وضحت الفوارق بين التلاميذ وعرف الأغنياء بعضهم بعضا. وعرف الأغنياء الفقراء والفقراء الأغنياء.
وفي هذه السن لا ينظر التلاميذ إلى هذه الفوارق؛ حتى إذا عرفوها فإنها لا تعني شيئا بالنسبة إليهم؛ فعلاقاتهم بعضهم ببعض في هذه السن النضرة النقية الشفيفة لا تعترف بالفقر والغنى، وحين استبانت حقائق كل تلميذ لم يكن لهذه الحقائق أي أثر عند الأغلبية الكاثرة منهم، ولكن فرغلي بالذات كان من هذه القلة الضئيلة التي عرفت ما معنى أن يكون الإنسان غنيا وما معنى أن يكون الإنسان فقيرا، وما معنى أن يملك التلميذ أكثر من بدلة يأتي بها إلى المدرسة، وما معنى ألا يملك إلا بدلة واحدة ما تلبث أن يحيط بها القدم فتتمزق وترتق أو يزداد بها القدم فتظل رائحة جائية من الرفا إلى البيت ومن البيت إلى الرفا.
أدرك هذا جميعه وأحس في نفسه لذعة ألم ونار غيظ، وبدأت براءته التي أتى بها إلى المدرسة ساذجة نقية تنتابها القتامة شيئا فشيئا، ووجد نفسه ينأى بعيدا عن مواطن التجمع من التلاميذ التي تسبكهم جميعا في كل واحد لا يعرف الفقر ولا يعرف الغنى ولا يعنى بأمره.
في هذه المرة فرض هو الوحدة على نفسه. وكلما سعى إليه زملاؤه يلتمسون منه هذه السذاجة التي عرفوها فيه وأحبوها منه أجابهم تلك الإجابات التي تغلق عليهم مسالك الحديث وتقفل دونهم دروب المسامرة.
وقد كان فرغلي في وحدته هذه أشبه بنواة خلية. وكما تنقسم الخلية في نظام رباني فريد لا يدرك سره إلا خالق النفوس كذلك تتكون خلايا متقاربة متشابهة متماثلة بطبيعة الأخلاق التي جلبت عليها الطبائع.
وبسر هذه الجاذبية الخفية تكون حول فرغلي أربعة طلاب. لم يكونوا أصدقاء في بداية دخوله المدرسة، وهم بطبيعة الحال ليسوا من قريته، فالمدرسة ليس بها أحد من قريته وإلا لذاع السر الذي لا يعرفه هو، والذي يعرفه أهل القرية جميعا، والذي من أجله ترك مدرسة القرية إلى مدرسة المدينة.
وهم أيضا يضحكون من سذاجته، فهم أنفسهم كانوا قريبين من هذه السذاجة حين جاءوا إلى المدرسة أول ما جاءوا. فقد كان آباؤهم أو كانت أمهاتهم يمنعونهم أن يختلطوا بأبناء القرية وما يرد على ذلك المنع استثناء.
تكون هؤلاء الأربعة حول فرغلي وأصبحوا وحدهم فريقا في المدرسة.
ما الذي جمعهم حوله؟ ولماذا لم يكن هو واحدا من الأربعة ليجتمع هو معهم حول آخر؟ لماذا كان هو النواة وليس جزئية من الجزئيات التي تتجمع ولا تجمع؟
كان فرغلي جامد الوجه صموتا قاسي القسمات لم تعرف عضلات وجهه استرخاء الطفل وليانه وطراوته؛ لقد كان ذلك من مكوثه في البيت لا تطالع عيناه إلا وجه أمه. وقد فرضت ولادته على أمه أن تمكث في البيت لا تبارحه إلى ما كانت تهفو إليه نفسها من مرح الموالد وانطلاقة الغوازي؛ فإذا قسماتها تتطلب وتتشنج لهذا الذي فرض عليها، فإذا بهذا التشنج يلتصق بوجهها، وإذا ابنها ينمسخ وجهه على نمط وجهها، وإذا هو يفقد ما يكسب الطفل جمال الطفولة. وكانت عينا أمه بعد ولادته قد انقلبتا إلى كراهية فيهما عينان يحقدان على ميلاده الذي حرمها من تحقيق ما أرادت أن ترجع إليه من حياة. فلم ير في عيني أمه ما يراه الأطفال الآخرون من حب أو إشفاق أو وداعة أو هناء أو رضى.
ناپیژندل شوی مخ