ربما كان نديم مبعدا عن الشركة، ولكن كثيرين في هذه الشركة مرتبطون به ارتباطا عضويا، متعلق مصيرهم بمصيره، بعضهم يعرفهم فرغلي وقد أبعدهم ولكن الأكثرية منهم لم يكن يعرفهم، وقد ظلوا يعملون في الشركة جزءا من كل شرايينها الظاهرة القوية ومن كل شعيراتها الصغيرة المستخفية وقد كان هؤلاء أخطر وأكثر حرية من الكبار في تصرفاتهم وفي تحركاتهم. ماذا كانوا يصنعون ولا أحد يدري؟ لقد كان صغر شأنهم يتيح لهم الدخول والخروج إلى البوفيه حيث تعد القهوة في الفنجان الخاص بفرغلي ... ماذا كانوا يصنعون؟ لا أحد يدري. •••
قال معتز: دادا، أين فهمي عبد الموجود وحسنين كرم؟ - موجودان. - أين؟ - إن فهمي يعمل طباخا عند فرغلي. - أين؟ - عند فرغلي. - أمتأكدة؟ - يا ابني إنه يزورني دائما، هو وحسنين لم ينقطعا عنا إلا بعد الطلاق الأول بضعة أشهر؛ كانا فيها بالحجاز؛ فقد عينهما فرغلي هناك ولكنهما عادا لمصر وعادا إلينا يزوران البيت ويطمئنان على المرحومة، أيام مرضها كانا يأتيان كل يوم ليطمئنا عليها، كانا يحبانها حبا لا مزيد عليه. لو رأيت حسنين يوم وفاتها لتهيأ لك أنه أخ يبكي أخته الوحيدة. - ولماذا عينه فرغلي عنده بعد أن عاد من الحجاز والحكاية انتهت. - أولا كان يحب أكله وليطمئن على سكوته. - ألم يكن عنده طباخ؟ - العقبى لآمالك، كان عنده ولكن عين فهمي ليطبخ له العشاء، فهو يحب الأكل زي عينه ولا يستطيع أن يأكل في الظهر كما يريد لأنه مضطر أن يشتغل بعد الظهر، فالأكلة المهمة عنده في العشاء، بعيد عنك حين كان يتعشى عندنا كأنما هو وحش يأكل آخر زاده. - وحسنين؟ - عينه في قصر العيني. - اشمعنى؟
حسنين طول عمره عينه فارغة ويحب الفلوس وكان له صاحب يعمل في أجزخانة قصر العيني وكانت مكاسبه كبيرة، وكان حسنين يتمنى دائما أن يعمل معه. - في الأجزخانة؟ - في الأجزخانة. - هل أستطيع أن ألقاهما؟ - عندما تحب. - من بكرة إن أمكن. - أنا لا أروح لأحد منهما ولكن الأسبوع لا يمر إلا ويزورني واحد منهما أو الاثنان. - عظيم! قلت حسنين يحب الفلوس. - أكثر من الحياة. - وفي الأجزخانة؟ - في الأجزخانة. - وفهمي ... ماذا يحب؟ - الصلاة والصيام وزيارة أهل البيت؛ مجذوب تقريبا. •••
وقال معتز: انظر يا عم فهمي. - يا بك هذه إمضائي. - وانظر في هذه. - عقد الزواج ... أعرفه. - قارن بين التاريخين. - وأعرف هذا أيضا. - وكيف لقيت الله في بيته ووقفت عند شباك نبيه. - إلا من تاب. - الحج توبة؟ - سبحانه هو الذي يقول إلا من تاب وآمن. - أكمل الآية. - وعمل عملا صالحا. - أعملت عملا صالحا؟ - لم أرتكب بعدها جرما، وكنت مضطرا. - أعملت عملا صالحا يا عم فهمي، أنت لم تكن مضطرا. - فهمت قصدك يا سي معتز. - لا يكفي أن تفهمه. حسنين أحضر لي هذه. - ربنا يعمل ما فيه الخير. - وعمل عملا صالحا يا عم فهمي. - نعم! وعمل عملا صالحا. •••
لم يكن بالمنزل أحد عندما مات فرغلي إلا أهل البيت والدكتور ممدوح الذي نظر فيمن حوله ... سكتة قلبية. هاتوا الدكتور أحمد، هاتوا دكاترة البلد كلها، هاتوا ...
جاء الدكتور أحمد ونظر في عيني الميت وصمت ونظر إلى الدكتور ممدوح ونظر إليه الدكتور ممدوح جامد الوجه، ثم قال في قطع حاسم: سكتة قلبية يا دكتور ... سكتة قلبية.
وصمت الدكتور أحمد وخرج من الغرفة وخرج معه الدكتور ممدوح، وأرسلا في طلب طبيب الصحة المسئول عن الحي، وحين وجد الدكتور أحمد سأله: هل كشفت يا دكتور؟ - نعم. - سبب الوفاة؟ - سكتة قلبية.
وكتب طبيب الصحة إذن الدفن دون أن يكشف، وما كان له أن يكشف ما دام الدكتور أحمد الفقي أستاذه والطبيب الساطع الشهرة يقول ذلك. (انتهت.)
ناپیژندل شوی مخ