وتوقفت عند صورة أبي، وتمثلت التركة المثقلة من الآلام والسلبيات والأوهام التي خلفها لي، والآمال التي علقها علي، ولم يسعفه الزمن ليشهد تحققها. وحمدت الله أن هذا لم يحدث كي لا يرى مآلي.
وقضيت يوما كاملا أقلب في مجموعة من الصور لأشخاص عبروا طريق حياتي، ونساء ارتبطت بهن، أو علقت عليهن آمالي في مراحل مختلفة. وتمعنت في العوامل التي تكسرت عليها هذه الآمال، بحثا - للمرة الأخيرة - عن مكمن الخطأ.
ومن الطبيعي أن يثير هذا الاهتمام مشاعر معينة، فلجأت إلى ما لدي من كتب إباحية، واستعنت بكل من خيالي وذكرياتي لأعيش لآخر مرة تلك اللحظات المتوترة الرائعة التي تدب فيها الحياة في كل خلية من خلايا الجسد، وتصبح اللمسة لأي موضع منه مبعث رجفة ولذة متجددتين تلحان على التكرار.
وتفرغت في اليوم التالي لمفكراتي القديمة، وما دونته بها في لحظات مفعمة بالمعاناة، والأمل، بدت في حينها كثيفة، وإن بدت الآن باهتة، رغم ما خلفته من شجن. وطالعتني على الصفحات التي بدأ لونها يتحول إلى الصفرة، المشروعات الكبيرة التي خططت لها بحماس في حينها، والإحباطات المتوالية التي واجهتني.
وقابلتني سطور عديدة نقلتها في مناسبات مختلفة عن قراءاتي، يتحدث أغلبها عن الطريقة المثلى للحياة. ولبثت ساعات أحدق في هذه الأبيات لماياكوفسكي، التي قالها في الغالب قبل قليل من نهايته المأساوية:
أقسم ألا أتحدث بعد الآن باللسان المشين للتعقل والحصافة. ...
الآن يمكن للمرء أن ينهض وينطق، فتتردد كلماته عبر العصور والتاريخ والبشرية جمعاء.
ذكرني المصير الذي انتهى إليه قائلها بمأساتي، فاستعدت ما جرى لي من وقائع، منذ أعددت نفسي لأول مقابلة مع اللجنة. وتتبعت مراحل التجربة، وكيف فتحت عيني - تماما - على الحقيقة الشاملة المرعبة، رغم أن ذلك تم بعد فوات الوقت.
وعندما استعرضت تفاصيل المقابلة الأخيرة ندمت على تخاذلي، وعلى أني فقدت أمام جماعة اللجنة الذلاقة والجرأة اللتين لازمتاني في تعاملي مع أشخاص منفردين مثل القصير وعملاق الأوتوبيس والطبيب.
شغلني تعليل هذه الظاهرة حتى رأيت بعد إمعان أن جذورها تضرب بعيدا في الماضي، منذ أول امتحان خضته وعمري بضع سنوات، وكل مرة بعده وقفت عاريا أمام الأعين الباردة اللامبالية لأشخاص ذوي بطش، ينتمون إلى عوالم مختلفة عن عالمي، وتجري حياة كل منهم في مدار مستقل لا يتوقف بأي شكل على نتيجة المواجهة القائمة بيني وبينهم، عكس الأمر بالنسبة لي.
ناپیژندل شوی مخ