وما في خلق الله أعظم من المرأة، فهي طبيعة وحدها، غير أنها الطبيعة الدقيقة الحس، وليس يدرك الرجل حقيقة نفسه قبل أن يخلطها بنفسه؛ فإذا رأيتها خاملة مغمورة، أو ساقطة مزجورة، أو ميتة في الأحياء مقبورة، فلا ترين أنها مغلوبة للرجل ولكنها مغلوبة لاحساسها، وقد وفر الله عليها من القوة ما شاء، ولكنه غمز منها موضعا دقيقا فخرجت بحيث تراها أقوى الأشياء، وترى هي نفسها كأن لا قوة فيها، وهذا سر من نظام الطبيعة؛ فإن أشجع الناس الذي لا يخاف شيئا يخاف أشياء كثيرة من نفسه، فلولا أثر يد الله في إضعافها ما قامت للرجل معها قائمة.
وهذا الموضع الذي أسلمها ضعيفة مستخذية إنما هو جهلها بتصريف إحساسها، فليست القوة إلا شيئا طبيعيا في هذا الوجود كائنة ما كانت، وإنما الشأن كله في العلم بطريقة استعمالها، وما من رجل يداري المرأة نوعا من المداراة فترضى عنه وجها من الرضا، إلا رآها في يده أضعف ما خلق الله هينة لينة سمحة مطمئنة، إن كانت دون الملائكة فهي فوق الناس؛ إذ هو إنما يستولي على إحساسها فيأمن أن تصرفه في غير مرضاته ومحبته، ومن ثم تصبح كأنها صورة من إرادته، وكأن في نفسها نفسه.
فإن جهل الرجل كيف يداريها، وانقطعت الأسباب المختلفة بينه وبين رضاها، ولم يكن أهلا منها لما هي أهله منه، استوقد إحساسها وبصرها كيف تناله؟ ومن أين تأتيه؟ فابتلي منها بفتنة ما تهدأ وقدتها؛ فما السابح في البحر إذا أراد أن يقيد الموجة العاتية بالحبال، ولا المصروع إذا حاول أن يدفع بيده ما أفزعه من جن الخيال، ولا الطفل يبتغي أن يمسك القمر في الماء، ولا المجنون يتطاول فيقتلع النجم من السماء؛ بأقدر ممن تبغضه المرأة إذا زعم القدرة على إرغامها وتصريف زمامها؛ ومن تمضغه المرأة إذا زعم القدرة على إسكانها، والسلامة من بركاتها، ومن تحقره المرأة إذا زعم القدرة على ردها وإرجاعها دون حدها، ومن تصول عليه المرأة إذا ادعى القدرة على إسقاطها، والقوة على التقاطها!
فليس يعجز الرجل في سلاطة المرأة إذا هي سلطت عليه ما يكون من حدة جنانها، وشدة عنانها، وشرة لسانها؛ فكل هذه وأمثال هذه إنما هي ضروب مما تحاول من إظهار عظمتها الطبيعية المغلوبة، ومن أجل ذلك قلما كانت المرأة السليطة إلا غالبة؛ إذ هي نفس منفجرة.
ولقد يعجز الإنسان أحيانا كثيرة أن يكون نفسه؛ إذ لا تنقاد له الطريقة التي يغلب بها على الحوادث أو يجاريها أو ينبه لها الحذر، ومن ثم ينكر نفسه كأنها غير التي يعرف من قبل، ولكن المرأة متى ثارت لا تعجز أبدا أن تكون نفسها، وما نفسها إلا أعظم ما في الخليقة من الخير والشر!
قال «الشيخ علي»: كذلك صارت «لويز» مع زوجها، وانحازت إليها طبيعته الغالبة؛ فكانت قوية به وبنفسها، وكان ضعيفا بها وبنفسه.
ألا وإن أخلاق المرء إنما هي أعصاب أعماله، فانظر - ويحك - ما عسى أن يكون في البغض أشد من أعمال امرأة أبغضت بعقلها وبقلبها، ولحاضرها ومستقبلها، وصارت حياتها كلها من الشر والسوء كأنها لعنة يصبها الله على رأس هذا الهرم؟
وكذلك اندمج في إرادتها كما يندمج الثعلب في فروته الجميلة الناعمة؛ ترميه بالنظرة حين يتكلم فتقف الكلمة بين حلقه والوريد، ويجيئها وقد أجمع النية أن يأمرها فلا تأخذه عينها حتى يسألها ما تأمره؟ ويجهد أن تعلم أنه زوجها ثم ينقلب وهو يتمنى لو تعلم أنها زوجته، ويوسع قلبه عزما أن يفعل ويفعل، ثم يراها فيخشى أن تكون اطلعت على أن في قلبه شيئا من العزم!
وهو لا يعلم بزعمه كيف أنكرته وكيف تغيرت عليه وكيف تنكرت له، ولكنه يريد أن يسأل كل شيء عن ذلك إلا وجهه، ذلك الوجه الذي جعله الحب أقبح ما عرف من دائه، وأشد ما خاف من أعدائه، وما أفضى إليها مرة وهو يحمله، إلا عرف أنه من ذنبه في حبها، وأنه من عذرها في بغضه؛ فيطرق إطراقة يتكلفها ويحسبها تشفع له عندها، لأن فيها ذل الشيبة، وألم الخيبة، وشدة الهيبة، ولكن وجهه يظهره وقتئذ مظهرا ليس في معنى السماجة أسمج منه؛ إذ يكون كاللص الذي لا ينكر على ملأ من الناس أنه سارق، وهو مع ذلك يحرص على أن لا يؤخذ منه ما تجشم في سرقته. وقد عرفت المرأة أنها لا تغمز منه إلا مكاسر عظمه الواهن، ولا تطأ منه إلا كل مفصل مرضوض، ولكنها عرفت كذلك أنه ظالم لنفسه؛ إذ حملها ما ليس في طاقته، وظالم لها إذ أرادها على ما ليس في طاقتها؛ فهو ظالم أشبه بمظلوم، وما مثله في حبها إلا كمثل الفراشة، لا ترجع دون المصباح إلا أن تخالط ناره، فما تحتال من حيلة إلا أحست منها حتفها وتلفها، غير أنها لا تزال تنزع من ذلك إلى ما ينبغي أن تنزع عنه، وكلما تهافتت انحص جناحها من ناحية؛ ومع هذا كله لا تسكن ما دامت فيها حركة تنبعث.
وما من شيء إلا وقد جعل الله فيه النفع والضرر، فمن التمسه على حالة منهما لم تؤده إلى الأخرى، وما تغني الإنسان معرفة الأشياء على حقائقها إلا إذا عرف مع ذلك فروق ما بينها، وتبين الحدود الفاصلة بين الشيء والشيء الآخر، وبين الحالة والحالة في الشيء الواحد؛ فقد يكون الإفراط من الدواء داء مع الداء، وقد يجتمع من طعامين بلاء لا يكون من جوع يومين!
ناپیژندل شوی مخ