الخاتمة
يحاول المدخل الذي عرضته في هذا الفصل للخطاب وتحليل الخطاب إقامة التكامل بين منظورات ومناهج نظرية منوعة بحيث يصبح - وفق ما أرجوه - أسلوبا فعالا لدراسة الأبعاد الخطابية للتغير الاجتماعي والثقافي. ولقد حاولت الجمع بين جوانب معينة من رأي فوكوه في الخطاب وتأكيد باختين للتناص؛ فالأول يتضمن تأكيدا بالغ الأهمية لخصائص الخطاب التي يبنيها المجتمع، والأخير يؤكد «النسيج» النصي (هاليداي وحسن، 1976م) أي تكوين النصوص من خيوط من نصوص أخرى، وكلاهما يشير إلى الطريقة التي تبني بها نظم الخطاب الممارسة الخطابية، وكيف تعيد هذه الممارسة بناء تلك النظم. كما حاولت أن أقيم النظرة الدينامية للممارسة الخطابية وعلاقتها بالممارسة الاجتماعية الناجمة من التلاقي المذكور في إطار الصورة النظرية التي رسمها جرامشي للسلطة والصراع على السلطة من زاوية الهيمنة. واستفدت في الوقت نفسه من بعض التقاليد الأخرى في علم اللغة، وتحليل الخطاب القائم على النص، واستعمال الإثنومنهجية الخاصة بتحليل المحادثة في التحليل النصي. وأعتقد أن الإطار الذي نشأ يسمح للمرء فعلا بالجمع بين العلاقة الاجتماعية والخصوصية النصية في إجراء تحليل الخطاب، والتناول المباشر للتغيير.
الفصل الرابع
التناص
قدمت مفهوم التناص في الفصل الثالث، مشيرا إلى اتفاقه مع الأولوية التي أوليها للتغير في الخطاب، ولبناء أنظمة الخطاب وإعادة بنائها، وكنت أشرت إلى مفهوم التناص أيضا في الفصل الثاني باعتباره عنصرا مهما في تحليل الخطاب عند فوكوه. ولنتذكر ما يقوله: «من المحال أن توجد عبارة لا تقوم، بصورة ما، بإعادة تمثيل عبارات أخرى » (1972م، 98) والهدف الذي أرمي إليه في هذا الفصل أولا أن أزيد من إيضاح الطابع العملي لمفهوم التناص باستعماله في تحليل النصوص، وثانيا أن أعرض بطريقة منهجية إمكانيات هذا المفهوم فيما يتعلق بتحليل الخطاب، باعتبار ذلك جزءا من الإطار التحليلي الذي أبنيه.
سكت كريستيفا مصطلح «التناص» في أواخر الستينيات في سياق دراساتها ذات النفوذ الواسع التي قدمت فيها لجماهير القراء في الغرب عمل باختين (انظر كريستيفا، 1986م، أ، المكتوب فعلا في 1966م). وعلى الرغم من أن مصطلح التناص ليس من وضع باختين، فإن وضع مدخل تناصي (أو إذا استعملنا اللفظة التي سكها مدخل «عبر لغوي») لتحليل النصوص كان يمثل محورا رئيسيا لعمله على مدار حياته الأكاديمية، وكان ذا ارتباط وثيق بقضايا مهمة أخرى، من بينها قضية النوع الأدبي (انظر باختين، 1986م، وهي دراسة كتبها في أوائل الخمسينيات).
ويشير باختين إلى التجاهل النسبي للوظائف التوصيلية للغة داخل التيار الرئيسي لعلم اللغة، وخصوصا إلى تجاهل طرائق تشكيل نصوص سابقة للنصوص المكتوبة والمنطوقة التي تمثل «استجابة» لسابقاتها، وكيف تؤثر هذه في نصوص لاحقة «تستبقها»، إذ كان باختين يرى أن جميع النصوص المنطوقة والمكتوبة - من أصغر مشاركة في محادثة إلى الدراسات العلمية أو الروايات - يحددها تغيير المتكلم (أو الكاتب) وتتوجه عكسيا إلى أقوال المتكلمين السابقين (سواء كانت عبارات في حوار أو دراسات علمية أو روايات) وطرديا إلى الأقوال المتوقعة من جانب المتكلمين اللاحقين. وهكذا فإن «كل قول منطوق حلقة في سلسلة الاتصال الكلامي». أي إن جميع الأقوال المنطوقة «تسكنها» بل و«تكونها» شذرات من أقوال الآخرين المنطوقة، وهي شذرات شبه صريحة أو كاملة، إذ يقول: «كلامنا ... زاخر بكلمات الآخرين، ويتسم بدرجات متفاوتة من الانتساب للغير أو الانتماء إلى ذواتنا، ودرجات متفاوتة من الوعي والانفصال. وهذه الكلمات الخاصة بالآخرين تحمل في طياتها تعبيرهم، ونغمة تقييمهم الخاصة، ونحن نستوعب هذا كله، ونعيد صوغه وتأكيده» (باختين، 1986م، 89)؛ أي إن الأقوال المنطوقة - التي أشير إليها بمصطلح «النصوص» - تتميز بطبيعة متناصة، وتتكون من عناصر من نصوص أخرى. وقد زاد فوكوه من تحديد معالم التناص بالتمييز بين «الحضور» و«الاقتران» و«الذاكرة» (انظر قسم «تشكيل المفاهيم» في الفصل الثاني عاليه).
وكنت قد ذكرت في الفصل الثالث أن بروز مفهوم التناص في الإطار الذي أبنيه يتفق مع تركيزي على الخطاب في التغيير الاجتماعي. وتقول كريستيفا: إن التناص يعني ضمنا «إدراج التاريخ (المجتمع) في النص، وإدراج هذا النص في التاريخ» (1986م، أ، 39). وهي تعني بتعبير «إدراج النص في التاريخ» أن النص يستجيب إلى نصوص سابقة ويعيد تمثيلها وصوغها، ويساعد بذلك على صناعة التاريخ، ويسهم في عمليات التغيير الواسعة النطاق، إلى جانب استباق نصوص لاحقة ومحاولة تشكيلها. وهذا الطابع التاريخي الراسخ في النصوص يمكنها من القيام بالأدوار الكبرى التي تقوم بها في المجتمع المعاصر باعتبارها السلاح الرئيسي في التغيير الاجتماعي والثقافي (انظر المناقشة في الفصلين: 3 و7). والواقع أن سرعة التحول وإعادة البناء للتقاليد النصية ونظم الخطاب ظاهرة معاصرة مرموقة، وهو ما يعني ضرورة التركيز الشديد على التناص في تحليل الخطاب.
والعلاقة بين التناص والهيمنة علاقة مهمة، إذ يشير مفهوم التناص إلى إنتاج النصوص، أي كيف تستطيع النصوص تحوير النصوص السابقة وإعادة بناء الأعراف القائمة (الأنواع، ضروب الخطاب) لتوليد الجديد منها، ولكن القدرة على الإنتاج ليست في الواقع العملي متاحة للناس باعتبارها ساحة لا حدود لها للتجديد النصي والتغيير، بل تحدها حدود المجتمع وقيوده، وتتوقف على علاقات السلطة. ولا تستطيع نظرية التناص في ذاتها تفسير أوجه القصور الاجتماعية المذكورة، ومن ثم فهي تحتاج إلى استكمالها بنظرية عن علاقات السلطة وكيف تشكل المباني والممارسات الاجتماعية (مثلما تتشكل بفعلها). ومن المفيد بصفة خاصة الجمع بين نظرية الهيمنة (الموصوفة في الفصل السابق) والتناص. فلسوف يسمح ذلك بتحديد الإمكانات وأوجه القصور الخاصة بالعمليات التناصية داخل ضروب معينة من الهيمنة وحالات الصراع على الهيمنة، كما يتيح لنا وضع تصور لعمليات التناص وعمليات الطعن في نظم الخطاب وإعادة بنائها باعتبارها عمليات صراع على الهيمنة في مجال الخطاب، وهي التي تؤثر في الصراع على الهيمنة بالمعنى الواسع وتتأثر به.
ويميز باختين بين ما تسميه كريستيفا البعد «الأفقي» والبعد «الرأسي» للتناص أو العلاقات في ساحة «التناص» (انظر كريستيفا، 1986م، أ، 36). فأمامنا، من ناحية علاقات تناصية «أفقية» من النوع «الحواري» (وإن كان ما نراه عادة في صورة مونولوجات يعتبر حواريا بهذا المعنى) بين النص وبين النصوص السابقة له واللاحقة عليه في سلسلة النصوص. وأوضح حالة لذلك أن الأقوال الواردة في إحدى المحادثات تضم وتتجاوب مع الأقوال السابقة، وتستبق الأقوال اللاحقة؛ ولكن أية رسالة مرسلة ترتبط تناصيا مع الرسائل السابقة لها واللاحقة أثناء تبادل الرسائل؛ ومن ناحية أخرى توجد علاقات تناص «رأسية» بين أحد النصوص والنصوص الأخرى التي تشكل سياقها المباشر أو البعيد إلى حد ما؛ أي مع النصوص التي ترتبط تاريخيا بها في أطر زمنية مختلفة وبمعايير متفاوتة، بما في ذلك النصوص التي تعتبر إلى حد ما معاصرة لها.
ناپیژندل شوی مخ