وبما أن الشعور هو إحساس الخطبة كانت البساطة أجمل حلة يلبسها الإنشاء الخطابي، ولا أعني بذلك أن يكون الكلام مبتذلا عاميا بل أن يوافق الزمان والمكان، فللمعاني العظيمة كلام عظيم كما بينا، ولا يستلزم كون الجمهور من العوام أن ينزل الخطيب بأساليب التعبير عن مقامها بل عليه أن يرفع العامة نحوه لأن الفن فن أينما كان.
4
وبعد العاطفة يأتي الخيال والتصور الشعري لما فيهما من حلو التنقل الذي يسوق إليه التلاعب بالمعاني، ونتيجته تجديد الانتباه عند السامع ودفع الملل عنه فضلا عما يكتسبه الخطاب من جميل الألوان وبديع الزخرفة وجديد الصور، كما سترى في غير هذا المكان.
ولكن للتصور والخيال حدودا إذا تعداها الخطيب وقع فيما حاذره، ومهما يكن من أهمية الموضوع وجمال الصور المعروضة فإن الإسهاب أو الضرب على وتيرة واحدة يتعب السامع ويفضي به إلى السأم، ألا ترى أن إطالة النظر إلى الغدير الجاري والاستمرار على سماع خريره العذب يفضيان بنا إلى النعاس؟ بل إن هدير الأمواج المتصاخبة، وزئير الرياح العاصفة، ولعلعة الرعود على ما فيها من تهييج الأعصاب تنتهي بنا إلى النتيجة عينها إذا طال أمرها وتكرر حتى تألفه الأذن ويأمن منه الخاطر. كذلك إنشاء الخطيب إذا ازدحمت فيه المعاني الشعرية وتكاثرت فيه صور الخيال، فإن العقل يتعب والانتباه يتبدد ولا يبقى من الخطاب في أذن السامع إلا سلسلة أصوات متعاقبة كأنها آتية من أعماق النوم.
5
أما الإكثار من الأدلة المنطقية والإغراق في الشرح والتفصيل والإسهاب في البيان والتعليل فذلك جائز في نثر الكاتب؛ لأن للقارئ متسعا من الوقت للتأمل والتبحر بخلاف السامع الذي يتلقى الجملة بعد الجملة ولا قبل له بالمراجعة أو التوقف، بل تراه مضطرا إلى اتباع الخطيب والتقاط أقواله المتدفقة على سمعه؛ ولهذا كان من اللازم أن تأتي هذه الأقوال واضحة صريحة مختصرة تفعل بالجزم والتأكيد أكثر مما تفعل بالبرهان والمنطق.
إن القارئ حر في مواصلة قراءته أو الوقوف للاستراحة والتأمل، وأما السامع فهو معلق بشفتي الخطيب محمول معه في كل ناحية لا قبل له بالوقوف أو الإعراض دون أن تنفصم عرى الألفة بينهما؛ فيذهب من الخطاب رونقه أو بعض رونقه، وتفوت السامع فائدته أو جزء من فائدته.
وبقدر ما يقتصد الخطيب على السامع في ألفاظه وجمله يوفر من انتباهه لإدراك معانيه والتأثر بها لأن اللغة - كما لا يخفى - هي في آن واحد آلة للنقل وعائق دونه.
فالإنشاء الخطابي يختلف كثيرا عن الرسائل لاضطرار الخطيب أن يتبع فيه أحوال نفسه والمكان الذي يتكلم فيه والجمهور الذي يصغي إليه، فتكون اللفظة في وزن الإشارة، والمعنى في طبقة اللفظة فيفصل بين الجمل ويكرر بعض الألفاظ مسهبا هنا موجزا هناك، متمهلا في بعض المواضع مكرا في غيرها، واقفا حينما يرى ضرورة الوقوف ليترك للسامع مجالا يستوعب فيه ما أراد أن يلقيه إليه أو يقصر انتباهه عليه.
على كل حال فإن آفة الخطابة التطويل، ومهما تكن العبارات متناسقة والإنشاء رشيقا والموضوع شيقا والخطيب ممتازا، فما منع ذلك أن يكون السامعون بشرا مثله لهم آذان تصم إذا أجهدتها، وبصر يكل إذا أتعبته، ولا يجب أن ينسى الخطيب أن استعداد الجمهور أو قابليته للإصغاء ليست واحدة فعليه أن يختار أوسط الطرق في شرحه وبيانه. يروى أن ابن السماك جعل يتكلم وجارية له تسمع، فلما انصرف إليها سألها كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما أحسنه لولا أنك تكثر ترداده. قال: أردده حتى يفهمه من لا يفهمه. قالت: إلى أن يفهمه من لا يفهمه يكون قد مله من فهمه.
ناپیژندل شوی مخ