ثم إن في دمامة الخلق مفاجأة تحمل الإنسان على الإعجاب بعد التعجب، والإكبار عقب الازدراء؛ لأن الناس كما قال الجاحظ: يقدرون عادة غير ما يضمر الخطيب، فإذا بحسن كلامه قد تضاعف في صدورهم ونال منهم أكثر مما لو كان جميل الطلعة.
ذكر الجاحظ أن أبا وائلة بن معاوية المزني أتى حلقة من حلق قريش في مسجد دمشق فاستولى على المجلس، ورأوه أحمر دميما باذ الهيئة قشفا فاستهانوا به، فلما عرفوه اعتذروا إليه وقالوا: الذنب مقسوم بيننا وبينك؛ أتيتنا في زي مسكين تكلمنا بكلام الملوك. (3) الصوت
من المعلوم أن جهارة الصوت وحلاوة نغمته وصفاء رنته من الأمور اللازمة لكل خطيب؛ لأن عليها المعول في إيصال كلامه إلى آذان السامعين فقلوبهم، وقد أسمى الأقدمون الصوت نورا؛ لأنه يحمل شعلة الضياء إلى الأذهان، وكم من الخطباء الذين يسحرون بصوتهم أكثر من بيانهم.
لهذا كان من الواجب على كل من فرع المنبر أن يعنى بصوته عناية خاصة، ويدرس درجة استعداده ومدى اتساعه ومقدرته على احتمال التعب فيصرفه فيما يلائم من وجوه الكلام ولا يحمله فوق طاقته، فإذا كان الخطاب طويلا والمكان واسعا وليس في صوته سعة المكان والوقت لم يرتفع به عن طبقة معلومة ولا سيما في بداية الخطبة لئلا يسرع إليه التعب فيقصر عن مدى غايته، فضلا عن ذلك فإن عليه أن يتمهل في النطق ليساعد الصوت فلا يفوت الأسماع من مقاطعة ما يضر بالنتيجة ويقف دون المراد.
كانت الخطابة قديما في الأماكن العمومية، ولما خطب أرسامنيوس الثاني داعيا إلى الصليبية كان الجمع المحتشد عظيما إلى حد أن ضاقت به المدينة فأقاموا للبابا منبرا على أكمة في خارجها، وبما أنه لا يمكن لصوت بشر أن يسمع كل هذا الحشد فقد كانت الناس تنقل كلامه من صف إلى صف.
وكذا جرى في أرلندا عندما كانت تتألب الناس لسماع أوكونل غير أن الكلام في الفضاء يتعب الصوت كثيرا، ومهما يستعمل الخطيب من الحكمة والتفنن في إسماع صوته لا يسلم من الكلل والعياء، أما في الأماكن المقفولة فمن السهل اجتناب الإجهاد، وكل ما يتعب الحنجرة على شرط أن يكون شكل البناء في هندسته موافقا لنقل الصوت فيسهل على الخطيب إيصاله إلى كل ناحية.
إن سرعة الصوت هي 341 مترا في الثانية على حرارة 16 سنتيكرادا، وكلما خفت الحرارة خفت سرعته، فالهواء الساخن هو إذن أفضل لنقل الصوت، وهذا ما يجعل الكلام أولى في الأماكن المحصورة، أما الريح فإنها تؤثر في قوة الصوت لا في سرعته.
وبعد أن يتبين الخطيب درجة صوته، واستعداده ومداه، وحالة المكان عليه أن يجتهد في تحصيل أقصى ما يمكن تحصيله من الصوت، فلا يتوجه به إلى فوق أو إلى الجانبين فيبدد أكثره سدى، وعليه أن يتلاعب به بين صعود وهبوط مغيرا في نبرته ونغمته ووقفاته حسب المعنى والصورة والعاطفة إبعادا للملل جامعا بين الصوت الطبيعي والصوت الموسيقي متحاشيا أن يضعف الصوت في آخر الجملة لئلا تنتهي هذه بين شفتيه كأنها تحتضر ولا تصل الآذان إلا مائتة.
وسنرجع فيما بعد إلى الكلام عن الصوت وطرق تقويته بالوسائل الطبية والقواعد الصحية. (4) الإشارة
لا يخفى أن للإشارة أهمية كبرى؛ لأنها تشارك النطق في نقل الفكر متخذة لها البصر سبيلا، فهي اللغة العمومية التي يفهمها كل إنسان وما تحدثه من التأثير هيهات أن تأتي بمثله لغات العالم.
ناپیژندل شوی مخ