وليس بعجيب أن يصعب على الخطيب إقناع منافسيه، فكل يريد أن يكون لواء النصر معقودا له، لأن الخطيب السياسي رجل عمومي وهو في أكثر الأحيان يعبر عن رأي حزبه فتراه مضطرا إلى الثبات في موقفه حتى النهاية لا يزعزعه كلام الخصم مهما يكن لئلا يرمى بالخيانة والخروج على الحزب.
وقد يحدث أن أحدهم يرى الحق في جانب خصمه فيبقى متشبثا برأيه؛ لأن هناك مفاجآت غريبة، فكم من برهان يبدو ناصعا! ثم بعد تقليبه على وجوهه يتحقق بطلانه، وهذه المفاجآت هي التي تقضي على الخطيب بعدم الاستسلام لبلاغة خصمه، بل تجعله ثابتا في موقفه ولا سيما لأنه ليس حرا بل عبد الموضوع الذي يدافع عنه، فيجب أن يمضي فيه إلى النهاية.
وبعد أن يقوم الخطيب بالواجب عليه من الدفاع يستطيع أن يخلو إلى نفسه ويراجع آراءه ويقابل بين مركزه ومركز حزبه، ويعتمد ما يوحيه إليه الضمير الذي هو أسمى قاض وأشرف حكم.
على أنه لا يتعذر على الخطيب ولا سيما المحامي بما تهيئه البلاغة من وسائل التعبير؛ أن يتخذ لغة لا يرتهن بها إلا بقدر، ولا تنال من شرفه وحسن أحدوثته، فإن لم يستطع مثلا أن يقول الحق الحق أقول لكم فهو قادر على تحريف العبارة كأن يقول مثلا موكلي يقول لكم كيت وكيت، ولا يعزب على القاضي ما وراء هذا التركيب من تنصل خفي أو محاذرة تدفع إليها الذمة الطاهرة دون أن تضعف من أثر مقاله.
فكاهة:
كان اثنان من عظماء المحامين في فرنسا يسمعان مرافعة زميل لهم، فكان يأتي في عرض كلامه بأدلة قاطعة وحجج دامغة، وكان أحد الاثنين خصما في القضية، وعليه أن يرد على هذه المرافعة ويدفع هذه الأدلة والحجج، فكان رفيقه كلما سمع شيئا أعجب به في المرافعة يميل نحوه قائلا: هذا صحيح ولا إخالك قادرا أن ترد عليه. فيكتفي هذا بهز الرأس كأنه يؤيد كلام صاحبه إلى أن قال له هذا الصاحب: أراك تشاركني في كل ما أظهره من صواب هذه المرافعة، فما عساك أن تقول بعد هذا وقد اقتنعت منذ الآن؟ فأجابه: كلا يا صاح، لم أقتنع أبدا ولكني أعلم ما لك من النفوذ الأدبي عند القضاة وأعرف مبلغ احترامهم لآرائك، وأراهم الآن ينظرون إلينا، فإذا عارضتك ظنوا بيننا خلافا تكون نتيجته خدمة لخصمي، فأنا أظهر الموافقة على كل ما تقول ليطمئنوا بعدها إلى كلامي ومعارضتي، فلا أخسر من قوة دفاعي شيئا.
2
هنا تظهر بوجه خاص مزية الخطيب من حيث الهدوء والصبر والحلم فيكون كالملاكم يتلقى ضربات خصمه، وهو ثابت الجنان لا يتزعزع عن موقفه مهما يطلق عليه منافسه من قنابل الغضب، أو يكشر له عن نواجذ الشر وسوء النية.
لا أقول إنه لا يحتاج أحيانا أن يظهر الغضب ويخرج عن طور السكينة؛ لأن التظاهر بالغضب والحدة نوع من الحجاج المقنع، ولكن فليكن غضبه خطابيا كما ذكرنا قبلا.
ومهما يكن الخطيب عظيما مشهورا فإن آداب المهنة تقضي عليه أن يكون واسع الصدر كثير الدعة واللطف والتودد نحو زملائه ومنافسيه، فلا يتعذر عليه أن يجعل كلامه شديدا وانتقاده قارصا دون أن يمس كرامة أحد، وهذا أيضا من دلائل المقدرة التي يتصف بها الخطيب البليغ.
ناپیژندل شوی مخ