خیالات او احساساتو تحریر
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
ژانرونه
يسود الفزع والجنون بين الحيوانات حينما يرتج الهواء من زئيره، إذ كل منها يعرف هذا الخصم المزعج القاهر الذي لا يستطيع أشدها بطشا أن يثبت أمامه، ولا يؤمن شره بسور ارتفاعه ثلاثة أمتار؛ لأنه يجتازه بكل سهولة وهو مقل فريسته، ويجتاز ما يبلغ أربعة أمتار إن كان لا يحمل شيئا ولكنه لا يستطيع أن يتسلق الأشجار كالنمر.
يقتات عادة بالحيوانات المجترة ولا يأكل إلا الحي منها فلا يرجع إلى ما بقي منه بالأمس إلا اضطرارا، ويستطيع أن يصبر على الطعام يومين أو ثلاثة عقب أكلة تملأ بطنه، وفصيلة «الأنتيلوب» (نوع من الغزلان) لا ترى عدوا لها ألد منه، إذ يختبئ في مقصبة ليغتال القطعان التي ترد الغدران أو البحيرات وقت ظهور الشفق، ساد السكون في هاته الأماكن وسكنت الريح فلم تحرك قمم أشجار الجميز ولبث جريد النخل دون حراك فلم يشب هذا السكون والدعة أية جلبة لا قريبة ولا قصية، فتأتي هذه الأنعام الجميلة أولاد الصحراء ماشية بتؤدة وتبصر وتيقظ منتصبة آذانها شديدة الإصغاء مشرئبة أعناقها مسرحة أنظارها الحادة في كثيف المقصبة، خلا المكان من كل ما يرهب جانبه أو يسمع له همس أو لمس بين الخمائل، فاطمأنت النعم وأمالت رءوسها متهافتة إلى ماء منعش كانت تتلهف عليه وقتا طويلا، وعلى حين غفلة يثب هذا القسورة القهار بطفرة هائلة، ويخرج من مكمنه وينقض كالصاعقة على زعيم القطيع فيرزح المسكين تحته حتى يسوي به الأرض بينا تهرب رفاقه مستنفرة بأسرع من الفكر لتختفي في أعماق البيداء.
وقد مجد أشهر الشعراء سلطان الحيوان في جميع العصور والأزمان، ومهما تغالوا في وصفه أو في جميع التواريخ التي وضعت له فإنها لا تقل عن أن تكون حقيقة وتكاد توفيه حقه من الوصف، ومهما نفح الكتاب بمدهشات البيان وأسعد المصورون بعجائب بنات البنان فإنهم لا يستطيعون أن يمثلوه تمام التمثيل، وليست خيلاء الرئبال أو شجاعته النبيلة اللتان أذاعتهما بخطأ وركاكة الأساطير القديمة هما اللتان أكسبتاه وقاره المهيب وعظمته الهادئة، بل مخائله التي تشف عن ثقته بقوته التي لا تغلب واعتماده على نفسه واعتياده على الظفر والنصر.
ولو أن طباع النفاق عند الأسد لا تزيد عن طباع غيره من أنواع فصيلته فإن خصال هذه العامة توجد فيه، إذ يزحف على بطنه بخبث إلى أن يتمكن من خصمه الذي يتوسم فيه الضر والأذى، ويقيس بتبصر الوثبة فلا تفلت منه غنيمته، ومن ذلك يعلم أنه لا تمتاز طباعه عن غيره من أنواع فصيلته.
إنه لا يقتل لمجرد اللهو، بل لرد غائلة السغب، ويندر أن يثب على فريسته مرة ثانية إن أخطأها في الأولى، وإن شبع مر مر الكرام أمام الأنعام السائمة دون أن يلتفت إليها واضطجع في عرينه ونام، والغضنفر إن فوجئ وهو نائم يكون كالميت ويغتنم مواطنوه هذه الفرصة ويباغتونه في حالة ضعفه ويقتلونه بأسلحتهم النارية أو سهامهم المسمومة.
تنتشر بين الذكور معارك تشيب من هولها الولدان، وحينما يتزاحم اثنان على أنثى فتية لم تأتلف بعد مع أسد، وقد روى أحد أعراب البادية لصائد من أهل الجزائر واقعة من هذا القبيل حضرها مكرها، كان كامنا في ليلة مقمرة يترصد الأيل، وليكون آمنا مطمئنا تسلق شجرة بلوط في مكان خال من النبت والشجر وسط الغاب في مقربة من الدرب، وفي منتصف الليل لمح لبؤة مقبلة يتبعها أسد فتي تكامل لبده فتركت الأنثى الدرب واضطجعت تحت شجرة البلوط ولبث وحده الأسد بجانب الطريق مصغيا، وما هي إلا هنيهة حتى دوى على بعد في الآفاق زئير فأجابته اللبؤة واشترك معها الذكر الذي اصطحبها فزمجر صوته كالرعد القاصف فهلع فؤاد صائدنا المتربص فوق الشجرة وسقطت بندقيته من يده وكاد يهوي معها لولا أن تدارك وأمسك بالأغصان، وكان زئير الأسد القصي يقترب شيئا فشيئا وكلما زاد قابلته بالمثل اللبؤة الجاثمة، بينا رفيقها يجري روحة وجيئة من الحنق كأنه يريد أن يقول له: «فليقبل ليرى كيف ألتقيه.» وبعد ساعة أتى أسد أسود قامت لملاقاته اللبؤة فمنعها رفيقها وطردها ثم انقض على خصمه الذي كان ينتظره بفروغ صبر، وطفقا يتصادمان ويقعان ملتحمين وطال بينهما النزال وكان مزعجا للصائد المشاهد رغما منه بينا العظام تهشم تحت الفكاك القوية، والبراثن تمزق جسميهما، والزئير يكون تارة مختنقا وأخرى قاصفا معبرا عن كلا الوحشين وآلامهما، وكانت اللبؤة عند ابتداء المعركة تنظر إليهما وهي جاثمة على بطنها، فلما حمي وطيس القتال أخذها الزهو والإعجاب، إذ رأت خصمين جبارين يقتتلان لأجلها وأنشأت تترجم عما خالجها بتحريك ذنبها، ولما انتهت الوغى وخر الاثنان صريعين هرولت إلى الجثتين تشمهما ثم ذهبت لشأنها معجبة بنفسها دون أن تلوي على شيء.
وللأسد خصلة حميدة وهي أنه لا يهجر أبدا أليفته التي اختارها ويظهر لها كثيرا من الميل والاعتناء، وله عناية عظيمة بجرائه ولو أنه صعب المراس شديد الجانب، لا يوجد مع صغاره إلا بتكلف، إذ يعروه السأم ويتنغص من لعبها معه.
وحينما يريد أهل البدو من المغاربة صيد الأشبال يترقبون الزمن الذي تنقطع فيه عن ملازمة الأم، وذلك يكون بعد ابتداء ظهور أسنانها بثلاثة أشهر، فيرصدون العرين من أكمة بعيدة أو شجرة مشرفة عليه، وربما تحينوا الفرص أياما كاملة، وحينما يرون أن اللبؤة بارحت أشبالها وأن الأسد غائب ينزلون من مكمنهم بكل تبصر ويقظة ويلفون الأشبال ببرانسهم لئلا تتمكن من الزئير، ويناولونها إلى الفرسان الذين ينتظرونهم في أطراف الغاب المجاور ثم يرخون أعنة جيادهم فتسبق الريح، وهذه الجرأة لا تخلو من المخاطر.
لا يتم نمو الأسد إلا في سنته الثامنة فيبلغ أشده ويكمل لبده، ولم تحقق بعد بالضبط نهاية عمره ولكن علماء الحيوان يقدرونها من 30 إلى 35 عاما، ويشاهد في الجزائر ثلاثة أنواع من الآساد: الأسود والممائل للون صدأ الحديد والأسمر، والأسود أندرها وأصغر قليلا في القامة ولكنه ربعة وأعرض من الآخرين ولونه أسمر داكن إلى الكتفين، ثم يبتدئ لبده الأسود الفاحم الذي يكسبه شكلا مريعا، ويبلغ عرض جبهته ذراعا وطوله من أرنبة أنفه متران وثلث، ويزن جسمه من 500 إلى 600 رطل، والمغاربة تهاب هذا النوع أكثر من غيره؛ لأنه لا يتنقل ولا يجول كالنوعين الآخرين بل يبحث له عن مكان لائق أمين يعيش فيه رخي البال نحو ثلاثين سنة، فلا يجازف بنفسه في السهول إلا نادرا، ولا يهجم على الدور كغيره، بل يتربص ليلا بالثيران النازلة من الجبل وينحر منها أربعة أو خمسة ليرتشف دماءها.
وفي الصيف لا يبارح مأواه إلا عند الغروب، ثم يقف بالمرصاد على قارعة طريق آتية من الجبل ينتظر المشاة والركبان المتأخرين وهم مقبلون وحدانا، وقد باغت سبع أسود فارسا من أهل البدو وحينما هجم عليه فكر أن يترك له جواده فلربما لها به فتحقق أمله ونجا، وهذا أمر نادر جدا؛ لأن المسافر المنفرد لا يتمكن من الفرار أو النجاة إن فاجأه ليلا وهو منقطع عن الركب، ولو أن النوعين الآخرين أعظم جسما لكنهما أقل قوة من الأسود، وطباعها ومعيشتها واحدة إلا ما استثنيناه.
ناپیژندل شوی مخ