أيام الصبر على الدين
الحديث الثاني: روى الترمذي وأبو داود عن أبي ثعلبة الخشني ﵁ وأرضاه، وهو حديث طويل جاء في آخره كلام عجيب لرسول الله ﷺ، يقول النبي ﷺ: (فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل القبض على الجمر)، فصعب جدًا أن تتمسك بدينك وكأنك تمسك في يديك جمرة ملتهبة، لكن انتبه وانظر إلى بقية الحديث، يقول ﷺ: (للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم)، أي: أجر خمسين رجلًا يعملون مثل أعمال الصحابة؛ لذلك استغرب الصحابة فقالوا: (يا رسول الله أجر خمسين رجلًا منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين رجلًا منكم)، فالذي يتمسك بدينه الآن له أجر خمسين من الصحابة، وعليه فلا يوجد هناك أناس محبطة من أنها تقلد صحابيًا؛ لأن عندها فرصة لأن تكون مثل خمسين صحابيًا، ولا يستغرب أحد، فالله ﷿ عادل لا يظلم مثقال ذرة، وفوق ذلك هو الكريم ﷾، ففرق كبير جدًا بين الصحابي الذي يعيش في معسكر إيماني كامل، كلما سار في اتجاه رأى مؤمنًا، بل يرى رجالًا الواحد منهم يوزن بأمة كاملة، فإذا سار هنا رأى الصديق والفاروق وعثمان وعليًا، وإذا سار هناك رأى أبا عبيدة وسعدًا والزبير، وإذا دخل المسجد وجد سعد بن معاذ وعبد الله بن مسعود، وإذا حضر درس علم سمعه من فم رسول الله ﷺ، وجلس فيه إلى جواره أبو هريرة ومعاذ بن جبل وأنس بن مالك، ويصلي الجماعة مع أبي ذر وأبي الدرداء، ويسمع الأذان من بلال، وإذا جاهدت جاهد تحت قيادة خالد بن الوليد، وإذا سافر سافر مع أبي موسى الأشعري.
أما الآن فهو يعيش في مجتمع لا يجد فيه على الخير أعوانًا إلا القليل، ومع ذلك يصبر على طاعة ربه، ويصبر على الدعوة، ويصبر على الإسلام صبرًا كأنه يقبض على الجمر، نعم والله تمامًا كما وصف رسول الله ﷺ، وقارن بين الصحابي الذي يعيش في مجتمع قلما تقع فيه عينه على معصية، وقلما يسمع منكرًا، وبين هذا الذي يطيع ربه ويقبض على دينه في مجتمع تقتحم فيه المعاصي عينيه اقتحامًا، فيمشي في الشارع فيجد المعاصي، ويفتح التلفاز فيجد المعاصي، وينظر على الجدران في الشوارع فيجد المعاصي، ويدخل الجامعة والمستشفى، بل ويذهب للعزاء فيجد المعاصي، وفي كل مكان يجد المعاصي، وليس هناك اعتبار لعلم ولا لمرض ولا للموت.
إذًا: عند هذه المعاصي أنت تقبض على دينك كما تقبض على الجمر، وعلى قدر ما كان رسول الله ﷺ يبجل ويعظم ويقدر من يعمل حسنة أو فضيلة، فنحن في هذا الزمان على قدر هذا الأمر يحارب الدعاة، على قدر هذا الأمر هناك إهانة وتشريد وتعذيب للدعاة؛ من أجل أنهم أمروا بالذي كان يأمر به رسول الله ﷺ: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ﴾ [النمل:٥٦]، ما هي الجريمة؟ ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [النمل:٥٦]، فهذه هي مشكلة أهل الخير في زماننا، فعلى قدر ما كان الرسول ﷺ يعظم الصحابي إذا عمل خيرًا، على قدر ما الداعية في هذا الزمان يحارب ويطارد، ولذا عندما تضع كل هذه الملابسات والظروف في ذهنك، وأنت تعلم أن الله ﷿ عادل لا يظلم مثقال ذرة تستطيع أن تفهم بشارة رسول الله ﷺ: (للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا ويعملون مثل عملكم، فقالوا: منا أو منهم يا رسول الله؟ قال: بل أجر خمسين رجلًا منكم).
إن هذه المجموعة من المحاضرات غرضها أن نكون من هؤلاء القابضين على الجمر، من هؤلاء الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنة رسول الله ﷺ، من هؤلاء الغرباء الذين لا يعتبرون بنظر الناس إليهم، وإنما فقط يعتبرون بنظر الله ﷿ لهم، من هؤلاء الذين يحلمون أن يكونوا صحابة، بل من أولئك الذين إذا عملوا أجروا، ليس فقط كأجر صحابي، بل كأجر خمسين من الصحابة.
نسأل الله ﷿ أن نكون منهم، وأن يجمع بيننا وبين حبيبنا وقائدنا وقدوتنا رسول الله ﷺ وصحابته الكرام، إن الله ﷿ على كل شيء قدير.
﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر:٤٤].
وجزاكم الله خيرًا كثيرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
2 / 10