وقد رأينا الحكومات تجمع الأنواع من الجماد والنبات والحيوان تؤلف منها الكتب الحية على نسق الطبيعة نفسها، وهي تلك التي يسمونها «المعارض» و«المتاحف»، ولم نر حكومة واحدة أقامت معرضا حيوانيا لأشخاص الرذائل يدرس فيه علم المقابلة بين الطباع في الإنسان وبين الغرائز في الحيوان، وعلم الانحطاط الاجتماعي وفن الطبقات السفلى من الحياة، وتؤخذ منه أمثلة الاعتبار والموعظة والنصيحة في أبواب مختلفة، ولو قد فعلت ذلك أمة من الأمم، لرأى الناس فيما يرون هناك من كبار اللصوص وأهل الإثم والشر والفساد عددا كبيرا من كبار ... من كبار الأغنياء، ثم لرأوا كيف يتصل تاريخ الطمع بتاريخ البخل، وكيف يتصل هذا بتاريخ الغنى، ولظهر لهم بطلان معان كثيرة مما يعده الناس في باب الحقائق؛ إذ لا تجد الرذيلة هناك من يكابر فيها أو يغر بها أو يناضل عنها، ولا صاحبها نفسه؛ لأنه في قفص من أقفاص المعرض، وكأنه ثمة معنى من الباطل محبوس في شكل من البرهان على فساده!
وليت شعري - وذلك معنى الغنى - هل يظن من اجتمعت له نفقة ألف سنة أنه سينال فيما بقي من عمره القصير لذة كلذة عيشه ألف سنة، وأنه إذا ادخر ما يقوم بمائة ألف إنسان فقد صار هو في الأرض مائة ألف بطن؟ إن حياة الغني على هذا الوجه لا تكون إلا موتا على طريقة الحياة؛ فليس الإسراف في جمع المال والكلب عليه إلا طريقة دنيئة لإنفاق العمر، وليس حب المال والبخل به إلا وجها من بغض الناس وازدرائهم، وإنما البخل في رأي أهله وسيلة الغنى وسننه القريب، وهو مهما احتجوا له وتمحلوا فيه وناضلوا عليه، ليس أكثر من كونه شعورا ذا جهتين: فأما من جهة البخيل فهو الحب للنفس لا غير، وأما من جهة النفس فهو البغض للناس لا أكثر ولا أقل!
ولأيسر على الناس أن يرتووا من رشح الحجر، ويغتذوا بلبن الطير،
22
من أن يجدوا في الرجل البخيل بغضا لشيء من المال يرضخ به محبة لهم وشفقة عليهم وحنانا من لدنه. قديما كان البخيل أبغض الناس لهم وأبغضهم إليهم وأبغضهم فيهم، وما أقبح هذا البخل - أخزاه الله - أن يكون بغضا ثلاث مرات.
ولو أن رجلا من هؤلاء الذين بسط الله لهم فقبضوا، وجاد عليهم فبخلوا، وأعطاهم فأمسكوا، قد أراد الله به خيرا فوقاه شح نفسه، ويسر له في أخلاقه ومكن له في باب البذل والجود، وآتاه من حب الخير بعض ما ابتلاه من حب المال؛ لرأيت حياته توسعة على قوم في معاشهم، وإحياء لقوم في آمالهم، وعتادا لقوم في أعمالهم، ومنفعة لآخرين من وجوه كثيرة، ولرأيت في غناه بركة العدل ورحمة الأمن وعصمة الخلود، فكأنه استجمع في حياته الطيبة خيرات الأعمار الكثيرة، وكأنه أمة في نفسه، ثم لا يكون رجل أحب إلى الناس ولا أجدر بطبيعة الحب الإنساني منه، ثم لا تجد اسمه إلا في واحدة من ثلاث: إما صفحة تكتبها الأعمال للتاريخ، أو صفحة يفردها الناس للأخلاق، أو صفحة ترفعها الملائكة إلى الله.
بل أحر بهذا الإسم الكريم أن يكون يومئذ بأعماله وآثاره وحسناته اسما لكتاب ضخم في أيدي ملائكة الرحمة. •••
فهذه آثار كرم النفس الطيبة لا تنشأ إلا بين نوعين من الحب: حب الرجل الكريم للناس، وحب الناس لهذا الرجل الكريم؛ لا هو يمطلهم حقا عليه، ولا هم يظلمونه حقا له، ولعمري كيف يستطيع المطل أو يستطيعون والدين الذي وجب على الفريقين هو دين القلب؟
وقد تكلمت السماء في أزمان مختلفة، وهبط الخطاب من عرش الله على لسان الأنبياء صلوات الله عليهم، وما من نبي مرسل إلا وأنت واجد في كلامه وشريعته: أن تحب للناس ما تحب لنفسك.
فهذا الحب الإنساني محض من نصيحة السماء، ولا بدع أن يكون فيه بعض الدواء لآلام الإنسانية الضعيفة إن لم يكن هو الدواء كله.
ناپیژندل شوی مخ