ولما طال مرام العروج إلى جو السماء ذات البروج، قلت يا قوم انظروا لأنفسكم فيما أصبحتم فيه، واعلموا أن دليلكم ابن هلال عزم على اللحاق بأبيه، ثم أخذنا في الانحدار بأسرع الابتدار نهوى من المرقب السامي الذرى ونهبط من الثريا إلى الثرى، ونتمثل في ذلك المسلك الواعر، بقول الشاعر:
بطريق بيرة أجبل وعقاب ... لا يرتجي فيها النجاة عقاب
فكأنما الماشي عليها مذنب ... وكأنما تلك العقاب عقاب
حتىإذا استوينا على صفحة الأرض، وتذكرنا بذلك الصراط يوم العرض، تخلصنا من السبيل الوبيل، وانتقلنا الهمز إلى التسهيل، ونزلنا والركائب قد كلت، والمتاعب قد حلت، فكانت مواقد النيران، بوادي العبران، بقعة جديبة المرعى، معدن لكل عقرب تدب وحية تسعى غير أن الله دفع مضرتها، وكفى ببركة الأيالة اليوسفية معرتها.
ولما أصبح استقبلنا الفحص الأفيح، بساط ممدود الصرح، يعجز عن وصفه لسان الشرح، طاردنا قنيصه على طول صحبته للأمان، من حوادث الزمان. فأثرنا كل ذلق المسامع، ناء عن إدراك المطالع، كثير النفار، مصطبر على سكني القفار، يختال في الفروة اللدنة الحواشي، وينتسب إلى الطائر والماشي، فغلبناه على نفسه، وسلطنا عليه آفة من جنسه، وحللنا مقادة طل طويل الباع، رحب الذراع، بادي النحول، طالب بالدخول، كأنه لفرط النحول عاشق، أو نون أجادها ماشق، أو هلال سرار، أو قطعة سوار، أو خبية أسرار رمينا منه بأجله على عجله، وقطعنا به عن أمله، فأصبح رهين هوان مطرقًا بأرجوان. ووصلنا الخطا بين مجاثم الأرانب، وأفاحيص القطا في فحص يتلقى الساير بترحيب واصل إلى اشكوذر حللناها والنهار غض الشبيبة، والجو يختال من مذهب سناه في الحلي العجيبة.
واستقبلنا المرية، عصمها الله، في يوم سطعت أشعة سعدة، وتكفل الدهر بإنجاز وعده، مثل أهلها بجمعهم في صعيد سعيد، ويدعوهم عيد عهدهم به بعيد، فلم يبق حجاب إلا رفع، ولا عذر إلا دفع، ولا فرد إلا شفع في يوم نادي بالجمهور إلى الموقف المشهور، وأذن الله لشهره بالظهور على ما تقدمه من الشهور، رمت البلدة فيه بأفلاذها وقذفت بثباتها وأفذاذها، وبرز أهلها حتى غص بهم سهلها وقد أخذهم الترتيب، ونظمهم المصف العجيب، تقدمت مواكب الأشياخ الجلة، والفقهاء الذين هم سرج الملة، وخفقت أصناف البنود المطلة، واتسقت الجموع التي لا تؤتي بحول الله من القلة، وتعددت بمناكب البدور أشكال الأهلة، في جموع تسد مهبات الصبا، وتكاثر رجل الدبا، صفوفًا كصفوف الشطرنج على أعناقهم قسي الفرنج، وقد نشروا البنود الشهيرة الألوان واستشعروا في يوم السلم شعار الحرب العوان، يتسابقون من الاحتفال إلى غايه، ويرجع كل منهم إلى شعار وإلى رايه، وقد أحسنوا بالمشيخة الاقتداء، ورفعوا بالسلام النداء.
وامتاز خدام الأساطيل المنصورة في أحسن الصورة، بين أيديهم الطبول والأبواق تروع أصواتها وتهول. وتأنق من تجار الروم من استخلص العدل هواه، وتساوي ونجواه، في طرق من البر ابتدعوها، وأبواب من الاحتفاء شرعوها، فرفعوا فوق الركاب المولوي على عمد الساج، مظله من الديباج، كانت على قمر العلياء غمامه، وعلى زهر المجد كمامه، فراقتنا بحسن المعاني، وأذكرتنا قول أبي القاسم ابن هاني:
وعلى أمير المسلمين غمامه ... نشأت تظلل وجهه تظليلا
نهضت بعبء الدر ضوعف نسجه ... وجرت عليه عسجدًا محلولا
1 / 5