تريدين إدراك المعالي رخيصة؟
ولا بد دون الشهد من إبر النحل
وسارت القصيدة في البوادي، وسخط الأعراب على أبي الطيب لمدحه دلير الديلمي، ومرت شهور ضاق فيها الشاعر بالكوفة، وتمنى لو وجد إلى سواها منفدا، وفي يوم طرق بابه فارسان كان أحدهما يحمل رسالة من أبي الفضل بن العميد وزير عضد الدولة «بأرجان» يدعو فيها الشاعر إلى الرحيل إليه، ويبذل له الوعود الحسان، وكان الثاني رسولا من قبل سيف الدولة يلح عليه في الذهاب إلى حلب، ويغريه بكل وسائل الإغراء، وقد فكر المتنبي في الرسالتين وأطال التفكير، فمرة تدفعه عروبته إلى الرحيل إلى حلب وإلى السخط على الديلم وكل من يتصل بالديلم، ومرة ينفر كما ينفر المهر الشموس ويأبى أن يعود إلى رجل أهين في حضرته فلم يدفع عنه، وترك أعداءه وحساده يثلبون عرضه حتى اضطر إلى قصد الأسود الذي هدم حياته وأهدر كرامته. وانتهى بالمتنبي العزم إلى أن يعتذر إلى سيف الدولة بأبيات، وأن يقصد ابن العميد. وما كاد يلقي الخبر على زوجته حتى غشيتها غاشية من الحزن والتطير وصاحت: لا تذهب يا أبا الطيب. بالله عليك لا تذهب. إن أنفاسي لم تهدأ بعد مما لاقيت من فراقك الطويل، وإن خفقات قلبي لا تزال تأبى أن تظن أنك بجانبي، ولو كنت ممن يتقون المخاطر، ويتوقون المهالك، لكان حزني لفراقك حزن امرأة غاب عنها زوجها وبقيت تمني نفسها بلقائه، ولكنك رجل إذا ابتلعتك القفار تحديت الموت، وسخرت من الخطوب، ولم تبال بالأسود ولا بالحيات السود.
فربت أبو الطيب ذراعها في رفق وقال: لا تخافي يا فاطمة فالطريق آمنة، ولن أغيب عنك طويلا. - إن الوساوس تقتلني يا سيدي، وإني أشعر في هذه المرة - ولا أدري لم أشعر - بشيء يكاد يقف له قلبي، فبالله عليك لا ترحل يا أبا الطيب. - هذه وساوس شيطان يا فاطمة فاصرفيها عنك. ثم مد إليها ذراعيه في رفق فعانقته باكية مكلومة الفؤاد، وأخذت تردد الحسرات، وتزود بالدعوات، فاجتذب نفسه من ذراعيها وأسرع إلى الباب، فرأى عبيده قد أعدوا كل شيء للرحيل. ففصل من الكوفة ومعه ابنه محسد وعبده مفلح في أول صفر سنة أربع وخمسين وثلاثمائة قاصدا أرجان، وهو يقول:
شر البلاد مكان لا صديق به
وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
وشر ما قنصته راحتي قنص
شهب البزاة سواء فيه والرخم - كل شيء ينال بالصبر والحزم.
وبعث المتنبي إلى ابن العميد غلاما يعلمه بقدومه، وكان ابن العميد مضطجعا في دسته وحوله كبار رجاله، وقد علم في الصباح بقرب قدوم المتنبي، فالتفت إلى نديمه العلوي العباسي. - إننا ننتظر من أبي الطيب شعرا أبلغ وأروع مما قاله في سيف الدولة وكافور. - حقا إنه كان ينثر درره فوق من لا يميزون الدر من الحصى، أما وقد جاء ينشد «الجاحظ الثاني» الذي امتلك زمام الأدب، ودانت له رقاب البلاغة، فيجب أن يفكر طويلا قبل أن يقول، وأن يبرز من بدائعه ما لم يمر بخيال شاعر. - أتعرف أن الأديب أحيانا تفوته الإجادة إذا حرص على أن يجيد؟ - كيف يا سيدي؟ - إنه إذا حاول الإتقان التجأ إلى التعمق والتعمل، وأدركته حال عصبية من التشكك تحول بينه وبين فطرته السليمة، وقد لمح المتنبي الذي لم يفته شيء من خواطر النفوس هذا المعنى إذ يقول:
أبلغ ما يطلب النجاح به الطب
ناپیژندل شوی مخ