فكن كما شئت إلا
أن الجبان ذليل
علم القارئ أن (حماس) غرق في البحر على أثر التقاء مركبه بمراكب أورستان، وما وقع بينهما من الحرب العوان، وأن القوم غاصوا عليه طويلا فلم يجدوا له أثرا، وإذ أخذهم اليأس في أمره حولوا مراكبهم عن ذلك الموضع من البحر إلى غيره.
والآن نقول إن حماس لما ألقى نفسه في البحر كان لا يزال في أجله طول، فما صار تحت الماء حتى انسحب بتيار كامن خفيف، فلبث فيه هنيهة يجاريه بصدر قوي صحيح، حتى تمكن من إخراج رأسه من الماء، وإذا به بعيد عن أورستان وجنوده؛ بحيث يرى السفن ولا يراه من في السفن فما تواني أن ذهب سبحا في عريض الماء، يسلك طريقا غير طريق الأعداء، وكان البحر هادئا ساكنا إلا رجة فيه خفيفة، نشأت عن تلك المعركة العنيفة، وخصوصا عند سقوط السفينة المحترقة فيه، وكان الفتى طويل الباع في العوم فزاده الأمل بالنجاة، طول باع في ذلك اليوم، فما زال ينساب انسيابا، ويذهب في ثنايا الماء ذهابا، حتى أمسى وإذا هو بليل كموج البحر، في بحر كموج الليل، وكان الفتى قد وهت قواه، وبرئ منه ساعداه، بعد أن طالما ساعفاه، فوقف وقفة المودع للوجود، الساجد للسماء في الماء لو قدر على السجود، ثم تراخت أعضاؤه، وانحلت من الكلل أجزاؤه، فنزل قليلا قليلا يهوي إلى القبر الأعظم من عالم الدأماء.
ولكنه ما كاد يحتجب رأسه في الماء، حتى اصطدم كتفه بجسم صلب كادت تترضض بها عظامه، فتعلق بهذا الجسم من حيث يدري ولا يدري، فلم يشعر إلا بحياته قد انبعثت، وبجثته قد خرجت من ذلك القبر الهائل، ملآنة من روح الأمل بعد اليأس، وقوى الحياة بعد الموت، ثم لم يبصر إلا بلوح عظيم كأنه بقية من بقايا فلك منكسر وهو يتوكأ عليه ويتخذه سندا ليديه، فرفع إلى السماء عينا شاكرة، إلى آلائها ناظرة.
ثم تلا هذا النور نور الوجود بعد العدم، أضواء ضعيفة تبدو على بعد كأنها دنانير تهادى في الفضاء، فدب دبيب الرجاء في حماس، وفاء إلى الطمأنينة والإيناس، إذ رأى البر وأعلامه، وأيقن أنه عن قريب يجتلي وجه السلامة.
فلبث مدة يسيرة لا يجهد أعضاءه ولا يتحرك حتى أخذ لبدنه قسطه من الراحة، وامتلأ من القوة اللازمة لاستئناف السباحة، ثم دفع اللوح أمامه، واندفع يتخذه متكأه وزمامه، وهو يسرع في سيره تارة ويتأنى في مشيته طورا، ويستريح مرة ويصل العوم أخرى، وما زال كذلك نحو ساعتين من الزمان، حتى أشرف على البر بسلام وأمان.
ولكن تلك الأضواء التي وجد عليها الهدى كانت لا تزال تلوح له قصية واهية خفاقة، بل قد رآها وهو على خطوات من البر أضعف كثيرا مما كانت تبدو له وهو في أحشاء البحر، وقد قامت أمامه صخور هائلة لا نور عليها ولا سبيل مع الظلام إليها.
ومع ذلك فلم ير الفتى بدا من الوصول إلى اليبس، والمبيت تلك الليلة على الفراش العام الأمين، فراش السراة بالليل والمعدمين، فدنا من الشاطئ يدفع اللوح وهو به ضنين، حتى نالت يداه الأرض فأتبعهما الأقدام، وهو لا يدري أفي يقظة أم في منام، أم هو غريق يختنق وهذه سكرات الحمام، حتى إذا احتوت الأرض قدميه، كان أول ما فعل أن جذب اللوح إليه بكلتا يديه، ولو استطاع حمله في عينيه، ثم قال يناجيه:
أيها اللوح المنزل رحمة من السماء، المخرج عصمة من الماء، المسخر لإنقاذي من لدن الآلهة الكرماء، أقسم لك بأسمائهم العظيمة، وآلائهم الجسيمة، إني أحملك وأصحبك وأفي لك كما حملتني في اليم، وصحبتني في الغم، ووفيت لي فيما ألم، وأعدك وعد حر كريم، أني إذا أوتيت ملك مصر آمر بعودك فتصنع منك قوائم عرشها العظيم.
ناپیژندل شوی مخ