وأطرقت تحية وصمت فرغلي وتوهجت حكمة الله العلي القدير في صمتهما؛ فقد شاء سبحانه أن تلتقي العيون وتتقارب الأرحام، ولكن أحدا لا يستطيع أن يكشف ما يفكر فيه الآخر.
فلو أن فرغلي رأى ما يدور برأس أمه لرأى عجبا، ولما صدق ما تهمس به نفسها إلى نفسها. ولو أنها هي رأت ما يدور بعقل ابنها لهالها أن يجتمع كل هذا الجشع في كيان هذا الطفل الصغير. •••
استطاع زملاء فهيم أن يجدوا لفرغلي عملا بسهولة. فهم منتشرون ولهم أصدقاء كثيرون وميسور عليهم أن يجدوا لابن زميلهم عملا هزيلا، وقد شاءت الصدفة أن يكون عمل فرغلي في مقهى الحرية بميدان الساعة. وقد كان موقع المقهى عظيما وكان زبائنها يملئونها أغلب ساعات النهار.
ونشط فرغلي في عمله الجديد وكان البقشيش الذي يناله أعظم من مرتبه بكثير. فقد حدد له صاحب المقهى ستين قرشا مرتبا شهريا ولكنه يحصل على ضعفي هذا المبلغ من الزبائن، والعرف في المقاهي أن يضع العاملون في المقهى كل ما جمعوه من بقشيش في وعاء خاص ثم يقسم بينهم. وقد اضطر فرغلي أن ينفذ هذه القاعدة في الأيام الأولى من عمله بالمقهى، فقد كان كبيرهم يفتشهم جميعا عند فتح المقهى في الصباح ويستولي على ما معهم من نقود لتكون أمانة في ظرف خاص يحمل اسم كل منهم على حدة، حتى إذا انتهى العمل في المقهى فتشهم جميعا وتقاسموا البقشيش. وكان مسموحا لفرغلي أن ينهي عمله مبكرا بعض الشيء لصغر سنه، وليتمكن من اللحاق بآخر قطار يعود به إلى القرية. فالقطار وحده هو الذي يستطيع أن يركبه مجانا بوصفه واحدا من أسرة المصلحة.
بعد أيام من العمل بالمقهى وجد فرغلي أنه ينال الكثير، ولكنه لا يحصل بهذه القسمة إلا على القليل.
ذهب إلى صانع أحذية واشترى منه إبرة أحذية وخيطا وكان يفتق الحذائين في الصباح وهو ذاهب بالقطار، وكان يضع بهذا الجيب السري العجيب الكثير من القروش التي يحصل عليها، وفي المساء كان يخيط الحذاء سرا ويعود بجزء كبير من البقشيش. وهكذا استطاع أن يخفي القروش على كبير القهوة حسنين، ولم يكن حسنين يتصور أن هذا الطفل الذي لا ينفتق وجهه عن ابتسامة يستطيع أن يفتق حذاء عن جيبين.
ولم يكن أبوه يسأله عما أصاب من مال مكتفيا بأنه هو الذي يقبض مرتبه جميعا آخر الشهر.
أما أمه فكانت منذ عمل فرغلي مشغولة بأشياء ألهتها تماما أن تسأله عما يربح.
الشيء الذي لا يعرفه فرغلي ولا يملك أن يعرفه أن هذا الذي يناله سواء بالتهرب أو بالحق أقل كثيرا مما كان يستطيع أن يحصل عليه لو أنه عرف فقط كيف يضع على محياه ابتسامة تكسب وجهه براءة الطفولة وجمالها. ولكن هذه الابتسامة كانت بعيدة عن تفكيره كل البعد. ومن أين يأتي بها وقد عاش عمره مع أب يأتي إلى البيت وقد طحنه العمل وأم لم تر في ميلاده إلا حبالا قاسية تكبل آمالها، حتى إذا ذهب إلى مدرسة القرية واجهته السخرية والضحك في يومه الأول والأخير بها فجعلته هذه السخرية السريعة يكره الضحك لأنه لم يصدر عنه أبدا وإنما صدر عليه ودون أن يعرف السبب.
وحين ذهب إلى مدرسة المركز لفت به الأيام لفة كان فيها مصدرا يضحك الآخرين، ثم كان زعيما لحزب الحاقدين والحقد للضحك فزع، وهيهات لمن عرفت نفسه الحقد أن يعرف وجهه أو قلبه الضحك أو حتى الابتسام.
ناپیژندل شوی مخ