لا يفتحون التوابيت
لا يفتحون التوابيت
لا يفتحون التوابيت
لا يفتحون التوابيت
تأليف
رياض حمادي
إلى سفيتلانا أليكسييفيتش
وإلى الذين دفنوا توابيت فارغة دون أن يعلموا ما بداخلها.
لا يفتحون التوابيت
نصوص جديدة
عتبة الوصول
عندما كانت أمي تهز مهدي في الأيام الخوالي
علمتني أن أغني،
نادرا ما كان هناك دموع في عينيها،
الآن أعلم أطفالي أن كل لحن شجي
يقاس بقدر ما يذرفون من دموع،
أو بما يذرفون مما ادخرته أمي. (من فيلم كوليا 1996م)
روضة
وقفت الأم مكان روضة أطفال تحولت إلى ركام،
بحثت عن ابنتها لكن لم تعثر عليها.
قالت الأمهات، وهن يلتقطن الأحذية: «لعلهم نقلوا الأطفال إلى مكان آخر!»
وبينما هي تجمع الأحذية وجدت فردة حذاء واحدة.
تساءلت: «كيف ستسير في الجنة بفردة واحدة؟»
سبعة كراس وطاولة
عدد الملاعق بعدد أفراد العائلة، «لكن بعد الحرب لم أعد أغسل سوى ملعقة واحدة.»
تلك الأيام
حين يروي ذكرياته، يتذكر كلمة واحدة فقط،
ثم يبدأ بذكر الأهوال التي شاهدها،
بعينين دامعتين ينظر إلى الأعين التي تحدق فيه،
فيعرف أنهم لا يصدقونه.
هم لا يدركون أن كلمة واحدة يتذكرها طفل عمره ثلاث سنوات
تكفي لكتابة رواية كاملة حقيقية لما جرى.
تلك القصة لم تعد تثير فيهم الحزن والألم؛
لأنهم لم يكونوا أطفالا وقتها.
الأطفال لا ينسون؛ لأن الحرب سرقت طفولتهم. «من تسرق طفولته، يستطيع أن يروي بالتفصيل كيف حدث ذلك،
ليس لأن الأطفال لا يكذبون، ولكن لأن الحرب لا تتغير.»
وما زالت الكاميرا تدور
عندما انطلقت أول رصاصة،
كانوا يصورون مشهدا في فيلم سينمائي طويل.
سقط الممثل؛ فانبهر المخرج وطاقم العمل بأدائه المذهل.
لم يتمكن أحد من إيقاظه بعدها. «في اللحظة التي أوقف فيها المخرج التصوير،
انطلقت رصاصات أخرى.»
حقيقة
عذبوه ولم ينطق بحرف،
كانوا يعلمون أن وراء صمته سرا. «لم يعلموا أنه أخرس،
إلا بعد موته من التعذيب.»
خلية نائمة
يعرف أنه لن يصمد تحت التعذيب،
تمنى لو أنه يعرف شيئا ليعترف به،
سأله المحققون عن أسماء أعضاء الخلية النائمة ، «فتح كتاب «التعداد السكاني» وسرد لهم ثلاثين مليون اسم.»
حذاء
داس على لغم،
ربطه في قدمه،
ومن يومها لم يخلعه.
أسماء
نادتني.
كانت تلك آخر مرة أسمع فيها اسمي،
عشت بعدها بأسماء جديدة لم أعتد عليها.
بعد عشرين عاما تعرفت علي خالتي،
نادتني؛ فتذكرت اسمي القديم،
لكني لم أجب. «منذ مقتل أمي في الحرب وأنا طفلة،
لم أعد أجيب النداء.»
ذكرى مفتوحة
البعض أعيد في تابوت مغلق،
أما أبي فلا!
اختفى اسمه من سجلات الحرب والميداليات!
ولأن أمي عاشت على أمل عودته؛ لم تتقبل التعازي.
أنا الذي لا أعرف شكله،
ألتقي بأي رجل في الشارع وأسير خلفه. «حتى بعد أن ماتت أمي،
ما زالت صورته في أحاديثها الطازجة حية.»
أبوة
أخذت الحرب أبي،
ومنحتنا عددا من الأمهات،
لكن ولا واحدة تجيب عندما نناديهن: «بابا»!
تزوجت فقط كي أنجب طفلا وأسميه «بابا». «مسكين جارنا العقيم.»
دمية
أيقظتنا أمي فجرا
قالت: «اجمعوا حاجياتكم.»
كان الوقت مبكرا للقيام بنزهة، فلم آخذ معي شيئا.
مر زمن طويل، ومن يومها لم أكبر أبدا.
لو عرفت أننا لن نعود، لأخذت معي دميتي فقط.
اليوم لا يعرف أطفالي ذلك، فلديهم في أجهزتهم الكثير من الألعاب الحربية.
إن أيقظتهم فجرا، فلن أخبرهم أن يجمعوا ألعابهم.
لو عدت إلى بيتنا القديم لوجدت دميتي، «لكني أخشى أنقاض ذكرياتي هناك».
روح وجسد
يعلم من بقي حيا أن المنازل أجساد لا تتحول إلى بيوت إلا بالذكريات،
وبيوتهم التي دمرتها الحرب
أصبحت ذكرى يحملونها معهم.
الذين سكنت أجسادهم في شقق منحتها لهم الدولة نظير تضحياتهم،
سيلزمهم وقت طويل ليحولوها إلى بيوت. «لولا أن الأرواح التي تصنع الذكريات والبيوت قتلتها الحرب أيضا!»
صمم
انتهت الحرب، لكن البكاء استمر!
قلنا: لنطرد الدموع بالنكات.
سردنا الكثير منها.
بعد كل نكتة تنهمر الدموع. «لقد أفقدتنا الحرب حاسة السمع!»
قبر
تركت الطفلة حراسة المرمى وعادت لتحرس البيت.
قالت لأمها التي ماتت: «أخشى أن يعود أبي وأنا ألعب في الشارع مع الأطفال ولا يعرفني.» «لم تخرج بعدها من البيت .»
وطنية
كانوا يشاهدون التليفزيون عندما سمعوا الخبر.
نهض الأب على غير عادته إلى غرفة النوم،
تبعته الأم، ثم أبناؤهما: ولدان وبنت.
في الصباح كانت الأسرة فارغة.
لم يخبر أي منهم الآخر بنيته في الذهاب إلى الجبهة.
لم يقولوا سوى عبارة واحدة: «ليلة سعيدة.» «ظنوا أنهم سيعودون من المعركة قبل انبلاج الصباح.»
شهداء
منح عدة ميداليات، «لكنه لم يشاهدها.»
مائدة
أرسلوا أبي في اتجاه وأمي في اتجاه آخر.
طوال عام كامل حاولت الانضمام لأحدهما لكنهم لم يقبلوا لصغر سني.
في البيت كنت أعد ثلاثة أطباق.
عندما شاخت الحرب زوجوني بها.
عدت بعد عامين والأطباق على المائدة، «عند كل وجبة أملؤها بالطعام وأنتظر.»
قطط السلام
قبل الحرب لم نكن نأمن على الطعام فوق المائدة؛
كانت القطط تلتهمه. «أتت الحرب؛ فالتهمت الطعام،
والقطط!»
وعد
ما زلت أذكر كيف حملت أصيص الورود من غرفتي إلى جارتي ورجوتها: «اسقيها، من فضلك، سأعود قريبا.»
عدت بعد أربع سنوات،
وجدت الورود يابسة، أما جارتي فلم أعثر عليها. «لم تعد لأنها تعلم أن الورود قد يبست.»
من يومها وهو يحمل مجرفة
لو أن البحر لم يلفظ طفله إلى الشاطئ،
لتعلل بأمل عودته ذات يوم؛ «لهذا قرر الانتقام من البحر.»
جواب
وهو يضحك بشدة وسط معركة حامية،
تذكر طفله حديث الولادة.
حين شخ على بندقيته الرشاشة وبدلته العسكرية؛
شم الجندي بدلته وتساءل: «هل سأحمل طفلي من جديد؟»
أخطاء غير إملائية
وضعوه عند المدخل وانصرفوا؛ لم يعد الضباط قادرين على تحمل ردود أفعال الآباء. وضعوه في مدخل البيت وانصرفوا كاللصوص. في تلك الأثناء كانت الأم تكتب له رسالة، ذهبت لتفتح الباب، رأت التابوت فعرفت كل شيء، لكنها عادت لتكمل رسالتها:
ولدي الحبيب، طالعت رسالتك الأخيرة وسررت بها كثيرا، لقد تحسنت لغتك كثيرا، ثمة أخطاء بسيطة في الصياغة: لفظة «باعتقادي» بادئة، بينما تركيب «بما أن» معقد، وفي جملة «سأفعل كما قال أبي» يجب وضع فاصلة، وفي الجملة الثانية «باعتقادي أنكما لن تشعرا بالخجل بسببي» يجب وضع فاصلة أيضا. لا تنزعج من تصويبات أمك، تعرفني لا أطيق الأخطاء الإملائية. الجو حار عندك، حاول ألا تصاب بالبرد! أنت غالبا ما تصاب بالبرد حتى في الجو القائظ!
1
وضعت الأم رسالتها في مظروف واتجهت إلى المقبرة، لم تذرف الدموع، وعندما عادت من المقبرة فتحت المظروف وأضافت ملاحظة: «لو عدت لي سالما يمكنك أن تقترف ما تشاء من الأخطاء، لن أكلفك بواجب، وسأمحو من ذاكرتك كل ما علمتك عن التضحية وحب الوطن.»
وضعت معلمة اللغة العربية الرسالة في مظروف جديد، وانطلقت إلى البريد.
وفي رسائلها التالية أصبحت تقترف الكثير من الأخطاء.
كانوا يحدقون في الجدران طويلا
يذهبون فتية إلى الحرب؛ طمعا في الميداليات، وكأن الحرب مسابقة للجري، الرابح فيها من تصل جثته أولا! يعودون في توابيت، وعلى جدران البيت يعلق الآباء ميداليات الشجاعة. كلما نظروا إلى ساعة الحائط تصطدم أعينهم بها، كأن كل حائط قبر عليه جثة معلقة. - «انظري، لقد فاز ابننا بميدالية.» يقول الأب. - «لكنه لم يرها.» ترد الأم.
معجزة كل يوم
مذ علمت بمقتله وغلاية الشاي تصدر صفيرا إلى أن يتبخر الماء. لكي تشرب الشاي من جديد عليها أن تفقد ذاكرتها أو أن تحدث معجزة؛ فيعودان لشرب الشاي معا كما كانا يفعلان من قبل. «تحدث المعجزة كل يوم،
تتبخر المحيطات
وتعود إلى غلاية الشاي التي تظل تصفر،
بينما هي ساهمة
تحدق في صورته على الجدار.»
سنعود بعد قليل
وقف حائرا مرتبكا أمام صفوف التوابيت وهو يفكر في طريقة يخفف بها وقع الموت على نفوس الآباء والزوجات، خطرت للقائد فكرة، قال في نفسه: «الأمل أفضل علاج لآلام الروح.» لم يكتشف القائد العسكري هذا العلاج، لكنه أعاد تدويره فقط. على غلاف التوابيت كان مكتوبا: «ممنوع الفتح»؛ لذلك كانوا يدفنون التوابيت دون معرفة محتوياتها. استغل القائد عودة جندي كانوا قد دفنوا تابوته. أشيع الخبر فأشرقت وجوه بقية المنتظرين بالأمل. توقفوا عن العمل وعادوا إلى بيوتهم؛ فربما يعود البقية في أي وقت. قسمت كل عائلة نفسها إلى ورديات، بعضهم ينتظر العائدين وبعضهم يذهبون إلى أعمالهم، وحين يكونون مضطرين للخروج جميعا كانوا يتركون أبواب البيوت مفتوحة حتى إذا عاد الأبناء المفقودون لا يضطرون للوقوف. كتبوا على كل باب: «سنعود بعد قليل.» «لم يكونوا يعلمون أن الجندي العائد
كان الناجي الوحيد.»
فخ
كانت تحلم بعائلة كبيرة لكنها تخاف أن تسرقهم الحرب. من بين كل قوانين الحرب لم تكن الأم تعرف سوى قانون واحد: «وحيد أمه يعفى من الخدمة العسكرية». من أجل ذلك لم تنجب سوى طفل واحد. هناك من لم ينجب على الإطلاق، ولأن الحروب تعطل كل القوانين، لم يتزوج البعض خوفا من أن تسن الدولة قانونا جديدا يجبرهم على الإنجاب. الكل ينتظر نهاية حقيقية للحرب. «يعتقدون أن السلام مجرد هدنة لإنجاب المقاتلين.»
تحديد نسل
عندما عاد أبي من الحرب لم يتكلم،
ولكي أفهم سر صمته
ذهبت إلى الحرب التالية ففهمت. «وددت لو أعود لأقول لطفلي - الذي لم يولد بعد - عبارة واحدة فقط.»
من مفكرة عائد
في البداية يكون الغضب هو الدافع للقتل، الكراهية وحدها لا تكفي. يحرص القتلة وتجار الحروب أن تبقى نار الغضب والكراهية مشتعلة. انطفاء شعلة الحرب سيعني اشتعال نار أخرى أشد، هي جحيم الضمير. الضمير سجن لا يمكن الفرار من أسواره. الاعتراف بالذنب يكون حلا وسطا، فربما تخفف زنزانة السجن من الحصار الذي يفرضه سجن الضمير.
في ميادين المعارك يمنحونه الأوسمة؛ لأنه قتل المئات، أما هنا فيحاكمونه لأنه قتل شخصا عن طريق الخطأ. كل ميدالية مشنوقة على الحائط بمثابة جريمة يطلقون عليها بطولة. تنتهي الحرب لكن جحيمها يستعر في داخله. الحرب وسيلة لإدمان القتل، والعودة إلى الوطن منتصرين لا تضع حدا له إلا بعلاج الإدمان في مصحة السلام الدائم.
الجنود يقهقهون لأتفه الأسباب، حتى على نكتة قديمة سمعوها عشرات المرات. يقهقهون لأنهم يعلمون أنها قد تكون ضحكتهم الأخيرة، ومن يضحك أخيرا في الحرب لا ينتصر بالضرورة. الحرب لا تعد بالنصر، حتى لو كانت نتيجتها محسومة سلفا. «كيف ينجب النصر والحرب عقيمة؟!»
جثة
أرسله أبوه للحرب؛
لكي يصبح رجلا. ؟
علموهم في العسكرية: «نفذ ثم استفهم.»
بعد انتهاء الحرب، أغلبهم لم يسأل. «الذين عادوا لم يعودوا قادرين على طرح الأسئلة.»
حب
للمرة الثانية ينقذ ابنه من الموت،
في المرة الثالثة فجر الجسر كي يمنعه من القفز من فوقه.
في الرابعة عصرا وجده أشلاء؛
فجر الابن نفسه بما تبقى من بارود أبيه. «عند الخامسة فقط فكر الأب في أولئك العالقين بين الضفتين.»
أبناء
لم يحزن عندما زفوا إليه الخبر.
كان قد جهز صورة ببرواز.
لم يبق سوى تعليقها إلى جوار خمس صور أخرى تعلوها لوحة «ولا تحسبن ...»
على الحائط المقابل علق بندقيته. «كل بندقية على الحائط تساوي شهيدا في الجبهة.»
أخطاء قاتلة
من يومها لم يعد يأبه بالأخطاء الإملائية الشنيعة التي يرتكبها الكتاب.
يكتبون التاء المربوطة هاء، لا يهم.
ترك وظيفته كمصحح لغوي.
لم يعد يطالع الكتب، أغلق حساباته في مواقع التواصل،
ولزم البيت.
البيت يذكره بابنه المتوفى، لكنه أهون من كل ما سبق.
خروجه من البيت يعني أن يذكر ابنه مع كل خطأ يقابله في لوحات الشوارع والصحف والمواقع ...
مع كل كلمة خاطئة كان يقول لهم: «ابني الصغير يعرف كيف يكتبها أفضل منكم.»
ابنه الصغير راح ضحية خطأ من نوع آخر. «الطبيب الذي عمل له العملية كان يكتب التاء المربوطة هاء.»
كاتم صوت
بمجرد أن تقتل ستقبض عليك الشرطة.
لن تستطيع الهرب،
ستفضحك أجهزة التعقب عن بعد.
الشريحة المزروعة في جسدك لم تمنع الجريمة،
لقد وضعت حدا للجريمة الكاملة فقط.
أنت لا تخشى القبض عليك،
وضميرك ميت إلى درجة يمكنك فيها قتل الجميع.
لكنك لا تريد أن تقتل الجميع،
تريد أن تقتل شخصا واحدا كتم صوتك،
ومات قبل أن تصل إليه.
كل ما كتبته أعلاه يسجله النظام الجديد،
لكنهم لن يقبضوا عليك.
لا شك أنهم يقهقهون الآن وأنت تذرع الغرفة جيئة وذهابا،
وتأكل نفسك؛ لأنك لن تتمكن من القتل. «لم يعد الانتحار بالمنومات شائعا إلا لأولئك الذي يريدون أن يتم إنقاذهم.»
شاهد على ضريح
تتنازعني رغبتان: الرغبة في حرق جسدي بعد الموت، والرغبة في شاهد رخامي على قبري . لكن القبر يحتاج إلى جثة، والجثة ستكون قد أكلتها النيران وطيرتها الرياح. تعارض الرغبتين ليس العقبة الوحيدة. السفر إلى بلد يحرقون فيه الموتى صعب جدا، لكن إلى يوم يأتي الموت ربما أكون قد وجدت حلا وتمكنت من الهجرة ولو قبل يوم من موتي. خلو القبر من جثتي لن يشكل عقبة مهمة، فالكثير من الموتى يعيشون خارج قبورهم، مع ذلك لديهم شواهد رخامية محفور عليها عبارة بليغة مقتبسة من رواية أو قصيدة أو كتاب مقدس، متبوعة بتاريخ ميلاد ووفاة. بعضهم لديهم تاريخ واحد فقط: 21 أكتوبر 2016م. هذا يجعلك تتساءل: لماذا لم يكتبوا تاريخ الوفاة؟! لكن مشاهدتك لبرامج الحياة البرية على التليفزيون تجعلك تدرك السبب وأنت تستعيد صورة صوص يخرج من بيضة إلى فم ثعبان دون أن يتمكن من استنشاق الهواء وتجريب جناحيه. العقبة الأهم هي في الشاهد الرخامي، ماذا ستكتب عليه؟!
أرغب بشاهد قبر دون تاريخ ميلاد أو وفاة، محفور عليه عبارة خالدة. قد تقولون بإمكاني أن أقتبس عبارة مثلما يفعل كثيرون، لكن تلك العبارات ملك لأصحابها، وبها يظلون على قيد الشفاه، كما أنني لا أستسيغ العبارات المقدسة، ثم إنها تذكر الناس بالموت، وأنا أبحث عن عبارة تذكرهم بالأبدية، عبارة بليغة لم يكتبها أحد قبلي، هذا ما أحتاجه. لم أكتشفها حتى الآن، كأني قرد على آلة كاتبة لم يفلح في كتابة جملة مترابطة على الرغم من استبدال الآلة بأحدث الكمبيوترات. يحتاج القرد أن يستنشق الهواء ويجتاز الغابة وتجريب الفصول الأربعة ملايين المرات قبل أن يكتب جملة واحدة عن ذاكرة الموز. «هل عرفتم الآن لماذا امتهنت الكتابة؟!»
أولاد تسعة
لم تكن الأرض على الشكل الذي تعرفونه من خلال الخرائط. كانت نسبة الماء أكبر، ونسبة اليابسة أقل بكثير. من تلك اليابسة ظهرت الجزر، لكنها لم تظهر هكذا فجأة أو كما علموكم في دروس الجغرافيا. أنصتوا إلى القصة الحقيقية:
على يابسة كانت أشبه بقبضة وسط محيط ضخم عرف الناس الحرب. أثناء إحدى الهدن توصلوا إلى فكرة سلام، قال صاحب الفكرة: «لنبن أرضا أخرى وسط المحيط لتكون مكانا آمنا يسكن فيه كل من ينبذ الحرب.»
رفع الجميع أصابعهم، وهنا عرفوا التصويت لأول مرة، قال المفكر: «إذا كان الجميع يبحث عن الأمن والسلام، فلماذا تتحاربون؟!» ثم عرض فكرة أخرى للتصويت عبر القرعة. كتب أسماء المتحاربين على ورقتين ووضعهما في سلة ثم طلب منهم اختيار إحداهما ليكون أصحابها سكان الأرض الجديدة.
كانوا بحاجة إلى وسيلة لنقل التربة إلى مكان قصي فوق المحيط، من هنا خرجت فكرة السفن. قبلها لم يكونوا بحاجة للذهاب إلى أي مكان. بعد أن صنعوا الجزيرة الأولى، انتقل أحد الفريقين إليها. كانوا يعتقدون أن الجزر ستقلل من تواصلهم وستنتهي الحروب. لكن الحرب لم تنته، وهكذا ظهرت الجزر واحدة تلو الأخرى إلى أن التصقت ببعضها في يابسة كبيرة تسمونها اليوم: قارات.
أدرك الجميع أن الجزر لا تمنع الحروب؛ فجلسوا في هدنة يفكرون في وسيلة لإيقافها. كان عدد القارات وقتها تسعا، فخطرت للتسعة المجتمعين فكرة تبادل الأبناء، بمجرد أن يولد الطفل يحمل إلى أسرة أخرى، والمولود في هذه الأسرة يؤخذ إلى أسرة أخرى، وهكذا. عم السلام طويلا؛ إذ لم يكن يجرؤ أحد على قتل ابنه أو أخيه أو أبيه، إلى أن قتل قابيل هابيل. من يومها والناس يفكرون بوسيلة لمنع الحمل.
انقلاب
أعجبته تجربة المعتقل التي قرأ عنها كثيرا في سير الكتاب،
أحب أن يخوضها، لكن لم يعد هناك معتقلات.
لم يعد هناك مظاهرات وثورات إلا عبر صناديق الاقتراع. «التحق بالجيش؛ فمن هناك يستطيع أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء.»
تخطيط
الشوارع كلها بأسماء الشهداء،
ولأنها لم تعد كافية، توقفت الحرب.
ولأننا نخشى أن تخطط الدولة شوارع جديدة، «توقفنا عن الإنجاب،
إلى أن صارت الشوارع فارغة.»
بتر
عند دخوله لاحظ أن سقف البيت عال، «لم يكن بذلك العلو قبل الحرب!»
قذيفة
ذهبت إلى الحرب كممرضة،
لكن لم تسنح لها الفرصة لإسعاف أحد.
قبل الحرب
لم يكن أخرس.
محطة نوبل
في الطريق إلى محطة الباصات،
التقيت مراهقا يهذي بأمل: «ماذا لو امتطيت شعاعا من الضوء؟»
همست في أذنه : «جرب وسيلة نقل أخرى،
سبقك من امتطى الضوء إلى محطة نوبل.»
تركته وهو يهذي، كأم تنادي أطفالها المفقودين: «تشيرنوبل ... هيروشيما ... ناجازاكي.»
حديث الروح
تبقى لدينا تلفاز وثلاجة وكرسي، هذه الأشياء البسيطة، وملابسك التي عليك بالطبع تنقذ حياتك، لو أن قطاع الطرق يقتلون الناس من أجلها فقط، في الأخير تصبح عاريا، ولا يعود لديك شيء لتعطيه لهم. «هكذا سلبوا حياتنا.»
تصفيق بيد واحدة
قبل أن تسلبه الحرب يديه وسمعه لم يكن يصفق في حفلات الموسيقى،
كان يصغي بروحه ويصفق بقلبه.
لم يعد أحد يسأله: لماذا لا تصفق؟
فجوابه القديم لم يتغير: «يد واحدة لا تصفق، ولا يدان كذلك.»
اقتصاد
بعد فشل محاولة الانتحار استجوبني الضابط، لم يسألني: لماذا تحاول قتل نفسك؟ سأل: «كيف تجرؤ على قتل نفسك دون أن تبلغنا؟» لم أفهم السؤال فأعاد طرحه بصيغة أخرى: «جسدك غال علينا ومن السرف إهداره هكذا بحبل مشنقة أو حبوب منوم.» بعد أسبوع أرسلوني إلى الجبهة، قال لي المسئول عن التجنيد: «قد تعود بميدالية أو ميداليتين أو في تابوت.» لم يضع في الحسبان أني قد أعود مبتورا.
هجرة
وجده ملقى على الطريق، قال له: سأسعفك.
أسعفه إلى مكان.
خدروه.
لم يفق، لكن أمنيته في الهجرة تحققت.
إحدى كليتيه سافرت إلى باريس والأخرى إلى أمريكا،
وجزء من كبده إلى إيطاليا،
وهكذا استقرت أعضاؤه في أصقاع الأرض.
وحده قلبه ظل في الوطن،
استقر في صدر رجل وطني طالما أحب وطنه حد الاستنزاف.
تيتا وتيتو (سأل تيتو جدته عن الله؛ فدار بينهما هذا الحوار.)
تيتا: الله رحيم وقلبه كبير يا روح تيتا.
تيتو: كبير! كم حجمه؟!
تيتا: بحجم الدنيا.
تيتو: إذا كان كبيرا بهذا الحجم فلماذا لا نراه؟!
تيتا: لأنه بعيييييد!
تيتو: إذا كان قلبه كبيرا فدقاته كبيرة، لماذا لا نسمعها؟!
تيتا: الضوضاء من حولنا تمنعنا من سماعها!
تيتو: طيب لماذا لا يرفع صوته أو يستعمل مكبرات صوت مثل المسجد؟!
تيتا: الأهم هو أنه يسمعنا!
تيتو: إذا كان يسمعنا فلماذا لا يتدخل؟!
تيتا: كل شيء مسجل عنده في دفتر كبيييير، وسيأتي اليوم الذي يتدخل فيه.
تيتو: طيب لماذا لا نرى صورته؟! هل هو خجلان منا؟!
تيتا: الله لا يخجل يا روح تيتا.
تيتو: صحيح، وإلا لم أخذ ماما وبابا وأصحابي الذين ألعب معهم؟!
تيتا: ...
واصلت الجدة وحفيدها تيتو ذو الخمس سنوات طريقهما إلى مخيم اللاجئين صامتين. كانت أصوات القذائف تطغى على أصوات مكبرات المآذن وأجراس الكنائس.
فكر تيتو: «لعلها أصوات الله!»
حرب خفية
نظرات أسرته إليه وهو يغادر إلى الجبهة كانت تقول بأنه لن يعود.
نجا من الحرب وعاد معاقا، لكنه لم يجد أحدا في البيت.
جيش غير مرئي غزا المكان وقتل الجميع.
عتبة الرحيل
قصص ضحايا الحروب لا تصدق،
ولأن الحقيقة لا تقوى على الصمود أمام الفظائع المرتكبة،
يلجأ الشهود على وحشية الإنسان إلى الكذب.
القليل من الكذب في مثل هذه الظروف يكون ضروريا،
لا لتجميل الحقيقة ولا لتشويهها،
بل لطمس بعض معالم بشاعتها؛
كي لا تصبح مألوفة في أنظار الأبرياء.
كلما كبرت المأساة ازداد الإنسان خرسا.
ناپیژندل شوی مخ