وكان رضي الله عنه كثيرا ما يرفع طرفه إلى السماء، لا يكاد يفتر عن ذلك، كأنه يرى شيئا يثبته بنظره. فكان هذا دأبه مدة إقامتي بحضرته. فسبحان الله ما أقصر ما كانت! يا ليتها كانت طالت. ما مر على عمري إلى الآن زمان كان أحب إلي من ذلك الحين، ولا رأيتني في وقت أحسن حالا مني حينئذ، وما كان إلا ببركة الشيخ رضي الله عنه.
وكان في كل أسبوع يعود المرضى، خصوصا الذي بالمارستان وأخبرني غير واحد ممن لا يشك في عدالته أن جميع زمن الشيخ ينقضي على من رأيته. فأي عبادة واجتهاد أفضل من ذلك؟ فسبحان الموفق من يشاء لما يشاء.
ورعه رضي الله عنه:
وكان رضي الله عنه في الغاية التي ينتهي إليها في الورع. لأن الله تعالى أجراه مدة عمره كلها عليه. فإنه ما خلط الناس في بيع ولا شراء ولا معاملة، ولا تجارة، ولا مشاركة، ولا زراعة، ولا عمارة. ولا كان ناظرا مباشرا لما وقف، ولا يكن يقبل جراية ولا صلة لنفسه من سلطان ولا أمير ولا تاجر، ولا كان مدخرا دينارا ولا درهما ولا متاعا ولا طعاما ، وإنما كانت بضاعته مدة حياته، وميراثه بعد وفاته، رضي الله عنه، العلم اقتداء بسيد المرسلين وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، فإنه قال: [إن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر].
مخ ۲۳