إهداء الكتاب
الليلة الأولى
الليلة الثانية
الليلة الثالثة
الليلة الرابعة
الليلة الخامسة
الليلة السادسة
الليلة السابعة
الليلة الثامنة
الليلة التاسعة
الليلة العاشرة
الليلة الحادية عشرة
الليلة الثانية عشرة
الليلة الثالثة عشرة
الليلة الرابعة عشرة1
الليلة الخامسة عشرة
إهداء الكتاب
الليلة الأولى
الليلة الثانية
الليلة الثالثة
الليلة الرابعة
الليلة الخامسة
الليلة السادسة
الليلة السابعة
الليلة الثامنة
الليلة التاسعة
الليلة العاشرة
الليلة الحادية عشرة
الليلة الثانية عشرة
الليلة الثالثة عشرة
الليلة الرابعة عشرة1
الليلة الخامسة عشرة
ليالي الروح الحائر
ليالي الروح الحائر
تأليف
محمد لطفي جمعة
إهداء الكتاب
إلى شبان مصر النجباء أهدي كتاب «ليالي الروح الحائر»، كتبتها إذ كنت أعيش بينهم، وأشعر بعواطفهم، وتداخل نفسي الشكوك التي تخالج نفوسهم الفتية؛ فلعلهم يجدون في صحفه أجوبة للأسئلة التي يحارون في الجواب عليها، ولعل صرخات الروح الحائر تصل إلى أعماق قلوبهم كما خرجت من أعماق قلبه!
محمد لطفي جمعة
القاهرة في 5 مارس سنة 1912
الليلة الأولى
رثاء صديق
كنت منذ أيام قليلة جالسا على حجر من أحجار الهرم الأكبر، وأدرك غروب الشمس فغابت وراء الرمال المتراكمة على حدود الصحراء، وتركت وراءها خيوطا من الذهب تنم عن مخبئها، وامتدت تلك الخيوط إلى النيل الجاري في سفح الأهرام فصبغته بلون قرمزي، وكانت القاهرة بمآذنها وقبابها وقصورها وحدائقها وأهلها تبدو كصورة منقوشة في الوادي، وحولها جبل المقطم كأنه سور يحمي مدينة الخلفاء، وبرأسه حصن صلاح الدين العتيق كأنه أسد رابض على قمة الجبل يرنو إلى المدينة المحروسة، وكان بيني وبين القاهرة سبيل ممهد تحف به الأشجار يقربه النظر للرائي، أما منظر النيل وهو محيط بتلك الطريق فلم يكن أجمل منه شيء.
ولما أن أشبعت نفسي بهذا الجمال نظرت إلى ما ورائي، فإذا الصحراء الكبرى بمفاوزها ودروبها الخفية تصافح المدينة ويوفق بينهما النهر العظيم كما يوفق الحب بين البدوي والحضرية، فوقفت بين يدي الطبيعة خاشعا خاضعا أنظر إلى البر تارة وإلى النهر أخرى، وأرفع ببصري مرة إلى قمة الهرم فيغلي دمي في عروقي غيظا من رافع بنيانه وواضع جدرانه؛ لأن صخوره دموع متحجرة ذرفها شعب شقي إنجازا لشهوة ملك ظالم، ثم أخفض به إلى القاهرة وهي في السهل، ساكنة هادئة كأنها باقة من أزهار شتى في يد الوادي، يشمها أبو الهول بأنفه ويسقيها النهر بمائه؛ خوفا عليها أن تذبل أو تذوي.
أسدل الليل ستاره، ولبست الصحراء ثوبا من سواد بنفسجي، وسمعت نعيب طيور الظلام، وتجلت مدينة القاهرة في ثوب المساء المزركش بالذهب، ثم لحقتني هزة فاغرورقت عيناي بالدموع عندما نظرت وراء الجبل؛ لعلي أرى مدينة الأموات حيث يرقد أبناء الجيل الماضي وبعض أبناء هذا الجيل في بيوت ضيقة مظلمة، نظرت إلى حيث ظننت المقابر وقلت: هنا في حفرة من حفائر تلك البقعة ينام صديقي وحيدا منفردا عن المدينة وغوغائها! ولم يبق منه إلا عظام نخرة، لم يبق من رأسه الذي كان ممتلئا حزما، وعينيه المتقدتين عزما، وفمه الذي كان يتدفق منه الدر والجوهر، وصدره المملوء بالآمال والأماني، وقلبه الكبير، ويده الأبية، وقدمه التي لم تسع إلا إلى مكرمة؛ إلا جمجمة خاوية، ومحاجر غائرة، وفكان من العظم النخر، أما مكمن القلب ومسرح الآمال وموطن الأماني فقد أمسى قفصا من العظام خاليا، ويده تلك اليد كانت تجود بما تملك وتكتب ما تملي عليها النفس المشتعلة فقد خمدت قوتها وتبددت قبضتها وتلاشت أناملها! هذا كل ما بقي من صديقي مصطفى! ولكن كلا، إن ما بقي هو أثر ما كنا نراه ونلمسه، أما النار التي كنا نشعر بوجودها فيه ولا نلمسها، نرى لهيبها ولا نراها، نحس باشتعالها ولا نفهم معناها؛ فقد ذهبت إلى مكان غير هذا القبر، بل هي لا تزال مشتعلة في حيز لا أعرفه ولا أعرف أين هو! أيذهب صاحبي كمن جاء وذهب؟ ألا يسمع أبناء الأجيال القادمة آهته التي اخترقت نفسي ليحزنوا كما حزنت ويتألموا لتلك النفس الهائمة كما تألمت؟ إني أذكر اليوم الذي كنا به معا في سفينة في النيل، وكنا نقرأ حياة أحد العظماء كتبها صاحب له، فقال لي: عدني وأعدك. قلت: بماذا؟ قال: إذا مت قبلك أن تكتب عني كتابا يكون سلوى أمثالي الحزانى الذين لا يسمع صوتهم إلا من القبور، وإذا مت أنت قبلي أن أكتب عنك كتابا يبكي من يقرؤه. قلت: أعدك، ولكن ماذا جلب إليك تلك الأفكار السوداء؟ قال: لا تقل سوداء، إن أملي في الخلود عظيم، ولكن أريد أن أستعطف الإنسانية على إخواني الذين يسوء حظ نفوسهم بما تؤتاه من قوة واشتعال، فيذهبون فريسة النار الكامنة، ولعل في قصتي عبرة للمعتبرين. قلت: أعدك.
فلما أن جالت بنفسي تلك الذكرى سألتها: متى أفي بوعدي وأؤدي أمانتي؟ لا بد من الوفاء مهما كلفني! •••
نهضت في صباح الجمعة مبكرا، ونظرت من نافذة الغرفة، فإذا الشمس لا تزال متبرقعة بغمام الشروق، وكانت على مقربة من داري بقعة في الأرض بكر لم تفسد جمالها يد البناء، ولم يدنسها البشر بمساكنهم، وفيها نخيل لا تثمر إنما هي ملجأ البلابل والطيور المغردة في الفجر ومحط رحال الغربان عند الغروب، فنظرت إلى إحداها وأنا أسمع من خلال جريدها أصوات طيور الصباح المطربة، ولم أوشك أن أشعر بجمال الحياة حتى ذكرت ألم الموت، وصور لي منظر الليلة البارحة التي قضيت أوائلها في ظل الهرم، فقلت: أنى أقضي يومي؟ فقال لي صوت في نفسي: عليك بالمقابر، وزر قبر صديقك الذي لو كان حيا زارك.
ولما بلغت القبور حملت زهورا وتمرا، وهرولت بين الأجداث أمشي على عظام ألوف الألوف من بني الإنسان، رقدوا ولن ينهضوا من تلك القبور مهما غردت الطيور بصوتها المطرب، ومهما أشرقت الشموس وبزغت الأقمار، ومهما أسدل الليل ستوره أو طلع النهار. أجل، لن ينهضهم ندب النادبين ولا نوح النائحين ولا حزن الحزانى ولا جذل الفرحين، لقد رقدوا الرقاد الطويل، ولن يرثوا لمن يبكيهم مهما طال أمد العويل، سرت أشق عباب تلك الرفات، وكم رأس حازم، وصدر كاتم، وطرف كحيل، وخد أسيل؛ تحت قدمي، جست خلال المقابر، وما كنت أرى على كل قبر إلا كلمة من سطر أو آية من القرآن أو بيتا من الشعر أو مثلا من الأمثال، فقلت في نفسي : أهذا كل ما يبقى منك أيها الإنسان القوي القادر؟ يا من تذلل الماء والريح، وتقطع الصحراء، وتقهر الوحوش، وتشيد القصور، وترفع العروش، أهذا ما لك؟ أتلك الحفرة من الأرض هي كل نصيبك من الوجود؟! وكنت لا ترضى بالعالم نصيبا، وتتطلع إلى السماء تريد منها السماكين وتهبط بنفسك إلى المحيط تستخرج النفيسين! إيه لك أيتها الطبيعة القادرة! لقد أسرت من أسرك، وأذللت من أذلك وسخرك. وإيه لك أيتها المقابر، فأنت مرقد الأوائل والأواخر، وعبرة الماضي وموعظة الحاضر! سرت أخبط في الأرض حتى بلغت بقعة لا تزيد سعتها عن سعة غرفة من منزلي طولا وعرضا، حشر فيها الموت جمعا لو بعث لساعته لضاق به حي بأسره من أحياء القاهرة، وفي وسط هذه البقعة الأبدية قبر صغير عليه هيكل من الحجر خلو من النقش والكتابة، وقفت أمامه حاسر الرأس خاشعا؛ لأنه يضم رفات صديقي مصطفى.
ولم أكد أرفع بصري إلى السماء - عادة الإنسان إذا شعر بضعفه، وأحس بالقوة الكبرى التي تتلاشى حيالها قوته وتفنى أمامها صولته - حتى رأيت الشمس قد أشرقت على الأموات والأحياء، تبعث إلى العالم الأرضي بالحرارة والنور والحياة، وتبسط أشعتها على الأجداث كأنها تقول ناموا بسلام آمنين؛ فلما يأن أوان النهوض إن كنتم ناهضين. وأرسلت الشمس بشعاع من نورها على هيكل القبر، فهاجني ذلك المنظر المزعج، وجمد له دمي في عروقي.
تبا لك يا قصور الأماني ويا صروح الآمال! فقد خدعت الأحياء حتى أسكنتهم القبور، وسحقا لك أيها المجد الباطل، أغريت بطلابك حتى أغريتهم بالغرور، وتعسا لك أيها العيش الرخيم، فأنت الشقاء وأنت شر الشرور، كانوا يطلبونك وليتهم رضوا بالعيش اليسير، إن الحكماء يبحثون عن الحقيقة ويقضون أعمارهم في النظر والتنقيب، ولو دروا لوجدوها في هذا اللحد الحقير، هنا الحقيقة وما وراءها، هذا هو الغرض الذي نسعى إليه، هذا مآل البشر! أي جمال لم تذبل زهرته؟! وأي حسن لم تذهب نضرته؟! وأي ملك لم يحن حينه؟! وأي عظيم لم يلحقه أجله وتدركه ساعته؟! ألم تستو الحفرة الضيقة بالجدث الفخيم الجسيم ؟! أي فرق بين قبرك يا مصطفى وقبر نابليون؟ بل أي بون بين هيكلك وهيكله؟ ألم يقد ألوف الألوف؟! ألم تطع إشارته الحتوف؟! ألم تدمر بأمره المدائن؟! فهل عاقه المجد عندما دعاه الموت؟ هل خفف ألم النزع عنه حزن الأرض والبحر؟
من يدرينا بأن تلك البقعة الضيقة لا تضم رفات نابغة من النوابغ مات ولم يظهر نوره، أشعلت الطبيعة نفسه وتركتها تأكل بعضها؟ من ينكر على من مات قبل أن تنضج ثمرته وتفتح زهرته أنه كان يليق بعرش يرتقيه وتاج يلبسه وصولجان يتناوله ومملكة يدبر أمرها؟! كم من درة في قاع البحر لم تصل يد الغواص إليها! وكم زهرة نبتت في قفر وجارت ريح السموم عليها فدفنتها بعد أن ضاع أريجها في الفضاء وتبدد عطرها في الهواء! كم شاعر صميم كسر الموت قيثاره ودفن الثرى آثاره وختم الردى على شفتيه قبل أن يتغنى بقصائده! كم خطيب منطيق لو مد في أجله ولم يقطع الردى حبال أمله ملك زمام القلوب وقبض على أعنة الأفئدة واستهوى النفوس، ولكن غلبه الموت على أمره وأطفأ شعلته قبل أن يبلغ أمانيه!
هنا في ذلك اللحد يرقد فتى لم تعشقه الشهرة الكاذبة ولم تعره رياءها ولم تلبسه الدنيا ثوبها ولم تسبغ عليه نعماءها، جاء إلى العالم وذهب، فودعه الذكاء، وبكاه الكرم، وناح عليه المجد، فلتبكه السماء إن كان لها قلب يحزن وعين تذرف الدموع! •••
ولما عدت إلى داري بعد زيارة القبر اندفعت أتأمل في معجزة الخلود، وجاشت نفسي وتملكتني الحيرة، فأخذت ألتمس لكل سر معنى، وأبحث عن حل المسائل، واستعرضت تاريخ البشر وعلومهم، فإذا هما قاصران عن تعليل الحقائق وتفسير كنهها، بل هما لا يكادان يكونان قطرة في محيط الوجود!
يا أيتها الإنسانية العاجزة المسكينة، يا أيتها الصبية الضالة في مهامه الكون الأزلي، الغارقة في بحر الظلمات، من أين جئت؟ وإلى أين تذهبين؟ ما هو مستقبلك القريب والبعيد؟ إنني لا أرى سوى الظلام الحالك خلفك وبين يديك!
وإنني لكذلك، وإذا بصوت خفي كأنه من جوف الأرض ينطق خافتا، قال: أيها الباحث عن الحقيقة التائه في بيداء الريب! فوجمت لدى سماع الصوت الخفي، وخانني النطق للوهلة الأولى، ثم استجمعت قوتي وقلت: من أنت أيها المتكلم الخفي؟ قال الصوت بعد صمت طويل: أنا الروح الحائر، روح صديقك، أتيت مجيبا نداءك.
قلت: لعلك - أيها الروح العزيز - جئت لي بجواب سؤالي وحل لغوامض الكون.
قال: أنى لي ذلك ولا فرق بيني وبينك سوى أنني تخليت عن بدني وأنت لا تزال تجاهد ضد العناصر الأرضية فتغلبها مرة وتغلبك مرارا.
قلت: وهلا أراك أيها الروح الصديق فأطمئن إليك؟
قال: بلى، انظر. فنظرت ولم أر شيئا، قال: انظر نحو الزاوية اليمنى. فأمعنت النظر، فإذا شبح أبيض في يده مصباح، ولكنني لم أستطع تمييز تقاطيعه، قلت: وما هذا المصباح؟ قال: إنه دليلي في حيرتي، فيه شعاع من نور الحقيقة. قلت: حدثني بشيء مما رأيت. قال: ليس لدي من الوقت متسع، وموعدنا الليلة الثانية.
الليلة الثانية
حديث بعض الأمم
زارني الروح الحائر في بطن الليل وفي يده مصباحه، فقال: إنني متعب ولا أقوى الليلة على الحديث. قلت: لماذا؟ وهل تتعب الأرواح؟
قال: إن تعب الأرواح أشد من تعب الأجسام؛ لأننا نشعر بآلام لا تشعرون بها أنتم.
قلت: وكيف صار لك هذا التعب؟
قال: ألا تعلم أنني لا أستقر على حال، وأنني أفتأ أضرب في الأرض شرقا وغربا أهبط السهول وأصعد في الجبال مستطلعا أحوال العالم؛ لعلي أجد حلا لبعض المسائل؟
قلت: لم أعلم هذا من قبل.
قال: إنني قادم من بلاد قصية تسكنها أمة عجيبة اسمها أمة الهوز، ولم أكن وردتها من قبل، ولكننا في حالنا الروحية أوتينا علم الألسن البشرية، فرأيت جمعا عظيما في سفح جبل عال على ضفاف نهر قديم، فدنوت فإذا في القوم خطيب يخطب، فاستمعت إلى قوله وقد وعيت معظمه.
فتوسلت إلى الروح الحائر أن يعيد على سمعي بعض ما سمع.
قال: قال الخطيب: أخذ بعض المصلحين من أفراد المجتمع الذي يسمى بالأمة الهوزية ينهضون الهمم وينبهون العزائم؛ ليوقظوا قوما مضت عليهم قرون وهم في سكر لا يعقبه صحو، بل موت لا حياة بعده، وتبعهم فريق من الناس يحسبون أن لهذه الأعمال الجسام أثرا سوف يظهر في تلك الأجسام، ويعللون أنفسهم بحياة قومية وبنهضة أمة تعيد مجد الأمة المرنية ويعلو نجمها؛ نجم الأمة الضرغمية، ولا يزال هؤلاء وأولئك في غيهم حتى يسفر الحق ويزهق الباطل ويظهر للجماعتين أن معجزات الأنبياء وعجائب المرسلين لا تفيد فيمن سلبت منهم أسباب الحياة، وحينئذ يبدو لهم صدق قول القائل: لا يصلح العطار ما أفسده الدهر.
ولا يسبقن إلى ذهن من يسمع هذا الكلام أنني أنطق بلسان الناقم أو الحاقد، إنما أنا أنطق بلسان الناصح الموجع، ومثلي كمثل ولد علمه أبوه الطب ولحق أباه مرض عتيد فاستدعاه وسأله رأيه، فقال له ما يعلم ويعتقد.
ولا يخطرن ببالكم أنني أقول هذا القول المحزن جزافا وأرمي حبل الكلام على غاربه، إنما أنا أقول ما أعتقد وأقرر ما أيد صدقه لدي الاختبار، وقد ولد ذلك الاختبار في نفسي أدلة وبراهين يستحيل نقضها ويصعب دحضها.
رأيت أن في الأمم الراقية أربع علامات لا تخلو منها أمة، وإن خلت من بعضها لا تخلو من معظمها، ويكون فيها جراثيم بعض تلك العلامات إن كان ذلك البعض خفيا.
العلامة الأولى: التضامن الجنسي، والثانية: ظهور أفراد لدى الشدائد والأزمات ينيرون ظلمة الشك ويقضون على عوامل الضعف وينهضون بالأمة نهضة ممدوحة تستجد بها ما فقدته في كبوتها، والعلامة الثالثة: تفاني قواد الرأي في المنفعة العامة وتلاشيهم في خدمة الأمة؛ وبعبارة أخرى موت عاطفة الأثرة من نفوسهم، والعلامة الرابعة: ظهور آثار النشوء والارتقاء في أفراد الأمة. تلك العلامات الأربع ما خلت منها أمة إلا كان ذلك إيذانا بموتها ودليلا واضحا على دنو أجلها ودمارها.
أما العلامة الأولى، وهي التضامن الجنسي، فرابطة لا يجهل نفعها؛ لأنني إذا لم تربطني بجاري رابطة غير الجوار كصحبة متينة أو نفع مشترك دائم لا يسوءني ما يسوءه ولا يسرني ما يسره إلا تظاهرا ومجاملة، كذلك إذا لم تربطني بأبي رابطة سوى أنه أنفق علي في طفولتي وسهر علي في فتوتي؛ فلا يأتي يوم زوال تلك المنفعة إلا وهو لي كغيره من الرجال؛ إذن لا بد من رابطة دم ومبدأ وفكر، أو بعبارة أوضح رابطة تشبه ما يربط أفراد الأسرة أو أسرات القبيلة، فإذا لم تكن هذه الرابطة في الأمة فلا يمكن أن يوفق بين أفرادها إلا ريثما تهدأ العاصفة.
وهذا مجموعنا، انظروا فيه حيثما شئتم، وافحصوه كيفما أردتم، لا ترون به أثرا لتلك الرابطة الجنسية، وقد قال لي أجنبي عاقل: لقد حاولت أن أعد الشعوب والأمم التي تألف منها مجموع سكان الجمهورية البانجلوسية الكبرى، فأفلحت في ذلك، وحاولت مثل ذلك العمل في بلدكم فلم أفلح. وقد صدق هذا القائل؛ فإن فينا من كل معنى طربا، بل توجد في الشخص الواحد آثار مائة أمة، وهذا راجع إلى أجداده وآبائه ومولده والوسط الذي عاش فيه والتربية التي نشأ عليها وطباعه الغريزية وأخلاقه التي اكتسبها، فإذا كان في الفرد كل تلك العجائب فما بالك بالمجموع؟!
هذه أمة هوز لا يوجد فيها اثنان يتفقان على رأي واحد في أهم ما لديهم من المسائل، وإن اتفقا في الفروع اختلفا في الأصول، وليس هذا الاختلاف عجيبا أو مستغربا، إنما هو نتيجة الاضطراب، وهيهات أن ينتج التعدد وحدة أو تلد الفوضى نظاما!
هذه الجمهورية البنجالوسية العظيمة مؤلفة من عنصرين عظيمين؛ الأول: عنصر معروف يربط أفراده الدين واللسان والطبع والمنفعة، وهو العنصر الغيصوني. والعنصر الثاني: خليط من أمم أخرى آوى إلى رحاب العنصر الأول وألف على ممر الزمن وتعاقب السنين عنصرا جديدا هو عنصر الدخلاء. ولما كان من نواميس الطبيعة الثابتة أن الكل يجتذب الجزء، كذلك تمكن العنصر الغيصوني بقوته من اجتذاب عنصر الدخلاء، فالتحما ووقف في حروب تلك الجمهورية الغيصوني إلى جانب الدرعي والإيطالي إلى جانب الإسباني واليوناني إلى جانب الزنجي، كلهم تحت لواء واحد وإمرة واحدة يدفعون عدوا واحدا ويدافعون عن غرض واحد، أما نحن في هوز فهيهات أن يجمعنا ما هو أشد من الموت.
أما العلامة الثانية وهي ظهور أفراد أشداء لدى الأزمات والشدائد، فمثلها في الأمم كمثل السم في الأفعى والقرن في الثور والأظفار في الأسد، فهذه قوى كامنة لا تظهرها إلا الأخطار ولا تخرجها من حيز السكون إلى حيز الحركة إلا الأهوال والمصائب، اصدع أفعى تلذعك، وهج غضب ثور ينطحك، وغظ أسدا يفترسك، كذلك الأمم الحية إذا اغتصبت حقوقها حاربتك، وإذا آلمتها آلمتك، وإذا كان بينها وبينك ثأر لا تنساه وتثأر لنفسها، وإذا أردنا ضرب الأمثال قلبنا صحف التاريخ رأينا ثمستوكل وديموستين في أثينا، وهنيبال في قرطاجنة، وقيصر وتراجان في رومة، ومحمد في بلاد العرب، وشارل مارتيل ونابليون في فرنسا، وكرومويل في إنكلترا، ووشنجتون في أمريكا، وبطرس الأكبر في روسيا، ومتسوهيتو في اليابان، وبيسمارك في ألمانيا، وغاريبلدى في إيطاليا، وكوشوت في النمسا؛ هؤلاء الأشخاص وغيرهم ممن أنهضوا الأمم ولموا شعثها وأحيوا أمواتها وأعادوا لها قوتها، هم أسلحة الأمم، هم قرن تلك الشعوب وبراثنها، هم خلاصتها وزبدتها، فردهم بأمة، وواحدهم بألوف مؤلفة. خذ واحدا من هؤلاء الأبطال وأمعن النظر في تاريخ نشأته تر أن فيه صفات شتى وقوى مختلفة وغرائز كثيرة لم تجتمع لغيره، وكلها مجتمعة في أمته، هؤلاء هم روح جسم الأمة، وقد يظهر ذلك بأجلى وأعظم مظاهره إذا التقى اثنان منهم في ميدان، فقد التقت أمتان، فهما إذا تشابها فقد تشابه شعبان، وإذا اقتتلا وفاز واحد فقد فاز عنصر على عنصر وانتصر عضو من جسم الإنسانية على عضو آخر. ظهر كل بطل من هؤلاء الأبطال في وقت بلغ فيه الضنك والضيق من الأمم مبلغها، فما هي إلا طرفة عين إلا انفرجت أزمتها وزالت مصيبتها وحسن طالعها وعلا نجمها، كلهم قاسوا أهوالا شدادا وعاكسهم الزمان وقاومتهم أحوال لا عدد لها، ولكن كلهم خرج من ميدان الوغى منصورا ظافرا، وكلهم خط على جبين الدهر اسمه بأحرف لا تزول. إن موسى نبي بني إسرائيل وواحدهم لما أن عجز عن هديهم وفشل في إصلاح شئونهم أتى بمعجزة أعجب عندي مما يقال عن قلب نظام الطبيعة باختراق البحر وإغراق فرعون وجنوده؛ هي أنه أطلق هؤلاء الضالين في وادي التيه وهو بينهم أربعين عاما حتى مات شيوخهم ونشأ منهم جيل بعد جيل وشعب جديد لا يشبه الشعب القديم، ومات موسى كغيره وقد أثمر عمله بعد موته، موسى بطل نفع قومه بموته كما نفع محمد قومه بحياته.
انظر إلى بلادنا واستعد تاريخها منذ أخنى الدهر على دورها الأول، دور المجد الباذخ والعز الشامخ، فهل ترى فيها واحدا من هؤلاء الأبطال؟ عجبا أيخلق ثور بلا قرن، ويولد أسد بلا براثن؟! كلا، لا غرابة في الأمر ولا عجب، إنما هوز حيوان عجيب ليس له نوع يعرف ولا جنس يوصف، وقد يكون من فلتات الطبيعة، وإذا نسينا ذلك الماضي ونظرنا إلى الحاضر فأين سلاحنا؟ إن أجنبيا أقامنا وأجنبيا أقعدنا وأجنبيا أحيانا وآخر يميتنا.
لقد ظهر فينا رجال في أشد أزماتنا، فكان مثلهم كمثل شبح والد همليت، ينذر بالويلات ويشحذ الهمم إلى حين، ثم يعود فيصير أول المخذولين من قومه، وهم قوم يبوحون بالأسرار، ولا يطلبون بالثأر، ولا يفرون إذا لاح ضوء النهار. إننا اليوم وغدا في أزمة من أشد الأزمات، وقد وقعت بنا نكبة من أفظع النكبات، فأين السم الذي نقاوم به؟ وأين القرن الذي نهاجم به؛ قرننا؟ بل أين الذيل الذي نذب به الحشراب والهوام؟
إنه من المستحيل أن يناقض المرء نفسه، ولكن الإيغال في الحيرة يفقد المرء صوابه، وقد فقد الباحثون في أمر هذه الأمة صوابهم، وغاب عنهم رشدهم، وتسامح بعضهم فاستباح فرضا مستحيلا، وقال: لنفرضن أن لهذه البقرة قرونا، وأن بيننا رجالا يعملون، فهل تم فيهم الشرط الثالث وهو العلامة الثالثة؟ هل يتفانى قواد رأينا في المنفعة العامة؟ وهل يتلاشون في خدمة الأمة؟
لو كان للتأكد ألف نوع لأكدت نفي ذلك الشرط وأنكرت تلك العلامة بسائر أنواع التوكيد جميعا.
أليس من العار أن يسجل المرء على نفسه عارا لا يمحوه الدهر؟ أليس من نكد الدنيا على المرء أن يرى في ذاته عيبا وليس له من الإقرار به من مفر ؟ ولكن أليس الحق أحق بأن يتبع؟ أليس هذا الأمر من الجلاء بحيث لا يحتاج إلى بيان؟ أجل، إن الحقيقة مؤلمة، ولكن دواءها في الإقرار بها.
إن قادة رأينا هم الأشباح التي تروح وتغدو أمامنا، يخدعنا مظهرها ويحزننا مخبرها، إن تلك التماثيل ليست إلا آلات في يد محرك يحركها، ولا تظهر عيوبها كلها إلا بمحك الحوادث، وقد ظهرت تلك العيوب وبانت كحفر الجدري في وجه المصاب فأغضينا وتعامينا وقلنا: هذا القبح حسن باهر، وذلك العيب جمال ظاهر.
أي لص دنيء ممن يسمون نفوسهم بالباطل عظماء ورؤساء لا يسكن قصرا فخما، ولا يركب عجلة غالية، ولا يكنز الذهب، ولا يطير لبه وراء الرتب؟! بل أي كلب من تلك الكلاب الرجسة لا يدعي غير ما يبطن ويظهر غير ما يخفي؟ وأي فحل من فحولنا لم تغيره الأيام ولم تبدله الحوادث؟ بل أي خنزير من تلك الخنازير لم يقل في سره إن لم يقل في جهره: «بعدي الطوفان؟»
تعسا لك أيتها الأسلحة، فإنك لا تجرحين، وسحقا لك أيتها القرون، فأنت لا تنطحين، وا أسفاه عليك أيتها الأمة، فأنت بلا مدافع شجاع ولا حارس أمين.
أما العلامة الرابعة، وهي أم تلك العلائم، وبرهانها أقوى البراهين؛ وهي ظهور آثار النشوء والارتقاء في أفراد الأمة، والمقصود بتلك العلامة أن يكون الحفيد أرقى من الوالد، والوالد أرقى من الجد، وهذه العلامة مشاهدة في الأمم الحية الراقية، فالمؤلف العظيم يخلف مؤلفا أعظم، والشاعر الكبير يلد شاعرا أكبر، والطبيب الماهر يمنح وطنه طبيبا أحذق منه وأمهر، وليس من الشروط المهمة أن يكون الولد في حرفة أبيه إنما الشرط المهم أن يكون أرقى منه بأية حال، وأسباب ذلك راجعة إلى روح النشوء والارتقاء الظاهرة بأجلى مظاهرها في عناصر الطبيعة وفي حياة الإنسان منذ الخليقة إلى الآن، ولست أقصد بما ذكرت النوابغ الأفذاذ في كل أمة، فقد يرد علي منتقد بأن نابليون أخلف غلاما ضعيفا ضئيلا، وأن فيكتور هيجو لم يلد غلاما ذكيا، وليس هذا ما أقصد؛ لأن هؤلاء كما ذكرت خلاصة الأمم، وهم أرقى ما وصلت إليه الطبيعة في خلق الإنسان، فلا يعقل أنها تخرج عن حدها وتنتج أعظم منهم وإلا كان ذلك الخلف الأعظم هو المقصود بالذات، إنما أقصد عامة الأمة وأوساطها، وقد دلت التجارب والاختبار أن الأمم في إبان نهضتها تنتج جيلا أرقى من جيل، وكانت هذه النظرية من أصول حصر إرث الملك في الولد الرشيد.
وهذه الأمة الهوزية قد دلت الخبرة فيها على عكس ذلك، فابن اليوم أقل من والده ذكاء وأضعف جنانا وخلقا وأميل إلى الذل وألصق بالجهل، وكذلك حال أبيه بالنسبة إلى جده. وقد عرفت أسرة عاشرت أفرادها فردا فردا، فإذا الجد رياضي ماهر يحل المعضل والمشكل ولم يكن تعلم تعليما حديثا، فلما أخلف ولدا لم يأل جهدا في تهذيبه أرقى تهذيب، فجاء الولد أضعف في فنه من والده، ثم أخلف هذا الولد ولدا فلم يهمل شأنه وزاد على تربيته أن سيره على دربه وخرجه في حرفته بعد أن حاول أن يعلمه غير علم، فلم يفلح.
وكان السكوت شاملا والقوم كأن الطير على رءوسهم، ثم إن الخطيب سكت قليلا، وقال:
هذا قولي، قلته في ملأ منكم، معتقدا أنني أقول الحق غير هياب فيه اللوم والذم، ومن كان لديه قول ينقضه أو أدلة تفنده فإنني أصغي إليه وأنصحكم باتباع رأيه.
فرأيت في الجمع هرجا ومرجا، وصعدت أصواتهم إلى عنان السماء، وانبرى كثيرون إلى المنبر المنصوب، ولكن قد تولاني التعب ونزل الحزن بنفسي مما سمعت، فأسرعت عائدا، فطفت في طريقي بجبال شامخة ووديان خصبة وأنهر عذبة.
قلت للروح الحائر: كيف تفسر هذا القول من مصلح واعظ يخطب في قومه فينعيهم لأنفسهم ويرثيهم على مسمع منهم؟ قال: أظنه أراد أن ينهض هممهم فعمد إلى الاستحثاث بالتخويف والاستنهاض بالوعيد. وأستودعك الله ليلتنا هذه، وموعدنا الليلة الثالثة.
الليلة الثالثة
علة سقوط الشرق
زارني الروح الحائر وأنا أبحث في علة سقوط الشرق ونهوض الغرب، فقال لي: «أراك مطرقا مفكرا كأنه موكول إليك تدبير الأمم ولم شعث الشعوب.» قلت: «إنني أفكر في أسباب سقوطنا ونهوض غيرنا من الأمم.» قال: «إن الخطب سهل، وإن من لا يرى علل ذلك السقوط رأي العيان فهو لا شك أعمه.» قلت: «إنني أرى بعض الأسباب ويغيب عني بعضها.» قال: «إن كنت ترى أهمها فهذا أفضل من حال من يخفى عليه كبير الأمور وتبدو له صغائرها.» قلت: «وأي الأسباب أكبر؟» قال: «ظننتك تعرف.» قلت: «أظنه ضعفا في وقت أصبحت القوة فيه عماد الأمم.» قال: «كلا.» قلت: «أظنه جهلنا في عهد العلم والنور.» قال: «كلا.» قلت: «إذن ماذا؟» قال: «إنه بغض العظماء.» قلت: «وكيف ذلك؟»
قال: إن بغض العظماء في الشرق أكبر المصائب التي أصابتنا، ولا نزال نعمل بها على تدمير البقية الباقية من حياتنا القومية، فما نبغ في هذه الأمة نابغ إلا جردنا في وجهه أسياف الحقد والحسد وما تركناه إلا مضرجا بدمائه فنعود على نفوسنا باللائمة ونقول: لقد كان فينا علما في رأسه نار نهتدي بهديه ونسترشد برشده.
وهذه بلا ريب نقيصة من النقائص اللاصقة بالأمم المنحطة، وهي أثر من آثار الهمجية الأولى، فقد كان أجدادنا سكان الأحراش وأبناء الأدغال والآجام أهل العصر الحجري يخشون أن ينبت فيهم فرد نباتا حسنا فيقوى عليهم وتسلطه قوته في أعناقهم أو يغتال مالهم وما لديهم؛ إرضاء لنفسه الضخمة وإرادته القوية وشهوته التي لا تبرد نارها، وهذا كذلك أثر من آثار تنازع البقاء بين طبقات الحيوان السفلى والعليا؛ لذا يروي الحكماء خرافة الوحوش الضئيلة التي تآمرت فيما بينها على الأسد وهو ملكها وأشدها بأسا وأقواها بطشا؛ لتفتك به وتستريح من شره، ولكن لا تلبث تلك الحيوانات أن تقتل سيدها ومولاها ومرجعها في أمورها ومعتمدها في ضيقها ومنقذها مما يحيق بها، وهو الذي خصته الطبيعة بقوة فوق قوتها وعزيمة أشد من عزيمتها حتى يقوم منها من يخلفه في بأسه وشدته وقوة بطشه وشراسته، ولا يفرغ الثعلب وابن آوى من دس الدسيسة حتى يشرعا في تدبير مؤامرة ثانية للخلاص من المولى الجديد.
هذه قصة من أساطير الأولين وضعها الحكماء والمرشدون؛ لتكون فيها عظة لقوم يعقلون، وها نحن نرى أمامنا قوانين الطبيعة وسنتها دائرة على محور الانتظام وسائرة على خط مستقيم، ونرى تلك القوانين العادلة في أعمالنا نحن البشر كما نرى نور الشمس وضوء القمر، ولكن قل فينا من اتعظ واعتبر.
هذه صحف تاريخنا البيضاء، قلبها كيف شئت تر من آثار حقدنا على عظمائنا وغيظنا من النابغين فينا، وحسدنا لكل ذي نعمة لم تهبها لنا الطبيعة؛ ما لا تحتاج بعده إلى برهان على إثبات قرب عهدنا بالحياة الوحشية وتمام المشابهة بيننا وبين العجماوات.
وقد علل علماء الأخلاق هذه النقيصة بأنها داء من أدواء النفوس الصغيرة التي لا ترى لذواتها فضيلة من الفضائل، وتأبى أن ينفرد غيرها بالكمال، وقرر هؤلاء العلماء أن النفس الكبيرة تسر بالنفس التي تشبهها وتماثلها وتشد أزرها وتناصرها، ولا تتسرب إليها الغيرة ولا يأتيها الحقد من بين يديها أو خلفها.
وهذا التعليل واضح، فالنور لا ينقص النور، والقوة لا تنقص القوة، ولكن الظلمة ضرة الضياء، والضعفاء أعداء الأقوياء، ولكن تلك النفوس الصغيرة الضئيلة لو تأملت قليلا ترجع عن غيها لساعتها، فمهما اختفى الحق لا بد من ظهور نوره.
أيتها النفوس الصغيرة، ولا أحقرك ولا ألومك على صغرك، فقد أرادت لك الطبيعة أن تكوني كما أنت، وهيأت لك شروطا وأحوالا وبيئات وأشخاصا وأعمالا، وبعثت إليك بعوامل ظاهرة وأخرى خفية، فبرزت للعالم كما أنت، فلماذا يحزنك الأمر وهو قضاء الطبيعة وقدرها؟ لو كنت تحملين أكثر مما أنت حاملة لوكلت إليك الطبيعة أحمالا جهد طاقتك، ولكن لكل وعاء ما يسع، وليس فيك لما في غيرك متسع.
عجبا! كيف يجوز للشعلة الضئيلة أن تحسد الشمس المشرقة على نورها؟ وكيف يجوز للأرض الدنيئة أن تطاول السماء الرفيعة؟ بل كيف يحق للأصداف أن تحقد على الجواهر وتنكر عليها بهاءها؟!
إذا انفردت الشمس بإضاءة الأرض على سموها وزهاء نورها خسر الناس ربع أعمارهم وهي الليالي التي يستضيئون فيها بالقمر والكواكب والأنوار المبتدعة، وإذا اكتفينا بالجواهر احتاج غيرنا إلى الأصداف، ولا يمكن للفرد مهما كان عظيما وقويا أن ينوب عن الكل.
فيا أيتها النفوس الصغيرة، إننا في حاجة إليك، إنا نطلبك كما نطلب النفوس الكبيرة، ولكن الطبيعة العادلة تأبى أن تستوي أنت وغيرك من النفوس الكبيرة؛ لأن لكل نفس عنصرا خاصا بها، وعنصرك أقل من عنصرها، وقدرك أضعف من قدرها.
أيتها النفوس الصغيرة، اقنعي بعيشك وعملك، وخل عنك أمر غيرك. إن الفلك لا يدور بالأقمار والكواكب السيارة، إنما فيه من النجوم ما لا يبلغ قدر ذرة، ولكن تضيء تلك الذرة بقعة من الأرض لا ينفذ إليها نور الشمس ولا ضوء القمر، كذلك قد تقوم نفس صغيرة بما لا تستطيعه نفس كبيرة.
إذا قام عظيم بإصلاح أمة وهدي شعب فقد يقوم غيره ممن لم يقسم لهم نصيب كنصيبه بسد حاجة عيلة يعولها، ولو أرادت الشعرى اليمانية أو المريخ أو الزهرة أن تنال منال الشمس وسارت على دربها غيرها من الكواكب اختل نظام الفلك واعتلت هيئة الأجرام وزال ما نراه من القبة الزرقاء من الإبداع والإحكام، كذلك إذا أرادت نفس صغيرة أن تنال منالا غير منالها ونسج غيرها على منوالها فسد نظام الحياة وصار الأمر فوضى لا قوام له ولا قائمة.
يقول صغار العقول وضعاف الأحلام: هذا العظيم الكبير يستصغرنا ويحتقر شأننا ويشمخ بأنفه علينا ويدعي بأنه ليس منا، ولو كان متواضعا حملناه على الأكف والأعناق.
نقول: كذبتم وأنتم على أنفسكم شاهدون، لو كان متواضعا وطئتموه بأقدامكم وأخذتم تواضعه حجة عليه لا له، وكم من متواضع بيننا يؤخذ برجله ويجر، وهو جدير بأن يؤخذ بيده ويبر! أما كبرياؤه وشموخه فدعوهما، ودعوه فهو ليس منكم، دعوه إن في نفسه نورا ليس في نفوسكم، دعوه إن في فؤاده نارا لا تشعل أفئدتكم، دعوه إن في روحه من الكهرباء ما لا تطيقه نفوسكم، ألا يكفيكم أنه يعيش بينكم في ذلك العالم المملوء بالمعائب والأقذار؟! ألا يكفيكم أنه يرشدكم ويهديكم؟ كيف تكلفون النفس القوية أن تلتئم مع الجسد الضعيف؟! بل كيف تريدون من الطبيعة أكثر من أن تجمع بين النار والماء في وعاء.
يا أمم الشرق ، تناديك نفس موجعة، ويستغيث بك روح حائر، فاسمعي وعي، إن هلاكك في تدابرك وتباغضك وتنافرك. يا أمم الشرق، كفاك ما أنت فيه من الوهن وما يتوعدك من ضروب الدمار والهلاك، إنك كالحية سمها كامن في بدنها ولا يؤذيها ما دامت لا تنفثه فيه. أيتها الأمم، مجدي عظماءك دون السوى، وناصري الأقوياء ينصروك.
يا أمم الشرق، ما مات فيك كبير إلا وراءه صحيفة سودتها نقائصك تدل على قصر نظرك وضيق نطاق عقلك، كم من حكيم ذاق حتفه عقابا له على حب العدل والحق! وكم من عظيم أراد أن ينير لك غياهب الدهور القادمة، فأطفأت شعلته قبل أن يضيء لك محجتك ويهديك سواء السبيل!
يا أمم الشرق، إن الطبيعة تعفو وتغفر، ولكن الحليم شديد الانتقام، ومن عفا اليوم عاقب غدا، ومن غفر بالأمس ينتقم اليوم.
يا أمم الشرق، انظري إلى الأمم التي ورثت مجدك وغلبتك على أمرك وداستك تحت أقدامها وجلست منك مجلس السيد من العبد والظالم من المظلوم؛ إن تلك الأمم حلت لغز الحياة، وسبرت غور الطبيعة، وعرفت كنه المسائل التي تقفين أمامها ذاهلة حائرة. إن تلك الأمم تبجل عظماءها وتمجدهم وتتخذ منهم هداة ومرشدين لا ترد لهم قولا ولا رأيا.
فيا أمم الشرق، إن شئت أن تنالي منالها وتبلغي مجدها، أو تستردي مجدك الضائع وتقيمي ركن عزك المنقض؛ فاهدمي معابد البهتان، وارفعي لكل عظيم عمادا، وأقيمي لكل كبير تمثالا يكون موضع السجدات.
يا أمم الشرق، هذه كلمة أقولها ولا أزيد عليها، قد لا تصل إلى آذانك، بل قد لا تستأذن على مسامع أمتي التي أنتسب إليها وأبناء وطني الذين أنتمي إليهم، فإذا لم تكن نصيحة تسمع وتقبل ويعمل بها فلتكن نفثة مصدور تفرج الكرب وآهة محزون تقلل من حزن النفس والقلب.
ولما أن فرغ الروح الحائر من هذا القول أخذته هزة فاخلتج المصباح الذي في يده، فقال لي وهو يختفي عني في الأثير المحيط به: موعدنا الليلة الرابعة.
الليلة الرابعة
غرور الناس بالناس
كنت في حيرة من الحياة أناجي نفسي تارة وأعقها طورا، وإذا بي أرى شعاع مصباح الروح الحائر، فقلت: إلي أيها الروح، فإنك على حيرتك أكثر مني هدى، إنني أسمع في هذه الأيام قولهم: «هذا هو الذوق الشائع، وذاك هو الرأي العام.» ولست أفهم لهذا معنى.
قال الروح الحائر: «إنني إذا ذكرت بعض حوادث حياتي الأرضية وما كنت فيه من القيود المرذولة التي اقتضتها العيشة المادية تنفست الصعداء وحمدت الله على الخلاص من هذا البلاء، وإنني أذكر ما قاسيته من البشر وأنا في الجسم الدنيء البالي كما يذكر المتيقظ حلما مزعجا، ولكن هناك بعض الشئون فطنت لها وتجلت علي الحقائق خلالها، فسعدت بها وأنا في الحياة الدنيا، فقد كشف لي يوما عن حقيقة غرور الناس أو بدعة الرأي العام.» قلت: «حدثني فلعلني أهتدي بقولك.»
قال: من عجائب الحياة الأرضية ومن غرائب خلائق البشر أن نصف العالم يعيش متنكرا والنصف الآخر يعيش مخدوعا، فلا النصف الأول يخلع قناع التنكر، ولا النصف الآخر يستشف ما اختفى وراءه من الحقائق المخالفة للظواهر، وليس هذا راجعا إلى حذق البعض وغباوة البعض الآخر، إنما الواقع هو أن الكل قد بلغوا النهاية من البلاهة والغاية القصوى من الغفلة. ولا ريب في أنه يصعب التسليم بصدق هذه القضية لأول وهلة كما أنه يصعب علي أن أدونها؛ لأنني لست إلا بعض البشر، ولكنني ما دونتها إلا بعد أن تحققتها، وما تحققتها إلا بعد التأمل في حالي وحال غيري ممن رأيتهم وخبرتهم، فكنت إذا أردت أن أحكم على نفسي في شيء من الأشياء اندفعت أفعل ما أريد بلا حساب، ثم جردت من نفسي شخصا يحكم على ما اكتسبت وكنت أبدا إذا سمعت حكم نفسي على نفسي أو حكم نفسي وهي في صحوها عليها وهي في سكرها عدت عليها باللائمة، وما أعد لها من الحسنات إلا النزر اليسير، وقد أكون فيما عددت منها مخدوعا مغرورا، وكثيرا ما كنت إذا سمعت حكم نفسي على نفسي أضحك منها هازئا بها وبغيرها من النفوس، و«شر البلية ما يضحك.»
وقد بقيت هذه القضية كامنة تجول في صدري ولا أستطيع أن أخرجها؛ لعجزي عن التعبير عنها حتى اختمرت، ثم حدث المرة بعد المرة ما هاجها وهي ناضجة، ففلتت مني قبل أن أعوقها، فتركتها تخرج للناس.
أما وقد مهدت هذا التمهيد؛ ليسهل عليك فهم ما أريد، فها أنا أشرع في التفصيل:
كنت مرة في الحياة الأرضية في محفل حافل بكثيرين ممن يسمون أنفسهم أصحاب السعادة والعزة ويصفونها بالعلم والفضل والذكاء، فإذا دعاهم داع بغيرها أو أغفلها غضوا عنه الطرف وعدوا فعله إهانة لحقتهم ومذلة أصابتهم، كنت بين هؤلاء غريبا عنهم، لا لأنني لا أعرفهم، إنما لأنني لست من طغمتهم؛ ولذا كنت خارجا عن دائرتهم، لا يخدعني ما يخدعهم، ولا يسرني ما يسرهم، ولا يطيب لي ما يطيب لهم، فاستطعت أن أحكم عليهم حكما إن لم يكن العدل بعينه فهو أقرب الأحكام إليه.
هؤلاء القوم دعاهم أحدهم ليخطب فيهم فلبوا دعوته، وفي كل قلب من قلوبهم ما يشغله، فبعضهم جاء ليلقى صاحبا له وفاء بوعد سابق، وبعضهم جاء ليري الناس ثوبا جديدا، وبعضهم جاء ليقتل الوقت فرارا من الضجر، والبعض جاء ليقال عنه إنه يدعى إلى المحافل ويفهم ما يقوله العلماء، أما الرغبة في سماع ما يقال فقد لا تتعدى بعض أفراد قلائل.
دخلت مع الداخلين، وجلست مع الجالسين، وأصغيت إصغاء الحاضرين؛ فإذا الخطيب يقول ما لا يعي، وإذا نحن ندعي فهم ما لا نفهم.
كان الخطيب عالما من العلماء، مشهورا بالفضل، وقد جاء الكل طمعا في شهرته واعتمادا على صيته، فوقف يخطب وهو ممتلئ غرورا بنفسه وإعجابا بفصاحته وطلاقة لسانه وإعجاز بيانه، ولكن السامعين لم يجدوا منه ما كانوا ينتظرون، ولكنه وجد منهم الإصغاء والسكون، فاندفع يصدعنا بركاكاته، ويجلد مسامعنا بترهاته، وكلنا شاعر بقلة عقله بعد أن ظهرت حقيقة علمه وفضله، ولكننا - وا أسفي - عاجزون عن نصحه.
كنت أشعر بالتململ ذات اليمين، وأسمع ألفاظ التأفف والتضجر ذات الشمال، وتقرع أذني كلمات الندم على ذهاب الوقت هباء، فأردت أن أجس نبض الحاضرين؛ لأتثبت من تلك القضية ، فسألت جاري: أفاهم أنت ما يقول؟ فقال: كلا، ولكنني متضجر. فملت إلى غيره وقلت له: أيلذ لك سماع تلك الخطبة؟ فقال لي: إن ضرب السياط أحب إلي منها. فنظرت إلى ثالث وكنت أعرف فيه ما نسميه بالحياء، وسألته عن فصاحة الخطيب ومقدار علمه؛ فابتسم بسمة مبهمة.
فدهشت لخلو هذا الجمع كله من رجل كريم النفس قوي القلب والإرادة ينوب عن الحاضرين في التعبير عما يجول في خواطرهم، بل كان الكل جالسين صامتين كأنهم يخشون العقاب. فمن الملوم في مثل هذا المحفل العجيب؟ أيلام الخطيب وقد امتلأ غرورا بنفسه من ثناء الناس عليه ثناء كاذبا؟ أم نلوم الناس وكلهم خادع مخدوع يوقع البعض بالبعض سعيا وراء منفعة أو جبنا وخوفا من أن يوصموا بضعف العقل والعجز عن تقدير الفضل وذويه؟
إن ذلك الحادث الصغير أساس كل أمر كبير؛ لأن ما يحدث في تلك الحفلة الصغيرة بين هؤلاء «الفضلاء الأذكياء، والعلماء النجباء» يحدث في كل مكان، وما يصدق على هذه الأمة يصدق على غيرها من الأمم الراقية، وقد تكون الشعوب المنحطة أكثر حبا للحرية وأبعد عن قيود التقاليد الاجتماعية من غيرها، فهي من هذه الوجهة أفضل من بلاد العلم والمدنية.
أجل، ما يصدق على هذا الخطيب ومن التفوا حوله يصدق على الكبراء، فليس الكبير إلا فردا ساقت له المصادفات مجدا وألبسته صروف الدهر حللا وقلدته طوارئ الحدثان مقاليد البطش، وقد رضع الملق مع اللبن ونشأ في قوم يعظمونه لا لفضيلة فيه، ويهابونه لا لبطش يتقونه، وعاش في وسط كل من فيه عبيده وخدمه إذا قال فعل وإذا أمر أتته الطاعة منقادة فهو لا يرى نفسه عبدا إلا لشهوته، والضعفاء والصغار من حوله لا يعلمون من أمره شيئا سوى أنه الفعال لما يريد.
قد يكون من طبعه الخوف من الفيء والفزع من لا شيء، كما هي حال هؤلاء الذين لم يعرفوا من الشدائد إلا وصفها، ولم يذوقوا من الحياة إلا قصفها، إنما ورثوا سوء الخلق وشراسة الطبع عن آبائهم وأجدادهم الذين نشئوا منشأهم وعاشوا عيشهم، وقد تفيد الحماقة حيث لا علم ولا معرفة فيظنها الأغبياء عزما ثابتا وإرادة قوية لا تزعزعهما العواصف ولا تقلقهما رياح الدهر القواصف. حتى إن الأغبياء يقصون عن غني كبير من نوادر طفولته أن شيخا دعاه يوما وهو طفل بلقب من ألقاب الدلال فالتفت الطفل إليه مغضبا وقال: «لا تدعني بما تدعوني به أمي.» ولو كانت هذه الحادثة لصبي من أولاد الفقراء لعدت منه قحة وخروجا عن حد الأدب والحياء، ولكنها عن غني كبير؛ لذا هي موضع الإعجاب؛ لأن شخصه موضع الابتهال.
وقد يكون المملقون ضجرين وهم يسبحون بحمده ويتحملون ضيمه وشره وهم ناقمون ساخطون، فإذا صنع بهم ما صنع وبلغ منهم الغيظ ونال منهم الغضب وقام أحدهم يشكوه إلى نفسه أو ينبههم من غفلتهم بعد طول خنوعهم؛ رمي بالجنون. وعلى هذه القضية قضية الخوف من التصريح بالحق؛ لحفظ بعض المنافع إلى حين، أو طمعا في مغنم ضئيل، أو تصديق لما يقول الغير، واعتمادا على أوهامه الواهية؛ بنى الناس بدعة الرأي العام، فهم يقولون: الرأي العام إرادة لا ترد، وقوة لا تصد، وبطش ليس له حد. ويقولون: صوت الخلق صوت الحق، وإن العناية تنطق على ألسنة البشر ... إلى غير ذلك من الأقاويل الموضوعة. والواقع غير ما يقولون، وهم واثقون بأنهم منافقون مراءون ومدعون كاذبون، أليس الرأي العام اندفاع فئة كبيرة من الناس وراء قول خطيب بارع أو كاتب بليغ؟ وقد يكون هذا الخطيب أو ذاك الكاتب شريرا سيئ المقاصد قليل الخبرة عاشقا للشهرة والرئاسة «وكلهم ذلك الرجل.» ولكن الناس أو الرأي العام لا يعرفون عنه إلا ما يقول، ولا يرون منه إلا سطورا سوداء في ورقة بيضاء أو هيئة حسنة وخلقا كريما يتصنعه ليخدع الناس ويجذبهم إليه، ولكن ماذا تكون حال هذا الرأي العام لو فتحت صحائف قلوب قادته وقرئت على رءوس الأشهاد؟ إن الناس لضعفهم لا ريب يقولون: هذا افتيات وافتراء، وما قادتنا إلا ملائكة من السماء، وتلك سنة الطبيعة في البشر، ولن تجد تبديلا. طبعوا على الذل فهم الخاسرون.
على ذلك الأساس المتين - أساس الخوف من التصريح بالحق والجبن الموروث - بنى أبطال التاريخ مجدهم الخالد وأسسوا مفاخرهم الشامخة، وقد سئل بعضهم: كيف يرهب القلوب ويرعب الأفئدة؟ وكيف يغلب أعداءه ويقهر أضداده ويذل الأعزاء ويخضع الأقوياء؟ فقال: عرفت سرا لم يعرفه إلا من بلغ مبلغي أو سوف يبلغ. فقيل: وما هذا السر؟ قال: «أخدع الناس كلا بما خلق له، وأستعين بالبعض على البعض؛ فيكون الكل لي ظهيرا.»
الليلة الخامسة
حديث الروح المجنون
دنا الروح الحائر من مضجعي وهزني فنهضت، قال: «لقد اكتشفت اليوم أمرا غريبا؛ إن بين الأرواح أرواحا مجنونة كما هي الحال بين البشر.» قلت: «كيف ذلك؟ أليس الجنون عارضا من عوارض الحياة الأرضية؟» قال: «كلا، إنه كذلك يعتري بعض الأرواح التائهة التي لم تستقر بعد على حال، فقد رأيت اليوم روحا مجنونا يهيم على وجهه في الفضاء، وهذا الروح المسكين لا يهدأ له خاطر ولا يسكن إلى مقر، فلما رآني قرب مني وقال لي: «أنت الروح الحائر العاقل، وأنا الروح الحائر المجنون.» قلت: «وكيف ذلك؟» قال: «إنني طريد الأرض والسماء؛ لأنني قلت يوما ما أعتقد.» قلت: «ماذا قلت؟» قال: «خلوت يوما بصديق لي وأسررت له رأيي.» قلت: «وما هو هذا الرأي؟»
قال: «إنني سمعته يذكر الأخلاق والآداب والفضائل وغير ذلك من الأحاديث المتفق عليها.» فقلت له: آداب وأخلاق وفضائل! ألا تزال تعتقد بوجود هذه الأحاديث، اسمع، إنني أقول لك كلمة واحدة لم أقلها لأحد سواك من قبل، وفي هذه الكلمة السر الأكبر، بل هي حل اللغز الذي تقف أمامه صاغرا حائرا.
إن كل ما ذكرت لك أكاذيب مموهة وأضاليل متفق عليها، نعم، أكاذيب مموهة وأضاليل متفق عليها، وبعبارة أخرى هي سيئة من سيئات المكر البشري وحيلة من حيل الإنسان اختلقها؛ ليسود على أخيه وليتحكم بها في عنقه، أتعرف قصة السندباد البحري؟ أتعرف كيف أنه لقي في إحدى الجزر رجلا عجيبا غرر به وخدعه حتى تمكن منه وركب كتفيه، وما زال ذلك الرجل يسخر السندباد ويحرمه لذة القعود ولا يذيقه طعم الرقاد؛ إذا غفا أنهضه، وإذا توانى ركضه، حتى فطن السندباد إلى حيلته وحاول الخلاص منه، فلم يتأت له إلا بأن أسكره، فلما لعبت الخمر برأس العلقة أخلى سبيل أسيره، ولو لم يفطن السندباد بقي طول عمره في أسره!
إن مثل الهيئة الاجتماعية في كل زمان ومكان كمثل السندباد والمدعون أنهم أنصار الحق وأعداء الباطل وأبطال المواقع وحكماء الأمم وأصحاب الملايين؛ هم خلفاء ذلك الرجل العجيب الذي ركب أكتاف السندباد المسكين، نحن - يا صاحبي - فريسة تلك الوحوش المفترسة، نحن عبيدها وأسراها، ونحن مصدر خيرها وثروتها، نحن مصدر بطشها وقوتها، لا تدهش ولا تذعر! إن كنت اكتفيت بقراءة الكتب وسرك مرأى الظواهر فإنك لا تستطيع معي صبرا، بل أضطر لأن أستميحك عذرا وأقول لك: لقد أخطأت وسبقني اللسان إلى القول فلم أفقه معنى ما قلت وكفى. وإن كنت قرأت الناس وعلمت ما خفي من أمورهم فأنا أسألك أمرا واحدا، ارجع بنفسك إلى الماضي وسلها عمن عاشرتهم من أهلك وأصحابك ورفقك وأحبابك وقل لي أيهم لم يسع إلى غاية تهمه وغرض يريده؟ بل أيهم بذل نفسه أو ماله أو شرفه لينقذ غيره ما لم يكن له وراء ذلك البذل أمل يود تحقيقه؟ بل أيهم ليس له سر يكتمه وخبر يخفيه؟ أيهم لم يخدع الناس؟ أيهم لم يخدع نفسه؟ أيهم أذعن إلى الحق إلا مرغما مضطرا؟ أيهم لم يغير ما بنفسه سرا وجهرا؟ أيهم صدق في القول وأخلص في العمل واعتقد ولم يأكله الناس لحماقته وجهله؟ وأيهم لم ينجه الكذب من اللوم ولم ينقذه الرياء من مخالب الفقر؟ أيهم أشبع جائعا إلا طمعا في دار تجري من تحتها الأنهار أو خشية أن تلحقه الفاقة في آخر النهار؟ أيهم حقن دما يرى في سفكه خيرا له؟ وأيهم صان سرا يجد في كتمه ضرا أو حرص على شرف أمن في ثلمه إراقة الدماء؟ إن هناك لا ريب نفرا قليلين تحاجني بهم وتستند في تفنيد قولي عليهم، ولكن كل ما أقوله عن هذا النفر هو أنك لم تعرف دخائلهم، ولم تسعدك المصادفات برفع الستار عنها.
تقولون: شرف وفضيلة ... فما هو ذلك الشرف سوى الألقاب الفارغة وتلك المظاهر الباطلة، أرأيت رجلا كاملا لا ينطق إلا بميزان ولا يفوه بفحش القول كأن على رأسه ملكين كريمين يكتبان؟ أرأيته كيف يأنف إذا اغتبت لديه عدوه؟ أسمعته كيف يأبى عليك أن تمدحه في وجهه؟ إنه - يا صاحبي - ممثل حاذق أمكنه أن يستر حقيقة شخصه بغشاء من الرياء والنفاق، إنه ادعى الفضيلة، ولعمري ما وضع الواضعون اسما بغير مسمى أغرب ولا أعجب من هذا الاسم، فإنه يتضمن كل شيء ولا يدل على شيء، وليس ذلك بعجيب، أرأيت تلك الفتاة التي احمر وجهها خجلا إذا نطقت أمامها باسم الحب؟ أرأيتها وهي بين ذراعي حبيبها بعد ذلك ببرهة تبثه لواعج الشوق وتتلو عليه آيات الغرام؟ هذه يا صاحبي هي الفضيلة، هذا هو الشرف، لكن كما يفسرها الرجل العجيب الذي ركب كتفي السندباد لا كما يفسرها السندباد بذاته.
ولكن لماذا نلوم الناس ونعتب عليهم؟ أليسوا بشرا؟ أليسوا قطيعا من الحيوان كان يدب منذ قرن في الأدغال والأحراش؟ ولكن لماذا نتظاهر بما لا نبطن؟ نظام الهيئة الاجتماعية يقضي بذلك، وما هو نظام تلك الهيئات الاجتماعية سوى قواعد وضعها الإنسان للإنسان وصيره بها أسيرا على مدى الدهر والأزمان ضعيف الحول والطول حقير الرأي والعقل. إن هذه الحيوانات المستترة وراء الحلل الفاخرة والحلى الغالية سئمت ذلك الاستتار وأصبحت تبجل الصادق الأمين والوفي الحر؛ لأن صاحب تلك الصفات نادر ندور الكبريت الأحمر في ذلك العالم الطويل العريض، فلماذا لا نخلع كلنا مرة واحدة رداء الرياء ونطلق النفاق طلقة بائنة وننسى الماضي، ونسير في طريقنا كما يسير إخواننا في الأجمات والغابات بلا كذب ولا خداع ولا نميمة وبلا الألفاظ الخلابة الباطلة؟!
لا أريد أن أقلب نظام العالم أو أعطل سير الفلك، بل يخيل لي أن الشيطان يخجل إذا ظننته ملكا طاهرا، فكيف لا نخجل نحن ممن يجلنا ويعظمنا ويكرمنا ويسجد أمامنا ويبذل نفسه مرضاة لنا؟! إذا كان لنا ضمير فمتى يؤنبنا؟ وإن كان هناك جزاء فمتى يكون؟ وإذا كانت الإنسانية تسير سيرا حثيثا نحو الكمال فمتى يكون الوصول إن كانوا صادقين؟ وإن كنا نسير سيرا سريعا نحو الدمار فمتى يكون البلوغ إن كنا بالغين؟!»
قال الروح الحائر: فلما سمعت هذا القول قلت له: «لا شك أنك أيها الروح مجنون، أتظن هذه الأقوال حقا وهي عين الباطل؟!» فقهقه الروح المجنون وقال: «وأنت كذلك لا تزال مخدوعا، وسوف تفقه معنى هذا القول، وا حسرتاه! لقد التمست الأنصار في الأرض فلم أجدهم، وها أنا ألتمسهم بين الأرواح فيصفونني بالجنون، إن جنوني خير من عقلكم وخيالي أصدق من حقائقكم.» فأعرضت عن الروح المجنون وجئت إليك أنقل حديثه.
الليلة السادسة
نرجس العمياء
جاءني الروح الحائر باكيا، فقلت: «ماذا يبكيك يا روح العزيز؟» قال: «تبكيني ذكرى مؤلمة.» قلت: «وما هي؟» قال: «ذكرت اليوم أنني خلفت على الأرض نفسا زكية في جسم فتاة شقية، إلا أنها من بنات الجنة وهي لا تزال على الأرض، بل إني ألتمس من يماثلها في السماء فلا أجد.»
قلت: «ومن هي هذه المخلوقة الإنسية التي حوت تلك الصفات الروحانية؟»
قال: «إنها نرجس الضريرة، عرفتها أيام صباي في الحياة الأرضية، فإذا ذكرت السعادة وخلو البال وراحة القلب وفسحة الآمال على الأرض ذكرت تلك الأيام البعيدة السعيدة، تلك الأيام البعيدة القريبة؛ بعيدة لأني كلما نظرت ورائي إلى الحوادث والكوارث وغرائب الأقدار ومدهشات الليل والنهار رأيتها جميعا كالجبل العالي يفصل بين واديين، الوادي الأول: هو وادي الماضي وفيه تذكار الطفولة، والوادي الثاني: هو الذي أعاني الآن التيه في قفاره وأحاول الخروج من آجامه وأدغاله ولا أدري إلى أين، ولكن إذا نسيت كل مصائبي وأسدلت الستار على همومي واستسهلت الصعب واستهنت بالأحزان مما مضى رأيت أيام الطفولة أقرب شيء إلى قلبي فكأنني ابن الأمس وكأنني الساعة وأنا أحادثك أعبث برمل البحر وأمتع ناظري بمنظر غروب الشمس وأشنف آذاني بصوت المؤذن قبيل الفجر.
ليس ذلك كل ما أذكر من تلك الأيام ، بل إن في قلبي صحفا منسية وكتبا مطوية لم يأن قبل الآن أوان نشرها وتلاوتها، بل لا أكون مبالغا إذا قلت إن في صدري عالما صغيرا لا ينقصه شيء مما في أكبر العوالم؛ ففيه الفرح والحزن، والضحك والبكاء، والشجى والطرب.
ومن أشخاص هذا العالم العجيب طفلة عمياء لا أزال أذكرها ولن أنساها، واسمها نرجس، وكانت تلك الفتاة يتيمة تعيش مع جدة لها عجوز أحناها الكبر وأخنى عليها الدهر ونال منها الفقر منالا، تعيش مع تلك الابنة في غرفة صغيرة مظلمة ضيقة في بيت من البيوت المجاورة لبيتنا، أما العجوز فكانت ذات شمم وعفة؛ لأنها أبت إحسان المحسنين وفضلت أن تبيع الحلوى للأطفال في الأزقة على أن تستجدي، وكانت من الرحمة بحفيدتها والإشفاق عليها بحيث لا يهنأ لها بال ولا تستقر على حال ما دامت نرجس تطلب حاجة أو تشتهي شيئا. ومن المناظر التي لا تزال في ذهني صورة تلك العجوز الفاضلة تحمل حفيدتها على أكتافها والطفلة العمياء تنظر إلى العالم بعينين أخذ الله نورهما وعلى شفتيها المرجانيتين ابتسامة كابتسامة الملائكة، والمرأة تسير على مهل وهي لابسة ثيابا لا تدرأ بردا ولا تستر جسدا، وبين يديها صندوق من الخشب فيه أصناف شتى من الحلوى وألاعيب الأطفال وهي تنادي الأطفال بصوتها الضئيل الخافت وتدعوهم إلى شراء ما بيديها، فتقف تارة ويلحقها التعب فتجلس، وكانت إذا جلست ضمت نرجسا إلى صدرها وقبلتها وكأن تلك القبلة تذهب بما أصابها من التعب فتعود إليها قوتها ويتجدد لها نشاطها.
أما نرجس فكانت طفلة في الخامسة من عمرها نحيفة البدن جميلة الوجه، وكان لها شعر يشبه العسجد في لونه وحسنه وكان ثوبها على فقرها نظيفا، وكانت جدتها تتودد إلينا فوكلت إلي أمر تسريح نرجس ريثما تشتري من السوق بضاعتها، فلما دنوت من الطفلة وكنت أشفق عليها من زمن طويل، لاطفتها وداعبتها حتى اطمأنت إلي ثم سرت بها فقالت لي همسا: سر الهوينى وإلا أعثر بحجر فأسقط على الأرض؛ لأنني لا أبصر. وتأوهت الفتاة، فأثرت تلك الكلمة بنفسي تأثيرا شديدا ، وسرت بها لا أنقل قدمي حتى تنقل قدمها، ولا أنظر في طريقي إلا لأزيل ما في سبيلها من الأحجار الصغيرة، ولو استطعت حملها لحملتها، ولكنني خشيت أن نسقط جميعا، وما زلت سائرا بنرجس ويدها في يدي أنظر إلى السماء وإلى جبينها الوضاح وعينيها المغمضتين حتى بلغت بها شاطئ البحر، فلما شعرت نرجس بالهواء قالت لي: أين نحن؟ فقلت لها: نحن على شاطئ البحر. قالت: وهل بلغنا الماء؟ قلت لها: كلا. قالت: اجلس بنا هنا؛ لأنني أسمع صوتا يخيفني. فقلت لها: هذا صوت الأمواج وهي بعيدة منا. قالت لي: وما هي الأمواج؟ قلت لها: إنها قطع كبيرة من الماء تلطم الشاطئ ثم تنكسر. فقالت لي: وهل البحر كبير؟ قلت لها: نعم، لا تصل عيني إلى آخره. قالت: وهل ترى السفن؟ قلت: نعم. قالت: وكيف هي؟ قلت: هي كالطيور البيضاء. قالت لي: وكيف الطيور؟ قلت لها: للطيور أجنحة تطير بها في السماء. قالت: إنك ترى كل هذا وأنا لا أرى، إنني أشعر بالبرد. فقلت لها: اقربي مني. فقربت نرجس مني، ووضعت رأسها في حجري، ووضعت يدي على جبينها، وبقيت هكذا زمنا طويلا وهي لا تنبس ببنت شفة، وأنا أقلب طرفي بين وجهها الهادئ وبين البحر الهائج ولست أستطيع أن أصف السعادة التي شعرت بها وتلك الطفلة الضريرة نائمة في حجري، وكانت نفسي تحدثني بأنه مهما طال رقاد نرجس وهي مستريحة فأنا لا أتعب ولا أمل؛ لأنني أحسست بأن راحتي وسروري في راحة تلك الطفلة اليتيمة العمياء وسرورها، ولما أغربت في النوم كنت أقبلها بحنو ورأفة ما شعرت بمثلهما نحو إنسان طول حياتي، كان الرمل تحتنا والسماء فوقنا والبحر أمامنا والنسيم العليل يهب علينا من الشمال، وقد خيل لي أنني لا أطلب شيئا بعد اليوم سوى نرجس تأتي معي إلى شاطئ البحر وترقد في حجري مطمئنة إلي كأنني شقيقها أو حبيبها منذ القدم.
لست أدري لماذا كنت أشعر بسرور عظيم لاستسلام تلك الطفلة واطمئنانها إلي؟ فهل كان ذلك لأن نفسها كانت تقاسم نفسي بعض همومها، وقد تدرك النفوس ما لا تدرك الأجسام؟ أو لأنني لم يكن لي إخوة ولا أخوات فلم أسعد بعشرة الأطفال إلا لتلك المرة؟ أو لأن إرادة الرجل أقوى من إرادة المرأة، وتظهر تلك القوة حتى في الأطفال فيفرح الطفل إذا سكنت إليه طفلة مثله وارتاحت إلى عشرته؟
كنت أشعر أن نرجسا صارت ملكي ومتاعي، قلبها قلبي وجسمها جسمي، وودت لو أنها تستعيض بنظري عن نظرها فترى ما تروقني رؤيته وتمتع نفسها بمنظر البحر والسفن التي سألتني عنها ولم أدر كيف أجيبها.
كنت أذهب في كل يوم لأرى نرجسا وأشتري لها ولي من الحلوى التي تبيعها جدتها، وكانت جدتها كلما أرادت أن تغيب عنها تستودعني إياها، وكانت نرجس إذا سمعت صوتي زال السكون من جبينها وعلت خديها حمرة السرور وجاءت إلي تجري فآخذها بين يدي وأسير بها إلى شاطئ البحر. ولما استأنست بي كانت تطلب إلي أن أقص عليها بعض القصص، فكنت أتلو عليها ما يحضرني مما سمعته، ولما علمت شغفها بتلك الأحاديث كنت أقضي شطرا من الليل في إعداد القصص العجيبة؛ لأعيدها على صديقتي الصغيرة التي كانت تنتظرها بفارغ الصبر، وكنت إذا انتهيت من قصة ابتسمت وقبلتني ثم طالبتني بقصة أخرى، وفي يوم من الأيام خطر ببالي خاطر عجيب وهو أن أسأل عجوزا في بيتنا عن قصة فيها ذكر طفلة عمياء، فكدت قريحتها وروت لي حديثا محزنا فيه ذكر طفلة عمياء ولدتها أمها وتركتها يتيمة وحيدة، فقاست الطفلة من الآلام والأحزان ما قاست حتى كبرت ونمت، وكانت تسير في الطرق وتغني بصوت شجي فيجود عليها الناس بما تقيم به أودها، وقد رآها ابن الملك من نافذة قصره، فحن إلى صوتها، وأعجب بجمالها، فدعاها إلى القصر وأسبغ عليها ذيول النعمة وتزوج منها، «ما أسعد تلك الأيام المطوية التي كان فيها الملك يقرب السائلة من عرشه!» وقبل ليلة زفافه بها جاء إلى القصر طبيب هندي ينطق الأبكم ويسمع الأصم ويشفي الأكمه، فطلب منه ابن الملك أن يشفي زوجته الجميلة ، فعالجها وشفاها !
فلما سمعت تلك القصة قضيت ليلتي ونفسي تحدثني بأن نرجسا يتم لها ذلك في صباها وأنها تشفى مما أصابها فتستطيع أن ترى ما يراه المبصرون، ولما كان الصباح أسرعت إلى بيت جدتها، فلما سمعت نرجس صوتي أسرعت إلي وطلبت أن أسير بها إلى شاطئ البحر، فأخذتها وسرت بها حتى بلغنا مكاننا الذي اعتدنا الجلوس فيه، فجلسنا قليلا ثم طلبت مني نرجس أن أقص عليها قصة، فاندفعت كالسيل الجارف أروي لها حديث السائلة الضريرة التي تزوج بها ابن الملك وشفاها الهندي.
ولما كنت أصف ما لاقته المسكينة من صنوف الشقاء وأنواع المصائب والمتاعب انقبض صدرها وظهرت علائم الحزن في وجهها، ولما بلغت أشد ما قاسته فتاة القصة من الأهوال قلت: «وفي ليلة من ليالي الشتاء دخلت السائلة مدينة كبيرة وفي يدها عكاز تقيس به خطاها وتحس به أديم الأرض، وكان البرد قارسا والسماء تمطر والبرق يلمع، وكانت الفتاة لم تتبلغ منذ يومين، فجلست إلى جدار وأخذت تبكي وتندب حياتها وتستعطف الناس بصوت شجي، ولكنها لم تنل ما تدفع به ألم الجوع؛ لأنها كانت في طريق مهجورة لا يمر بها أحد وهي تظن أن الناس تمر بها ولا يشفقون عليها؛ فأخذت تبكي بكاء مرا وقضت ليلتها في العراء على سغب ترتجف من البرد وتلتوي من الجوع.»
فلما سمعت نرجس هذا الكلام بكت ووضعت يدها على فمي وقالت: «لا تقل، لا تقل.» فقلت لها: «اسمعي فإنها بعد ذلك نالت من نعيم السعادة ما أنساها بلاء الشقاء.» فكفكفت نرجس دمعها وأصغت، فاسترسلت في حديثي حتى أتممت شفاء الفتاة، فأبرقت أسرة نرجس وقالت لي بصوت الحزين: «وأين هذا الطبيب الهندي الذي شفاها وأنار ظلمة عينيها؟» فقلت لها: «لست أدري يا نرجس.» قالت: «ولو علمت مكانه هل تأخذني إليه؟» قلت: «نعم.» فقبلتني في أذني؛ لأنها لم تر مكان القبلة من الوجه. •••
ودامت صداقتنا حتى فرق الدهر بيننا، فانتقل من كان يعولني وانتقلت معه من ذلك الحي، وودعت شاطئ البحر وصوت المؤذن، وودعت نرجسا وجدتها ، وودعت تلك السويعات السعيدة التي كنت أقضيها مع شقيقة روحي على الرمال الصفراء أقص عليها الأحاديث العجيبة وأمتع نفسي بقربها، ودعت تلك الروح الطاهرة وذلك القلب الحزين، ودعت طفلة بائسة لم تجن ذنبا ولم تقترف إثما، ولدتها أمها عمياء ومات أبواها وتركاها لعجوز فقيرة لا تستطيع أن تعول نفسها.»
قال الروح الحائر: «هذه صحيفة من الصحف المطوية، حفظها الفؤاد في ثناياها، وطواها القلب فيما طوى من الصحف التي تعيد إلي تلاوتها ذكرى سعادة الطفولة وشقائها.» قلت: «وما الذي هاج الذكرى؟» قال: «مررت اليوم في طريقي إليك بجسر كبير تمر به السابلة والعجلات، وكان البرد قارسا، فإذا بي أسمع صوت امرأة ترتل القرآن، فدنوت من مصدر الصوت، فإذا بي أرى امرأة في ثياب رثة قد افترشت الثرى وبجانبها طفلان، فتبينت وجهها، فإذا هي نرجس، ولم أستطع أن أنقذها من وهدة الفاقة بعد أن تجردت من المادة، فقم لساعتك وأنقذ من الفقر تلك النفس الشقيقة الشقية.»
الليلة السابعة
صديقي علي
زارني الروح الحائر، قال: «هل رأيت نرجسا؟» قلت: «نعم، رأيتها.»
قال: «إنني اليوم حزين بقدر حزني أمس.»
قلت: «هذا يسوءني، وماذا حدث فزاد غمك؟» قال: «لقيت اليوم روح صديق قديم.» قلت: «من هو؟» قال: «روح علي.» قلت: «ومن هو علي؟»
قال: إنه صديق عرفته في أيام الصبا، أيام كنت أمرح في نعيم الفتوة، وأسرح في واد من الهناء، في تلك الأيام التي بدد الدهر أوصالها، إذ كان كل كوكب في نظري قمرا، وكل زهرة وردة، وكل مسرة سعادة لا تنتهي، وكل كلمة قيلت همسا سرا لا ينسى، وكل بسمة دليل إخلاص أبدي.
هذه أيام الصبا التي ذهبت عني وولت كما ذهبت عن غيري من الأوائل والأواخر، فبكتها القلوب والنواظر ورثاها كل كاتب وشاعر، واستعادها كل شيخ هرم، ولكن قلب الشباب قاس أصم، فلا يرق لحال شاك ولا يسمع صوت باك، لا أبكي الشباب على الأرض ولا أستعيده فقد كانت همومه عندي أعظم من مسراته، وحسناته أقل من سيئاته، ولو لم يكن في الشباب من عيب سوى حماقته وجهله لاستعذت منه بالشيخوخة والهرم.
ولكن كان لدي أسطر في قرطاس كلما قلبت فيها أجفاني جادت عيوني باللؤلؤ الرطب على صديق عرفته في الصبا، ذبلت زهرته وذوت نضرته قبل أن أعرفه حق المعرفة، مات هذا الصديق قبل أن أدرك معنى الصداقة، وقبل أن أفقه معنى الإخلاص، فلما شببت وأدركت معناهما بكيته ولا أزال أبكيه، وقلت: لو اختار الإخلاص والصداقة شخصا يسكنان قلبه كان صاحبي ذلك الشخص.
كان صاحبي هذا عبدا أسود، وأقول عبدا مفاخرا؛ لأنني وجدت فيه حرا رفيع النفس عالي الهمة، ويا حبذا لو كان في الأحرار له مثيل!
كان لهذا العبد سيد، ونعم العبد وبئس السيد! وأظنه كان طبيبا أتى بتلك الجوهرة السوداء من بلد بأقصى النوبة، معظم أهله من العرب.
روى لي صاحبي أن أباه وأهله يملكون سفنا ولهم تجارة حسنة، وأن الطبيب خدعه وسلب لبه وحسن في نظره عيش المدنية، وكان قلبه إذ ذاك قلب فتى لا يفرق بين الحق والباطل، ولا يميز بين الصدق والكذب، فبهره حسن قول الطبيب، وفر معه فرارا رغم أنف أهله، وكانا في سفينة من سفن الجيش، فعجزوا عن رده.
سافر علي مع هذا الطبيب وهو لم يبلغ حد الفتوة، ولكن جوانحه كانت تضم نفسا كبيرة وقلبا كريما، وقد خاناه وغدرا به ولم يحدثاه بما سوف يلقى من صنوف الشقاء وأنواع العذاب الأليم.
روى علي قال: «فلما بلغنا مصر عني الطبيب بتهذيبي وتعليمي لما رآه في من الإقبال على العلم والتفاني في طلبه، وتركني أسرح مع أطفاله، وعدني منهم، وكانت له زوجة كريمة ترق لحالي وترأف بي؛ فأحببتها واتخذتها بديلة عن أمي وأهلي، وتسليت عن إخوتي بأبناء الطبيب، ولكنني ما أوشكت أن أبلغ مبلغ الصبا حتى تغير الطبيب علي، وكنت إذ ذاك أعمل معه في فن الكيمياء وأعاونه في عمله، فلم يكن لي هم إلا تحليل العناصر وتجهيز أنواع الدواء وعمل التجارب العلمية التي هدتني إليها كتب علم الطبيعة. وكنت كلما تقدم سني عاما ازددت غما وهما لسببين ؛ الأول: أني كنت أرى نفسي في موضع لا يليق بي، والثاني: لما طرأ علي من ضعف البدن عقيب تغيير الطقس والمناخ. ولكنني كنت أجاهد جهدي وأكافح ذينك السببين، وأقضي وقتي في تعلم ما أهمل الطبيب تعليمي إياه، حتى بلغت من الطب والكيمياء درجة ارتحت إليها ورضيت بها، وعند ذلك شعرت بقليل من راحة القلب؛ لأن مكاني في بيت الطبيب كان مبهما غامضا؛ فلا أنا فرد من أفراد الأسرة ألتجئ إليها إذا أرغمتني الأيام، ولا أنا عبد أباع وأشرى كما تباع الأنعام، ولا أنا حر مطلق أفعل ما أريد كغيري من الناس، سيما وقد نهاني الطبيب عشرة بنت له كانت يافعة وقد قطعنا أمد الطفولة معا، ودخلنا باب الصبا جنبا إلى جنب وخرجنا من الصبا؛ هي إلى الشباب وأنا إلى الرجولة، فحجبها الطبيب ونهاني عن عشرتها فانتهيت، وأذكر اليوم الذي دعاني فيه الطبيب إليه وقال لي: يا علي، آن لزبيدة أن تحتجب، وآن لنا أن ننظر في أمر تزويجها بمن هو كفؤ لها، فلا يجوز لك منذ اليوم أن تراها أو تعاشرها. فأجبته بالرضا، ونفسي تكاد تحترق وقلبي يوشك أن يمزق.
في هذا اليوم حصحص الحق وزهق الباطل، وعلمت أنني عبد وأن زبيدة حرة، وأنني لست كفئا لها.
فلما بلغت غايتي من الطب والكيمياء شعرت بنسيم الحرية، وقلت في نفسي: لو لم ألق من الطبيب ما أود تركته والتمست الرزق من مورد غير مورده، وهكذا أثر العلم يجعل العبد حرا.
وكنت أقضي زمني في قراءة الكتب ودرسها والتفكه بمطالعة قصص شتى، وأجد لذة كبرى في معالجة المرضى وتخفيف آلام الحزانى والمساكين، وكان لي في ذلك عزاء وسلوى، ولكن قلبي لم يكن يستقر على حال، ونفسي كأنها في وادي التيه هائمة.
وكلما كبرت سنة شعرت بمطاليب وحاجات لم أكن أطلبها، ولكن الطبيب كان كذلك يقسو قلبه شيئا فشيئا ويشتد بأسه علي يوما فيوما، فإذا اشتهت نفسي أمرا جديدا حاربت الطبيب فيه فإذا انتصرت عليه نلته بشق الأنفس وإلا بقيت بدونه فكأنني أكسب حريتي وأستعيد حقوقي المسلوبة شبرا شبرا.
وجاء يوم كان الناس فيه في عيد لهم وليس لدي ما يسترني في أعينهم، وكان المقدار من المال الذي أتقاضاه لا يسد رمقا ولا يستر بدنا؛ فالتمست منه زيادة في الأجر وجزاء على العمل، فخرج معي عن حده، وعز عليه أن يطلب مسلوب حقا، وقال لي: إن حياتي دين له علي. فبهت من سوء فعله، وقلت له: تلك العهود كيف تنساها؟ وتلك المواثيق كيف تخونها؟ ألست أنت الذي خطفتني من أهلي؟! ألست أنت الذي جئت بي من وطني؟! ألست أنت سالب حريتي؟! ألست أنت مسبب هواني ومذلتي؟! ألست أنت الذي استعبدتني وكنت حرا؟! ألست أنت الذي حرمتني من أهلي ووطني؟! ثم عرتني نوبة عصبية فغاب صوابي وفقدت رشدي، ولما أفقت من غشيتي ونظرت في نفسي صحت عزيمتي على التحول عن مكان الذل، فتحولت عنه، وذهبت أضرب في البلد طولا وعرضا حتى هداني الله إلى طبيب آخر ارتضاني معينا له على عمله.
ولكن صاحبي لامني وعتب علي واستغفر من ذنبه، ثم استعان بأصحابي وإخواني؛ فقبلت العودة إليه شريطة أن أنال ما طلبت، فوعدني وعدا مصريا.»
قال الروح الحائر: عرفت صاحبي فوجدت منه أدبا عجيبا دل على طيب منبته، وميلا للعلم، ورأفة بالضعاف، وإشفاقا على المساكين، وكان حسن العشرة، لطيف الكلام، ذكي الفؤاد، لم أسمعه ينطق بقول منفر، وكنت أجلس إليه نقضي أويقات الفراغ في الحديث العذب وقراءة الكتب ومقارنة الأفكار والخواطر، وكان كذلك مكمن سري وموضع ثقتي وإخلاصي، وكان يقص علي ما حدث له مع أصدقائه من صنوف الوفاء والمحبة، وما كان يلقاه من بعضهم من الضر والخديعة، وكان يبوح لي بحبه لزبيدة، وكانت تزوجت، فيقول لي: كنت أحبها وأنا فتى لا أعرف الحب، فكانت إذا انصرفت إلى أمها بعد اللهو واللعب أقبل مواضع أقدامها من الأرض، وأضع أذني على جدار حجرتها أسمع أنفاسها وهي تتردد في سواد الليل البهيم، فيدق قلبي كلما تنفست، حتى إذا تنفس الصبح نهضت وأعدنا ما كان بالأمس من سرور الطفولة وسعادتها، ولما تزوجت كان زوجها يأتي إلي، وهو يجهل ما بقلبي منها، ويقص علي أخبارها وما يشعر به نحوها، وهو يظن أنني جماد لا أحس، وإذا أحسست لا أفهم، وإذا فهمت لا أجسر على الكلام، وقد صبرت في تلك الأيام صبرا يدك الجبال، ولكن ليس بعجيب ممن اعتاد الأسر والذل في سائر صنوف العيش أن يحتملها في الحب الطاهر. قال الروح الحائر: وقد دامت صداقتنا نيفا وثلاث سنين، ثم انتقلت من البلد الذي كنا فيه إلى آخر لطلب العلم، وكنت أعود إليه في المواسم والأعياد، فكان عيدي لقاء علي، ولا عيد لدي سواه، فأسرع إليه وأقص عليه أخباري ويقص علي أخباره، وأعطيه ما قرأت من الكتب ويعطيني ما قرأ، ونعوض ما فاتنا في أيام البعد بمواصلة أوقات الصفاء على ضفة نهر أو في حقل من الحقول، نطالع كتابا أو نتحدث في شأن من الشئون، وفي عيد من الأعياد عدت إلى ذلك البلد وأسرعت كعادتي إلى علي فلم أجده في مكانه، فسألت عنه من يعرف أخباره، فقال لي إنه ذهب ويعود، ثم قال لي إنه مريض. فظننت أنه يشكو داء لا يزول. وإني لكذلك أرقبه وإذا بي أرى شبحا قادما لا يرى منه الرائي إلا عينين براقتين وعظاما مغشاة بجلد أسود، وكان الطقس حارا، ولكن الشبح يتقي البرد بغطاء من الصوف على كتفه وصدره، فتبينت القادم فإذا هو علي، فوجمت لأول وهلة، ولكنني خشيت أن يهوله أمري فيحزن، ولكنه لما دنا مني لم أتمالك نفسي؛ فأجهشت في البكاء، فلما رآني كذلك ابتسم واغرورقت عيناه بالدموع في لحظة، فكان يضحك ويلاطفني تارة، ويكفكف دمعه تارة أخرى.
وجلسنا صامتين لا ننطق، وما زلنا كذلك حتى فك هو طلسم السكوت بقوله: كيف حالك؟ إنني أسأل عنك، ولكنني لا أستطيع أن أكتب لك. وكان في كل كلمة يسعل مرة، وفي كل مرة كأنه يقطع نياط قلبه، ونظرت في عينيه فإذا هما لا يستقران على حال من القلق كأنهما ركبتا على زئبق، فقلت له: لعل ضعفك يا صديقي يزول قريبا. فقال باسما: هيهات أن يزول الداء قبل زوالي. فقلت: خفف عليك ولا تكن جزوعا، ما هذا إلا ضعف ينقضي أمده.
قال: أتريد تخدعني كما يخدعني الأطباء، وكما أخدع نفسي؟ هذا سل يخترمني فإذا مت فاطلب لي من الله الرحمة. قال هذا بثبات جأش وسكون، وحاولت تخفيف مصابه فلم أستطع؛ فصرنا نبكي ولا يجف الدمع، ولما افترقنا أبى أن يعطيني يده وقال: إني أخشى عليك العدوى. وصممت أن أصافحه، وأقسم ألا أبرح المكان إلا بعد أن أطهر كفي. •••
كنت أزور عليا في مرضه في كل يوم مرة، ولا حديث له إلا ذكرى أهله وندمه على ما مضى منه في غروره وطيشه إذ أطاع صاحبه وخلى بلاده، ويود لو يستطيع فيعود إلى وطنه. وكان يرثي نفسه بأبيات نظمها وينشدها بصوت أجش يقطعه عليه السعال والبكاء.
ثم جاء موعد سفري فلم ألقه خشية ازدياد حزنه؛ لأن نفسي كانت تحدثني بأن لقاءنا سيكون آخر لقاء، وعدت بعد ذلك بأسبوعين وسألت عن صاحبي، فقيل لي: سافر. فقلت: وإلى أين؟ فقال مخبري: إنه في بلد بعيد. قلت: وأي بلد لعلي أزوره فيه؟ قال: أتريد أن تقف على الحقيقة؟ قلت: بلى، إنه مات؟! فقال: نعم.
فبكيت حتى أبكيت مخبري، وقلت: هات حدثني كيف مات، فقال والبكاء يقطع حبل الكلام: بعد أن سافرت بثلاثة أيام ظهرت عليه علائم الصحة والقوة، وأراد أن يقضي ليلة في بيت الطبيب كعادته القديمة، ولكن الطبيب كان حرم عليه دخول داره؛ خشية العدوى منذ اشتدت عليه وطأة الداء، فكان ينام تارة في خان وأخرى في غرفة حقيرة استأجرها في أقصى البلد، ولما أحس بالصحة والقوة قصد دار الطبيب وقرع الباب ففتح له، فلما رآه الطبيب قال له: ما الذي جاء بك إلى هنا وأنت مريض بداء معد؟ أتريد أن يصاب أولادي بما أنت مصاب به؟! فقال له وهو تخنقه العبرات: أنا قوي صحيح البدن. فقال الطبيب: إنك في منتهى الدور الثالث من أدوار السل السريع، فاخرج من بيتي . فقال له علي: أيها الرجل الظالم القاسي، رد إلي حياتي فقد سلبتها مني. وهجم على الطبيب، فصرخ الجبان وقال: أأنت مجنون؟ ولكن عليا خانته قدماه فسقط على الأرض، فشج رأسه وطفح دما ولم يقم من رقدته، ولكنه كان لا يزال حيا، وكان خدم الطبيب قد أسعفوه، فأمرهم سيدهم بحمل الميت الحي، فحملوه، وقال: اخرجوا به لوقتكم، فخرجوا به، وكان بجانب دار الطبيب بيت انقضت جدرانه وتهدم بنيانه فوضعوه فيه، وأخذ الطبيب في تطهير ثيابه وأرض داره من دماء تلك الفريسة الإنسانية، وأوعز إلى رجال الحرس بنقل الميت الحي إلى غير هذا المكان، ولكن لم يوشكوا أن يبلغوا المكان حتى كان علي جثة خامدة. •••
هذه ذكرى ذلك الصديق الذي باع حريته ووطنه بثمن بخس، فشراه الموت كذلك.
قلت: وكيف رأيت صديقك اليوم؟
قال: رأيت روحه كما كنت أراه في الأيام الأولى، ورأيته يصحب روحا جميلا، فلما تعارفنا توارى الروح قليلا فقال: أتعرف روح من هذا؟ قلت: كلا. قال: إنه روح زبيدة خرجت من العالم الأرضي بعد أن خرجت، وكنت أتطلب لقاءها فالتقينا، ومر بنا روح ذو لون أغبر يسوقه جني في يده سوط، فارتجف روح علي وقال: هذه هي روح والد زبيدة.
وقد لحقتني غشية لدى هذا الحديث، فلما أفقت كان الروح الحائر قد انصرف.
الليلة الثامنة
الحزن الإنساني
أحاط بي اليأس يوما؛ فاستنجدت بالروح الحائر، فلما أجاب ندائي قلت: «أيها الروح الحائر، إنني من الحزن في سجن ضيق، فهل لديك إلى الرجاء سبيل؟» قال: «خفف عنك؛ إن الحزن من حاجات الحياة الفانية، وأغلب من ترى من الناس يائسون، إنما يظهرون القوة ويتعلقون بأهداب الرجاء ويخلقون لذلك ألفاظا عذبة، كيف لا ييأسون وهم لا يدرون من أين أتوا، ولا إلى أين يذهبون، وهم يشعرون في كل خطوة من خطواتهم أنهم مسيرون، على أنني منذ تركت الأرض تركت معها اليأس، ولكن قد قضيت أياما لا أزال أذكرها؛ لأنها ما كان أقساها!» قلت: «حدثني عن تلك الأيام؛ لعل بينها وبين أيامي شبها.»
قال : «كنت في تلك الأيام في حال يرثي لها الصفا الصلد، لا أعي على شيء ولا ألوي على أحد، كنت حزين القلب مشتت اللب، إذا خلوت بنفسي حدثتني بالويل والثبور؛ فيحيط بي اليأس ويحتويني القنوط ويتمكن مني الوجل مما يأتي به الغد، وإذا جلست إلى الناس كنت عنهم في شغل شاغل؛ يقولون ولا أسمع، ويسمعون ولا أقول، فإذا نبهني أحد جلاسي إلى ما يبدو على وجهي من الألم والحزن اختلقت له عذرا واستجمعت حواسي؛ فرارا من سؤال غيره، ولكن عبثا تحاول الثكلى أن تضحك، وهيهات أن يفرح المحزون.
كنت أنظر حولي فإذا كل ما كان بالأمس يفرحني ويضحكني هو اليوم يحزنني ويبكيني، كنت قبل اليوم أرى الحديقة ذات الأزهار والأنهار والسماء ذات الشموس والأقمار والأحراش ذات البلابل والأطيار، فتسر ناظري رؤيتها وأشعر بلذة الحياة وأومن بالله وأحمده على نعمه، ويجري في عروقي تيار الصفاء، فأهش وأبش لكل من يلقاني؛ لعلمي أنه من بعض الأنام، على أنني لم أكن في ذلك العهد غنيا أو ذا مال يقوم بما أطلب، وكذلك لم أكن أقيم في قصر مشيد، ولم يكن لي من يخفف من همي، ولكنني رغم ذلك كله كنت شبيها بالسعداء.
كنت في بعض الأحيان أشعر بانقباض في النفس وضيق في الصدر، وكثيرا ما ذرفت دموعا بلا علة معلومة، ولكن هذه الحال لم تكن تدوم أكثر من يومين أو ثلاثة ثم أعود إلى حالي الأولى، أما الأيام التي ذكرتها لك فكانت كلها كآبة وأفكاري كلها سوداء، وليس في قلبي مكان يدخل منه رسول الفرح، أقلب أجفاني فيما حولي فإذا كل إنسان وكل شيء لا يروقني؛ فلا يضحكني المهذار بهزله، ولا يفرحني الجذلان بجذله، ولا يبكيني العاشق بشعره وغزله، ولا يدهشني الغني بماله، ولا يحزنني الشقي بسواد حاله، لقد استوى لدي الماء والخشب، والراحة والتعب، والفاقة والنشب!
هؤلاء أصحابي الذين كنت أسعد بعشرتهم يمرون بي ويجلسون حولي، ولكنني لا أرى فيهم ما كنت أراه فيما مضى، لا أظن أن أمرا كان ينقصني ؛ لأنني كنت ألعب بالذهب، ولا أرى في ذلك مسرتي، هل ينقصني صديق وكل هؤلاء أصدقاء؟! هل ينقصني المجد وهو هباء؟! هل تنقصني أسرة وهيهات أن تعادل حسناتها سيئاتها؟! لا ينقصني شيء، ولكنني أطلب كل شيء!
أرى كل شيء في العالم غامضا، ولكن نفسي تحدثني أن لا غموض ولا إبهام. إن الأغرار والمجانين ومن يتبعهم من وحوش الإنسانية يقولون عمن يشرفون الإنسانية بحزنهم ضعفاء الأعصاب، يشكون أمراض المعدة والأمعاء، ويحتاجون إلى الرياضة البدنية والهواء النقي. وكنت أخدع بقولهم قبل اليوم، ولكني علمت منذ عهد قريب أن هذا القول الهراء ليس إلا دفاعا عن مبدئهم الفاسد مبدأ عبادة المادة واحتقار الروح.
لقد عاشرت كثيرين من هؤلاء الأقوياء الأعصاب الذين لا يشكون أمراض المعدة والأمعاء، وخبرت شأنهم وسبرت غورهم، فإذا أحدهم يبذل النفس والنفيس في سبيل المال، ولا يصون ما يسميه شرفا في الحصول على الأصفر الرنان؛ لاعتقاده أنه مفتاح كل باب ومفرج كل كرب وفارس كل ميدان. رأيتهم لا يعرفون من مذهب أبيقور إلا النهمة والشره، ولا يشغلون أنفسهم إلا بما يلمسونه لمسا ويعتقدون بوجوده معنى وحسا، وغني عن البيان أن أمثال هؤلاء الوحوش يتخذون كل وسيلة في الوصول إلى غايتهم ما دامت الغاية شريفة - كما يقولون، وإنهم يقولون ما لا يعتقدون - هؤلاء الوحوش وقد سميتهم خنازير البشر لا يروقون في نظري، ولا يقنعني قولهم، ولا يفيدني علمهم.
إنني أذكر يوما من أيام اليأس شعرت منه بالألم، ألم الضعف، ألم المرض والموت، فخفف هذا الشعور سائر آلامي. إن الآلام التي كنت أشعر بها كلها آلام النفس والعقل، آلام روح حائر لا يستطيع أن يستقر على حال، آلام قلب مشتعل بنار تأكل بعضها؛ لأنها لم تجد ما تأكله.
أرادت الطبيعة أن تخفف عني فزادتني ألما على آلامي، ولكنه الألم الأخير. إن حياتي حلقة أحزان أشعر بها ولا يشعر بها غيري، أرى الآن أن ألم الجسم عندي لذة النفس كما كنت فيما مضى أرى أن في إجهاد الجسد راحة للروح والعقل، عن قريب تدق ساعة حياتي دقتها الأخيرة ويسدل الموت بيني وبين هذا العالم حجابا كثيفا لا يخترقه نظر الأحياء من أصدقاء وأعداء، عن قريب يعود التراب إلى التراب وترجع النار إلى النار، عن قريب تصير الظلمة نورا والتعب راحة والألم لذة والوجود الفاني عدما، عن قريب تغرب شمسي ويشق لي في جوف الأرض مضجع أرقد فيه رقدة لا قيام بعدها. ولكن الشمس سوف تشرق من الشرق وتغرب في الغرب وتملأ العالم بالنور والحرارة، والأفلاك سوف تدور دورتها، والأرض سوف تخرج نبتها، والناس يبقون كما تركتهم؛ وهم بين لاه عن ميعاده مترقب له خائفا وجلا، ومتألم ضجر يستقدم ساعته وهي لا تأتي، فلا الشمس وقفت في سيرها، ولا الأفلاك عطلت عن دورانها، ولا الأرض ضنت بنبتها، ولا الناس حزنت لفراق من كان بالأمس بينهم يسعى.
كنت كلما أستعيد ذكرى الماضي تسود الدنيا في وجهي وتدثرني الهموم بثوب من الحزن لا ندما على ذنب جنيته، ولا خوفا من الموت القادم، ولكن غيظا من عجزي عن حل ألغاز هذا الوجود!
إنني إنسان، ولكنني لست كغيري من الناس؛ أنا تستفزني كلمة، وتخدعني إشارة إخلاص، ويفتنني منظر جميل، ويحزنني بكاء فقير أو أنين عليل، إذا شكا لي حزين ناصفته قلبي، وإذا صفا لي صديق وهبته لبي، إذا سمعت عن شعب ذليل أو أمة أسيرة وددت لو أنني من أبنائها فأقدم حياتي ضحية لها، فكيف بي وأنا أرى ما أرى! أريد أن أعمل كل شيء ولا أقدر أن أقنع بالقليل، إني أستهين بكل عمل أتركه ورائي فكيف بي إذا مت وأنا لم أترك عملا يعيد شباب الوطن ويعلي قدر الإنسانية!
تقول عواطفي: «الحياة لا شيء.» فيقول عقلي: «ولكنها كل شيء.» تقول عواطفي: «ماذا يجدي قطع ميل في طريق لا حد لغايته ولا بدء لنهايته؟!» فيقول عقلي: «إن قطع ميل أفضل من قطع الأمل.» تقول عواطفي: «ما غاية المجد الفارغ إذا كان مصير صاحبه إلى الفناء الذي لا وجود بعده؟» فيقول العقل: «قد يكون مجد رجل نبراسا يضيء محجة أمة ، ويكون فوز أمة فوزا للإنسانية بأسرها، وقد لا يعرف المرء قدر عمله.» تقول عواطفي: «الموت خير من الحياة في عالم يعيش فيه النبيل العظيم محسودا مكروها محتقرا غريبا في أهله أجنبيا في وطنه يخلص له الناس ليخدعوه، ويمدحونه ليذبحوه، ويرفعونه ليخفضوه، ويعظمونه ليستصغروه.» فيقول العقل: «صه! فما أنت يا نفسي أول من عاش ومات ولم يعرف قدره، ولا أنت بأول زهرة ضاع أريجها هباء، ولا بأول شعلة تبدد ضوءها عبثا.» طال أمر هذا العراك بين القلب والعقل، وهيهات أن يتفق النقيضان أو يتحد الضدان. الموت مرقد الآلام، وهو وحده يحكم بين الاثنين؛ القلب والعواطف، كنت بالأمس أريد أن يحزن لي كل من عرفني، واليوم تمنيت لو لم يعرفني أحد، بالأمس كنت خاملا أريد الشهرة، واليوم أراني شهيرا أريد الخمول، بالأمس كنت أندب قلة أصحابي، واليوم أندب كثرة الخلان، بالأمس كنت أود لو تطول أيام الحياة، واليوم يحزنني أن تطول، بالأمس كنت في عين نفسي كل شيء، واليوم أصبحت لا شيء. لقد ذقت سائر صنوف الآلام، فوجدت أشدها على النفس وأقساها ألم لا يذوقه كثيرون، ومن يذوقه مرة لا يعيش ليذوقه أخرى؛ وهذا هو ضيعة آمال الفرد أو الجماعة واختفاؤها عن عين الفكر اختفاء السراب عن النظر بعد تمكن الظمأ من الناظر، آمال سنين تهدم في طرفة عين، وآمال طرفة عين لا تحقق في سنين!
هذه صورة من فكري وأنا على حافة القبر، فلتكن عبرة من العبر، ولكن هيهات أن يكون في الناس من يعتبر!»
ثم سكت الروح الحائر، وصاح ديك مؤذن بالفجر، فقلت: إيه لك أيها الروح، لقد هدمت ما بناه الأوائل والأواخر، وهزأت بالصغائر والكبائر، لقد أغرقت البشر في بحر من الحزن والقنوط، وتركتهم من الحسرة واليأس في محيط زاخر.
قال: «اسمع، إنني الآن خرجت من أرضكم بعد أن خبرت أمرها، فلما تجردت عن المادة فطنت إلى سرها، إن الحزن معدنكم، وقد عجنت الأرباب الإنسانية بأمواه اليأس، ثم أخذتها سنة فاختلس إله الحب غفوتها ووضع في العجين خميرة الأمل ، فملئتم به ، ثم خبزتم في أتون الشقاء، وخرجتم كالأرغفة، كل رغيف لقمة لآكل. إنكم أبناء الندامة، تمرحون لحظة في بساتين الرجاء، وقصة آدم من الأساطير الأولى الخالدة؛ لأن لكل منكم تفاحة وثعبانا. أنتم - أيها الناس - قطع الشطرنج، والقضاء والقدر لاعبان. أنتم - أيها الناس - صور تحرككم يد الدهر في ملعب الوجود الحقير، والصوت المسموع فيكم هو صوت الحزن الدائم والعويل. اتخذتم الضحك وهو شكل من أشكال البكاء، رقصتم لتخدروا أبدانكم بخمر الحركات لتغيب عنكم الأحزان، سكرتم لتقتلوا الهموم، لهوتم؛ لأن اللهو ملجأ الضعفاء، كلكم ذليل، وأعزكم أذلكم، حتى الملوك على عروشهم وأرباب أوليمبية لها يوم تنوح فيه. ألم تسمعوا صوت سوفوكليس المجيد وهو عينكم الباكية وصوتكم الناعب ولسانكم الصائح؟ كلكم «الملك أديب»؛ لأن كلكم هدف لسهام الزمان، كلكم يتصداكم القضاء ليقضي عليكم إذا آن الأوان، إن الطبيعة التي تدعونها جهلا وتمليقا أمكم الحنون تحتقركم وتزدريكم وتبعث إليكم بوحوشها وأوبائها وإعصارها، البحار تلتهمكم، والنيران تأكلكم، والشهوات تغري نفوسكم وتفني أبدانكم. فلاسفتكم أقلكم، هم يختفون وراء الألفاظ التي لا يفهمون معناها، ويسخرون منكم كلما أبهموا في الآراء، نظاماتكم الأرضية الموضوعة فاسدة، وقوانينكم وضعها المنتفعون بها، وأنتم كقطيع من الغنم يهش عليه الراعي بعصاه، يا حمقى! يا طائعين طاعة عمياء! أيها العمي، إنكم لا تبصرون، هكذا كان أجدادكم، وهكذا أنتم، وهكذا يكون بعدكم الأحفاد، أين سقراط صاحب العقل الأول رسول الأنبياء وشيخ الحكماء؟ لقد جرعتموه كأس السم وأنتم جاهلون، وعيسى صلبتموه، وقلتم عن محمد إنه مجنون. جاءكم الإسكندر وقيصر فجلدا شعوبكم بالسياط، وجرا ملوك الشرق والغرب من أرجلهم، ثم جاء الملوك فأخرجوا الأرباب من أماكنها المقدسة، وتمسكوا أمامكم بحقوق قالوا إنها من الله. لعدلكم في كل مكان معنى، وللفضيلة في كل بلد بيان، لقد طمستم وجه الحقيقة ولما تعرفوها، أسماكم فكرا كطفل على شاطئ بحر الحقيقة يلتقط الأصداف ويغيب عنه الدر والجمان. سألتني عن حالكم فهذه حالكم يا بني الإنسان.
قلت: «كفى، كفى أيها الروح الحائر! ليس بعد هذا القول مجال، وأنتم - أيها الأرواح - ماذا علمتم ؟ وماذا أوجدتم وراء الطبيعة؟ وهل حللتم لغز الوجود؟»
فقال: «اسمع كلمتي الأخيرة قبل وضوح الفجر: إنني أبقي القول إلى المستقبل، وكفاك حديث الليلة في عالمكم ريثما تتأهب للوقوف على سر الوجود، إنه يأتي إلينا بمقدار!»
الليلة التاسعة
حي الأموات بلوزان
زارني الروح الحائر، فلما هدأ روعي بعيد رؤيته قال: «إنني قادم من مكان بعيد.» قلت: «من أين؟» قال: «تاقت نفسي لرؤية المقابر، فلم أشته رؤية مقابركم؛ فذهبت إلى بلد جميل فيه قبور إن لم تحبب بحسنها الموت للقادمين عليه فهي لا تنفرهم من مضاجعهم الأبدية، وطفت بها، وذكرت يوما من أيامي على الأرض؛ إذ كنت أطوف بمقبرة أخرى تشبه هذه في الحزن، فقد جالت في نفسي أفكار شتى، وكسبت من اللحود عظات عظمى.» قلت: «حدثني - أيها الروح - بحديث المقابر.»
قال: كنت يوما في بلد من بلاد الغرب، فخرجت ألتمس فرجا من ضيق عراني، وسرت على غير هدى، ولست أدري كيف وجدت نفسي في طريق مهجورة لا يرى فيها عابر السبيل سواه إلا كما يرى الضال في الفلاة ضالا مثله، غير أنني كنت استخرت النظر في اختيارها، ولما كان بين العين والنفس رابطة وكانت نفسي تشعر بحزن وانقباض؛ فلا غرابة إذا حسن لعيني أن تسير حيث لا أرى أحدا، وقد شعرت بالانفراد في تلك الطريق حتى خيل لي أنني أول من سار فيها من بني البشر، وأوشكت أن أصدق الخيال لولا ما أراه حولي من الأشجار المنزرعة على حافتيها، ثم رأيت في منحدر من الطريق لوحة كتب عليها
Chemin de La Solitude ؛ أي: طريق الوحدة، فقلت: أشهد أن من اختار الاسم حكيم.
سرت في طريق الوحدة وقد هدأ روعي قليلا بعد أن علمت أنه سبقني غيري إلى هذا السبيل، وشعر السائرون به قبلي بالوحدة حتى جعلوها اسما عليه، وما زلت سائرا حتى بلغت فسحة كبيرة تلتقي لديها ثلاث طرق وتفترق، فإحداها تبلغ براكبها شاطئ بحيرة ليمان، والثانية تقوده إلى بعض قرى «الكانتون ديفو»، والثالثة دلتني على غرة مني إلى حديقة كبيرة حسبتها في مبدأ الأمر تابعة لقصر من القصور أو متنزها جاد به مجلس المدينة على الغرباء.
لما توغلت في ذلك البستان رأيت أعمدة من المرمر الأبيض وأخرى من الرخام الأسود وألواحا من حجر عليها أسماء وألقاب وآيات من الإنجيل والتوراة، فوقفت بغتة باهتا دهشا وقلت بصوت سمعه ألوف الألوف ممن يسمعون ولا ينطقون: «إنني أجوس خلال المقابر!» وعند ذلك شعرت بعواطف متضاربة في صدري، فخالجني السرور في أول الأمر؛ لبلوغي على غير علم مكانا كنت أود زيارته، ثم اعتراني حزن؛ لأنني ذكرت نفسا أعز علي من نفسي ودعتها منذ أمد بعيد وحق لي أن أعدها - وا أسفي - في عداد الأموات، ثم ذكرت في الحال أنني في يوم من الأيام - ولا أظنه بعيدا - سأرقد رقدة كتلك الرقدات يكون فيها بيني وبين الأرض صخور وأحجار تمنع أصوات الأحياء أن تستأذن على أذني، وتعوق جلبتهم أن تقلق راحتي أو تكدر علي وحدتي وتقطع أحلامي في رقدتي.
ثم هدأت تلك العواطف المضطربة وعدت لنفسي، وساد سلطان العقل على جنود الخيال، فأول ما حولت نظري إليه كان الجمال الشامل والسكون الكامل؛ لأن الوقت كان بعد الغروب بقليل، وكان الجو غاية الاعتدال، وإذا اعتدل الجو في هذه البلاد سكنت الرياح وهدأت الطير في وكناتها، وصفا وجه السماء. ولما كانت المقابر على مرتفع من الأرض، فالواقف في وسطها مثلي يملك منظر البحيرة التي كانت كمرآة الحسناء نقاء، ومنظر الحقول الخضراء المبرقشة بأشجار ذات قطوف دانية وثمار آن لها أن تجنى، ومنظر المدينة عن بعد سحيق بجلبتها وضوضائها. وبعد أن حولت نظري من البحيرة إلى الحقول ومن الحقول إلى المدينة ومن المدينة إلى المقابر شعرت للحال برهبة أوشكت من شدتها أن أخر ساجدا، ثم أحسست بأن السكينة دخلت على نفسي، وأن نزواتها قد كمنت ونزعاتها سكنت، وكنت قد آليت على نفسي أن أرقب ما يدور فيها وما يطرأ عليها؛ ولذا استطعت أن أفرق بين العاطفة الأولى التي جالت في صدري وبين العاطفة الثانية التي تلتها، ثم شعرت باختفاء الثانية عن عين العقل وقد تلتها غيرها، وكانت هذه العاطفة ناشئة عما قرأته في صباي في الكتب عن عبرة الموت وعظاته وآلامه، وكنت قد بلغت منتصف المقبرة وأنا أسير في طريق مرصوف بالصفا، وكلما سمعت وقع أقدامي حسبت أنني أقترف جرما لا يغتفر؛ فقد تزعج مشيتي هؤلاء الراقدين، ففيهم من هو حديث العهد بعالم الأحياء، وإزعاجه بوقع الأقدام محرك لآلامه، ومنهم قديم العهد بالأرض فإن هو شعر بقادم تأفف وتضجر.
انتصف الطريق ورأيت أنني كلما توغلت ساد السواد، فكأنني كلما سرت خطوة ودعت الضياء واستقبلت الظلام، فعجبت لذلك، ونظرت ورائي فظهر لي أن التوابيت وضعت بحيث يكون أقدمها عهدا في آخر الطريق التي أعبرها وأحدثها في أوله؛ لذا كنت أمر في سبيلي بموتى هذا العام ويتلوهم موتى العام الغابر وبعدهم موتى العام الذي قبله. ولما كان على كل قبر شجرة تزرع يوم الرقدة الأخيرة؛ فالأشجار التي زرعت منذ مائة عام أكبر وأعظم وأغزر غصونا وأورف ظلا من الأشجار التي زرعت منذ نصف قرن؛ لذا كنت كلما سرت إلى الأمام سرت في ظلال تلك الأشجار التي تحجب عني أغصانها نور النهار.
هذا قبر جميل من المرمر الأبيض محاط بسياج من المعدن الأبيض، وحوله شجيرات ذات زهور مختلفة الألوان، وبآخره عمود صغير مكتوب عليه «تذكار ولدي العزيز شارل، ولد عام 1899، وتوفي 1900.» إذن هذا طفل صغير عاش سعيدا ومات سعيدا، وهذا والد من والديه رآه وليدا وودعه فقيدا وتركه في الفقر وحيدا، وليس لديه إلا تلك الكليمات!
هذا قبر كبير غير محاط بسياج، عليه آلة من آلات الموسيقى مصنوعة من الرخام، ولوح كبير من الحجر الأزرق كتبت عليه هذه الكلمات «إلى هنري بوزيه من رفقائه وأبناء حرفته.» إنه قبر موسيقي عاش يطرب الناس بأنغامه حتى دعاه داعي الردى فلباه. ولكنني أرى ألفاظا أخرى حفرت في الصخر على عجل ثم محيت على عجل، فما هي؟ دنوت من تلك الكلمات وقرأتها بعد تعب طويل، فقلت في نفسي: تبا لك أيها المازح، حتى مراقد الموتى لا تخلو من هذر المازحين . يظهر أن هنري هذا كان موسيقارا في ملعب، وكان له صديق يحب المزاح فاسترق ساعة كتب فيها على القبر «لعل الله يختارك ويدخلك أركستر الجنة.»
سرت إلى الأمام قليلا، ثم رأيت عطفة تميل بي إلى طريق آخر، فملت معها، ولم أوشك أن أسير طويلا حتى رأيت عجوزين من النساء في ثياب الحداد وعليهما سيما الحزن الشديد وهما تسيران صامتتين والأسى يتكلم، فلما أن بلغتاني حيتني إحداهما على غير المألوف، وهمست إحداهما في أذن الأخرى؛ فدعاني ذلك أن أتبعهما بنظري، فرأيتهما تسيران متلفتتين، فخيل لي أنهما حسبتاني صديقا قديما نسيهما، ولكنني رأيت واحدة تمسح دموع عينيها بمنديلها، فظننت أن فقيدها يشبهني، فلما رأتاني قالت واحدتهما للأخرى: ليته لم يمت! وقالت الأخرى: لو كان هذا هو!
هنا بلغت العظة الكبرى، ورأيت أجل القبور، وهو جدث عال عليه جلال وليس حوله زهور ولا سياج، إنما نحت من صخرة تمثال كتاب ذي صفحات، وكتب على إحدى الصفحتين الباديتين بأحرف سوداء واضحة: «إنني أنتظرك 1899، بيير بيلي»، وعلى الثانية: «ها أنا ذا لوربيلي 1901.» وقفت باهتا أمام ذلك القبر العجيب، بل ذلك الكتاب الحجري الذي قرأت فيه آية من آيات الحياة، وإنها لأبلغ من آيات الحكمة، وأي حكمة أجل من حكمة الموت! هاتان نفسان اتحدتا في العالم الفاني، واتحدتا في العالم الثاني، وكما كان يضمهما فراش واحد أصبح يضمهما جدث واحد، وبعد أن كان قلب أحد هذين الإنسانين يخفق وينقبض لفراق أليفه هدأ بعد أن اطمأن من شر البعد؛ لأن اللحد لا يخرج من يدخله! ولكن كيف قضيت يا بيير هذين العامين منتظرا؟! لقد لحقك الضجر لا محال إذا كان الموتى يضجرون، كنت تسلي نفسك بأن صاحبتك لن تخلف الميعاد مهما كان أمد الانتظار طويلا، وأنت يا لور كيف قضيت هذين العامين؟ أكنت تذكرين كلمة رفيقك العزيز في كل يوم فتفكرين في الموت صباح مساء وتستبطئين الفزع الأكبر، وتودين لو يأتي سراعا لتلحقي بزوجك المسكين؟ أم كنت تنفرين من الذكرى إذا عرضت لك وتفضلين ألا تزوري المقابر لئلا تدعوك الزيارة لوفاء الدين؟
هذه مقبرة الإنجليز وصلت إليها! فإذا هي على حدة. قاتلهم الله! يحبون الاستقلال حتى في الموت وينكرونه على غيرهم في الحياة! قبر طفل ولد في أستراليا وتوفي في لوزان، ما أبعد الشقة يا هذا الصغير! لقد نشأت في تلك القارة السحيقة المحاطة ببحار الجنوب ذات السهول الشاسعة والصحاري القاحلة والوديان العميقة والأنهر المتدفقة والحقول الغنية والأحراش التي لم تطرقها قدم إنسان ولم يجس خلالها إلا الكنجرو ووحش البقر، ولربما ولدوك في كوخ بديع محاط ببستان أنيق تغرد على غصونه بلابل الصباح، ولربما كنت تلعب في طفولتك الأولى على ضفاف نهير تسيل أمواجه عسجدا، وحملوك إلى بلاد قصية قطعت في البلوغ إليها أشهرا، شققت عباب تلك البحار، وقطعت أوصال تلك القفار؛ لترقد على ضفاف بحيرة ليمان في ظلال الجبال الشاهقة، فلو علمت أنك سائر إلى حيث يخط لك مضجعك الأخير أفلا كنت تفضل أن يشق لك لحد في أرض الذهب؟
هذا قبر إنجليزي آخر كتب عليه: «عاش حرا، ومات حرا.» إيه لك أيتها الحرية، فإنهم يتغنون باسمك حتى في الموت، ويودون أن ينسبوا إليك ولو في القبور!
وهاك قبر نيكولا روسي، مات في عام 1840 شهيد وطنه، جاهد في سبيل توحيد بلاده، ومات وهو يذكرها بقلبه ولسانه «نم هادئا يا روسي؛ فقد وحدت بلادك واستقلت، وأصبح علم الحرية يخفق على ربوعها، وكمن عدوكم في قصره لا يخرج من بابه، وقد مجدوا ذكر أستاذك العظيم، فبلغه ذلك إن كنتم تلتقون، لقد وفق غيركم - رجلان - من بني جنسك إلى تحقيق أمانيكم، إنك لم تر بلادك حرة متحدة، ولكن رآها غيرك، فهنيئا لك ولأمثالك المجاهدين، تبذلون نفوسكم في سبيل أوطانكم وغيركم يبذلون أوطانهم في سبيل نفوسهم، إنهم الخاسرون! نم يا روسي؛ فإن أمثالك كثيرون، رحمة الله عليكم أجمعين.» •••
سمعت خلفي صوت فأس تشق فؤاد الأرض، فنظرت فإذا أنا أرى على بعد رجلين يحفران قبرا. أهلا بك أيها القادم الجديد، لقد ودعت عالما كله نفاق وشقاق، عالما كله معاص وذنوب وجرائم تشمئز منها النفوس النقية، لا يسمع فيه إلا اللغو، ولا تذاق في جواره سوى الآلام والأحزان، يهضم فيه الحق، ويداس فيه الضعيف ويهمل، ويفوز فيه القوي ببطشه وبأسه، عالما يسود فيه الأنذال والجهال وتقوم لهم دولة وصولة، ويحقر فيه أهل الفضل؛ لأنهم عاجزون عن مجاراة الأسافل الأشرار في ميادين الخبث والدهاء، لقد ودعت عالما يبحثون فيه منذ نشأته عن الحقيقة ولن يجدوها، ويتقون فيه الباطل ولكنهم يجدونه في كل زمان ومكان، عالما يستعبد فيه الحر باسم الإنسانية، ويقتل فيه العاجز؛ تحقيقا لمذهب القائلين ببقاء الأنسب، وتقترف فيه الآثام باسم الجهاد في سبيل الحياة، هذا هو العالم الذي ودعته، ولست أدري كيف يكون العالم الذي أنت عليه قادم، ولكنني أعلم أنك هنا ترقد هادئا تظلك الأشجار وتهب عليك نسيم الصبا حاملة روائح الزهور والرياحين، فنم واعلم أن في عالم الأحياء من يحسدونك على تلك النعمة كثيرون.
دنوت ممن يحفر القبور، وهو لا شك شخص مخيف في نظر بعض البله والمجانين، وبعضهم يتشاءم إذا رآه في الطريق أو مر بداره ظنا منه أنه رسول الموت وحامل لواء عزرائيل، لا يدب إلا ويقتفي أثره قابض الأرواح، ولا يزور قوما في الغسق إلا والموت ببابهم قبيل الصباح، فنظرت في وجه الرجل كأنني أبحث عن آثار الشؤم، فإذا هو وجه حسن التقسيم، ولولا خوفي من تهمة الإغراق قلت إنه وجه مبارك ميمون. فقلت له: عم مساء يا أخي، أيغلق الباب هنا عن قريب؟
قال: يغلق الباب عند الغروب لولا ما دعانا اليوم إلى التأخير، وها أنت ترانا نحفر لحدا.
قلت: وهل يجوز أن يدفن الموتى بعد الغروب؟
قال: إنها وحشة ابتدأت منذ أمس ولن تنتهي، فلا فرق بينها فوق الأرض وتحتها.
قلت: نعم ما تقول، أتسمح لي أن أسألك سؤالا يتردد في نفسي من زمن طويل؟
قال: سل ما بدا لك.
قلت: أتعيش هنا في المقبرة؟
قال: ولدت ونشأت في هذا البيت، وأشار بيده إلى كوخ صغير في منتهى الطريق محاط بغصون الصفصاف وعلى بابه شجرتان من السرو كأنهما حارسان لا يغفلان.
قلت: أوتقيم هنا طول حياتك؟
قال: وطول مماتي إن كان للموت طول.
قلت: وما هي العواطف التي تجول في صدرك؟ أتحزن إذا واريت التراب عروسا غضة الشباب؟
قال: كنت في بداية أمري أبكي على بعض القبور، أما الآن وقد حفرت بفأسي هذه خمسة آلاف قبر إلا قليلا، فهيهات أن أبكي أو أتحسر!
قلت: «وكيف حالك في بيتك؟ ألا ترتعب إذا جاء الظلام؟!»
قال: «ليس في الراقدين لص يتسلق الجدران، ولا غادر يخون القوم وهم نيام، وإني هنا في مأمن من شرور المدينة ومتاعبها.»
ثم سمعنا صوت قوم يتكلمون، وبصر الرجل بنعش محمول، فقال لي: لقد شغلتني يا سيدي عن حفر مرقد ضيفي الجديد. ثم انحنى بالفأس على الأرض، فودعته وانصرفت، وكان الظلام قد خيم حتى إن القادمين كانوا يحملون مشاعل وأنوارا، فأسرعت حتى بلغت الباب، وسرت وطريق الوحدة، مطرق الرأس، مفكرا فيما رأيته وسمعته في مدينة الأموات.
الليلة العاشرة
إشراف النفس على المستقبل
كنت أقرأ كتابا في علم النفس، وكانت نفسي تحدثني بأنها تستطيع الإشراف على المستقبل استطاعتها الرجوع إلى الماضي، فلما زارني الروح الحائر سألته في ذلك.
قال: اعلم أن الإشراف على المستقبل هو من معجزات الكون وسر من أسرار الوجود لم يكشف عنه لأحد، ولم يؤت علمه أرفع النفوس قدرا، بيد أن الأرواح إذا صفت استطاعت أن تستنير في الاستنتاج بشعاع من نور الحكمة الربانية، حدث لي في حياتي الأرضية حديث عجيب سأقصه عليك: كنت أسأل نفسي دواما هذا السؤال: «هل بين عواطفنا وميولنا في حياتنا وبين المستقبل الخفي الذي يضمره لنا الموت والفناء علاقة؟» وهذا سؤال حرت في الجواب عليه، ولكن حوادث الأيام علمتني أن هناك رابطة قوية بين الحال والاستقبال، وأن حبلا متينا يربط الحياة بالموت.
كانت حياة صديقي الشاعر دي نافا وقصائده وكتبه ومنزله كلها تنبئ الخبير ببعض أسرار هذا العالم أنه سيموت ميتة فظيعة، وأنه لن يذهب قبل أن يرى الأهوال.
عرفته وعاشرته في بيته الجميل على شاطئ بحيرة جنيف، وقضينا معا ساعات طويلة في حديث لذيذ في السياسة والفنون الجميلة والصحافة والأدب والتاريخ، وتارة كان يريني تحفا وطرائف من صنع المتفننين، وأخرى يسمعني نبذا من كتبه أو ينشد لي شعرا من ديوانه.
رجل قوي جميل ذو هيبة ووقار وهيأة حسنة، له شعر منسدل في مؤخر الرأس ولحية مستديرة؛ فكان وجهه محاطا بالشعر الذي يكسب الرجل منظره الطبيعي ويبعث في قلب من ينظر إليه بالاحترام، كان طويلا بين الرجال، عريض الكتفين كأنه من بقايا أبطال الرومان، أو من هراقلة اليونان، ولا عجب فهو ابن عروس البلاد وأعجوبة المدائن.
كان مع ذلك العظم في الخلق والجلال في الهيئة كالطفل الصغير دعة ولطفا، حلو الحديث، لين العريكة، بطيء الغضب، واسع الصدر؛ وهذه صفات الرجل العظيم.
كان يحدثني هذا الصديق الكريم عن أيام فتوته إذ كان يطلب العلم في مدينته، ويقص علي حوادث حياة الطلاب في المدينة الخالدة، ويصف لي حياة المتفننين من مصورين ونحاتين وموسيقيين وممثلين ممن عرفهم في صباه، ويقص علي وقائعه الغريبة في أحياء باريس القصية في ليالي الشتاء، ثم ينتقل إلى رجوليته وحياته السياسية وتحمسه الشديد للحزب الجمهوري الديموقراطي، ويسمعني نبذا من خطبه التي ألقاها أمام الجماهير المائجة في القرى القريبة من بلده وفي ساحاتها العامة، ثم يصف كيف عرف رئيس حزب الاشتراكيين وكيف وكل إليه هذا رئاسة تحرير جريدته.
كان يعمل في اليوم ثماني عشرة ساعة بين تحرير وتصوير رسوم سياسية ونظم قصائد للمجلات الأدبية.
ثم انتهت تلك الحياة المملوءة بالحركة الدائمة، وانقطع دي نافا للنظم والتأليف، تارة في وطنه وأخرى في سويسرا، وإذا تكلم عن وطنه كنت أرى في عينيه بريقا غريبا وفي جبينه نورا جديدا، ثم يأخذ يقول عن مدينته وما والاها أكثر مما يقول العربي عن الجياد والخيام «بسقط اللوا وحومل.»
كان يرسم لي بألفاظه وعينيه وإيماء يديه مدنا وقرى مملوءة بالناس، وأرضا خضراء ذات خصب وزرع كريم، وسماء صافية لا تعكر نقاوتها الغيوم، وبحرا زبرجديا كأنه لسكونه وهدوئه نيلا يحمل تابوت موسى الكليم، وجبالا شامخات تلمس بقممها الكواكب، وتناجي سكان الأرض من رءوسها سكان النجوم.
تلك البقعة من بقع أوروبا يصفها ابنها الشاعر الذي لم يعرف المدح ولا الهجاء، ولم ينزل بملكة النظم من العلا الذي خلقت لأجله، بل وقفها على ترديد صوت عواطفه ووصف جمال وطنه.
ولكن ... استدراك أبدي في محور الدائرة؛ لماذا كانت جدران المنزل مزدانة بصور الموت؟ لماذا كنت إذا دخلت غرفة الجلوس رأيت في صدرها لوحا نقشت عليه صورة تمثل هيكلا إنسانيا مجسما وفي يده محصدة يحصد بها النفوس، وتحت أقدامه جماجم وعظام لا تحصى ولا تعد؟
لماذا كنت إذا دخلت غرفة الطعام رأيت بدلا من صور الفواكه والأسماك وقناني النبيذ التي تزدان بها غرف الموائد؛ صورا تمثل الفناء نازلا على أهل مدينة ومرفرفا عليهم بجناحيه المشئومين؟ وفي إحدى النواحي غربان سحم تنعق وبوم رابض لا يرى منه إلا عيناه الفظيعتان اللتان تملآن قلب الناظر إليها هلعا؟!
لماذا كانت غرفة نومه مزدانة بصورة أوفليا وهي جثة خامدة طافية على وجه الماء في نهر بديع على ضفتيه أشجار الصفصاف الخالدة، وعلى رأسها إكليل من الأزهار وضعته بيدها؛ ليكون حليتها الأخيرة وكأنه رثاء الطبيعة لها؟
لماذا كانت حوائط السلم مملوءة بصور بركان فيزوف أثناء هياجه الأخير؟
كذلك كان ما رأيته من مؤلفات صاحبي نظما ونثرا، قلبت صفحات كتابه «الخرافات الإنسانية» فإذا هو قصص ليس فيها إلا أحاديث الموت والفناء، وتصاويره ذاتها مرعبة مزعجة. إنه يضرب لنا الأمثال على لسان الإنسان كما ضربها إيثوب ولافونتين وعثمان جلال وإبراهيم العرب على لسان الحيوان، ولكن في كل قصة من تلك نرى أثر الدماء المسفوكة والأشلاء المبددة والأجسام المشوهة، الموت يرفرف على صفحات الكتاب من أوله إلى آخره، حتى قصصه التي تبتدئ بالعشق والجمال والسعادة تنتهي بالخراب والموت والفناء. كأنك يا دي نافا جمعت آلام البشر وحشرت فظائع الحياة الإنسانية في كتاب تناولت شعره فلم تكن دهشتي منه أقل من دهشتي لنثره: «رثاء سفينة لم ينج منها أحد»، «صوت الموت»، «أسرار قصر شيلون »، «جحيم دانتي».
فلما رأيت هذا وذاك قلت: إن صاحبي مفكر حزين، وقد يكون في المستقبل من واضعي الروايات الفاجعة، ولم يدر بخلدي أن منزل الرجل وكتبه وشعره كانت كلها حلقة تربط الحال بالاستقبال.
لم يجل بخاطري أن حالة صاحبي النفسية وظواهره المادية والمعنوية لم تكن إلا علاقة العقل البشري بحوادث القضاء.
لم تحدثني نفسي أن ما رأيته في بيت صاحبي وما قرأته في مؤلفاته كان أكبر دليل على أن الإنسان ليس إلا آلة عمياء في يد القضاء، وأنه مجذوب مدفوع إلى نهايته بكل قواه وبكل ما يحيط به. •••
في شهر يناير أرسلت إلى صديقي دي نافا تذكرة أهنئه فيها بحلول العام الجديد، فلم يصلني منه رد، فكتبت بعد حين إلى صديقة لنا وسألتها عن صديقها، فأجابتني هكذا: «إن دي نافا سافر من لوزان هو وأسرته إلى مارتينيك، وكان هناك يوم نزلت الكارثة بأهل الجزيرة وهلك وأهله مع الهالكين.»
الليلة الحادية عشرة
الأخوات الثلاث
زارني الروح الحائر وأنا أقرأ ديوان شعر، قال: أتقرأ الشعر؟ إنك إذن لا تزال متعلقا بالخيال. قلت: كيف ذلك؟ قال: إن الشعر صنع الغاوين وفتنة أرباب النفوس الخفيفة؛ لأنه لا يكون خاليا من ذكر الحب، والحب حلم فارغ مزعج. قلت: كيف تقول هذا وأنت في عالم الأرواح، عالم الحب والهناء الأبدي؟ قال: بل كيف تقول إنني في عالم الحب والصفاء الأبدي وأنت تعلم أنني روح حائر أنشد الحقيقة بعد الموت كما كنت أنشدها قبله؟ قلت: وهلا تلتمس الحب أيضا؟ قال: كلا، إنني عرفت ثلاث أخوات فلما رأيت طبائعهن وبانت لي حقيقة المرأة أعرضت عن الخيال وهمت بالحقيقة. قلت: حدثني حديث الأخوات الثلاث.
قال: الأخت الكبرى امرأة متزوجة وليس للحسن في خلقها حسنة إلا أن مجموعها لا ينفر النظر، وتقاطيع وجهها إذا أخذت جملة قد تخدع المشاهد عند الوهلة الأولى، ولها من حين إلى حين نظرة حسنة يسميها العرب نظرة غنج ويصفها الإفرنج باللين، فيقولون إنها ذات نظرة «لينة»؛ لأنهم يرون انكسار العين فيفهمونه، ولكنهم لا يتصببون فيه ، إنني لم أرها بكرا، ولكنني أظن الزواج قد خلع عليها حلة لا يمنحها إلا من يدخلن فناءه.
أبو الثلاث إيطالي المولد، وأمهن فرنسوية من صميم فرنسا، فأخذتها جدتها إلى إيطاليا في صباها وحببت إليها السياحة، فانتبهت في نفس البنت عواطف كانت خامدة، وتحرك فيها العرق الدساس، ففطنت إلى ما حولها من جمال الطبيعة، وقضت أياما طوالا في كنائس بدوا وفلورنسا ومعابد جنوة ومقابرها، كانت خجولا فتعلمت الإقدام، ومحبة لبيت أمها فمالت إلى الأسفار، وهيئ لها أن تسافر إلى بلاد الإنكليز فلم تتردد، واخترقت بحر المانش، وقضت بينهم ثلاث سنين، تعلمت خلالها لغتهم، وخالطت رجالهم ونساءهم، واطلعت على كثير من دخائلهم، واستفادت من عشرتهم. ثم عادت إلى فرنسا، فتزوجت من طالب لم ينته بعد من دراسته، اكتسب حديثها طلاوة المنطق فهي ليست كغيرها من الفرنسويات، لا تأخذ القول على علاته، إنما تمحص الآراء، ولا تكثر من الحديث، وهذه من نعم الإنكليز عليها. تعلمت الرزانة في الأخلاق ونسيت الطيش والحدة، لا أظنها كانت طائشة في صباها، ولكن لم تكن لتصل إلى الأناة والتؤدة التي بلغتها في العشرين إلا نحو الأربعين.
تعلمت أن الإنكليز يعملون ولا يقولون، وأن بعض الناس يستبيحون الخبث للتستر، وأن ما يقترفونه في الخفاء تقشعر الأبدان من ذكره في العلانية، فرأت أن هذه وسيلة لا بأس بها وأنها تنيل الغرض وتحمي من الملام. عرفت ذلك من حديثها، ولكنني لم أعلم إلى أي مقدار بلغ تطبيق العلم على العمل في شئونها، إنما أعلم أنها قادرة على اللعب بزوجها كما يلعب الإنكليز بكرة القدم، وهي تعامله كالطفل، وقد تجده أبسط من أطفال الإنكليز الذين كانت تتعهدهم؛ لأنها كانت مربية. رأيت من حديثها أنها تعتبر ذاتها زوجة إنكليزية لزوج فرنسوي - هي العقل المدبر وهو اليد العاملة.
قرأت معظم مؤلفات إميل زولا وهي تلخصها كتابا كتابا أمام أختيها الصغريين بلا حياء، ولا تخفي استحسانها لأبشع ما كتب الأستاذ الجليل، فيخيل لمحدثها أنها رجل لا امرأة، وقد يكون زوجها جالسا فلا يفهم أكثر ما تقول، وإذا تكلم المسكين أشفع كل جملة من حديثه بنظرة إليها وبقوله: أليس كذلك يا زوجتي؟ فتجيبه: بلى، يا زوجي الصغير. إنها تتكلم الإنكليزية بتردد كما يسير الطفل في شهوره الأولى، ولكنها تعير تلك اللغة الصلبة مرونة لسانها الجميل، إنها لم تقرأ كثيرا من الكتب، ولكنها قرأت لكثيرين من الإنكليز، رأيتها يوما وحيدة ولم يكن معها زوجها فلم تترك لحظة تمر بدون ذكر كلمة تخرج عن سياج الآداب من اللغة المحلية بين الطبقات الدنيا «أرجو»، فإذا سألتها معنى ما تقول أطنبت في التفسير ولم تترك مجالا لقائل، فكنت أشعر بأنها من النوع الذي يمرح في الأقذار ويستبيح ما لا يستباح باسم الحرية، لقد أنقذها الله بالزواج الذي منحها الصون المصطنع والعفة المفتعلة، ولست أدري ماذا كانت تكون حالها لو بقيت بدونه، وقد جمعت في طبيعتها ميول الفرنسويات وخبث جيرانهم؟
أظنها تعيش سعيدة وتسعد زوجها إذا لم يمت قبل الأوان، وإذا لم تلق في طريق الحياة من هو أجمع للصفات التي تستهويها. إن زوجها يعيش معها على سفح بركان، ولكن كثيرا ما تنمو على تلك السفوح جنات خضر وحدائق.
الأخت الثانية لا تزال في عرف الناس عذراء، وعرف الناس أمر لا يعول عليه كثيرا، ولولا ذلك ما كتب مارسيل بريفو كتاب «أنصاف العذارى». إنها لا شك فتاة جميلة ناضجة ذات شعر أسود وعينين دعجاوين ووجه مقسم وصوت رخيم وقوام جميل، هي سمراء كأنها من أهل صقلية، وفتانة كأنها من سكان نابولي الجميلة، ولها نظرة ساحرة كأنها من بنات البندقية، وقد دلني حديث أمها أن أباها إيطالي المولد؛ فلا غرابة إذا جمعت تلك الصفات.
إن تلك البنية بقيت في نظري لغزا لا يحل ومعجزة لا يعرف كنهها إلى حين، ثم رفعت العشرة الطويلة لي الستار عن حقيقة خلقها رويدا رويدا، في بداية الأمر لم يمكني الحكم عليها؛ لأن نظرة واحدة مني إلى رأسها وصدرها كانت تحدث في نفسي اضطرابا؛ لأنني لم أكن أرى بشرا إنما أرى تمثالا من التماثيل البديعة الصنع التي أودع أساتذة النحت فيها نفوسهم وعقولهم وملئوها بأسنى المعاني التي تجول في صدورهم وزينوها بأجمل ما يستطاع التزيين به، غير أن هذا التمثال يتكلم ويروح ويغدو وله صوت ذو أنغام موزونة تطرب الأذن والنفس، إنك يا فالنتين آية العاشقين!
ولكن النفس أو الروح أو العقل أو الفؤاد أو القلب أو بعبارة أخرى الموجود المعنوي الذي يستره ذلك الرداء المادي ما هو؟ ما لونه؟ ما صفاته؟ هنا معجزة المعجزات وعقدة العقد، إنني لم أخل بالفتاة إلا دقائق معدودة، فلم أتمكن من النظر في البئر العميقة المختفية وراء تينك العينين السوداوين، ولكنها لحسن الحظ كثيرة الكلام على المائدة، لا تمضي لحظة إلا وتبدي ملحوظة، ولا يرد ذكر أمر ما إلا ولها فيه رأي، حتى إذا كانت في غرفة مجاورة وسمعت حديثنا عادت إلينا وقالت كلمتها، إنها حادة الشعور جدا، ولكنها كثيرة الكتمان، إنها لتجلس لحظة فتلعب بعقد الزبرجد الذي يحيط بنحرها الجميل، وتضع قطعة من الياقوت معلقة في طرفه إلى ثغرها كأنها طفلة تلهو، فأفطن لساعتي إلى الفرق الشديد بين لؤلؤ ثناياها وياقوت عقدها، ثم إذا هي تمعن النظر في الأشياء بدقة كأنها تدبر مكيدة أو تستخرج سرا، ليس أعظم من الفرق بين الطفلة اللاعبة والمرأة المفكرة إلا اجتماعهما في شخص واحد.
إنها تحب نفسها كثيرا، وإذا أبغضت حقدت، وإذا حقدت انتقمت، وإنها لتودي بمن تنتقم منه. لو كانت ملكة لكانت إليزابث، كلا! إنها أقرب إلى كاترين دي مديتشي، ولو كانت رجلا لكانت ماكيافيلي، ولو كانت حيوانا لكانت فهدا أسود، ولكن أليست إيطالية؟ قد تكون في دمائها قطرة من دم بورجيا وأخرى من دم مديتشي، إنها لم تخلق لتعيش عيشة هادئة في بيت صغير في شارع سولي بمدينة ل ... إنما خلقت لتشرق شمسها في بلاط مملكة من ممالك إيطاليا في القرن الخامس عشر حيث يجد روحها الشرير مجالا للدسائس وميدانا للإيقاع بأعدائها. إن كلمة «فنديتا» مكتوبة على جبينها، ولو عادت إلى سهول كورسيكا أو وديان صقلية حيث كان يمرح جدها في الناس قتلا وسلبا لرأت نفسها حيث تطمئن؛ لأنها لا ينقص جمالها الفتان وعضلها المفتول وذكاءها الخارق وإرادتها القوية لتكون رئيسة عصبة إلا ثياب الجبل وسلاحه.
ليس في اللغة الفرنسوية كتاب تجهله العذارى إلا قرأته، أطلقت لها أمها العنان، فجرعت هنيئا مريئا من عين زولا الصافية، ثم أشبعت نفسها من مؤلفات بريفو، وغذت ذهنها بأغاني مونتمارتر، وشاهدت رواية سالوميه ولم يفتنها سواها. خلقها في هذا الجيل فلتة من فلتات الطبيعة، إنها خلقت لتلبس تاجا ولتخرج من كيسها حقا صغيرا فيه سم زعاف تقتل به عدوها أو تشربه هي إذا وقعت في يده وضاقت بها الحيل.
مستقبل الفتاة يصعب علي الحكم عليه، ولكنني أكاد أراها تمثل في دائرتها الحقيرة أدوارا تلائمها، وتتحسر على أنها لا تستطيع اقتراف الجرائم وتشرب الدم وتصلب الأعداء.
أما الأخت الثالثة فمخلوق لا معنى لوجوده، لا ينفع ولا يضر، لا يحيى ولا يميت، قيمته في الحياة كقيمة الصفر على يسار الأرقام المعدودة، مسكينة هي، حتى اسمها نسيته، لا! هو جوليت، ما أغرب هذا الاسم على هذا المسمى!
جوليت بنية في العشرين من عمرها، ولكن الناظر إليها يحكم عليها بأنها من بنات الثلاثين، وجهها لا وصف له، ليس جميلا وليس قبيحا، ولكنه وجه مبتذل دنيء، تقاطيعه جافية كأنها مصنوعة من خشب لا من لحم ودم كأنها صنعة النجار، كذلك جسمها قطعة واحدة لا تقسيم فيه، إذا سارت سارت كلها، وإذا جلست جلست كلها، وإذا وقفت وقفت كلها. إن أعضاء بدنها نموذج في التضامن، والتضامن صفة محبوبة في أعمال الرجال، ولكنه مبغوض جدا في أجسام النساء.
قيل لي إنها تعيش في بيت غير بيت أمها. ولست أدري ماذا تصنع، وأظنها شبه خادمة أو نصف مربية، عيشتها بين الأجانب، واعتمادها منذ فتوتها على عرق جبينها، وتعويلها على تعبها، علمتها أمها الذل والاستكانة، فهي المسكينة تجد نفسها غريبة في بيت مخدوميها وغريبة بين أمها وأختيها؛ لأنها تشعر بأن أمها لا تحبها ولو أحبتها لأبقت عليها، كذلك تشعر بقبحها وجهلها بالنسبة لأختيها فلا تقرب من إحداهما، وإذا تكلمت همست كأنها طفل يتيم، وإذا جلست على مقعد يبدو عليها من المسكنة كالعبد بين أيدي أسياده؛ لا يكاد جسمه يلمس طرف المقعد ويداه مضطربتان في حجره ورأسه مطرق وعيناه مغضيتان، كذلك إذا تحدثت قالت قليلا مبهما وسكتت بخوف ووجل كأنها تلميذ يخشى عقاب الأستاذ إذا رآه يتكلم في المكتب، أو مجرم شاعر بذنبه ويحاول عبثا الدفاع عن نفسه والتبرؤ من جنايته.
أمها لا تعيرها التفاتا، ونادرا ما تدعوها إلى الغذاء، وأختها الكبرى إذا رأتها تشفق عليها وتدعوها إلى بيتها بعد مشاجرة عنيفة بينها وبين زوجها. أما الأخت الصغرى فالنتين فتهزأ بجوليت المسكينة وتصرعها بنظراتها كما يصرع الأخ القوي إخوته الضعاف بذراعيه، وتتيه عليها بجمالها وتعاكسها بعنف كما يعاكس الأطفال بعض الوحوش المسجونة في حديقة الحيوانات. إن تلك الوحوش وراء قضبان من الحديد يمكن كسرها، ولكن جوليت في سجن أضيق وأشد ولا يمكن كسره، هو سجن الفقر والقبح والذل!
رأيت هذه المسكينة ثلاث مرات، فكنت أتقرب إليها تعزية لها وسلوى، وكنت أرى في عينيها عرفان الجميل يكاد يسيل دموعا، قد يكون قبح الوجه من دواعي حسن الطباع والأخلاق. إن نفسي تحدثني بأن جوليت كريمة النفس طيبة القلب؛ لقلة ذكائها وجمالها. إن تلك المسكينة عاجزة عن إتيان الشر، وتلك الخشونة الظاهرة دليل على الرقة الباطنة، لا بد أن تكون جوليت قبيحة الوجه جميلة النفس عكس أختها الصغرى.
أما عن مستقبلها فهو واضح جلي، إنها ستبقى من راهبات القديسة كاترين إلى أن تلقى شريرا ذكيا. •••
هذه تصاوير الأخوات الثلاث، رسمتها بما في وسعي من الإتقان، وقد قالت لي أمهن إنهن شقيقات وإنها لم تتزوج إلا من رجل واحد، ولكن ابنتها الكبرى نظرت إليها نظرة ودت أن تقول بها: إنني - يا أماه - أستبعد تلك النظرية، ولو قبلتها فليس ضروريا جدا أن نكون نحن الثلاث ثمرات هذا الزواج.
قال الروح الحائر: «هذه ثلاث نموذجات للمرأة لا تخرج أنثى عن أحدها؛ فإما كالأخت الكبرى امرأة لا تمتاز بحسنها، ولكنها ترضي زوجها فتكون عفتها عفة ضرورة، وهي بؤرة فساد كامن دعت إلى كتمانه الأكاذيب والنظامات المتفق عليها، وإما جميلة شريرة تنال بأذاها القريب منها والبعيد عنها كالأخت الصغرى، وهي نذير خراب البيوت تحفر طول حياتها قبورا للرجال، ومن لا تواريه التراب أوقعت به في حبالة، والثالثة كائن لا معنى له لا يضر ولا ينفع، جعلته الطبيعة صدقة على من لم يقع فريسة إحدى المرأتين.»
الليلة الثانية عشرة
الفاكهة المحرمة
زارني الروح الحائر فقلت له: إنني لا أزال أذكر حديث الأخوات الثلاث، ولكني لا أجد للحب أثرا في هذا الحديث. قال: نعم، إنني ذكرت لك طباع المرأة. قلت: ولكني لم أتطلب قولا في طبائع النساء، إنما تطلبت منك حديثا في الحب. قال: كيف الوصول إلى ذلك دون الوقوف على طبيعة المرأة! إن الحب إلا عنصر من العناصر المكونة لخلقها، فمن وقف على الخلق كله وقف على عناصره. قلت: أتيت لي في الليلة الماضية على حديث نساء تغلب الشر على الخير في طباعهن، فهل هذا كل ما علمت عن المرأة؟ قال: كلا، إن لدي أحاديث شتى عن حياتي الأرضية. قلت: هات ما عندك؛ لعلي أجد الحقيقة التي أنشدها.
قال: كنت أسيح في بعض بلاد الغرب، فعرفت رينيه إذ كنت بإحدى قرى الألب، وهي عذراء في الثامنة عشرة من عمرها، تكاد تكون لسواد شعرها ودعج عينيها وعمقهما شرقية لا غربية، وكان لهذا الجمال الأجنبي معنى خاص به، ويظهر أن أهلها أنشئوها على التربية والعادات السكسونية؛ قوة في الساعد، وحرية في الفكر والقول. كنت أظن هذا الفندق الذي نزلت به خلوا من الأضياف، وأنني سأذوق لذة العزلة في رأس الجبل خمسة عشر يوما، ولكن هذه الفتاة أفسدت ظني وعكست أملي، وجعلتني منذ تحادثنا أكثر شغلا مني في أكبر العواصم وأكثرها اضطرابا.
التقينا في غرفة الجلوس الصغيرة الحقيرة في يدي «أفكار بسكال» وفي يدها «مكاتيب فرانسواز» وضع مارسيل بريفو. بدأت تحادثني فذعرت؛ لأنني لم أعتد ذلك، قالت لي في آخر المجلس: «إنني سعيدة إذا كان في قربي منك ما يخفف آلامك.» غير أن خبرتي بأخلاق البشر وقتني شر الانخداع، ولو كنت سمعت هذه الكلمة وأنا في السابعة عشرة من عمري لخررت أمام قائلتها ساجدا، لكن السنين القليلة التي «عشتها» جعلتني إذا سمعت أضعاف هذه الكلمات الحلوة أبتسم بسمة غير المكترث. •••
في الجلسة الثانية تكلمنا في الفنون الجميلة، وتبادلنا الخواطر عن متاحف باريس، وورد عرضا ذكر صورة جوكوندا التي تزدان بها جدران اللوفر، فقالت رينيه إنها لما رأتها لأول مرة منذ عام واحد بكت، فسألتها بدهشة عما دعا إلى ذلك البكاء، قالت إنها لما رأت نفسها أمام تلك المخلوقة الكبرى هاجت عواطفها فأسدلت الدموع، قلت لها: إن دقة الإحساس إلى هذه الدرجة تنغص حياة صاحبها. فضحكت الفتاة وقالت: ولكن هذه الدقة ذهبت بذهاب العام الغابر. قلت: كيف؟ إذا رأيت الآن أمامك منظرا مؤثرا يكون بالنسبة لك في هذا العام كمنظر جوكوندا في العام الغابر أفلا تبكين؟ قالت: لو دعاني الآلهة إلى مائدتهم وسقوني بأيديهم المقدسة كئوس الرحيق أو خلقوا أمامي العالم بأسره من جديد وعذبوا نصف أمم الأرض؛ ما نزلت من عيني دمعة واحدة. فأدهشني ذلك الكلام، وقلت: إن أشد الرجال بأسا وأقساهم قلبا لا يقول مثل هذا القول، وإن قاله فهو مازح. قالت لي: قل إن أفظع الوحوش الكاسرة لا يمكن أن يتصف بتلك الغلظة. قلت: كلا، إنني لا أقول ذلك، ولكن هل لهذا الانقلاب من سبب؟ قالت: نعم، إنني أحببت رجلا كان يحبني، ثم علمت أن حبه كان كاذبا. قلت لها: أوحادثة واحدة كافية لأن تقلب في نظرك نظام الكون؟ قالت: إنك رجل ولا يمكنك أن تفهم نفس المرأة، إنكم - أيها الرجال - لا تشعرون. قلت: عفوا يا سيدتي. قالت: إن حادثة واحدة تشمل حياتي بأسرها، تصور الأحلام والأماني التي تخيلتها، تصور قصور الريح التي شدتها، تصور الساعات السعيدة التي قضيتها بجانب الرجل الذي أحببته، تصور أنني لحبي له غيرت عقيدتي ودنت بدينه، تصور أنني منذ عرفته نظرت إلى الحياة بعين جديدة ورأيت المخلوقات والموجودات بشكل جديد، ثم تصور انقلاب ذلك كله في لحظة واحدة، ألا يحدث هذا الانقلاب ثورة مروعة؟ فلم أجب. دخلت علينا سيدة متقدمة في السن فغيرنا الحديث بأسرع ما يمكن، وتكلمنا عن الطقس وجمال الشمس وعلو جبل زرمات. •••
الجلسة الثالثة في الغابة على شاطئ بحيرة صغيرة ماؤها آسن، كنت على مقعد خشبي صغير أدون بعض المذكرات، وأتمتع بجمال الطبيعة ولذة الحياة، وأسمع تغريد طيور الضحى على الأغصان الخفية، وأستنشق ملء صدري هواء طاهرا نقيا، رأيت عن بعد رينيه مقبلة وهي في ثوب أبيض وقبعة خضراء وعلى رأسها قناع من القز لونه كلون البنفسج، وفي يدها باقة من ورد الألب، فلما أن دنت مني أغلقت كتابي لأقرأ كتابا أبلغ وأبدع، صفحاته عواطفها، وسطوره كلماتها. قالت لي لساعتها: أتبني قصورا فوق سطح الماء؟ قلت لها: قد يكون ذلك، ولكن هيهات أن تبقى أكثر من قصور الرياح. قالت: إن أساطيرنا تروي لنا قصة إرم ذات العماد، وكنت في طفولتي أحلم بأنني دخلتها وملأت أكمامي من كنوزها، ولم أكن أعرف حينذاك أنها من قصور الرياح.
قلت لها: ولكن هلا غيرت رأيك في العالم والإنسانية منذ أول أمس؟ قالت: كنت أمس في الكنيسة أسمع خطبة القسيس، فلما أن بدأ جملته اللاتينية وقال: «إخواني الأعزة.» تلجلج واعترته فهاهة ثم أرتج عليه. قلت لها: ولماذا؟ قالت: لأننا تبادلنا النظرات. قلت: وهل يدعو ذلك إلى تلجلج القسيس الخطيب؟ قالت: نعم؛ لأنه أمس وجدني في الغابة نحو الغروب فدنا مني وحياني فحييته وتحادثنا مليا على غير العادة، ولم يمض على حديثنا ربع ساعة حتى فاتحني في غرامه. قلت لها: أيتها الآنسة، إنك تدهشينني. قالت: يجوز؛ لأنك لا تزال صبيا لا تعرف الحياة. قلت لها: عفوا يا سيدتي. قالت: عفوا يا سيدي.
قلت لها: ألا تفضلين أن نسير قليلا في ظل الأشجار؟ قالت: حبا وكرامة. فسرنا واستسلمنا للطريق، فبلغنا مكانا مشرفا على السهل والجبل فيه الشمس المشرقة والخضرة والمياه المنحدرة، وتحادثنا طويلا في أمور شتى، وإنا لكذلك وإذا السماء قد اكفهرت والغيوم تراكمت، فاسود الجو، وأخذ الرعد يقصف والبرق يخطف، وانهمر المطر كاندفاع الغدران والأنهار.
كنا بعيدين عن الناس مسير ساعتين على الأقل في حضن الطبيعة أمنا الحنون وبين أيدي عناصرها القوية، فنظرت إلى المرأة التي بجانبي والتي قالت إن الأرض إذا انشقت والسماء إذا انطبقت لا يعتريها اهتزاز، فرأيت في عينيها أثر الرعب الشديد، ثم ما لبثت أن أضافت إلى مطر السماء مطر عينيها، فقلت لها بصوت عال حاولت أن أتغلب به على صوت الرعد: أي الاثنين تخشين أيتها السيدة، الطبيعة أم أنا؟ قالت: كلا، لا هي ولا أنت، ولكنني أشعر بخشوع أمام ما أرى وأسمع. قلت لها: إذن ضعي يدك في يدي وهيا بنا نقصد ذلك الكوخ القريب. قالت: إنني لا أستطيع أن أسير في هذا المطر، إن البرد شديد يا أخي. فخلعت لساعتي ردائي وتوسلت إليها أن تتلفع به ففعلت، ثم ركعت وطلبت إليها أن أحملها فامتنعت ثم رضيت، وسرت بها أستند إلى عكاز صغير، فتزل قدمي تارة وتهتدي أخرى إلى أن بلغنا الكوخ الذي رأيناه في أقصى الغابة، فلجأنا إليه إلى أن يهدأ روع الطبيعة الغضوب، وكان الكوخ خاليا.
كانت رينيه مغمضة عينيها طول الطريق، فلما أن وصلنا الكوخ نظرت حولها ونظرت إلي وزال رعبها، وما زلنا صامتين إلى أن اتفق آلهة الجو فيما بينهم على أن يطلقوا الشمس من سجنها وأن يقيدوا البرق والرعد والمطر إلى حين، فخرجنا وسرنا بسكون نحو الفندق. •••
الجلسة الخامسة في غرفة الجلوس ذاتها قبيل الليل كنت أقرأ كعادتي وأستعين على خمود الذهن ووهن القريحة بقهوة البن، فدخلت علي رينيه مشرقة الوجه وقالت: طاب ليلك يا صاحبي! قلت: أهلا بك وسهلا أيتها السيدة، كيف أنت؟ قالت: إنني أنكر نفسي. قلت: وكيف؟ قالت: إن قلبي بدأ يشعر بالصبا وعاود نفسي ظمأ الغرام. قلت لها: وهل عفوت عن الكون والمخلوقات؟ قالت: عفوا شاملا. قلت: وكيف تم ذلك؟ قالت: غسلت دموع أمس كل الحزازات الماضية، وقلبت الرياح صحيفة جديدة من حياتي. قلت: لا حقد على الرجل منذ اليوم ؟ قالت: كلا، لماذا أحقد عليه؟ إن أبي آدم لم يحقد على أمي حواء ورضي بها بديلا من الجنة على أنها هي التي دنسته وأطعمته الفاكهة المحرمة.
فقلت للروح الحائر: وهل أحببت هذه؟
فلم يجب، وتوارى.
الليلة الثالثة عشرة
شعر الأرواح
كنت أقرأ دواوين لشعراء الشرق والغرب المتقدمين منهم والمتأخرين، وكأنني نصبت في كسر بيتي سوقا للأدب يعرض فيها كل شاعر بضاعته، وينشر كل جيل وجنس في أركانها ثمار أفكاره، وإنني لأقول في نفسي إن الشعر ملكة في كل إنسان، وإنه من الصفات اللازمة للمخلوقات العاقلة، وقد يكون أظهر في بعض الناس بقدر دقة شعورهم، ولكن لا يخلو منه أحد. وإذا بالروح الحائر قد أقبل يشق ظلام الليل بنوره الرباني، قال لي: إنني أعرف ما يجول بنفسك؛ فقد لمحت في زوايا الغرفة نفوس نفر من الشعراء جاءت متشوقة مشتاقة تسمعك تنشد أشعارها، ولو كشف لك بمثل ما كشف لي رأيت الليلة حولك عجبا من أرواح الشعراء التي ترفرف على كتبك وتسبح في الأثير الذي يحمل أنفاسها التي كانت ترددها مذ كانت على الأرض الفانية.
على أنني أود أن أذكر لك ما وقع لي منذ عهد قريب: كنت أطوف في السماء كعادتي، فإذا بي أسمع أنغاما شتى خارجة من مكمن خلف غيوم كثيفة تخللتها ألوان قوس قزح، فدنوت واستمعتها فإذا هي أناشيد تتغنى بها بعض الأرواح، فاستبنتها فإذا أنا أرى أربعة أرواح شاعرة، وفي يد كل منها قيثارة يوقع عليها ويتغنى، فلما قربت سكتت الأصوات واسترقت الأرواح نظرات خفية فيما بينها وأوشكت أن تنصرف، فقلت لها: بحق الوحدة التي أنا فيها والود الذي جمعكم ووفق بينكم، هلا أنشدتموني شيئا من شعركم؟ فابتسمت الأرواح واحدا بعد آخر، وتقدم أحدهم ورفع بجناحه الملون ثم أمر يده على جبينه المكلل بالغار، وقال: أيها الروح الحائر، إنك حديث العهد بأهل السماء وقد سمعت في الأرض شعرا كثيرا معظمه عقيم؛ لأن شعراء الأرض لا يزالون لاتصالهم بالمادة الذميمة مقيدين بقيود وضعها المحافظون لعجزهم، وقد ألفتم هذا النوع من القول في شئون لا تتعدد، فلو أنك سمعت ما نتسلى به مما يقوم بنفوسنا دون قيد لم يرقك؛ لحداثة عهده، ولكنك إذا مارسته استوعبته واستعذبته، وإن في أهل الأرض بعض المفوقين الذين جرءوا فقالوا الشعر كما أوحي إليهم، وأعطوا الناس أفكار الأرباب عذارى لم تعبث بها ضرورة الوزن ولا عذر القافية والبحر.
قلت: أجل، إنني أذكر شعر فرلين ووتمان.
قال الروح الشاعر: وكيف وجدته؟
قلت: وجدته عذبا كالشهد وصادقا كالحقيقة.
قال الروح: إذن لن تنفر إن أسمعناك شعرنا، وها أنا أبدأ بالنشيد وأنا أصغر إخوتي وأعجزهم.
ثم ابتعد الروح الشاعر الأول وأخذ قيثارة وشرع يتغنى بقول وعيته بلسان الأرواح ونقلته إليك على قدر استطاعتي، قال:
بسمة الربيع
سمعت في الروض تغريد البلابل
ورأيت في طريقي زهرة البنفسج بين الأعشاب
وشعرت بحرارة الشمس القوية
وخرجت نفسي من مخبئها تستقبل الفصل الجديد. •••
الكون كله يتأهب للحياة
والطبيعة بعثت من مرقدها الطويل
والموجودات كأنها آلات عازفة
تشترك في إحياء مولد الوجود. •••
دع الإنسان النهم يجمع المال أو يشيد
ودع دولا تحيا وأخرى تموت
ودع الحكماء يقولون ما لا يعلمون
وهلم بنا إلى الأحراش والحقول. •••
الأيام تجري مسرعة، بل الزمان يقطعها قبل الأوان
ولكن كل مشرق شمس أدنانا من مولد الربيع
آذار رسول الجمال والنور
آذار ملك على الأيام والشهور. •••
كالوالد الحنون يعد لولده مالا
كذلك آذار أعد للعالم جنة الربيع
صبغ أقمام الزهور بالألوان الزاهية
ونقش أكمام الورد في الأوراق الخضراء. •••
سرت آذار في الكروم والرياض
ومنحت الزهور والثمار من قوتك ونفحك
ووهبت الأعناب رحيقا من خمرك
وطوقت التفاح بنطاق من ذهبك. •••
آذار أنت طبيب الطبيعة
أنهضتها من فراشها بعد طول الرقاد
وسيرتها في موكب عجيب لفت أنظار الآلهة
كل كائن يعزف على آلة مطربة، وكل زهرة كأنها علم منشور. •••
إن الخزامى والنرجس والأقحوان والياسمين تتيه بقدها ولونها وريحها
والبلبل والقبرة يتفاخران بحسن الصوت
والأرض فرحة بحياة أطفالها
والشمس تضحك معجبة وتجود بحرارتها ونورها. •••
يد الله يا آذار باركت في أيامك، أنت نبي بين الأشهر
في كل ليلة من لياليك تلد الطبيعة نباتا جديدا
وتسمع في الغابات نغمة عذبة
كل يوم من أيامك يكمل زينة الأرض العروس. •••
لما اخترقت اليوم طريق الغابة وسرت على الأوراق المنثورة، شممت رائحة الربيع في الأغصان
الفصل الذاهب تحت أقدامي، والفصل الجديد محيط بي
أفواه النهيرات تتدفق وكأنني لمحت في الغدير روح الماء. •••
آذار أعددت مجلس الربيع وشفيت الكون من علة الشتاء
وأحييت النبات والحيوان
وأوقدت في نفسي شعلة الحياة
وذهبت ولم تر جمال الأشياء! •••
تلاك نيسان فورث مجدك
كذلك لا يحظى بفوائد الأشياء من بذل نفسه في سبيلها
أفضل الناس من كان بينهم كآذار بين الشهور
سعادته في أنه أوجد الربيع وقضى قبل أن يذوق الثمر.
فلما انتهى من إنشاده ابتسم بسمة الملائكة وقال: يقول أهل الأرض: أجمل النساء لا تهب أكثر مما لديها. ولعلك تجد أحسن من قولي لدى الروح الثاني.
فتقدم الروح الثاني وقد لمحت في جناحه كثرة السواد، فسألت الروح الأول في شأنه، قال لي: هذا الروح الحزين. ثم أخذ الروح الحزين قيثارة وتغنى:
يا معبودتي المحبوبة، خذي قيثارك وغني لي أغاني الحرية
وأشعلي نفسي المعذبة بنارك المقدسة، وأسكريني بخمرك الأبدية
وخذي حكمتي وتجاربي؛ لئلا يعوقني العقل عن نيل الأماني
العقل جبان يقيد اللسان ويغمد سيف الفتوة. •••
لا يفوز إلا ذوو الإقدام، الأرباب تلهمهم شجاة أبطال طروادة
والجن تنفخ في أرواحهم وتدفع بهم إلى حومة الميدان
قلبي لا يسع إلا حبيبا واحدا هو أشرف محبوب ودواما يلهج بذكره
كنت أهاب الموت في سبيل حبه واليوم أود أن أفديه بنفسي. •••
نفسي تطهرت من شدة الآلام، وهمومي جلت صحيفة الجنان
ابيض فؤادي من سواد الليالي، وتبدد الظلام عن بصيرتي
لكل كلمة أسمعها وقع جديد، ولكل حركة في الكون معنى يشغلني
معجزة الحياة والموت أعطتني سرها، والعقل الأول يفيض علي من نوره الخالد. •••
الطبيعة إن ماتت بعثت، والنفس إن شابت شبت
أيتها النفوس الخالدة، إن لم تفطني إلى سر الوجود هلكت
وإن فطنت ازداد تعذيبك ومستك نيران سوف تكون آلامها نعيما
لأن عذاب النفس العالمة ألذ من نعيم النفوس الجاهلة. •••
ليالي العلا أم ليالي الغرام؟
غني أيتها الأفاعي المطيبة واكسري كئوس الخمر العسجدية!
وأبعدي عن ملمس كفي جسومك الناعمة، واختفي عن عيني بحسنك الساحر
وخلي فؤادي خاليا من الخيالات الأرضية التي تعمي البصائر. •••
ذقت مرة رحيق العلا! إنه شراب الأرباب والمطهرين
سكرت، فنسيت كل الدنايا فكأن الحقيقة أسقتني رضابها!
لم أود أن أفيق؛ لئلا تقطع علي أحلامي
هل يترك الجنة من ذاق لذتها؟ وهل يبتعد عن الحقيقة من لمسها؟ •••
محبوبي الجميل أسير ومكبل بالقيود ودموعه ملأت نهرا جاريا!
كلما أرى محبوبا سواه حرا يزداد بغضي للعاذل الغادر وأريد سحقه
كيف يسحق عاشق عاجز عدوه القادر؟
ولكن حب موسى أهلك فرعون العتيد. •••
يا رب موسى وداوود!
هبني قوتهما جميعا، واجعل قوة العاذل أقل من العدم!
ويا أيتها الأرباب القديمة القاطنة الكهوف والهياكل الخربة، لماذا تركت زهرتك تذبل وتذوي؟
ويا حارس الأرض المقدسة الرابض في القفر، هل آن تبوح بسرك الأعظم؟ •••
أفقر الناس أغناهم، وأكثرهم تواضعا أرفعهم
وأبعدهم عن المجد أقربهم إليه، وأسماهم حبا أدناهم من الآمال
ليس لي في هذه الأرض قيد أصبع، ولست أملك من مائها قطرة
فخر غيري في امتلاك أرض الوطن، وفخري في كوني ملك الوطن. •••
تمالأ الكل واتحدوا على المحبوب، ولكن هل يعجزون إلا أنفسهم؟
يا طلاب الدنيا الزائلة، ويا عشاق الذهب الحقير!
ويا منافقون في سبيل أقذر الأشياء، ويا مفرطون في أعظم النعم!
كيف تنامون ونور الحق سيبدد أوهامكم ويهزأ بأمانيكم الفارغة؟! •••
في كل عام يفيض النهر فتترجرج أمواهه الحمراء بين ضفافه الغناء
حتى إذا أطعم الأرض وسقاها اندفع ليزيد ماء البحر
كأنه نفس تنضم إلى نفوس خالدة لتزداد بها سعادتها
معجزة النهر ترجع إلى طفولة الأرض وتكاد تنتهي الأرقام دون حساب عمره. •••
ولكن أنت أيها الإنسان الزائل لا تفيض إلا مرة واحدة
ثم تغيض حياتك مرة واحدة
فهلا كنت كالنهر ما دام شبابك زاهيا؟
هلا وهبت نصيبا من حياتك للأرض الطاهرة ؟ •••
كانت إلهة المجد تفتنني فأصبحت أفتنها؛ لأني زهدت فيها
آمالنا تتم إذا اقتنعنا، وما دامت مطامعنا دام عذابنا
يطول عمر من يطلب الموت ومن يفرون منه يلحق بهم
حياتنا لها قيمة في ذاتها فدعني من قصة الجحيم والجنة. •••
محبوبتي المسكينة ترتجف في يدي وتبكي، ماذا بك أيتها المحبوبة؟
إن اسمك يذكرني بفتيات المدينة الخالدة
وشعرك أسود طويل لا ينقصه إلا ضفائر اللؤلؤ
وعيناك أجمل من عيني سافو الشاعرة المجنونة. •••
أنفك كأنف كلوبطرة، وثغرك حق مملوء بالجواهر
وجسمك كأنه صنع ميلو الذي أودعته الطبيعة قوة الخلق فباراها
ولكن قلبك الصغير قطاة تفتأ تخفق بجناحيها
هل لديه سر يريد إظهاره، أم به شوق للوقوف على لغز الوجود؟ •••
تبكين لآلامي؟ كفكفي إنك تزيدينها بلا علم، وأبقيها؛ لتذرفيها في الأيام القادمة
إن دموعك لؤلؤ فلا تسرفي، وأشفقي فإن حرارتها تحرق قلبي
إنني أعرف آلامي وهي تعرفني، ولكن أنت لا تعرفينها فابتسمي
قد يبدد الغيوم الكثيفة شعاع دقيق، وقد تزيل أحزاني المتراكمة بسمة من فمك. •••
يا ربة العلا، تقبلي ما كتبت هدية مني
صحبتني طول عمري وأسهرتني ليالي طوالا
بنيت لك في قلبي معبدا ساميا، ودونت لك صلاة فتحت فيها خزائن نفسي
لا أدعو غيري للدخول في دينك؛ لأنك إلهة قاسية! •••
باركيني يا إلهة العلا واغفري ذنبي
إن نلت رضاك وأردت جزائي فخير جزاء أن تتركيني وشأني
لا تغاري إن بحت لك بسري: إن قلبي تشغله محبوبة جديدة
هي أسمى وأجل منك واسمها الحقيقة!
قال الروح الحائر: ثم تقدم الروح الثالث بخفة كأنه يسارع إلى حرب، ونظر إلينا نظرة مريعة، فقال لي الروح الأول: هذا هو الروح المعذب، وسينشدنا أغنية النار. فأنشد الروح المعذب:
أغنية النار
نأى العهد القديم وا حسرتي!
وصرت وحيدا إلا في صروف الزمن
فيوما بشرق ويوما بغرب
وكلا اليومين طويل بالإحن. •••
فلا الشرق يحلو لي جماله
ولا الغرب يطيب لي مقامه
ولا الدهر يحبوني يوما بلذة
ولا العيش يصفو لي لدى العود إلى الوطن. •••
لي نفس تعذبني مذ عرفتها
هي نفس حائرة لا مستقر لها
هي طائر غريب حزين سجين
وسجنه ذاك البدن. •••
لا ألومك يا نفسي؛ فأنت مثلي فريسة
وهل يلوم رفيق رفيقه؟
إذا تلاقيا في سجن دنيء كأرضنا
نفس لا يقر لها قرار، وجسم نحيل براه الشجن. •••
كلانا يا نفس رهين حبسه
ما جنيت يا نفس ذنبا، وما جنيت، ولكن حكمة في العلا أرادت تعذيبنا
فصبرا يا نفسي ولا تجزعي، فكل عذاب له مدى. •••
يحزنني أننا إن خرجنا من سجننا افترقنا
فأنت أين تذهبين؟ هل لديك عن مصيرك من خبر؟
أما أنا فمصيري مصير سواي من هؤلاء البشر
تراب ودود ثم هيكل لا يروق النظر. •••
يا حبذا لو أحرقوا أبداننا وصانوا رفاتها
تكون رفاتنا لأبنائنا كبعض العبر
أما تلك العظام فإنها تهان
وإن لم تهن تصير غذاء للشجر. •••
يا يدي، كم من حكمة دونتما!
ويا عيني، قد رأيتما العجائب
ويا قلبي، كم أمر جليل وحب كريم وحزن عميق في ثناياك دفينة!
ويا قدمي، طويتما الأرض بأسرها وما طواكما يوما شديد الخطر. •••
كم يد بيضاء ناعمة لمستها!
وكم وجه نضر جميل رأيته!
وكم صوت عذب استوعبته!
وكم أمل حلو تمنيته! •••
وكم ذكرى تملأ النفس حسنا ذكرتها!
وكم ليلة كالدهر طولا قضيتها!
وكم من صحف سودتها وبيضتها!
وكم يا نفسي، وكم هل عددتها كلها؟! •••
في طرفة عين تصير جميعا حديثا مضى
وأنا سيرة مختلط بسوئها حسنها
هذا ولا الأجرام يعتل سيرها
ولا تقف حركة الأرض لحظة، إنما يرد إلى الأرض طينها. •••
ردوني يا قوم دخانا يطير إلى العلا!
فقد أحببتها!
وهي التي أشقتني سنين وأسعدتني دقائق
وهي التي حدثتني وحدثتها. •••
النار عنصر لا يماثله غيره
هي روح دقيق نراه ويغيب عنا فهمه
هي رمز لرب موسى الكليم
قال لي عابد: لو فقهت معنى النار عبدتها. •••
قلت له: وماذا يجديك حبها؟
قال: هي مصدر الحياة؛ لذا أريد تقديسها
هي خلاصة الشمس، هي روح الورى
يا حبذا يوم يضمني لهيبها. •••
قلت: هلا طلبت النار حيا فذقتها؟
قال: أنا نار، ونفسي نار ! وقلبي نار ، وكل ما تراه إنما هو شعلة!
فقلت: وما قولك في جحيم جاءت بذكرها أدياننا؟
قال: أذكاكم أكثركم ذنوبا حبا في نارنا. •••
رأيتها يوما في حجرة فراشها أحمر كالنار
وخداها لهما لون كلون اللهب
وعيناها ترميان بأسهم من نار
فدنوت منها ولمستها فشعرت في قلبي بالنار. •••
وحادثتها، فقالت كلاما أشعل نفسي كما تشعل الحطب النار
ثم رأيت شفقا في الغرب كنقطة من نار
فقبلتها فأحرقت قبلتها فمي فصرخت من شدة الألم!
قالت لي: أنا النار بيدي الإيجاد والعدم!
ثم تقدم الروح الرابع وهو شيخ بين الأرواح له لحية وشعر منسدل وكأن شعر لحيته، ورأسه لبياضه كالجليد، وبيده قيثارة وعكاز على شكل القلم، فقال لي الروح الأول: هذا هو الروح المؤرخ، سينشد لنا أغنية يصف فيها صروف الدهر وحوادث الأيام. فهمهم الروح المؤرخ، ثم انطلق بصوت كالرعد يتغنى:
عروش الجبابرة
فر تيبير إذ هاج سخط الورى
وولى من رومة هائما مدبرا
كذا سخط الشعوب مشتت شمل الظالمين
ومبدل سكنى القصور بأدنى القرى. •••
خاف جبار أن يحيق بعزه ما حاق
بعز أسلاف له أذاقوا رومة علقما
فخلى قصورا باذخات وراءه
وعزا مقيما وعيشا رخيما ومجدا طائلا. •••
وخلف عرش أوجست العظيم وهو باك فراقه
والكابيتول والفورو ونهيرا ساد الأبحرا
ولكنه فر من شعب غضوب وجيش ناقم
وسخط الشعب كسخط الرب لا يتقى. •••
إلى أين يا من سدت الرومان جميعهم؟
وكنت بالأمس ملكا مطاعا بل إلها أكبرا؟
ويا من قدت الجيوش وسيرتها
ويا من فرت لذكرك أسد الشرى. •••
ويا من هلعت قلوب القوم إن تكدر صفوه
ويا من أجاب نداءه الشرق والغرب معا
ويا من ملكت الأرض بأسرها
ويا من إذا خطرت ببقعة تنحوا وقالوا: قيصرا! •••
لي صخرة بالبحر بقيت من قارة الجن أثرا
جزيرة ذات حسن فاقت به الجزرا «كابري» عروس الماء كعنقود الثريا في الدجى
جزيرة أورثت سبيلها مذ سكنتها خطرا. •••
شاد تيبير حصونا في جوانبها
وأودع كل حصن من جنده نفرا
وقال: الويل لكم إن مرت بالحصن سابحة
ولم تحيطوني بأمرها خبرا . •••
واعتلى كاهل الصخرة وشاد له قصرا
آية في الإحكام بناه إنسان يحارب القدرا
صخور عاليات كأنها رماح صوبت نحو النجوم
ودعائم تكاد علوا تلمس القمرا. •••
وقال: هيهات أن يدنو من قصري ابن أنثى
أنا إمبراطور رومة! أنا سيد الأرض أملك البحر والبرا
أقارب الموج والريح والسما
أنا إله الخلق من أرى منهم ومن لا أرى. •••
حملت خير رومة يا تيبير ولم تبق في بستانها ثمرا
حملت المال وما فتئ المال يقضي به أمثالك الوطرا
وحملت أبكارا وغلمانا لم يعرفوا دنسا وحملتهم ذنوبا
وصيرت كابري جحيما أذاعت ناره شررا. •••
دعوت الجزيرة جنة الفردوس؛ لأنها حوت ما اشتهيت
لقد لوثت الاسم وخدعت نفسك!
وأمنت إذ جعلت في كل ركن عينا ترى
ولكن القضاء إن حل أفقد البصرا. •••
في كل يوم أحدثت مذبحة
وفي كل ليلة قتلت عفافا وطهرا
ولشد ما أبكيت وسالت عيون الحسان دررا
وهل يرق جلمود، وهل يحن صخر، وهل يلين مخلوق لم يألف البشرا؟! •••
مغاور الجزيرة الزرقا جرت دماء مدنسة
وأرضها صارت لكثرة ما استقبلت حفرا
والبحر استغاث كلما هوت من صخرك العالي فريسته
وجاشت نفس نبتون فأغرى أربابا سواه فأضمرت لك الغدرا. •••
أتذكر إذ قدت العذارى وهي عارية
وأمرتها أن تسبح بماء كأنه فيروز جرى
ومتعت عينا غير قانعة
ثم اكتفيت فأمرت ببطونهن أن تبقرا. •••
فجرت دماء الغيد كالياقوت حمرا
فكأن لونها القاني ولون مغارة كابري من أبدع ما يرى
وراقك اللونان فقصدت الحسان مرة بعد أخرى
وسعدت بأبشع الآلام يا أقسى الورى. •••
أتذكر إذ عبثت بالأطفال اليافعة
وأطلقت عليها الثعبان ينهشها
فسرت سمومه في مجاري الحياة اليانعة
فاستغاثت منك شياطين سقر. •••
حصنك العالي يا تيبير يقيك كل عدو مداهم
وصخرك الأشم يحميك إذا حاق الخطر
وجندك لا تغمض عيونهم
حظك لذيذ الرقاد، وحظ حراسك طويل السهر. •••
كم عدو ألقيت من أعلى صخرة
كما يلقى الفتى عن مقلاعه بالحجر
فهوى إلى قاع اليم مهشما
واغتاله البحر اغتيال الرمل رذاذ المطر. •••
كم سر عميق في جوف البحر العميق دفنته !
وكم جرم خفي كتمته قبيل السحر!
وكم حسناء أسلت دماءها!
لترى رائع الموت في ضوء القمر. •••
أمنت الدهر يا تيبير واحتقرت عقابه
وحسبت كل شيء مسيرا في ركابك حتى القدر
إذا هاج الشعب قتلت شيوخه
فهابك الصغار والخوف داء الصغر. •••
غضب الإله الحق يا من سلبت نفوذه
وأراد بك شرا استحققته
وإرادة الرب ليس منها مفر
سوف يروي التاريخ ذكرك قصة، وفي كل قصة لنا عبر. •••
أوحى الإله للخلق أن يغضبوا
غضب الشعب وكفى
غضب الشعب من غضب الإله
غضب الشعب بداية سخطه، فانتظر! •••
أنجلو فتى صغير السن كبير الأمل
نفخ الله فيه من روحه
كان يصيد الأسماك يعول منها أسرة
وشاءت الأقدار أن يكون مثالا للبشر. •••
رأى أنجلو قصرا شامخا أبصار الورى حوله خاشعة
دعائمه ناطحت السماء تعاليا
ورماح حراسه تذيب الغيوم السابحة
وتماثيل تيبير بأركانه، رب يخاف ويتقى. •••
رأى أنجلو شعبا معذبا
يسام الخسف ويسقى الألم
ذل قوم ليمرح واحد
والظلم لا ترضاه أقل الأمم. •••
كان أنجلو شجاعا لا يخشى الردى
واثقا بذاته ما دام في فعله مخلصا
يحب الناس أكثر من نفسه
يود لو يشقى ليسعد غيره. •••
ترك الصياد الشباك وخلى السمك
وقام ينادي: «أفيقوا من سباتكم.»
فقالوا: جننت يا صبي، إنك جاهل
وهل فاز معاند من إذا قال فعل؟! •••
أيقوى الثرى أن يسامي الثريا في السما؟
أو يريد الدود أن يطارد الأسد؟!
أو تريد - يا قليل الحول - أن تقاوم مالكا
تخر له الأفلاك إذا مشى؟ •••
قال أنجلو: إن المحال حجة من عجز
وليس عرش ظالم بباق حتى الأبد
اعزموا تتهدم دعائم من ظلم
ويهوي علاه كما تهوي أوراق الشجر. •••
عبس الجمع وتولى ساخرا من حقير يسامي الملك
وقالت أمه: أنجلو، لا تقل يا ولدي ما تعتقد
لئلا تصير طعاما للسمك وتتركنا عيلة بلا رجل
وبكت واستبكته، ولكنه لم يحل. •••
خلا أنجلو بذاته، فحار في أمره
وصار يسائل الأرض والبحر والسما
صخور كابري لا تجيب نداءه، ولا البحر الصامت الخالد
ولا كواكب الليل؛ لأنها أعين ترى ولا تنطق. •••
ساد السكون وتجلى جمال الدهر
وجاء الوحي مخترقا حجاب الدجى
سمع أنجلو في وحدة الليل الرهيب نداءه «اصعد إلى القصر واهزز عرشه!» •••
صاد أنجلو سمكا نادرا بهي اللون كأنامل النسا
وولى يحمله لرب العرش هدية
فلما بلغ سفح الجبل رأى حارسا
ولكن حباه سواد الليل ثوبا قاتما. •••
قضى ليله صاعدا صخرة تعليه وأخرى تخفضه
في كل خطوة يرنو متلفتا
وصوت السكون نذير الوجل
ولكن في قلبه صوتا هامسا كأنه صدى صوت الأمل. •••
قال والقوم حوله: «المحال حجة من عجز.»
كأن كليمته نبراس يضيء سبيله
وكأن صخور البحر حبت بالثبات فؤاده
وتلاطم الأمواج أنغام تشجع قلبه. •••
تسلق أنجلو جدار القصر قبيل الشروق ببرهة
ثم بدت الشمس من خلف الجبال العالية
عين الإله أطلت على الورى لتكسو الأرض نورا باهرا
فاستوقف ذاك الجمال جنان الفتى. •••
طلعت الشمس كقرص من ذهب
وألقت على الماء شباكها وصبغت عسجدا غصون الشجر
الماء عن بعد زبرجد سائل
وفيزوف يتنفس دخانا ترحيبا بالضحى. •••
رأى الحراس شخصا قادما فهالهم؛ لأنهم لم يظنوه من البشر
حصن تيبير مقدس لم تطأه بغير علم ربه قدم
من ذا الذي لم يرعه الخطر؟ بهتوا ولم يجسروا أن يدنوا ...
ما هذا الحقير؟ أشبح زائل؟ أم رسول من العلى؟! •••
قيصر لا يزال في فراشه، ما عرفت عيناه سوى نور الشفق
قضى الليل في جحيم مذهب
كذا اليوم يقضي في رقاد مزعج
ومن يحظ بصفو الليل يلق في النهار الكدر. •••
استأذن الحراس على قيصر ودنا رئيسهم على حذر
وقال: إنسان تسلق صاعدا
قال تيبير: تسلق ماذا؟ أجب!
قال الرئيس: تسلق يا مولاي سياج القصر. •••
قال تيبير: قل رام أسباب السماء بسلم
ولا تقل تسلق قصر رب هذا العلا
قل: شاء إنزال كواكب الفلك
ولا تقل: استهان إنسي بعرشنا. •••
تمنطق تيبير وسار إلى ساحة القصر مسرعا
كمن يريد خرق الأرض أو بلوغ السحب
غضوبا حانقا، ولكن في فؤاده دبيب الذعر
فلما دنا رأى فتى صغيرا عالي الجبين بهي النظر. •••
تقهقر الحراس إذ بصروا برب البرج قادما
وابيضت وجوههم لما رأوا في عينه نار الغضب
وقال الكل: اليوم غاية عمرنا، اليوم حل بنا قضاء القدر
إلا الفتى الصياد تقدم باسما وألقى بأسماكه تحت أقدامه. ••• «هذي يا مولاي أسماك حملتها إليك هدية
أحسن ما صدت وصاد آبائي منذ القدم
انظر إليها حمراء دقيقة
كأنها أنامل حسناء تلمس نحرها وقت السحر.» ••• «أنت من؟ وكيف بلغت رحابنا؟
وكيف جزت الصعاب ولم يدركك الحرس؟» «أنا فتى حر أريد أن أبدي لأمثالي المثل
فقد نزهوا عرشك عن أن ينال. •••
تسلقت القصر وجزت الصعاب إليك
ليعلم القوم أن أعلى الحصون تمنعا قد ناله أدنى البشر
وأن صيادا حقيرا أراد فلم يعجز عما طلب
وها أنا يا ظالم أهز أرفع عرش في الدنا.» •••
بدا الغيظ الشديد في سحنة الضبع النهم
ورأى الحراس طيف الفناء حول الفتى حائما
وحاول علج بينهم أن يسل حسامه
فقال تيبير: مكانك، هذا فريستي! •••
ومد معصما لم يعرف لذة العمل
خلفه صراع الوحوش ملفوف العضل
ونال أنجلو من منطقة حول خصره
فكأنهما ذئب وحمل. •••
وراح الغشوم ثابت الجأش مبطئا
حتى دنا من صخرة أطلقوا عليها اسمه
استغاثت مما سقاها من دماء البشر
وطوح بالفتى ثم ألقى به فهوى. •••
هوى أنجلو إلى البحر مهشما كما هوت ألوف قبله
ولكن الهواء والجدران والصخور رددت قوله: «أعلى الحصون تمنعا قد ناله أدنى البشر
ليس عرش ظالم بباق حتى الأبد.» •••
تولى الرعب فؤاد تيبير فلم ينم
أينما حل رأى شبح الفتى وأقلقه صوته «أعلى الحصون تمنعا قد ناله أدنى البشر
ليس عرش ظالم بباق حتى الأبد.» •••
سقت نفس أنجلو في كل حي بذور الأمل
وعلم الشعب مقدار بطشه
ولم يطل عهد تيبير بعد ذلك أشهرا
وسار ذكر أنجلو في الأرض مسير المثل.
قال الروح الحائر: فلما سمعت هذا واستوعبته نظرت حولي فإذا الأرواح الشاعرة قد انصرفت، فحملت إليك كلامها.»
الليلة الرابعة عشرة1
أناشيد العلا
كنت أدون أسطرا في صحيفة، فدخل الروح الحائر وبيده المصباح، قال: «ماذا تكتب؟» قلت: «أعبر عن عواطفي بألفاظ البشر الموضوعة لغير ما نريد بيانه.» قال: «طالما دونت مثلك، وكل ما دونت مدفون.»
قلت: «وأين تلك المدونات؟» قال: «وما حاجتك إليها؟» قلت: «إنني لم أقرأها في حياتك الأرضية، فلعل فيها ما ينفعني فأتلوه أو ينفع الناس فأنشره.» قال: «إنها في المنزل الذي خلصت فيه من الثوب المادي في صندوق خشبي عتيق في حراسة صاحب الدار، وهي كل ما تركته من متاع الدنيا.»
قلت: «إني ذاهب إليه؛ لأحصل عليها.» قال: «لك ما تريد.» ولما كان الصباح قصدت المنزل القديم وحصلت من صاحبه على لفائف من الورق المكتوب، فقرأت ما فيها، فإذا بها فصول شتى كتبت في أحوال متباينة، أذيع بعضها وأحتفظ بالبعض، والذي أذيعه «حديث العلا» وهو مجموعة أناشيد شتى. (1) حديث العلا
النشيد الأول
يا إلهة الشعر! يا أشرف الملكات، يا صوت النفس والوجدان!
يا ملجأ الحزين، وموئل الشاكي من بني الإنسان!
يا أيتها النفس القوية الجميلة المجهولة، يا ذات العطر الضائع في كل زمان ومكان!
يا ترجمان الفؤاد، ولسان القلب، ومنطق الطبيعة!
أنت المعبودة التي لا ينأى عن تمجيدك إلا ذوو النفوس الضعيفة الجامدة، أنت سيدة الآلهة في هذه الأرض وأشدهم قوة وأنضرهم شبابا وأفصحهم بيانا.
عبادتك ترجع إلى القرون الأولى قبل أن يعبد باكوس وقبل أن يسجد للزهرة.
لقد أنطقت لسان آدم الأول مذ التفت فبصر بمخلوق جميل أسماه حواء.
أنت أنطقت لسانه مذ نظر إلى ما حوله من جمال الطبيعة وحسنها فخر ساجدا.
لقد ضقت بك - أيتها المعبودة - ذرعا، وأنا اليوم لا أستطيع صبرا.
لا أقدر على السكوت يا ربة الشعر، فلا سبيل إلى الكتمان.
لم تضعي في نفسي ميزانا يزن الألفاظ، ولم تمنحيني مصقلا أصقل به الكلام، ولم تهبيني زورقا ذهبيا أخوض به عباب أبحر الشعر.
لم تهبيني نفوذا شاملا على المعاني الجليلة لتجيبني إذا دعوتها، لم تعطني موهبة من مواهب الشعراء السعداء الذين يعبدونك.
فاعذريني إذا لم أفاخرهم بألفاظ كألفاظهم لها رنين في الأذن وطعم حلو في الفم.
اعذريني يا ربة الشعر إذا كانت المعاني السهلة المنال التي أظفر بها لا تبهر من يقرؤها.
اعذريني إذا خلا تسبيحي إياك من الجلال والجمال اللذين لا يليق في حقك تسبيح بدونهما.
واعتقدي يا ربة الشعر أني أعشقك وأعبدك ولا أنساك في صحوي ورقادي!
قد يكون أقل العاشقين بلاغة أشدهم غراما.
أنت - أيتها الإلهة الجليلة - التي تظهرين لي ساعة فتحلين عقدة من لساني، وترفعين غطاء من الأغطية الكثيفة التي تحجب الحقيقة عن جناني!
إني أبهج بذكرك!
أنت - أيتها الإلهة - تقربين مني حتى إذا حاولت أن ألمسك غبت وذبت أمامي كما يذوب الحلم الجميل قبيل اليقظة.
أنت التي أمليت علي إذ كنت بأعلى الجبل قولا بديعا، وأريتني أعظم ما يرى، واستنزلت على نفسي أسمى ما ينزل به الإلهام، فلمحت بين النخيل عند غروب الشمس وجها دام برهة ثم اختفى.
فخررت صعقا، ولما تنبهت لنفسي رأيت رأسي على حجر ووجهي سابحا في بحر من دموع الخشوع والفرح.
أنت - أيتها الإلهة - أدركتني على شاطئ البحر، وأوصيت الحياة، فأخذت أصرخ من أعماق قلبي حتى كاد صوت الأمواج المتلاطمة يخفت بجانب صوتي.
كنت - أيتها الإلهة - أعبدك سرا وأخفي أمرك عن غيري، واليوم عجزت عن الكتمان، فها أنا أعبدك على رءوس الأشهاد، إن العاشق يبقى زمنا ما كاتما حبه ووجده حتى إذا يئس باح؛ لعل المحبوب يشفق، أو لعل العاذل يرحم، إنني اليوم كذلك، وإن لم أكن يئست منك ولن أيأس أبدا، جئت أبوح بهواي؛ لعلك ترحمين أو تشفقين! •••
جئت - يا إلهة الشعر - أستعين بك على إلهة قاسية جميلة مثلك، أعطيني قيثارتك وصوتك! أعطيني وترا من أوتارك؛ لأوقع عليه أنغام النفس المعذبة!
إن الإلهة التي أشكو منها وإليها لا تزال في عنفوانها وقد هرم الدهر، إنها أهلكت الأمم والأجيال وأفنت الشجعان والأبطال، ولا تزال تتطلب المزيد!
إن لها في كل يوم ألف فريسة، وتلك الفرائس كلها غالية عزيزة، ولكن الإلهة القاسية لا تعفو ولا تصفح، إنها تبذلهن جميعا وتهرق دماءهن وهي باسمة مسرورة؛ لأنهن يذهبن سعيدات.
إن تلك الإلهة هي التي عبثت بسقراط وهنيبال وقيصر وأتيلا وبونابرت وهوش.
وعبثت بآلاف مثلهم من قبلهم وستعبث بآلاف بعدهم، ولكن يظهر لي أن الفرائس الكبرى هي التي لا تعرف أسماؤها، أما التي نعرفها فهي أصغر بكثير ممن لم تذكر.
إن هذه الإلهة القاسية تسمى «العلا». •••
لو سألوني عنك أيتها الإلهة، وطلبوا مني وصفك عجزت، ولكنني لا أنكر وجودك الذي أشعر به كوجودي، حبك يملأ نفسي ويفعمها، إنك ممتزجة بعواطفي ودمي، إنك - أيتها الإلهة القاسية - تجرين في عروقي، أنت واضحة مبهمة، ظاهرة غامضة.
إذا شئت أن أنحت لك تمثالا أو أنقش صورتك على لوحة ترتجف يدي وتعجز عن إتقان شكلك، وسرعان ما تفرين من أمامي كأنك بنت الغابة في الطراد.
ولكن قد لمحتك مرة رغم إرادتك! رأيتك إذ كنت يوما في أشد حالات الضيق والأسى، وقد اسود بياض الدنيا في عيني، يوم كنت أرى نفسي محقا مهضوما وغيري ظالما ظافرا، يوم رأيت الحياة عبثا والجهاد عبثا والثبات جبنا والصبر نوعا من الجنون، يوم تملكني اليأس وأحاط بي، يوم حاولت أن أشرب الكأس التي شربها سقراط؛ لأخرج من المعركة الدنيئة التي طوحت بي فيها يد القضاء الظالمة فظهرت لي!
نعم، رأيتك بوجه لا أنسى جماله وقوته، ورأيت جبينك الوضاء مشرقا كأنه مهبط وحي جليل، ورأيت في يدك اليمنى مصباحا من نور وأنت تشيرين به كأنك ترشدينني إلى السير إلى الأمام وفي اليد الأخرى إكليل من الغار تومئين به نحو رأسي!
فتنبهت من سكرة اليأس ونظرت إليك طويلا، ولم أخجل من جمالك وقوتك، ولكنني قلت لك بصوت أجش لم تسمعه أذناي: «من أنت؟ تكلمي!» فدنوت مني، ووضعت قبلة على جبيني ثم قلت بصوت لا يزال دويه في نفسي: «أنا العلا.»
فنهضت وحاولت أن أمسك بذيلك، فطرت عني بأجنحة لم أرها، وطارت نفسي وراءك شعاعا، ثم صحوت الصحوة الكبرى، ولمست جبيني فإذا عليه لؤلؤ العرق الرطب، ولمست بدني فإذا أنا لا أزال أرتجف من أثر قبلتك كأنني معشوقة ضعيفة بين يدي عاشق جميل قوي! هذه حمى العلا!
من تلك الساعة بعثت في هذه الحياة بعثا جديدا، ولبست للعيش ثوبا قشيبا، وقابلت الدهر والقضاء والفقر والحزن والألم بقلب قوي وثغر باسم.
منذ تلك الساعة هزأت بصحتي وراحتي، وبذلت لأجلك السعادة والهناء، منذ تلك الساعة شعرت بقوتي وشبابي!
منذ تلك الساعة طلقت الحياة «الدنيا» طلقة بائنة، ورأيت كل شيء دون الحظوة بقربك دونا.
منذ تلك الساعة رأيت الدنيا بأسرها هينة في جنب رضاك
منذ تلك الساعة شدت لك في قلبي معبدا أمجدك فيه كلما خلوت بنفسي. مصائب الدهر كلها تزول عني إذا عزمت على الصلاة لك، والوحوش الضارية التي تسمي ذاتها «إنسانية» تخضع لي إذا ذكرت اسمك، إن ألد أعدائي يحبونني لأجلك، وأقرب أصدقائي يبغضونني لأجلك!
إنني أعيش بك ولك! وبك ولك سوف أموت!
النشيد الثاني: حذار! لئلا لا تنال الجائزة!
أيتها الإلهة القاسية، إنني منذ عبدتك نسيت كل شيء دونك ووهبتك كل شيء، وهبتك حياتي وسعادتي، فماذا وهبتني؟ إنك وهبتني خيالا عذبا وفكرة جميلة تسليني، ولكن هيهات أن تتحقق!
اسمعي يا ربة المجد!
ألا تذكرين يوم كنت في قرية جميلة بجانب منبع ماء عذب وحولي غابة كثيفة أشجارها الباسقة ذات السموق تناطح السماء، والسكون حولي هادئ شامل، وبين يدي فتاة حسناء تعارفت نفسانا لأول وهلة، فدنوت منها وجلست بجانبها وأصغيت إلى خرير الماء، ووضعت يدي في يدها، وأخذت أقلب أجفاني في صحيفة جبينها تارة وأخرى في صحيفة السماء، ثم وضعت يدي على جبينها فاضطربت وارتجفت ودنت مني رغم إرادتها، ولم يكن بين ثغري الملتهب وجبينها إلا قيد شعرة، فتجليت أنت أمامي بجمالك الباهر وقوتك القاهرة وصرخت في أذن نفسي بصوت لم يسمعه سواها مشيرة إلى إكليل الغار: «حذار! حذار! لئلا لا تنال الجائزة!»
فانتفضت ونهضت ذعرا كمن رأى ما يهوله في حلم عميق، وابتعدت لساعتي عن المرأة، بل أبعدتها بيدي كأنني يوحنا يبعد سالوميه.
إنني - أيتها الإلهة القاسية - أخرجت قلبي من صدري بيدي وألقيت به تحت قدمي وسحقته سحقا، وحبست عواطفي في سجن من الجفاء والغلظة كما يحبس الساحر نفرا من الجن في إبريق سليمان، وإذا عبث عابث بذلك الإبريق وأطلق سراح عواطفي فإنني منها براء؛ لأنني إذا تركتها في سبيلها حرمت الجائزة!
لقد جعلت نفسي - أيتها الإلهة الغيور - بلا قلب ولا عواطف؛ لأنك لا تحلين الجمع بينك وبين معبود سواك.
أتذكرين - أيتها الإلهة القاسية - إذ عثرت ببيت جميل فيه فرش وثير ورزق كثير وقلوب تحبني ونفوس ترجو رضاي، فلما أن أويت إليه واطمأننت إلى العيش فيه تجليت علي في أسعد أويقاتي وهتفت في أذني: «أراك استوعبت النعيم، واستعذبت العيش الرخيم، فانهض وإلا لا تنال «الجائزة»!»
فقمت من مكاني ورأيت أن الحلم اللذيذ لا يطول، فتعلق الناس بي وقالوا: إلى أين أيها المسافر الذي لا يلقى له رحل، والطالب الذي لا يشبعه علم، والطامح الذي لا يرضيه مجد، فقلت: لقد كتب علي أن أطوف الأرض وأن أطفئ ظمئي بالحكمة، وهيهات أن يقر لي قرار أو يعرف ليلي من صبحي!
أيتها الإلهة القاسية، لو أن الطبيعة الظالمة مدت في أجلي، وذرعت فضاء المعمور والمهجور، وطفت الصحاري، وخضت غمار البحور، واستوعبت حكمة البشر، وعركت الدهر حتى غالبت القدر؛ فهل أنت قانعة بذلك مني؟ وهل أنت قائلة: لقد نلت - أيها الشقي - بحبي تلك الجائزة؟
لقد أعطيتك حياتي وعقلي وراحتي، فماذا أعطيتني أيتها الإلهة القاسية؟
أعطيتني آلاما لا أطيقها، وحيرة لا أخرج من حبالتها، وشكوكا لا يقين وراءها، وليلا مظلما لا فجر بعده!
إنك تمنينني بالخلود! وما هو الخلود أيتها الربة الخادعة؟
أليس هو بقاء ذكر فان في أرض فانية؟! أليس هو سطر يكتب في الهواء لتذروه الرياح؟! أليس هو خيال كلما تبعته تركني، وكلما اقتربت منه ابتعد عني؟!
إن الأهرام مهما رسخت جدرانها وتوطدت قواعدها والتحمت صخورها لا بد زائلة. وقد نظرت يوما إلى الغمام الذي يسبح فوقها في بحر من الأثير، وسألت نفسي: أي الاثنين أخلد؟ أتلك الصخور الراسخة الباذخة أم تلك الأمواه التافهة المتجمعة في كتلة تحولها وتذيبها أشعة الشمس اللطيفة؟
نظرت إلى حبات الرمل الحقيرة التي تعد في موضع القدم بالملايين ، وسألت نفسي: أي الاثنين أخلد؟ أتلك الأهرام العظيمة ذات الأحجار الجسيمة أم تلك الحبات الحقيرة؟
نظرت إلى ذرات الأثير في الهواء، وهي لا ترى بالعين ولا تلمس بالكف؛ لأنها ألطف من اللطف، وسألتها: أأنت أخلد أم ما شاده مائة ألف من بني الإنسان في ثلاثين عاما من الزمن؟
فأجابني الغمام وحبات الرمل وذرات الأثير: «ألا إننا جميعا أخلد من أهرامك الزائلة؛ لأننا كنا قبلها وبعدها سنكون، أما هي قبل رفع دعائمها فلم تكن وبعد انقضاضها لن تكون!»
أليس هذا هو الخلود الذي توعدون؟ إن حبة من الرمل وقطرة من المطر وذرة من الأثير أبقى على مدى الدهر من حياة الإنسان وأعظم أعماله!
بل ماذا فخرنا وخلودنا؟ وما هي تلك الإنسانية المعذبة الضالة المضلة؟ ألا يذكر اسم كاتيلينا كلما ذكر اسم شيشرون؟ ألا يخلد اسم الإسخريوطي خلود اسم المسيح؟
يا نفسي الضعيفة الجاهلة، ويا فؤادي المعذب الضال، كيف السبيل إلى القوة والعلم؟ كيف الطريق إلى الهدى والسعادة؟
يا قوى الأرض الظاهرة والكامنة، يا أسرار الحياة الواضحة والباطنة، هل عندك لتلك الأسئلة من جواب؟ بل أنت أيتها الإلهة القديمة، يا ذات التصرف في العوالم كلها، هل لديك قول فيه فصل الخطاب؟
إن حكمة الفلاسفة مذ كانت البسيطة في طفولتها وحنكة العلماء بعد أن بلغت الإنسانية كهولتها وكتب السماء والأرض؛ كلها عاجزة عن الجواب.
إن الناس حولي يذهبون ويجيئون، وهم في كل لحظة يحزنون ويفرحون، ويعيشون ويموتون، وإن لهم لأصواتا يملأ دويها الفضاء، ويضيق دون تموجاتها الهواء، ولكنني إذا ألقيت على الإنسانية سؤالي سكنت حركتها، وهدأت أصواتها، وصمتت أفواهها، ورفعت أيديها إلى عل كأنها تظن به ما يشفي غليلها ويطفئ نارها، ثم تعود مطرقة برأسها إلى الأرض بندم يخالطه اليأس!
مسكينة أنت أيتها الإنسانية! إنك مخدوعة كما يخدع عشاق المجد، إن ما يخدعهم وهم باطل، إكليل من الغار يظهر أمامهم ويختفي، ستضعه الربة الخادعة على قبورهم لا على رءوسهم.
أما ما يخدعك أنت فأكبر وأعظم ولكنه خيال.
إننا جئنا إلى هذه الأرض اعتباطا ، ونعيش فيها، وسنذهب عنها كذلك، وحظنا في يد قضاء أعمي ظالم يقسم بيننا الأفراح والأتراح بلا عدل ولا نظام.
أيتها الربة الخادعة، كم أقبلت على لذة أحتاجها! وكم تعلقت بمخلوق أحبه! وكم سكنت إلى مكان أرتاح إليه؛ فحرمتني لذتي، وأبعدت محبوبي، وأقفرت مسكني، وقلت لي: إياك واللذة والمحبوب والراحة؛ لئلا لا تنال الجائزة!
إنني لا أزال أسيرك بعد أن كنت تبينت غدرك وخداعك، إن قوة كامنة فيك وخفية عني تجذبني إليك رغم إرادتي، ترى أتدري الإبرة سر الشمال؟ أم يدري الفراش معنى اللهب؟
إنني فريسة ظالمين لا يشفقان ولا يرحمان: روح حائر، وحب قاهر؛ الأول لا يقر له قرار، والثاني يجلب العذاب والضجر!
النشيد الثالث: تعذيبي وتعليلي
رأيت نفسي في الطريق وحيدا بعيدا عن الناس، غريب الوجه فيهم والقلب والجنان، فتأملت قليلا في حالي وأطرقت ثم بكيت.
بكيت طويلا؛ لأنني غريب هنا، وغريب هناك، غريب في وطني وغريب في سائر الأوطان، أشعر بأنني في حلم عميق تنبهني منه كبار الحوادث، فلا أوشك أن ألتفت حولي حتى أعود إلى وادي التيه الذي أهيم وأتألم فيه.
إن آلامي كتيار الكهرباء، إيجابية وسلبية؛ آلامي الإيجابية هي التي أشارك فيها غيري من البشر إلا أنها مضاعفة حادة، ما يخدش سواي يجرحني جرحا مؤلما، وما يجرح غيري يدميني، مت مرارا وبعثت، نعم، مت، انفصلت عن العالم مرة واحدة، وسكنت نفسي واكتفت بذاتها، ثم عدت إلى الحياة من جديد، لنفسي في كل حين سياحة تطوف فيها بعوالم غريبة وتزور فيها شقيقاتها ثم تعود، وبعض هذه السياحات قصير وبعضها طويل.
بعضها لا يدوم أكثر من لحظة وبعضها يطول أشهرا.
وما الموت إلا إحدى تلك السياحات!
أما آلامي السلبية فهي لي وحدي، وليس لها سبب معروف؛ تعذيب مستمر، وتعليل طويل، لا تمضي لحظة إلا ولي ألم جديد، أريد شيئا ولكن لا أدري ما أريد، لقد جئت إلى الحياة فوجدت بها قوما لا أعرفهم؛ فاتخذت لي ركنا ولزمت الصمت.
إنني أشعر بنقص فيما حولي، وسأبقى مصغيا مشرئبا متطلعا التماسا لصوت ألفته أذني ووجه تعودته عيني ونفس تفتقدها نفسي، ولكن صوت من؟ ووجه من؟ ونفس من؟!
أيتها الإلهة الجليلة القاسية، إنني ألتمس صوتك ووجهك ونفسك! إنني أشتهيك كما يشتهي العاشق معشوقته، إن الحب الأفلاطوني لا يكفيني، أريد حب أبيقور، أريد أن أتمتع بك، أريد أن أعبث بك وأقهرك كما عبثت بالألوف وقهرتهم!
إن بيني وبينك ثأرا قديما وجهادا طويلا! •••
أمرت واحدا أن يضرب في الأرض ويسير في مناكبها، فهجر وطنه وأهله في مقتبل عمره، وقطع العالم من المشرق إلى المغرب، وهو يهبط الوديان تارة ويتسلق الجبال أخرى، ويعاشر الوحوش الكاسرة مرة ويعرض نفسه لحيتان البحر مرة ثانية، وكلما وهن عزمه أو هبطت همته دفعت به بيدك القوية دفعة أخرى فتجدد فيه ما أخلقه الضنى وأبلاه الضنك، ولا يزال كذلك حتى يلقى حتفه في أواسط القارة السوداء بين نوع من بني الإنسان لا يأنف أن يأكل الإنسان، حينئذ تضحكين ملء فيك، وتتركين جثته الخامدة. لقد تم لك ما كنت ترغبين ولكن ماذا جنى؟ إنك توعزين إلى أبناء جنسه البسطاء فيقيمون له قبرا عاليا، وينحتون صورته في قطعة من المرمر، ويضعون فوق رأسه أكاليل الغار؛ لأنه كان مكتشفا! •••
وهذا الثاني أسكرته بخمرتك التي إذا ذاقها المرء مرة لا يفيق حياته، وقلدته سيفا، وأركبته جوادا، وأشعلت نفسه بنارك المقدسة، وأودعت عينيه لمعة وضية، وقلت له: اصرخ في الناس يهابوك، ومر الجند يطيعوك، واتبعني أفتح لك الأرض وأقلدك صولجانها وأجلسك على عرشها!
فسار ورفع صوته، فأصغت إليه الأمم، وجرد سيفه فوجمت الجيوش، وحمل على الممالك فتقهقرت أمامه الملوك، أشار بيده فسقطت التيجان من على الرءوس، وانثلت العروش، مخرت جنوده الأنهار وراءه، وشق البحر بمهنده فجف ماؤه، واعتلى صهوة جبال الألب، وأذاب بأنفاسه الحارة جليد روسيا، ووهبوه سيف فردريك الكبير، فقال: سيفي أولى وأجدر بي.
نصب إخوته وأقاربه وأصدقاءه ملوكا، وصير لنفسه في كل مملكة بلاطا، مد يده إلى الشرق فسجد أمامه، بعد أن قهر الغرب فقبل أقدامه.
وهبته القياصرة كنوزها، وخطبت ملكات الأرض رضاه ، وأوشك أن يقول لمن حوله: أنا ربكم الأعلى! ونظر إلى وجهك فرأى بسمة فتانة فسألك، فقلت له: إلى الأمام ولو فوق الأجسام.
إنك كنت لا تزالين تشجعينه؛ لأنك كنت لا تزالين تشتهينه
فنظم الحكومات، وسن القوانين، حفر اسمه في لوح الخلود بجانب اسم صولون وفيثاغور، بعد أن حفره فوق أسماء الإسكندر وقيصر وهنيبال.
ثم ماذا؟ ثم استغنيت فتخليت عنه، فهزمه الأعداء شر هزيمة وهو يقود خير الجنود. يقولون: إنه شاخ فنسي فنون الحرب. كلا، يقولون: إنه ضعف ذهنه وكلت ذاكرته. كلا، يقولون: تكاثر الأعداء، وثبات جأش ولنجتون، وحذق بلوشر. كلا! السبب سهل ولكنه غير معروف.
أنت - يا إلهتي المعبودة المحبوبة - استغنيت فأغضيت، أنت - يا ربة الحكمة الكبرى ويا حافظة السر الأعظم - تخليت فأبليت. أنت - يا فاتنة العظماء، ويا خاذلة الأقوياء، وناصرة الضعاف - تحولت فحولت.
كالمعشوقة الصبية تنهك عاشقها فيشيخ، فتنأى عنه لتقرب فتى جديدا.
لو كان هذا العاشق متواضعا أما كنت تحسنين إليه في غضبك إحسانك إليه في رضاك؟ كان لا يريد أن يرغم، ولكنه كان قوي القلب والنفس، فرميت به في جزيرة قحلاء في وسط المحيط، وقضيت عليه أن يقضي ست سنين على الصخر المحاط بالأقيانوس؛ لعله يلين، فلم يزدد إلا قوة، فبطشت فقضى!
لقد اخترت رجلا آخر، ولكنه فصيح اللسان قوي الجنان رحيب الصدر كبير القلب، فانتشلته من بين يدي أبيه الوضيع واخترت له أن يحكم أمة بأسرها!
فتحت له الطريق وأضأت سبيله وجعلته بعين واحدة
2
يرى كل شيء، ألبسته درعا من المغنطيس ووضعت في صوته أنغاما لم يعتد الناس سماعها، وأطلقته يخطب فيهم حتى سحرهم فملكوه قلوبهم، فلما جاء اليوم الذي تعدينه له دفع عن وطنه أعداءه، وقال لأمته الخامدة: انهضي. فنهضت، ثم سيري فسارت.
وأراد أن يخطو إلى الأمام خطوة فقلت له بصوتك القاهر: مكانك. فوقف، فأمطرت عليه مصائب؛ نصرت عليه أعداءه وأعداءك! خطفت من أمامه أمه، وأغضبت معشوقته؛ فهوى كمن هوى من قبل، وواريت رفاته لحدا مهجورا بين وطنه القديم والجديد.
إنني أرى قسوتك بعيني وألمسها، ولكنني لا أستطيع الابتعاد عنك، إنك تجذبيني؛ لأنني أضعف منك، أليس القضاء عبدا من عبيدك؟ أليس الدهر رمزا عليك؟ أليست صلواتنا وتهجداتنا وآهاتنا متوجهة إليك؟
يا ربة المجد، ليس لنا من يدك مفر، ولكننا لن نجهل صنعك، إن علمنا بمسيرنا يعزينا.
النشيد الرابع: مبصر وضرير
كنت في حياتي أستنجد بالقوى الخفية، وأستغيث بالآلهة المستترة، ولكنني منذ اليوم أستنجد بالقوى الظاهرة، وأستغيث بالأرباب التي أراها أمام عيني، كنت أحسب أن كل عظيم لا تراه العين البشرية، وأن عالم الخفاء وحده هو الشامل للعقل العام والنفس المدبرة، ولكنني أصبحت اليوم أرى ذلك العقل وتلك النفس فيما حولي، فيما يقع عليه نظري، فيما يسرني ويحزنني، فيما تشعر به روحي وما يلمسه حسي، في المحيا الجميل، وفي الوجه المشوه، في البحيرة العميقة وفي الجبل الباذخ، في الزهرة البديعة، وفي الشجرة الظليلة، إني أرى العقل العام والنفس المدبرة في عقلي ونفسي كما أراها في كل ذرة من ذرات الوجود.
إذن لا سر هناك ولا ستار، إنما هناك مبصر وضرير، أما الحكمة الكبرى فلم تتغير ولن تتغير، وما رآه سقراط وباح به لتلاميذه واستهان الموت لأجله ما أراه الآن أمام عيني وأكاد أمسكه بيدي. يا معابد مصر الجليلة، احتفظي بأسرارك المكنونة، ويا كهنة لاهاسا، لا تبوحوا بالخفايا المكتومة؛ فلست في حاجة إليها. إن قلبي صار معبدا، ونفسي صارت هيكلا، وعيني اخترقت حجب الوجود.
نظرت إلى طبائع الأشياء فدعتني إلى الإمعان والتأمل. ملأت المطامع نفسي فدعتني إلى العمل، أحببت قومي وأرضي فعلمني الحب الإخلاص، عشقت الرجال والنساء فشقيت في العشق تارة وسعدت أخرى، أبغضت أعدائي واحتقرت حسادي وأضدادي فامتلأ صدري بالعواطف المتضاربة، تمنيت ونلت بعض الأماني وخسرت معظمها، فعرفت كيف تكون لذة الفوز وكيف تكون حسرة الفشل، فارقني أعزتي فراقا أبديا فبكيتهم وبكيتهم، ووقفت على قبورهم حاسر الرأس خاشعا، وسجدت حيال أجسادهم البالية كما سجدت في صباي حيال المسجد الحرام. قاسيت مرارا آلام الجوع والتعب، وشعرت تكرارا بوخزات الحاجة، وكذلك أحسنت إلي الطبيعة حينا فلم تحرمني ما كنت أشتهي إلا قليلا، اتخذت من الناس رفاقا، وأخلصت لهم فلم يخلصوا لي، أحببتهم وأبغضوني، كنت أرجو الخير لهم، وهم يحسدونني، رأيت لي في كل مكان عدوا، وأنا أريد أن أكون صديقا للجميع.
كل تلك الحوادث الصغيرة في ذاتها الكبيرة إذا اجتمعت علمتني معنى الحياة، وكشفت لي الستار عن معظم الأسرار، إن ذنوبي هذبتني وذنوب غيري أرشدتني، تاريخ الأمم رسم لي الخطة الكبرى، وتاريخي أضاء لي السبيل، لم أضف إلى قهقهة الضاحكين إلا ابتسامة فاترة، ولكنني أضفت إلى المحيط الفائض بدموع البشر نهرا غزيرا، وكل دمعة لها عندي قصة، كل دمعة من دموعي ليست إلا ذنبا متبلورا أو عاطفة سائلة في ذمة المحيط العظيم الذي تتدفق فيه هموم الإنسانية؛ تلك الدموع الغالية، إن كان هناك عالم للأرواح فذلك المحيط محلق به؛ لأن النفوس لا تطيق الانفصال عن أحزانها. أحزان نفسي ثيابها، وهمومها طعامها وشرابها.
سأترك سطرا لأبناء القرون القادمة كما ترك لنا مفكرو العصور الخالية أسطرا، إن أبناء كل جيل لا يحبون مفكريه ولا يتعظون بقولهم ولا يريدون سماع صوتهم؛ لأنهم منهم ومثلهم، لأن حياتهم أمامهم، لأنهم يعرفون أشخاصهم، لأن بصرهم وقع عليهم؛ والإنسان قليل الثقة فيمن يعاصره. كل ما يدني الفتى من القبر يدنيه من المجد الحقيقي؛ لأن الموت وحده قادر على أن يزيل ما يحيط بنا من التهم، هو ترياق السموم كلها، هو مطهر الإنسان من عيوب الحياة الفانية.
كان لبعض الناس دين ثم ذهب، وكانت لهم عقيدة، ولكنها ولت، فجاءهم دين جديد، وألبستهم عقيدتهم جديدة حلتها، هذا القول كاف ولا أزيد، ليسوا يخشون أن يعذبهم رجال الدين؛ لأن أقل حسنات هذا الزمان حرية الأديان، وليسوا يخشون أن يبتعد عنهم الناس؛ لأن معظم الناس جبناء ويخافون من يقول الحق جهارا، ثم إذا قاطعوهم فمن هم الناس حتى تحزنهم قطيعتهم؟ أليسوا تلك الموجودات الضعيفة التي يشتريها معدن دنيء يسمى جهلا منها نفيسا؟ أليسوا هم آكلو لحم بعضهم بعضا؟ أليسوا هم الجناة على نفوسهم ثم البارئون من ذنوبهم إلى أرباب لا يعلمونها ولا يشعرون بوجودها؟ أليسوا هم ذلك القطيع الأبله الذي يأبى أن يسير بلا من يسوقه بعصاه، ثم إذا داهمهم الذئب سلموا إليه حارسهم ليفترسه؟ بخ بخ أيتها الإنسانية الآكلة المأكولة! بخ بخ أيتها الأنعام الظالمة المظلومة! إنك لا تستحقين عناية عقل كبير، ولست خليقة بإحسان نفس كريمة.
لماذا طرد فرعون بني إسرائيل من مصر ثم تبعهم بجنوده؟ لماذا سخر بنو إسرائيل من عيسى ثم صلبوه؟ لماذا حاربت قريش محمدا ووصمته بالجنون ورشقه فتيانها بالحجارة؟ لماذا انتقم نيرون من أتباع المسيح بتعذيبهم وإحراقهم وإطعام الوحوش أجسادهم؟ لماذا ذبح الكاثوليك إخوانهم المحتجين كما تذبح الشاه؟ لماذا أحرق كالفان الأستاذ سرفيه، وكفرت الكنيسة جاليليه؟ ولماذا أمر أحد خلفاء الأندلس السوقة أن تبصق في وجه ابن رشد، وأمر سواه بإحراق شعر المعري؟ لماذا وقع جمال الدين أسيرا في الأستانة وبقي فيها حتى قتلوه؟ لماذا قضى أعداء إميل زولا عليه في بيته وهو في جنب زوجته؟
لأن موسى وعيسى ومحمدا وبولس ولوثيروس وسيرفيه وجاليليه وابن رشد والمعري وجمال الدين وإميل زولا؛ كلهم فقهوا ما لم يفقه معاصروهم، وفطنوا إلى كلمة لم يفطن إليها سواهم، وقالوا بما لم يقل به أحد قبلهم.
إذن هي غيرة الإنسان من الإنسان، هذه آثار حسد الجاهل لمن عرف، حسد الضعيف القوي.
حقد الضرير على المبصر، لا أكثر ولا أقل! وقديما كان في الناس الحقد والحسد.
مسكينة أيتها الإنسانية!
إنني الليلة لم أتغن بذكر آلهة المجد، ولكنني رثيت بني آدم.
النشيد الخامس: أين العدل الذي تدعون؟
هل يأتي يوم نفتح فيه قلبنا ونشكو همومنا لمن نحب؟ أم ننزل إلى قبورنا صامتين كاتمين أسرارنا في أفئدتنا الحزينة؟
هل يأتي يوم ننظر فيه إلى الماضي باسمين بسمة ربان السفينة بعد العاصفة عند إشرافه على ثغر أمين يلجأ إليه فيقيه كل خطر.
هل يأتي يوم ننظر فيه إلى الماضي السحيق نظرة الاطمئنان والفوز بعد الصبر المكلل بالظفر؟
أجيبيني أيتها النفس، فقد عودتني الإشراف على المستقبل واختراق حجب الغيب، أجيبيني أيتها النفس ، ماذا ترين مخبأ لنا في ثنايا الأيام وزوايا الزمان؟
كم حدثتني بحوادث صادقة! وكم نبأتني بما لم يكن لي به من علم!
إني أراك تترددين بين الشك واليقين، أراك تختلجين بين النور والظلام.
سبيلك اليوم غير واضح، ودربك وعر، والخطة التي رسمها لك الدهر غير جلية.
مسكينة أنت يا نفسي! لقد أمرضك الصبر الطويل، وأضعفك التمني والتعليل.
رأيتك قديما ذات أجنحة من العزم والهمة، وبصر نافذ كأنك استعرته من نور منرفا، وقلب قوي يقودك بجأش ثابت إلى أصعب المعارك وأوعر السبل، فكنت تحلقين بأجنحتك وحيدة كالنسر الجليل إلى أرقى سموات الفكر البشري، وتخرقين ببصرك الحاد حجب المجهولات والخفايا، وتقاومين بقلبك أشد العقبات وتتغلبين عليها، كنت - يا نفس - مملوءة بقوة الشباب، كنت بين النفوس بكرا ذات جمال وعفة.
أما اليوم فقد نالت منك الخبرة منالها، ولقنتك الأيام درسا مرا؛ فقللت من حدتك، وألانت من شدتك، وعلمتك الوقوف عند حدك.
ولكن أيتها النفس هل لك حد تقفين عنده؟
هل هناك أفق ينتهي لديه بطشك؟ هل في الكون كله دائرة لا مجال لك وراءها؟ كلا، أيتها النفس، إن العقل والحق والعدل والطبيعة كلها تبيح لك الكل؛ لأنك الكل في الكل، أنت سيدة مطلقة، ومالكة متصرفة فيما يقع تحت حسك من سماء وأرض ونور وكواكب وبحار وعوالم خفية لا أراها أنا وترينها أنت بعين ترى كل شيء ولا يغيب عنها في الوجود ذرة!
يقولون: الإنسان حقير في جنب الخليقة، وأنه أقل من ذرة حيال العوالم الكبرى. كذبوا! إنهم لا يعلمون، قد يكون الإنسان حقيرا بجسمه، ولكن ليس الجسم في نظري شيئا مذكورا، ولكنه عظيم بنفسه وهي كل شيء.
هل لنا غرض عظيم نسعى لندركه؟ هل للإنسانية التي قضت ألوف الألوف من الأجيال في جهاد ضد العناصر الأولى وضد قوى الطبيعة الظاهرة والكامنة غاية كبرى يسير إليها من يبقى من البشر ممن لا يهلكون في الطريق؟
أم نحن مخلوقون عبثا للتعذيب والفناء؟
لماذا ترفع الأصوات في كل صباح ومساء بالصلاة؟
لماذا تشرق الشمس وتغيب؟
لماذا يسعد قوم ويشقى آخرون؟
لماذا كونت هذه الأرض وملئ سطحها ماء، وتحت الماء نار تتأجج؟
لماذا يساء إلى البعض ويحسن إلى الآخرين؟
لماذا يراد بالبعض شر، ويريد الله بالبعض خيرا؟
لماذا يتحكم الإنسان في أخيه الإنسان، ويساعد الظالم كثيرون، يمنون المظلوم بالهناء والرفاء بعد الممات بسنين؟
لماذا يذنب البعض فيجني غيرهم ثمار ذنوبهم ويحتملون ما كان مقسوما لهم من عقاب وعذاب أليم، أليست هذه قسمة ضيزى وظلم عظيم؟
ترى، تنسى ذنوب من نريد التكفير عن سيئاتهم؟
ترى، تمحى خطاياهم ويبقى لنا نصيبنا من التعذيب؟
إنهم يقولون: في الكون عدل وميزان لا يعتريه اختلال ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويرفعون أصواتهم مهللين كلما انتقم الحكام من مجرم أو كلما وقع ظالم في مخالب مظلوم.
ولكن مكانكم أيها الناس! هذا الذي تهللون وتكبرون لأجله ليس إلا من نوادر الحوادث ومستثنيات القواعد. إنهم انتقموا اليوم من مجرم أوقعه سوء حظه في أيديهم، ولكن كم مجرم يقترف أفظع الذنوب فلا يرى أو لا تناله يد العقاب!
وإن انتقمتم اليوم من ظالم لمظلوم فكم وكم من ظلام فروا، ولم تنلهم يد العدل الذي تدعون! وكم من ظالم يعاصرنا نرى ونسمع ونلمس فظائعه ولا نستطيع أن نقول له مكانك؛ لأنه قادر أن يسحقنا بقوته!
إن أمما لا تحصى ولا تعد لا تزال بأسرها في أسرها. إن أجيالا من السنين مرت متواترة متعاقبة على العالم وهو يئن من ظلم الظالمين؛ فأهرقت الدماء، وأزهقت النفوس، وانتهكت الأعراض، وأهينت الحقوق، فأين كان العدل الذي تدعون؟
تقولون إن ذنوب القرون الأولى انتقم لها في القرون الوسطى، وذنوب القرون الوسطى انتقم لها في العصر الحاضر. قد يكون هذا، ولكن لقد جاء العدل متأخرا. وماذا يعود على المريض إذا أسعفه الطبيب بالعلاج وهو دفين؟!
بل ماذا عاد على المسيح من العدل بعد أن صلبوه؟ وماذا استفاد جاليليه بعد أن قذفوا به من حالق؟ وميشيل سرفيه بعد أن أحرقوه؟
الناس ألهوا الأول وعبدوه، ومجدوا ذكر الثاني وعظموه، وأقاموا للثالث تمثالا؛ نكاية فيمن ظلموه، ولكن ألم يقل المسيح وهو يحتضر: يا إلهي لماذا تركتني؟ ألم يدق عنق جاليليه وهو مكتشف دورة الأرض؟ ألم يحرق سرفيه حيا، وهو أول قائل بدورة الدم؟ ماذا أفادت الأول عبادة الناس له، والثاني تبجيلهم ذكره، والثالث إقامة التماثيل؟
إن هذه الجرائم تكرر في كل عشية وأصيل، وكل جيل حافل بذكر فظائعه ومظالمه، فلو قلنا إن العدل جاء متأخرا في بعض الحوادث، فلماذا يجيء متأخرا فيما يتلوها؟ لماذا أحرقت جان دارك؟ ولماذا ذبح دافل؟ ولماذا عذب أيوب؟
إن الناس ينقمون من محاكم الأرض البطيئة، أخطئوا، فلينقموا على محكمة أخرى؛ فإنها أبطأ المحاكم!
النشيد السادس: الحقيقة
ليس في الدنيا صديق!
ليس في الدنيا بأسرها صديق واحد يمكنني أن أجلس إليه وأفتح له خزائن قلبي، وأمنح فؤادي الحزين أمامه الحرية المطلقة ثم أبكي وأبكي وأبكي حتى تعود دموعي قطرات من الدم القاني فأسمع منه كلمات الأسى والحزن والإشفاق، وترفع نفسه النقاب عن الإخلاص لي فيهدأ بال نفسي الشقية. لم أكن خيرا في هذه الدنيا كما تطلب منا الأديان والآداب الموضوعة، وكما توحي إلينا روح الخير التي ترفرف على العالم بجانب روح الشر الفظيعة. إن في عيوبا كثيرة، وفي أخلاقي نقائص ومساوئ كغيري من البشر، ولكنني - وا أسفاه! - عاجز عن الخلاص منها دفعة واحدة، وإن قدرت على بعضها فإنني آتي عليه بالصبر والجهاد والثبات، وأفرغ جهدي في الخلاص من البعض الآخر، ولكنني واثق من أنني لا أزال بعيدا عن أول مرتبة من مراتب الكمال، على أنني مع هذا لم أمسس أخا لي في الإنسانية بشر، وليس في قلبي الحزين مكان للحقد والغيظ، وإن كان هذا القلب يعرفهما فهو لا يعرف إلا حقدا وغيظا وهميين لا يسكنانه إلا ليفارقاه في لمحة من الزمان، وإن ملكت الشر لخصم فهيهات أن أنتقم لنفسي منه، ولم ينل عدوا من أعدائي خير إلا سرني، فلماذا يا إلهي؟ إن كنت تسمع صوتي، لماذا ليس لي في الدنيا صديق؟
إنني أتحاشي الذنوب لا احتفاظا بوداد الناس ؛ إنما لأنني لا أريد أن أكون مذنبا أمام نفسي، وإذا اقترفت ذنبا فليس هذا في طاقتي منعه ولا بد أن يكون من الذنوب القهرية التي هي أقوى مني وأشد من طبيعتي، ثم إنني إذا اقترفت ذنبا لا أدخر وسعا في الاستغفار منه والتوبة عنه والحزن الشديد عليه حتى أمحوه بدموع قلبي. ليس يشغلني أيعرف الناس هذا أم لا يعرفونه، فلماذا - يا إلهي - ليس لي في الدنيا صديق؟
إذا كانت ذنوبي الخصيصة بي هي الوحيدة في صحيفة هذا الوجود، فإن استغفاري وندمي وأسفي جديرة بأن تمحوها، ولكن لكل الناس ذنوبا كذنوبي، ولكل الورى حتى الحكماء منهم عيوب، وكثيرون لا يكلفون أنفسهم مشقة الندم والاستغفار، ويستكبرون أن يخضعوا أمام النظام القاهر، ويسيرون في طريق العصيان، فيهابهم الناس ويحابونهم، بل تحابيهم الطبيعة نفسها، وتمنحهم عطاياها، وتخلص لهم القلوب، فهل هذا هو العدل الطبيعي، أم هذا خداع تراه العين البشرية فتظنه حقا وهو خيال باطل؟ إذا كان هذا خيالا باطلا والطبيعة والإنسانية تحترمان الحب والإخلاص والحق، وإذا كان الله العظيم يعفو ويصفح فلماذا ليس لي في هذه الدنيا صديق؟
إذا كان العالم قائما على الخداع والغش والنفاق والاحتيال والقوة الغشومة، ولا يفوز في ميادينه الصعبة ولا يحمل تيجان الفخار فيه إلا الأنذال والأشرار الذين يتقنون صناعة الختل والظلم ويبقى المخلصون مهانين أذلاء معذبين فيه، فليقنع الأخيار بأنصبتهم! ولكنهم يقولون إن الباطل لا يدوم، وإن الظلم زائل، وإن الحق هو السيد السائد في نهاية الأمور. وأراني رغم ما أراه من حوادث الحياة المحيطة بي في كل صباح ومساء، في الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ ميالا لهذا الاعتقاد، محبا لنصرة العدل والحق. فلماذا - يا إلهي - ليس لي في الدنيا صديق؟
أليس في هذه الأرض إنسان مثلي، عواطفه كعواطفي، وخلاله كخلالي، وضعفه كضعفي، ومعتقده كمعتقدي، فنأتلف ونتحد، وأعزيه ويعزيني، وأعيش على الغذاء الذي تقدمه نفسه لنفسي، ويعيش هو أيضا على الغذاء الذي تقدمه نفسي لنفسه؟ إذا كان في العالم هذا المخلوق فأين هو؟ وكيف أن الطبيعة العظيمة التي تزن الحوادث بمقدار معلوم وتدير حركات القضاء والقدر وتدهش العالم بالمخبئات الغريبة والاتفاقات العجيبة التي يسميها البشر بجهلهم وغباوتهم وعماهم عن النظام السائد «مصادفات»؛ كيف أن تلك الطبيعة لم تجمعني بعد بهذا الصديق؟ وإن لم يكن في الأرض مثل هذا المخلوق فلماذا لا تجود به العناية؟ لماذا تركت وحيدا فريدا باكيا منتحبا صارخا من أعماق نفسي: ليس لي في الدنيا صديق؟
إن البعض يرون في ذلك حكمة اخترعوها وتعليلا ابتدعوه، وهو أن النفوس لا تنضج إلا بالآلام والأحزان، وأن الطبيعة إذا اختارت بعض النفوس هيأت لها من أسباب الهموم لتنضجها؛ لذا كان سائر الفلاسفة والأنبياء وقادة الأمم والشعراء على نصيب وافر من العذاب الأليم؛ ولذا كانت تلك الآلام دليل السعادة العقلية. فهل هذا - يا أيتها الطبيعة - حق وصدق؟ وهل تلك النار المشتعلة في القلوب وتلك الآلام التي تلذع كأنياب الأفاعي ويشعر بها في الفؤاد كما يشعر الملسوع بالسموم تسري في بدنه، هل تلك الآلام هي نعمة في شكل نقمة، وسعادة في شكل شقاء؟ هل النفس الحزينة هي من تلك النفوس التي أرادتها الطبيعة لتكون شموعا تضيء للإنسانية وتحرق ذاتها؟ هل النفس المعذبة شعلة وهاجة تفنى لتنير للغير؟ هل هي ضحية من ضحايا الإنسانية التي تقاسي الآلام في الحياة لتمجد وتعبد بعد الموت؟
إذا كان هذا فلترض النفوس المعذبة بقسمتها، ولتقنع بنصيبها، ولا حاجة لها بعد اليوم إلى الشكوى والنجوى، ولن تسائل الآلهة بعد الساعة: لماذا ليس لنا في الدنيا صديق؟
ولكن وا حسرتي! وا ندمي! إذا كان هذا الحلم اللذيذ السعيد وتلك الفكرة التي ينادي بها الناس ليست إلا صورة في الخيال كالصور البديعة التي يمنى بها الأشقياء في هذه الحياة؛ لتخف عنهم آلامهم فيموتوا ويذهبوا صابرين كاظمين، وحقيقة الأمر أن نظام العالم اختار لهم الشقاء الأبدي، وليس لهم جزاء لا هنا ولا هناك!
وا حسرتي! إذا كانت تلك الأمنية العذبة هي كحقنة الأفيون تؤخذ لتسكين الآلام المتحركة، فإذا سكنت الآلام عادت إلينا الحقيقة سافرة هازئة بأمانينا وخيالاتنا.
إذا كانت هي الحقيقة المجردة وقضت علينا العناية التي تدبر الحياة البشرية والتي لا يعرف كنهها أن نبقى كذلك، وأن يتمتع سوانا حالما نقاسي نحن أهوال الآلام النفسية والبدنية؛ فهل لنا من خلاص؟ هل لنا من مبدأ جديد نضع أساسه يهيئ لنا أن نكسر بأيدينا الضعيفة تلك القيود التي قيدتنا بها الطبيعة، وأن نمحو آثار المظالم التي كتبها علينا أقوياء الأرض بلا ذنب ولا جريمة، هل لنا أن ننفخ في صور الحزن العام الذي تشترك فيها الإنسانية بأسرها؟
أم هذه أيضا هي خرافات نفس معذبة إذا عاد إليها هداها وملكت رشدها هدأ روعها وسكن اضطرابها واستسلمت لحكم القضاء الظالم وخضعت أمام تلك المغارم؟ وحينئذ ينبغي للمعذبين أن يقيموا على الضيم حاسري الرءوس خارين إلى الأذقان منتظرين فراغ الكأس التي قسم لنا أن نجرعها، صابرين إلى اللحظة الأخيرة التي نودع فيها هذه الحياة القاسية!
حينئذ ينبغي لنا أن نضع أيدينا وراء ظهورنا ليقيدها القضاء بقيوده، وليسوقنا القدر أمامه مطرقين كما كان الرومان يسوقون أسراهم ويدخلون بهم رومة ظافرين منتصرين.
حينئذ ينبغي لنا أن نستسلم لكل شيء، ونقر بعجزنا أمام من هو أقوى منا، وإذا شعرنا بقسوة النظامات الطبيعية والبشرية وشدتها، فلنهمس في آذان بعضنا بأننا مظلومون، ولنشهد أحجار الأرض وكواكب السماء بأننا مظلومون؛ لأن إخواننا البشر لا يرحمون ولا يشفقون، وإذا أشفقوا ورحموا فليسوا بقادرين أن يخففوا عنا مصائبنا، ودموع الإنسانية وآهاتها لا تمحو سطرا واحدا مما كتب القضاء على الجبين؟ إن هذا هو الضعف المبين!
لكنني لا أتردد في كتابه هذه الشكوى «ورقة اتهام»، أتركها من بعدي؛ ليعلم الناس حقيقة الحال، ورقة اتهام أدعي بها على قوى الكون جميعا أنها كلها اشتركت في الجريمة التي قضت على الإنسانية بالآلام الطويلة التي ليس لها آخر إلا بالموت الزؤام إذا لم تنفض عن كاهلها غبار العجز.
الموت الزؤام! نحن الذين نبغض الحياة الدنيا ونحتقرها ونعد من يحبها جاهلا، نقول إنه موت زؤام. نحن الذين لم نذق في حياتنا إلا ساعات معدودة من سعادة موهومة كانت تعادلها سنون وشهور ذقنا فيها صنوف الآلام، نحن نصف الموت بأنه زؤام.
ألا إنه علاج سائر الأدواء!
أليس هو النهاية الكبرى لذاك الشقاء؟! فلماذا إذن ندعوه بالزؤام؟!
أليس أمامنا من الأسباب العقلية والنفسية ما يدعونا إلى حب الموت والسعي إليه واستهانة آلامه إن كان فيه آلام؟ ولكن الغريزة الحيوانية الدنيئة أراها لاصقة بالحياة، أراها تحب العيش مهما كان مرا، وتفضله على الموت مهما كان حلوا. إذن فلنعش، ولنتألم، ولنذق صنوف العذاب، ولنشرب كأس الألم حتى حثالتها؛ ما دامت الطبيعة القوية جعلتنا نرجف ونرتعش من صورة الموت إذا تخيلناها! أين أنتم يا فلاسفة الأرض ويا حكماء الحياة؟ أين أنتم؛ لتحلوا معي ذلك اللغز الذي لا يحل؟ أين أنت أيتها الحقيقة العظيمة المتبرقعة ببرقع لم يجسر ذوو أشد النفوس قوة على رفعه؟
أين أنت أيتها الحقيقة الجليلة؛ لأسرع إليك ولأمزق ذلك النقاب الكثيف، ولأنظر إليك وجها لوجه، ولأقرأ في جبينك الوضاء حلا لمعجزة الحياة والوجود؟
أين أنت أيتها الحقيقة المستترة؛ لأصل إليك ولأشكو لك آلامي ومصائبي وآلام إخوتي في الإنسانية؛ لتشفقي وتمطري من عينيك الخارقتين دموعا تمتزج بدموعي وتنادي بصوت الأم الحنون: «إلي أيها الولد التائه الضال الحزين، إلي لأخفف آلامك ولأسكن لوعتك.» ثم تسفرين عن وجهك فأخر أمامك ساجدا صعقا كما خر موسى من قبل أمام وجهك في جبل الطور؟
ألست أنت أيتها الحقيقة التي أوشكت أن تشفقي علي يوما كنت فيه على رأس الجبل في بقعة سحيقة من الأرض، وكانت السماء ممطرة والشمس تغيب وتظهر، وأنا أبكي من قلبي، فخيل إلي أنني أسمع صوتا وأرى وجها جميلا، فخررت على حجر وما زلت جاثما حتى نبهتني قشعريرة شديدة سرت في بدني، فأسرعت منحدرا وشعرت براحة وسرور؟
ألست أنت من حاولوا أن يكشفوا سرك في هياكل أفريقيا ومعابد آسيا ثم عادوا خاسئين؟ ألست أنت أيتها الحقيقة التي تركت في كل مكان أثرا من آثارك حتى إذا بلغه أحدنا نحن المساكين أغويته وجذبته إليك ثم اختفيت من أمامه كالسراب الذي يخدع التائهين في الصحراء؟ إلى متى أيتها الحقيقة يبقى الإنسان ضالا تائها؟ وإلى متى يدوم ذلك السباق الأليم بين الجهل والعلم وبين الباطل والحق وبين النور والظلام؟
اغفري لي أيتها الحقيقة، يا أم الأمم، ويا سيدة العوالم، ويا إلهة الآلهة! ويا من شيدت لك الهياكل والمعابد، وأقيمت لتمجيدك الكنائس والمساجد، وحلم بك كل صاح وهاجد؛ إذا تهجمت على مقامك الأسمى وطلبت منك طلبا مجحفا. اعذريني أيتها الحقيقة العظيمة إذا تسرب الشك إلى قلبي وأسكرني الحزن وتغلبت علي الآلام فكفرت يوما بنعمتك وقلت ليس في الورى سوى الجهل والظلم والظلام، وأن الحقيقة التي ينشدونها عبثا ليست إلا وهما من الأوهام.
إن قلبي مملوء بك، ونفسي متشبعة بصورتك، وفؤادي ووجداني كلاهما يوقنان بك، ولكن ألست بشرا ضعيفا؟ ألست من تلك المخلوقات العاجزة الضئيلة التي تريد كل شيء ولا تنال شيئا، التي تسمي نفسها بالإنسانية؟ لقد رأيت أدلة كثيرة تثبت وجودك، وعلمت بالخبرة أنك هنا وهناك، في العلا وعلى الأرض، عن يميني وعن شمالي، أمامي وورائي، ولكن لما أمسك بعد بأهدابك، ولم أستطع مع شدة جهادي وثباتي وطول صبري أن ألمس ذيل ثيابك. أسمعك تأمرينني بالصمت والسكوت، أسمعك تقولين لي: بعدا أيها العاجز الجاهل، إن الحقيقة لا تمس ولا تنال بالحس. ولكن ألست بشرا لا يرى إلا ما يقع تحت الحس؟ إذا كان هذا عيبي، فهل أنا وحدي المذنب؟
لا أريد أن أعرف كل شيء؛ فليس هذا يهمني، وإن كان يهمني فلست قادرا عليه، ولكنني أريد أن أعرف شيئا واحدا: هل قسم لبعضنا أن يسمعوا العالم أصواتهم، وأن يخرجوا قواهم إلى الأرض فيشعر بها ويراها كل البشر؟ أم قسم لهم أن تكتم أنفاسهم قبل أن يصرخوا صرختهم؟
إن كانت القسمة الأولى من نصيبهم فجودي عليهم أيتها الحقيقة بالصبر والثبات حتى يقوموا بأداء الرسالة التي أردتها لهم، جودي عليهم بالطمأنينة كما تجود المعشوقة الجليلة على العاشق المسكين بكلمة تسكن نفسه إليها، قولي لهم اصبروا واعملوا، كما تقول المعشوقة الجليلة للعاشق المسكين: «أنت في حل من حبي ، فحبني.» جودي أيتها الحقيقة ولا تتركيهم معذبين، جودي أيتها الحقيقة بكلمة واحدة وكفاهم ألما، جودي بتلك الكلمة التي تكون غذاء نفوسهم إلى الأبد!
أما إذا كانت القسمة الثانية هي نصيبهم فاعبسي في وجوههم، وادفعي بهم بيدك القوية، واتركيهم يسقطوا في المهواة السحيقة التي سقط فيها ألوف الألوف من قبلهم، والتي لا تزال يخرج منها صوت عويلهم، انطقي أيتها الحقيقة بحكمك الأخير!
إنني - أيتها الحقيقة - منذ الساعة سأكون كما كنت في الماضي عبدا مخلصا لك. سأنسى كل آلامي منتظرا أمرك العظيم، سأصبر على همومي وأحزاني وألقاها بصدر رحيب، سأكتم شكواي، وأعلل النفس بالفرج القريب، إذا رأيت الناس تبغضني وأعدائي تغيظني وأهل الظلم يكيدون لي سأعرض عن ظلمهم وغيظهم، سأهزأ بمكائدهم ومفاسدهم، سأضحك من خداعهم وشرورهم؛ لأنني لا أمل لي إلا فيك، وأنت أعظم من يؤمل فيه.
لن أشكو بعد اليوم وحدتي، لن أحزن بعد اليوم إذا بكيت منفردا، لن أضجر من آلام الفقر والمرض والشقاء، بل ألقاها جميعها مسرورا مستبشرا.
إنني - أيتها المحبوبة المتبرقعة - صابر قانع، إذا التفت حولي فلم أر أحدا يؤنسني في وحشتي ويساعدني في كربي ويفرج همي، فلن أسأل بعد اليوم لماذا ليس لي في هذه الدنيا صديق؟ فأنت على بعدك صديقتي، وأنت على تسترك وتقنعك محبوبتي التي سأخلص لها، بل أنت إلهتي ومعبودتي، أنت إيماني وديني، أنت قبلتي وكعبتي، أنت حياتي وموتي، أنت سعادتي وهنائي، أيتها الحقيقة، أنت الكل في الكل، أنت الوجود والعدم، أنت الخالدة منذ القدم.
أسعفيني وأسعديني أيتها الحقيقة، فإنني لا أزال صابرا.
الليلة الخامسة عشرة
ليلة الوداع
فلما قرأت تلك الأناشيد زادت حيرتي وحزني، وقطعني الروح الحائر، فهو لا يزورني يخفف بحديثه ما بنفسي، فاتخذت من الصبر درعا إلى أن ضقت بالحيرة ذرعا، ثم سمعت الروح يقول لي في نومي: «إني زائرك لآخر مرة، ولكن لا تسألني أن أرفع عن بصيرتك نقاب الحيرة، فلو استطعته لغيري هديت نفسي.» ثم وافاني الروح تحت جنح الظلام وفي يده المصباح الذي يهدي خطاه في عالم الأرواح ، فعلمت لأول وهلة أنه لا يزال كما كان حائرا، ولكنني الليلة لمحت انتهاك قوته وخفوت صوته.
قلت له: «ماذا أوحى إليك ما كتبت في تلك الأناشيد الستة؟ إن بعضها كالريح الصرصر العاتية تغرق سفن الآمال، وبعضها كإعصار الصحراء تدفن العواطف، وبعضها كالسموم تخمد قوى النفس، وبعضها كريح الشمال تعيد الحياة إلى الروح.»
قال: «أوحاها إلي ظمئي إلى الوصول إلى الغرض الأسمى والمثل الأعلى (أيديال).»
قلت: «وما هما؟»
قال: «الغرض الأسمى: هو بلوغ الإنسانية أرقى مراتب الكمال، والمثل الأعلى: سلوك الأفراد والجماعات سبيل الوصول إلى تلك المرتبة.»
قلت: «وما هي أرقى مراتب الكمال؟»
قال: «إنها لا تعد، وأولها سعادة الإنسانية.»
قلت: «وماذا تقصد بالسعادة؟»
قال: «إنها درجات وأنواع.»
قلت: «وما أول درجاتها؟»
قال: «تقدير الحياة قدرها، والاكتفاء بها دون سواها ما دمنا على الأرض.»
قلت: «إذن هذا تعلق بالمادة لا يليق بالأرواح.»
قال: «أليست المادة أزلية؟ إنها نصف قوة العناية.»
قلت: «تركتني في حيرة لا تنجلي، فقد نقمت على كل شيء حتى جعلتني مثلك ناقما، وبكيت على كل حي حتى أبكيتني، وشقيت بعقلك وحبك للوقوف على دقائق أسرار الوجود حتى أشقيتني.»
قال: «إنني رويت لك أحاديث عن الشرق والغرب أمما وأفرادا، وفاتحتك فيما كان يجول بصدري من دواعي الحزن الإنساني، ونقلت إليك شعر الأرواح، وأبحت لك إذاعة ما دونته وطويته، فأعطيتك صورة من نفسي، ولكن لدي أحاديث لا تنتهي، وفي قلبي عواطف لا أفرغ مدى الدهر من وصفها؛ لأنني لا أستطيع حصرها، ولكنني أشعر بأن دور الحيرة قد انتهى أو كاد ينتهي، فإن التقينا بعد الليلة كان لي معك حديث آخر لم تسمعه أذن ولم يخطر على قلب بشر.»
قلت: «أمنصرف عني أيها الروح العزيز بعد طول الود؟ أقاطعي بعد تلك الصلات؟»
قال: «صه، فلا فائدة في العويل، قد آن لي أن أطوف عوالم أخرى، وأنتقل إلى دوائر غير التي أنا بها.»
قلت: «أي طريق أسلك؟ وعلى أي درب أسير في مهامه الحياة الأرضية؟»
قال: «انهض من عثرتك أقالتك الحقيقة، ونفض عن نفسك، واعمل في الميدان الذي خلقت للجهاد فيه إلى أن تفوز أو تخذل.»
قلت: «وما هو هذا الميدان؟»
قال: «هو ميدان الحياة الإنسانية! إن ما يعرض لك من المسائل الأرضية لا يحصى ولا يحصر، فاصرف قوتك في حلها، وافعل من الخير ما استطعت، والتمس العمل فإنه درع تتقي به نصال الحياة.»
قلت: «وما غاية العمل على الأرض؟ ألم تقل إننا جئنا إليها وسنذهب عنها اعتباطا؟»
قال: «قد يكون ذلك، ولكن ألم تجدوا أنفسكم على هذا الكوكب؟ وإن لوجودكم غاية إن لم تقصدها القوى التي أوجدتكم فاخلقوها بأنفسكم، ألا تذكر كلمة الفيلسوف العتيق الهازئ من الحياة والوجود التارك في صحيفة الدهر بسمة أزلية أبلغ من كل قول قديم وجديد فولتير القائل: «إذا لم يكن لكم أرباب فاخلقوها»؟ كذلك إذا لم يكن لكم مثل أعلى فاسعوا في إيجاده.»
قلت: «وأي مثل أعلى بعد ما ذكرت؟»
قال: «المثل الأعلى هو البحث عن الحقيقة.»
قلت: «وما هي الحقيقة؟»
قال: «تسألني عن الحقيقة، وما أسهل السؤال وأصعب الجواب! وهل لو عرفتها بقيت حائرا؟! ولو كانت على أطراف الألسنة تنقل من فم إلى فم ما كان للحياة والجهاد والألم معنى، فهي اللغز الذي يسعى الكل في حله، فمعظم الناس انصرفوا عن الغرض الأكبر، وألهتهم أغراض صغرى، وقليلون منهم يضربون في مهامه الحيرة.»
قلت: «رأيتك في بعض أناشيدك تقول: رأيت الحقيقة ووقفت على سر الوجود.»
قال الروح: «هي أمان عذبة كنت أمني النفس بها، ولا يكون المرء أبعد عن الحقيقة منه يوم يتوهم معرفة كنهها.»
قلت: «سمعتك تقول حينا: الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية. فماذا عنيت؟»
قال: «قصدت بالحقيقة المطلقة تلك التي وصفتها، فقل هي الطبيعة، هي العناية، هي الوجود، هي الروح، هي المادة، بل قل هي مجموع ما ذكرت، وهي من أمر ربي. أما الحقيقة النسبية فهي ملجأ فريق من الحكماء، اخترعوها لتسلية نفوسهم وتعزيتها، يقولون: الحقيقة لا وجود لها، وإن وجدت فلا سبيل للوصول إليها. وحياة الإنسان على الأرض لا تسع البحث لبلوغ الغرض الأسمى (أيديال)، فكل ما رآه الإنسان حقا فهو حق ما دامت فيه راحة لنفسه وهدى لضميره.»
قلت: «وأي الحقيقتين أنشد؟»
قال: «ليكن غرضك الأسمى «أيديال» الحقيقة المطلقة، واقتنع بالحقيقة النسبية ما دمت في سبيل الوصول إلى الأولى.»
قلت: «وما هي السعادة؟»
قال: «هي ضرب من ضروب المثل الأعلى، هي غاية الأفراد والجماعات، ومعناها أن يتمتع الفرد أو الجماعة بالحياة؛ ولهذا شروط عرف الناس بعضها وغاب عنهم معظمها، وأولها أن يكون الفرد أو الجماعة بغير قيود وضعها الغير للانتفاع بها، وهذا شرط أولي مطلق، وكل ما عداه ثانوي نسبي، ومن لا يحوزه ليس في عداد الأحياء ولا ينبغي الاعتداد به، بل ينبغي أن يبذل في سبيل الحصول عليه كل شيء حتى الوجود الذاتي؛ لأن الوجود الذاتي لا قدر له، ومثل من يعيش بدون هذا الشرط اكتفاء بالحياة المادية كمثل من يفضل الحياة النباتية الدنيا على الحياة الروحانية العليا.»
قلت: «هذا الشرط الأول عرفته، فما هو عماد السعادة؟»
قال: «الحب والفضيلة.»
قلت: «سمعتك تقول الحب عبث وضرب من خيال الشعراء، والفضيلة لفظ موضوع.»
قال: «قصدت نوعا واحدا من الحب، وهو حب المرأة، ولم أقصد المثل الأعلى منه.
أما الفضيلة التي ذممتها فهي المعروفة لعهدكم في الأرض، وهي صفات تؤدي بصاحبها إلى القوة والتمتع، ولكن الفضيلة التي أريدها الآن إنما هي المثل الأعلى من كل شيء، وقد يكون أصحابها أخملكم ذكرا، وأحطكم قدرا، وأبعدكم عن الجاه.»
قلت: «وما هو المثل الأعلى في الحب؟»
قال: «هو الحب المطلق العام الذي لا يدخل في دائرة المادة؛ كحب الحق والطبيعة والإنسانية والوطن، وكلها أغراض سامية تنبعث منها صنوف الخير.»
قلت: «وما بالك تحقر من شأن الحب المادي بعد أن ذكرت لي وجوب الاكتفاء بحياة الأرض؟»
قال: «حاشا أن يكون في القول تناقض، إنما كل رأي له مجرى في الفكر. الحب غايته السعادة، فلو صدر عنه الشقاء فليس هو الحب المقصود، إنما هو ميل مادي يفقد التوازن ويتلف النفس، ولكن الناس فهموا من الأشياء غير المقصود، فهم يطلقون كلمة الحب «آمور » على عاطفة خادعة، فإن شعرت يوما بتعذيب نفسك في سبيل حبك فاعلم أنه ليس حبا.»
قلت: «كيف ذلك والبذل والألم والتعذيب لا تكون إلا في سبيل الحب الأعلى؟ ألم يأتك حديث القديسين وأولياء الله والشهداء ممن عظم قدرهم بحبهم؟»
قال: «أجل، ولكن التعذيب الذي تذكر غير التعذيب الذي أعني، وليس قولي موجها لصاحب الذهن الخالي.»
قلت: «وما رأيك في العالم؟»
قال: «مجموعة أمم ذات ألوان وأطوار شتى.»
قلت: «بم التفاضل بينها؟»
قال: «بالأخلاق.»
قلت: «وما هي الأخلاق التي تعني؟»
قال: «هي خلاصة حياة الأمة وصورة من روحها، وهي لها بمثابة سلسلة الظهر للحيوان، وتكون حياة الأمم قوة وضعفا، اعتدالا وميلا، عزا وذلا، سعادة وشقاء؛ كحال خلقها. فما بادت وما ذلت أمة ذات خلق قويم، كذلك ما عاشت وما عزت أمة لا خلاق لها. إن أكبر الأمم جاها وأعظمها صولة لا قوام لها بدون خلق، وأصغرها من ذوات الخلق أطولها عمرا وأرفعها مجدا.»
قلت: «وما هي مفصلات الأخلاق؟»
قال: «انظر في أمتك؛ فإن كانت ضعيفة ذليلة فاحكم بنقص خلقها، وإن كانت قوية عزيزة فهي من ذوات الخلق.»
قلت: «وما رأيك في كبار الرجال؟»
قال: «من لا يستفزهم نفع الذات، ولا يقعد بهم شر يخشونه في أنفسهم.»
قلت: «إني سأنشر كل ما حدثتني به على الملأ.»
قال: «أتعلم ما ينالك من وراء ذلك؟»
قلت: «نعم، إن الناس تشكرني إذا نشرت رأيا صائبا، وتعذرني إذا أذعت خطأ.»
قال: «إنك إن قلت ما تعتقد عرضت نفسك للوم؛ لأنه هيهات أن تجد من الناس من يرتضي رأيك إذا لم يكن رأيه، وإن الذين يقلدون الأغبياء والمتنطعين أكثر منهم غباوة وتنطعا؛ لأن الغبي والمتنطع له فضيلة واحدة وهي حسن النية. أما إذا قلت ما لا تعتقد بقيت في حرب عوان مع نفسك، وأفظع بها من حرب تبدد القوى وتفني نشاط النفس على غير جدوى! وأن يكون المرء في سلم مع نفسه لأفضل له من أن يكون في حرب معها وفي سلم مع الناس أجمعين.»
ثم سمعت دويا، وضعف ضوء المصباح، فقلت: أيها الروح العزيز. فلم أسمع جوابا.
فصرخت من أعماق قلبي: أيها الروح الحائر. فسمعت صوتا قصيا كأنه صوت هاتف يقول: «قل: الروح المهتدي. ألم تعلم أنها ليلة الوداع الأول؟!»
ناپیژندل شوی مخ