ومن الممكن التوسع في تحليل فوكوه لتكنولوجيات السلطة بحيث تتضمن الخطاب، ومن المفيد أن نعتبر أن «تكنولوجيات الخطاب» (فيركلف، 1989م، أ، 211-223)، و«إضفاء التكنولوجيا على الخطاب» (فيركلف، 1990م، ب) يمثلان خصائص نظم الخطاب الحديثة. وتتضمن أمثلة تكنولوجيات الخطاب المقابلات الشخصية، والتعليم، وجلسات المشورة ، والإعلان. وأما سبب إطلاقي هذه التسمية عليها فرغبتي في أن أبين أنها قد اتخذت، وتواصل في المجتمع الحديث اتخاذ طابع التقنيات «عبر السياقية» (أي التي تتجاوز سياقا بعينه)، وتعتبر من ثم موارد أو أدوات يمكن استخدامها لتطبيق استراتيجيات بالغة التنوع في سياقات كثيرة مختلفة، ويزداد باطراد استخدام تكنولوجيات الخطاب في مواقع مؤسسية محددة من جانب ممثلين لقوى اجتماعية معينة. كما بدأت تكتسب التكنولوجيين المتخصصين العاملين في مجالها وحده، مثل الباحثين في مدى كفاءتها، وواضعي التصميمات الجديدة، التي تمثل التحسينات التي تقتضيها نتائج البحوث العلمية وتغير متطلبات المؤسسات، إلى جانب المدربين الذين ينقلون هذه التقنيات إلى المتدربين. ومن بين هؤلاء التكنولوجيين أعضاء أقسام العلوم الاجتماعية في الجامعات، ومن الأمثلة الراسخة مشروع البحوث والتدريب في مجال «المهارات الاجتماعية» الذي يقوم بتنفيذه علماء النفس الاجتماعي (أرجايل، 1978م). وأما الذين يستهدفون للتدريب في تكنولوجيات الخطاب فهم في العادة معلمون، وبعض من يجرون المقابلات الشخصية، والمعلنون، وغيرهم من «حراس المداخل» وأصحاب السلطة، وأما تكنولوجيات الخطاب فالمقصود بها أن تحدث آثارا محددة في الجمهور (العملاء والزبائن والمستهلكون) الذين لم يتلقوا التدريب عليها.
وتقيم تكنولوجيات الخطاب علاقة وثيقة بين المعرفة باللغة والخطاب والسلطة، إذ يجري تصميمها وتشذيبها استنادا إلى الآثار المتوقعة لأدق تفاصيل الاختيارات اللغوية في المفردات، والنحو، ونبرة الإلقاء، وتنظيم الحوار وهلم جرا، إلى جانب تعبير الوجه، والإيماء، والوضعية الجسدية والحركات، وهي تأتي بالتغيير الخطابي عمدا وعن وعي كامل، وهو ما يعني أن التكنولوجيين يحيطون بالمعارف الخاصة باللغة والخطاب والسيمياء (السيميوطيقا) إلى جانب معارف علم النفس وعلم الاجتماع. ومن المتوقع أن يزيد محللو الخطاب وعلماء اللغة من ممارسة تكنولوجيات الخطاب أو أن يتيحوا لتكنولوجيي الخطاب الاستفادة من نتائج بحوثهم.
وتتضمن تكنولوجيات الخطاب فنون المحاكاة، وخصوصا محاكاة معاني العلاقات بين الأشخاص والممارسات الخطابية لتحقيق أغراض استراتيجية وعملية. ويرتبط هذا بتعليقاتي السابقة على إضفاء الديمقراطية على الخطاب، إذ إن أصحاب السلطة المؤسسية يستخدمون على نطاق واسع تقنيات محاكاة تناظر السلطة ونبذ الطابع الرسمي. ومن الأمثلة على ذلك نوع المقابلات الشخصية التي تجري مع المتقدمين لشغل الوظائف في المرافق العامة مثل المستشفيات وأجهزة الحكم المحلي والجامعات. وقد استخدمت في كتاب آخر لي مصطلح «الطابع الشخصي المصطنع» (فيركلف، 1989م، أ، 62) في الإشارة إلى محاكاة جوانب معينة من معنى العلاقات بين الأشخاص استنادا إلى الحساب الاستراتيجي للآثار المترتبة على ذلك. أي إن محاكاة العلاقات بين الأشخاص ناجمة عن إخضاع جميع الجوانب الأخرى للممارسة الخطابية ومعناها لتحقيق أهداف استراتيجية وعملية، وهذا هو نمط التفاعل الذي يصفه هابرماس بأنه «استراتيجي» تمييزا له عن التفاعل «التواصلي» (انظر أعلاه). ويرتبط إضفاء التكنولوجيا على الخطاب بتوسيع نطاق الخطاب الاستراتيجي حتى يشمل مجالات جديدة.
ويبدو أن إضفاء التكنولوجيا على الخطاب قد امتد واتسع، إذ انتقل من بعض الأنواع مثل المقابلة الشخصية، والمقابلات الشخصية تعتبر جماهيرية ما دامت ترتبط بشتى ضروب الوظائف المؤسسية الجماهيرية، إلى النوع الأساسي في المجال الشخصي، وهو المحادثة. ويتجلى في هذا استيلاء المؤسسات على المحادثة، وشحنها بمضمون سياسي وأيديولوجي محدد. والمقابلة الشخصية القائمة على الطب البديل مثال لذلك. ويتجلى فيها أيضا أسلوب انتقال المجالات الخاصة إلى المجال العام، حيث تستعمر «النظم» مجالات «عالم الحياة»، إذا استعرنا تعبير هابرماس. وهكذا نرى تحويل الترتيبات المنزلية والعلاقات الأسرية إلى المجال العام، ولو إلى حد محدود، وكثيرا ما يشار إليها باعتبارها مجالا خاصا من مجالات السياسة.
فلنزد هذه المسائل إيضاحا بالإشارة إلى كتاب يصف الأسلوب الذي يتيح للمديرين في مواقع العمل تحسين مهاراتهم في المحادثة (مارجريسون، 1987م). وموضوع الكتاب هو «مهارات التحكم في المحادثة»، وإن كانت «المحادثة» هنا تتضمن الاجتماعات والمقابلات الشخصية الخاصة بالعمل، إلى جانب المحادثة غير الرسمية بالمعنى الضيق، وترتبط بعض المهارات التي يناقشها الكتاب، مثل مهارة «التلخيص» (المرادفة تقريبا ل «الصياغة» التي سبق ذكرها) ارتباطا أساسيا بأنماط الخطاب المؤسسية الرسمية، ولكن بعضها الآخر ينتمي إلى المحادثة غير الرسمية، والحق أن «مهارات التحكم في المحادثة» لا تقتصر، فيما يقال، على أهميتها للعمل، بل تتعدى ذلك إلى إدارة العلاقات داخل الأسرة وفيما بين الأصدقاء.
ويولي الكتاب اهتماما بضروب منوعة من المهارات، إذ يتناول أحد فصوله مهارات الاستنباط التي تعني أن يدرك السامع وأن يستجيب ل «المفاتيح» اللفظية و«الإشارات» غير اللفظية التي تومئ إلى معان عبر عنها المتحدث تعبيرا غير مباشر أو ألمح إليها وحسب. وأمثال هذه الإشارات تقتصر على المشكلات المهمة، وذلك عندما يشعر الناس أنهم لا يستطيعون الحديث بصراحة عنها، كما أن عجز السامع عن التقاط هذه المفاتيح والإشارات قد تكون له عواقب وخيمة. ومن القضايا المرتبطة بذلك مهارات الاستئذان لدخول «أرض المحادثة» - أي المشاعر والحالات النفسية والأفكار الخاصة والدوافع الشخصية للآخرين - وهي التي قد تكون «محرمة على الغير»، ويركز فصل آخر من فصول الكتاب المذكور على تقنيات تحويل محادثة قائمة على المواجهة إلى محادثة تعاونية، بما في ذلك مهارات إدارة الاختلاف والرفض. وتتضمن عدة فصول بعض المهارات الخاصة بما يعرف بمصطلحي «التأدب الإيجابي» و«التأدب السلبي» في الدراسات المنشورة عن التداولية. وتتضمن هذه طرائق إظهار تقدير المرء لسامعيه وتفهمهم في المحادثة (وربما يكون ذلك أثناء محاولة المرء الحصول على موافقتهم على موقفه المعارض لموقفهم) وطرائق تخفيف الانتقادات الموجهة للآخرين. وفي الكتاب فصل يناقش كيف يمكن للمرء الطعن في افتراضات مسلم بها في المحادثات، وكيف يمكنه تأكيد موقفه من دون نبرات عدوانية. ويناقش فصل آخر طرائق التحكم في الموضوعات وتغييرها، خصوصا التحول من تحليل حالات الفشل السابقة إلى وضع خطط للمستقبل.
ويقول الكتاب إن مهارات التحكم في المناقشة يمكنها أن تسهم في النجاح التجاري وزيادة الأرباح، وزيادة السلامة في مكان العمل، والدوافع الحافزة للعاملين، وتحاشي المنازعات بين الإدارة والعمال، قائلا: «ومن ثم فإن التحكم في المحادثة ينهض بدور أساسي في إيجاد الظروف التي تمكن الناس من العمل الفعال معا»، وأما في إطار الأسرة والعلاقات الاجتماعية الأخرى فإن «الاختلافات في الرأي يمكن أن تؤدي إلى نشوء مجادلات ومنازعات جارحة أو أن تؤدي الإدارة الماهرة للمحادثات إلى تصفيتها»، ولكن هذه الإشارة الواضحة إلى إمكانات التحكم في المحادثة باعتبارها «تكنولوجية» معينة، تقترن في الكتاب بمزاعم غير مقنعة تقول إن الأمر «لا يتعلق بالتحكم في الآخرين بل بالتحكم في محادثتنا وسلوكنا نفسه»، وإن المسألة في الحقيقة مسألة «التأثير» في الناس من دون «التلاعب» بهم (ص193-194).
وتوجد علاقة وثيقة بين إضفاء التكنولوجيا على الخطاب وبين المهارات المذكورة، وكذلك النظرة القائمة على الكفاءة فيما يتعلق بتعليم اللغات والتدريب اللغوي الذي ناقشته عاليه باعتباره «تسليعا»، أي إن انتشار ذلك وتغلغله في المجالات الخاصة ومجالات عالم الحياة بل وفي مجال المحادثة يتفق، فيما يبدو، مع موجة التعميم الحالية للتدريب على اكتساب المهارات اللغوية، إذ كان التدريب على مهارات الاتصال مقصورا حتى عهد قريب على «حراس المداخل» وأصحاب السلطة في المؤسسات، إلى جانب الأشخاص الذين كانوا يعانون من عجز ما، بدنيا أو نفسيا، ولكن مهارات الاتصال اللغوي أصبحت تدرس الآن للجميع في بريطانيا المعاصرة، بسبب السياسات الجديدة الخاصة بالثانوية العامة، والمقررات الدراسية القومية في المدارس، وفي التعليم السابق للتدريب المهني (مبادرة التعليم التقني والحرفي، ومشروع تدريب الشباب ... إلخ) (انظر وحدة التعليم المستمر، 1987م؛ وزارة التعليم والعلوم، 1989م.) (4) كيف تفهم هذه الاتجاهات
يعتبر تجريد هذه الاتجاهات وعزلها على نحو ما فعلته عاليه، من أساليب إبرازها، ولكنني كنت ولا أزال أركز في هذا الكتاب على نظم الخطاب باعتبارها مركبة وغير متجانسة بل ومتناقضة، وإذن فعلينا أن نحاول أن نفهم هذه الاتجاهات في تفاعلها وتقاطعها، وعلينا في غضون هذا أن نسمح بالاختلافات الممكنة في آثار هذه الاتجاهات في شتى نظم الخطاب المحلية، وفي درجة قبولها أو رفضها، وهلم جرا، وعلينا أيضا أن نتيح مكانا لبعض الظواهر مثل «إضفاء الطابع الشخصي المصطنع» المشار إليه في القسم الأخير، والقضية العامة هي أن الاتجاهات قد تكون لها قيم متضادة وبالغة الاختلاف، استنادا إلى ما قد ترتبط به، إلى جانب كونها متاحة للاصطباغ بشتى الألوان السياسية والأيديولوجية.
وقد يبدو أن إضفاء الديمقراطية يتضاد تضادا بسيطا مع التسليع، ما دام الأول يعني ضعف السيطرة والأخير يعني تدعيمها، ولكن بعض الظواهر مثل إضفاء الطابع الشخصي المصطنع تبين أن العلاقة بينهما أشد تعقيدا مما يبدو. ومن الأسباب الأخرى التي تمنع اعتبارهما من الأضداد البسيطة أن التسليع في الواقع يعني إضفاء الديمقراطية ضمنا. ولنسترجع ما قلته عن النص الخاص ببطاقة الائتمان «باركليكارد» في الفصل الرابع والنص الخاص باللائحة الجامعية، وكيف أنهما يتضمنان تحولا جزئيا أو ابتعادا إلى حد ما عن العلاقات التقليدية بين صاحب السلطة والخاضع لها في إدارة المصارف والتعليم على الترتيب، واقترابا من «المستهلك» (الزبون والطالب المتوقع)، ويتجلى هذا التحول في الخطاب الديمقراطي؛ بمعنى أن البنك والجامعة لا يعبران تعبيرا سافرا عن سلطتهما، وأن ذلك يؤدي إلى وجود توترات في النصين سبقت لي الإشارة إليهما. والنصوص المسلعة المبنية على النماذج الإعلانية تتجلى فيها أيضا معالم أخرى للديمقراطية، من بينها التخلي عن الصبغة الرسمية والاقتراب من خطاب المحادثة.
ناپیژندل شوی مخ