ولنسمعه الآن يصف مأواه في بيروت، قال: «ما من لذة تعدل اللذة التي تذوقناها ساعة استفقنا من الرقاد عقيب الليلة الأولى التي صرفناها في دارنا. لقد تناولنا طعام الصباح على سطح فسيح يشرف على جهات جميلة تفقدناها جميعا بأبصارنا.
تقوم الدار على مسافة عشر دقائق من المدينة، وينفذ إليها من طرق مظللة بأشجار أمن الصبير تدلي ثمارها الشائكة على رءوس العابرين. يجتاز المار بعض جسور قديمة وبرجا كبيرا مربع البناء شيده أمير الدروز فخر الدين، وهذا البرج يحل اليوم محل مستشرف لبعض الخفراء من جيش إبراهيم باشا، ثم ينسل بين جذوع التوت إلى أن يبلغ جمهرة من بيوت منخفضة، تختبئ بين الأشجار ويحيط بها مرج من الليمون، وهذه البيوت يختلف بعضها في بنائه عن البعض الآخر، أما البيت المنتصب في الوسط فيظهر بشكل برج مربع، ويرتفع شامخا على سائر ما يقوم حوله، وأما سطوح هذه البيوت فيتصل أحدها بالآخر ببعض أدراج من الخشب.
نرى البحر على مائة خطوة منا يتقدم في الأرض فيتراءى لنا، من خلال رءوس الليمون والصبير الخضراء، كبحيرة جميلة أو كنهر عريض لا يظهر منه إلا جزء صغير، ونرى بعض زوارق عربية ملقية المراسي تهدهد على تموجاته المرسلة برخاوة وكسل. وإذا صعدنا إلى السطح الأعلى، تستحيل هذه البحيرة الجميلة إلى خليج رحب، يسده قصر بيروت المغربي من ناحية وأسوار شاهقة كالحة لسلسلة الجبال المنحدرة بسرعة نحو مدينة طرابلس من الناحية الأخرى. إلا أن الشفق يمتد أمامنا امتدادا بعيدا، فهو يبدأ بالركض على سهول خصبة غرست فيها شجرات تحجب الأرض عن النظر، وانتشرت فوقها بيوت تشبه بيتنا، ترفع سطوحها في الجو كشرع بيضاء على خضم من الخضرة، ثم ينحصر بين أكمة ملساء مستطيلة يقوم على قمتها دير للروم الأرثوذكس بجدرانه البيضاء وقبابه الزرقاء. ويخيم على قباب هذا الدير بعض رءوس من الصنوبر المستوي على مرتفع هناك.
وتنحدر الأكمة على درجات تدعمها أسوار حجرية، وتحمل أحراجا من الزيتون والتوت، ويجيء البحر فيغسل آخر هذه الدرجات ثم يحيد عنها.
وعلى مقربة منها سهل آخر يستدير وينحفر ليفسح مجالا لنهر ينساب طويلا بين غابات الدوح الأخضر، ويرتمي في الخليج المصفرة مياهه على الشواطئ، ولا ينتهي السهل هذا إلا عند أكتاف الجبال الذهبية.
أما الجبال هذه فلا ترتفع دفعة واحدة، بل تبدأ صعودها بأكمات ضخمة بعضها مستدير، والبعض شبه مربع تغطي قممها المزروعات، وتقل كل واحدة منها إما ديرا وإما قرية ينجلي عليها شعاع الشمس، فيجذب الأنظار. وتعرض درجات لبنان فوق أولى هذه الأكمات، فثمة سهول تراوح مسافتها بين فرسخ أو فرسخين، سهول متباينة بعضها محفور، وبعضها متلم، وبعضها حرثته الأودية والسهول والينابيع العميقة والخلجان المبهمة التي يضيع بها النظر.
وإذ تنتهي الجبال من هذه السهول ترجع فترتفع ارتفاعا شبه مستقيم، وقد تراءت عليها أخيلة الأرز السوداء وبعض أديرة صعبة المسالك، وبعض قرى مجهولة يخالها الناظر منحنية فوق لججها وأودائها.
وهناك على قمة السلسلة الثانية، وهي أكثر تلك القمم نتوءا، تقوم أشجار جبارة كأنما هي شعور نادرة على جبين أصلع، ونستطيع من هنا أن نتبين رءوسها المفرضة التي تشبه النوافذ المرتفعة على أحد الأبراج.
أما لبنان الحقيقي فيقوم وراء هذه السلسلة الثانية، إلا أننا لا نستطيع أن نرى أكنافه بوضوح، فنعلم أعارية هي أم مغطاة بالنبات، لبعد ما بيننا وبينها، ثم إن هذه الأكناف تختلط في شفافة الجو بالجو نفسه، فلا يقع نظرنا إلا على شبهة من أشعة الشمس التي تغلفها، وعلى رءوسها النارية التي تمتزج بغيوم الصباح الأرجوانية، وتحلق في أمواج الجو كجزر لا سبيل إلى بلوغها.
أما إذا انحدرت أبصارنا عن شفق هذه الجبال الجميل، فلا تستطيع أن تنحط إلا على رزم من النخيل غرست هنا وهناك على مقربة من بيوت العرب، وإلا على تموجات رءوس الصنوبر الخضراء المنتشرة في السهل ضمات صغيرة، أو على أديم الأكمات، أو على غراس غير هذه تترامى أوراقها الثقيلة كأوسمة حجرية على الجدران الصغيرة التي تدعم السطوح، وهذه الجدران نفسها ترتدي ثيابا من الزهر واللبلاب الأرضي والكرمة البرية، والأغراس ذات الأزهار المتباينة والعناقيد المختلفة الأشكال، فلا يتاح لك أن تتبين معها الحجارة التي بنيت بها هذه الجدران، فما هي إلا أسوار من الخضرة والأزهار. ويقوم أخيرا على مقربة منا وبمرأى من أبصارنا، بيتان أو ثلاثة تشبه بيوتنا في فرنسا، عليها إزار من قباب البرتقال المزهر والمثمر ... هناك عرب جالسون على البسط في سطوح بيوتهم يدخنون، وبعض نساء يطل من النوافذ ليبصرنا، وإذ ينتبه إلى أننا نمعن النظر فيه يحتجب.
ناپیژندل شوی مخ