بين اليقظة الواعية في طرف، والموت البارد في طرف آخر، هنالك حالات متدرجة من الغيبوبة والنعاس، التي إن أدركت فيها الحواس شيئا مما حولها، فأخلاط مهوشة لا تغني شيئا من حركة الجسم ونشاط الأعضاء، وسيأخذك العجب حين أزعم لك أن قلة ضئيلة من الناس هي اليقظانة الواعية، وأما الكثرة الغالبة منهم ففي غيبوبة ونعاس، في وجوههم أعين مفتوحة ، لكنها تنظر ولا ترى.
والأمم في هذا كله كالأفراد سواء بسواء، فما الأمة إلا مجموعة أفرادها، وقد تشيع في هؤلاء الأفراد يقظة للعالم من حولهم، فتكون أمتهم بذلك أمة حية، أو قد تشيع فيهم حالة الغيبوبة فتكون أمتهم بذلك نعسانة غافلة، وفي إيقاظ الأمة النعسانة معنى النهوض، فإذا قلنا إن أوروبا قد «نهضت» في القرن السابع عشر، حين تنبه فيها نفر من أبنائها إلى عالم الأرض والسماء، كان معنى ذلك اعترافا منا بغيبوبة سابقة، شاعت في أبنائها، فأغمضت أعينهم وأصمت آذانهم عن مشاهد الدنيا وأصواتها، وإذا قلنا إن مصر قد بدأت «نهضتها» في أول القرن التاسع عشر، كان المراد بذلك أنها ظلت غافلة عن أحداث العالم الخارجي حتى ذلك الحين، ثم جاءها من أيقظها ففتح عينيه. وإني لأذكر أستاذنا الجليل «...» وهو يحاضرنا أيام الطلب في الحملة الفرنسية على مصر، بعلمه الغزير وفكاهته البارعة، كيف أخذ يرسم لنا صورة حية للمصريين عندئذ، وهم في نعاسهم غارقون، حتى إذا ما جاءهم «نلسن» بأسطوله باحثا عن نابليون - لأن نابليون وهو في طريقه إلى مصر، قد أخفى عن العالم هدفه المقصود - فسألهم: ألم يمر ببلادكم نابليون بمراكبه؟ فقال له من أجابه: أي نابليون وأية مراكب؟ إننا لا ندري من أمر ذلك شيئا، نحن بلاد تتبع السلطان ... إلى آخر الصورة الفكهة البديعة التي رسمها لنا أستاذنا عندئذ، ولم يطل بهؤلاء الراقدين الغافلين زمن الانتظار، حتى جاءتهم الحملة النابليونية توقظهم، فعلموا عندئذ أن أوروبا قد قامت بالثورة الفرنسية على قدم وساق، واتصلت مصر بذلك العالم الصاخب منذ ذلك الحين، فقيل - وللقول مغزاه - إن مصر قد «نهضت» فاستيقظت من نعاسها، وهي ما تزال ماضية في هذا النهوض المبارك، حتى تستكمل يقظتها ووعيها، فتكمل لها بذلك مقومات الحياة.
إن هذه الأحداث الدامية التي تقع في أرضنا اليوم هي من علائم البشرى؛ لأننا قد أخذنا نرد على المؤثرات من حولنا بما يلائمها، فحياتنا القوية المليئة مرهونة بقدرتنا على الاستجابة السريعة للمؤثرات الخارجية، استجابة نؤقلم بها أنفسنا على نحو يوفق بينها وبين العالم المحيط بنا بكل ما فيه من خير وشر، إنه لا يجدينا شيئا أن ننكمش في قواقعنا الفكرية والسلوكية، ظنا منا بأن تلك القواقع قمينة أن تصون لنا شخصية مستقلة متميزة قائمة بذاتها، فلنفتح النوافذ والأبواب على مصاريعها للهواء، بل للزوابع والعواصف، حتى تتعادل درجة الحرارة داخل الدار معها في الخارج، ولا يكفي أن نتلقى ونحن في قابلية الحجر الأصم، بل لا بد أن نرد على العوامل الآتية في فاعلية نثبت وجودنا ونؤكد للعالم أننا جزء من جسمه متنبه حساس.
عزمات الإرادة
ما أسرع وما أهون أن تسري الفكرة الخاطئة في الناس، فلا يستطيع بعدئذ أن يشير إلى بطلانها إلا فيلسوف كبير أو طفل صغير! ذلك لأن الحقيقة كثيرا ما تكون واضحة ناصعة جلية، يراها كل ذي بصر لم يعمه الهوى، لكن إعلانها - مع ذلك - قد يحتاج إلى فيلسوف جريء أو طفل بريء!
إن من أقاصيص «هانس أندرسن» قصة مشهورة معروفة، خلاصتها أن حاكما كان مولعا بالملابس الجديدة، فأقبل ذات يوم على مدينته محتالان زعما له أنهما يحسنان نسج قماش رقيق جميل، فيه ميزة عجيبة، وهي أنه يخفى على عيون العاجزين والبلهاء، ففرح الحاكم بما سمع، وأمرهما أن ينسجا له ثوبا من هذا القماش العجيب؛ لأنه عندئذ يستطيع أن يميز في رجال حكومته بين القادر والعاجز، وأن يعرف من ذا يكون من الناس عاقلا ومن لا يكون.
وأخذ المحتالان ما طلباه من مال، ثم أخذا يخبطان بالأنوال نهارا وليلا؛ ليوهما الحاكم أنهما جادان في العمل، والحقيقة أنهما لا يعملان شيئا، وبعد أيام أرسل الحاكم وزيره إلى النساجين ليرى كم نسجا، فأخذ هذان يلوحان بأيديهما في الفضاء، زاعمين أنهما يشيران إلى قماش منسوج مزخرف، ولم ير الوزير شيئا، لكنه لم يجرؤ على إعلان ذلك حتى لا يوصم بالعجز والبلاهة، وراح يؤيد المحتالين في جمال القماش وجودته.
وسرى نبأ القماش الجديد العجيب بين أهل المدينة، وأعلن الحاكم أنه سيسير بين شعبه في موكب رسمي يوم يرتدي حلته الجديدة، فلما حان اليوم ذهب الحاكم مع حاشيته إلى مكان النسج، وخلع ملابسه ليرتدي الثوب الجديد، وجعل النساجان يحركان أيديهما في الهواء كأنما يلبسانه شيئا. إنه لم ير في الهواء ثوبا ولا شبه ثوب، لكنه لم يجرؤ على إعلان ذلك فيوصف بالبلاهة والعجز، مع أنه صاحب جلالة وفخامة، وراح بدوره يبدي إعجابه بما لبس، وينظر إلى نفسه في المرآة مزهوا فخورا.
وبدأ الموكب الرسمي، وسار الحاكم بين الناس «عاريا» إلا من أوهامه وأوهام شعبه، فمن ذا يجرؤ على القول بأنه لا يرى شيئا؟ ... إلا طفل صغير كان يقف إلى جانب أبيه، فصاح لأبيه قائلا: لكن الحاكم لا يرتدي شيئا! فنقلها أبوه إلى جاره، وهذا الجار إلى جاره، حتى ساد الرأي بأن الحاكم عريان الجسد لا يرتدي شيئا.
والطفل الذي أخرج الناس من ضلالهم حين رأى الحقيقة الواضحة ببداهته الطبيعية التي لم يفسدها الناس بأوهامهم، هو كالفيلسوف الذي يرى للناس رأيا واضحا يسيرا، فلا يكون فضله عليهم هو أنه أدرك ما لا يستطيعون إدراكه، بل فضله هو جرأته في إعلان ما يدركه ويدركونه معه ... وأي عسر في أن يقال إن الإنسان من حقه أن يعيش حرا في رأيه وعقيدته؟ لكن إعلان هذا الحق قد تلكأ مئات السنين إن لم نقل ألوفها حتى يعلنه الجريء في وجه الطغاة، أي عسر في أن يقال إن الإنسان من حقه أن يأكل ما يشبعه ويكتسي بما يقيه؟ لكن إعلان هذا الحق قد تلكأ وما يزال متلكئا ... وهكذا قل في بدائه كثيرة يراها كل إنسان، أو يستطيع أن يراها إذا أراد، لكنه ينتظر أول ناعق.
ناپیژندل شوی مخ