وكما هو متوقع، فإن المجتمعات القديمة والبدائية تظهر مواقف متباينة تجاه الخصوصية، ففي دراسته الرائدة «حقوق الخصوصية: الأسس الأخلاقية والقانونية»، بحث بارينجتون مور وضع الخصوصية في عدد من المجتمعات الأولية، بما فيها اليونان القديمة، والمجتمع اليهودي كما ظهر في العهد القديم، والصين القديمة، في حالة الصين، يوضح مور كيف أن التمييز الكونفوشيوسي بين المجالات المنفصلة للدولة (المجال العام) والعائلة (المجال الخاص)، إلى جانب النصوص المبكرة عن الغزل، والعائلة، والصداقة، قد تمخضت عن حقوق ضعيفة في الخصوصية، وعلى الجانب الآخر، وفرت أثينا بالقرن الرابع قبل الميلاد حماية أقوى لحقوق الخصوصية، وخلص مور في النهاية إلى أن خصوصية الاتصالات لا يمكن تحقيقها إلا في مجتمع معقد يتسم بتقاليد ليبرالية قوية.
ظهر فصلنا الحديث بين النطاقين العام والخاص نتيجة لحركتين توءمين في الفكر السياسي والقانوني، فظهور الدولة القومية ونظريات سيادة الدولة في القرنين السادس عشر والسابع عشر قد تولد عنه مفهوم المجال العام الواضح، وعلى الجانب الآخر، فإن تمييز نطاق خاص متحرر من انتهاكات الدولة قد ظهر كنوع من الاستجابة لادعاءات النظم الملكية، ومن بعدها البرلمانات، بهدف امتلاك القوى المطلقة على إصدار القوانين، بعبارة أخرى، يعتبر ظهور الدولة العصرية، والقوانين المنظمة للأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، والتعرف على المجال الخاص، متطلبات أساسية طبيعية لهذا الفصل بين المجالين.
ومع ذلك فالأدلة التاريخية تخبرنا فقط بجانب واحد من القصة، أما النماذج الاجتماعية فهي تعبر بقوة عن القيم الاجتماعية التي تستوعب هذا التحول، وإحدى التفرعات الاجتماعية الثنائية المفيدة هو التمييز بين الجيمنشافت والجيسلشافت: فالأول، بشكل عام، هو مجتمع قائم على المعايير والتقاليد المقبولة ضمنيا، ومنظم وفقا للمنزلة الاجتماعية ولكن يمسك بأوصاله الحب، والواجب، والفهم المشترك والتوحد في الهدف، أما الجيسلشافت، على الجانب الآخر، فهو مجتمع يتنافس فيه أفراد ذوو مصالح شخصية من أجل الحصول على فائدة مادية شخصية داخل ما يسمى بالسوق الحرة.
وعادة ما يعبر عن هذا التمييز بالفرق بين الجماعة والمجتمع، فالجماعة تكاد لا تظهر أي تقسيم بين العام والخاص، في حين يظهر التقسيم في المجتمع جليا؛ فالقانون ينظم رسميا كل ما يمكن اعتباره شيئا عاما، وهذا التفريق يوضح أيضا النظام السياسي والاقتصادي.
كذلك يعد الفصل بين المجال العام والخاص معتقدا محوريا من معتقدات الليبرالية، وبالفعل، «ربما يمكن القول إن الليبرالية، بصورة عامة، لطالما كانت جدالا بخصوص أين تقع حدود المجال الخاص، وما المبادئ التي يجب أن ترسم تلك الحدود وفقا لها، ومن أين ينشأ التداخل وكيف يمكن إيقافه.» ويعد المدى الذي قد يصل إليه القانون في التطفل الشرعي على المجال «الخاص» موضوعا متكررا، وخاصة في المذهب الليبرالي بالقرن التاسع عشر: «أحد الأهداف الرئيسية للفكر القانوني بالقرن التاسع عشر كان يتمثل في خلق فصل واضح بين القانون الدستوري، والجنائي، والتنظيمي - القانون العام - وقانون المعاملات الخاصة، والأضرار، والعقود، والملكية، والقانون التجاري.» ويظل السؤال الخاص بحدود القانون الجنائي في فرض «أخلاقيات خاصة» مربكا لفلاسفة القانون والأخلاق.
وعلى الرغم من مضي ما يزيد عن 150 عاما على نشر «مبدأ الضرر» الذي صاغه جون ستيوارت مل وشرحه في كتابه «عن الحرية» فإنه ما يزال يوفر اختبارا حقيقيا لمعظم تقييمات الليبرتاريون لحدود التدخل في الحياة الخاصة للأفراد، فمن وجهة نظر ميل:
السبب الوحيد الذي يجيز للبشر، بشكل فردي أو جماعي، أن يتدخلوا في حرية التصرف لأي عدد من أقرانهم هو حماية الذات، وذلك لأن الهدف الوحيد الذي من أجله يمكن استعمال القوة باستحقاق مع أي عضو من مجتمع متحضر، وضد إرادته الخاصة، هو منع وقوع ضرر على الآخرين، فمصلحته الشخصية، مادية كانت أو أخلاقية، ليست مبررا كافيا.
قيمة الخصوصية
لا يمكن أن نتصور أن تكون حياة بدون خصوصية، ولكن ما الأهداف التي تخدمها الخصوصية بالفعل؟ بالإضافة إلى أهميتها في نظرية الليبرالية الديمقراطية، فإن الخصوصية تدعم مجالا للإبداع، والصحة النفسية، وقدرتنا على الحب، وتكوين العلاقات الاجتماعية، وتعزيز الثقة والحميمية والصداقة.
في عمله الكلاسيكي، يحدد آلان ويستن أربع وظائف للخصوصية تضم الأبعاد الفردية والاجتماعية لمفهوم الخصوصية؛ أولا: الخصوصية تولد الاستقلال الشخصي، ومبدأ الفردية الديمقراطي مرتبط بالحاجة إلى هذا الاستقلال، الذي يعبر عن رغبة في تفادي تحكم وسيطرة الآخرين، ثانيا: الخصوصية تقدم فرصة للتحرر العاطفي، فهي تسمح لنا بإزالة أقنعتنا الاجتماعية:
ناپیژندل شوی مخ