعب انقبض صدرها وظهرت علائم الحزن في وجهها، ولما بلغت أشد ما قاسته فتاة القصة من الأهوال قلت: «وفي ليلة من ليالي الشتاء دخلت السائلة مدينة كبيرة وفي يدها عكاز تقيس به خطاها وتحس به أديم الأرض، وكان البرد قارسا والسماء تمطر والبرق يلمع، وكانت الفتاة لم تتبلغ منذ يومين، فجلست إلى جدار وأخذت تبكي وتندب حياتها وتستعطف الناس بصوت شجي، ولكنها لم تنل ما تدفع به ألم الجوع؛ لأنها كانت في طريق مهجورة لا يمر بها أحد وهي تظن أن الناس تمر بها ولا يشفقون عليها؛ فأخذت تبكي بكاء مرا وقضت ليلتها في العراء على سغب ترتجف من البرد وتلتوي من الجوع.»
فلما سمعت نرجس هذا الكلام بكت ووضعت يدها على فمي وقالت: «لا تقل، لا تقل.» فقلت لها: «اسمعي فإنها بعد ذلك نالت من نعيم السعادة ما أنساها بلاء الشقاء.» فكفكفت نرجس دمعها وأصغت، فاسترسلت في حديثي حتى أتممت شفاء الفتاة، فأبرقت أسرة نرجس وقالت لي بصوت الحزين: «وأين هذا الطبيب الهندي الذي شفاها وأنار ظلمة عينيها؟» فقلت لها: «لست أدري يا نرجس.» قالت: «ولو علمت مكانه هل تأخذني إليه؟» قلت: «نعم.» فقبلتني في أذني؛ لأنها لم تر مكان القبلة من الوجه. •••
ودامت صداقتنا حتى فرق الدهر بيننا، فانتقل من كان يعولني وانتقلت معه من ذلك الحي، وودعت شاطئ البحر وصوت المؤذن، وودعت نرجسا وجدتها ، وودعت تلك السويعات السعيدة التي كنت أقضيها مع شقيقة روحي على الرمال الصفراء أقص عليها الأحاديث العجيبة وأمتع نفسي بقربها، ودعت تلك الروح الطاهرة وذلك القلب الحزين، ودعت طفلة بائسة لم تجن ذنبا ولم تقترف إثما، ولدتها أمها عمياء ومات أبواها وتركاها لعجوز فقيرة لا تستطيع أن تعول نفسها.»
قال الروح الحائر: «هذه صحيفة من الصحف المطوية، حفظها الفؤاد في ثناياها، وطواها القلب فيما طوى من الصحف التي تعيد إلي تلاوتها ذكرى سعادة الطفولة وشقائها.» قلت: «وما الذي هاج الذكرى؟» قال: «مررت اليوم في طريقي إليك بجسر كبير تمر به السابلة والعجلات، وكان البرد قارسا، فإذا بي أسمع صوت امرأة ترتل القرآن، فدنوت من مصدر الصوت، فإذا بي أرى امرأة في ثياب رثة قد افترشت الثرى وبجانبها طفلان، فتبينت وجهها، فإذا هي نرجس، ولم أستطع أن أنقذها من وهدة الفاقة بعد أن تجردت من المادة، فقم لساعتك وأنقذ من الفقر تلك النفس الشقيقة الشقية.»
ناپیژندل شوی مخ