فنظر إلى حاله، فإذا هو على خطر عظيم: لأنه وجد نفسه بمنزلة شجرة قطعت أغصانها والشجرة باقية بحالها. فما يؤمنه أن يغفل عنها قليلا فإذا الشجرة قد بدت لها أغصان كما كان بديا، فكلما قطعها خرج مكانها مثلها. فقصد الشجرة ليقطعها من أصلها، ليأمن من خروج أغصانها، فقطعها. فظن أنه قد كفى مؤنتها، فإذا أصلها قد بدت منه أغصان؟ فعرف أنه لا يخلص من شرها دون أن يقلعها من أصلها. فإذا قلعها من أصلها استراح.
فلما نظر هذا العبد إلى جوارحه قد هدأت، التفت إلى باطنه؛ فإذا نفسه محشوة بشهوات هذه الجوارح. فقال: إنما هي شهوة واحدة، أبيح لي منها بعضها وحظر على بعضها: فأنا في خطر عظيم! أحتاج أن أحرس بصري حتى لا ينظر إلا المباح: فإذا بلغ المحظور عليه غمض وأعرض وكذلك اللسان وجميع الجوارح. فإذا غفلت ساعة عن الحراسة، رمتني في أودية المهالك. فلما وقع في هذا الخوف، ضيقت عليه المخافة جميع الأمور، وحجزته عن الخلق، وأعجزته عن القيام بكثير من أمور الله، عز وجل. وصار ممن يهرب من كل أمر، عجزا منه وخوفا على جوارحه من نفسه الشهوانية.
فقال في نفسه: قد اشتغل قلبي بحراسة نفسي في جميع عمري، فمتى أقدر أن أفكر في منن الله وصنائعه؟ ومتى يطهر قلبي من هذه الأدناس؟ فإن أهل اليقين يصفون من قلوبهم أمورا، أنا خلو منها! فقصد ليطهر الباطن، بعدما استقام له تطهير الظاهر. فعزم على رفض كل شهوة في نفسه لهذه الجوارح السبع، مما أطلق أو حظر عليه. وقال: إنما هي شهوة واحدة، تطلق لي في مكان وتحظر علي في مكان. فلا خلاص منها، حتى أميتها من نفسي وحسب إن رفضها إماتتها! فعلم الله صدق الرفض من عبده وماذا يريد.
فافترقت الإرادة ههنا. فمنهم من صدق الله في رفضه ليطهر مناه، ويلقاه بصدقه وطهارته لينال ما وعد الصادقين من ثواب جهدهم. ومنهم من صدق الله في رفضه ليلقاه بخالص العبودية غدا، فتقر عينه بلقائه. ففتح لهذا الطريق إليه، وترك الآخر على جهده، واقتضائه ثواب الصدق يوم لقائه.
مخ ۶