وكان المتنبي مطرقا في خشوع وجلال في أثناء الإنشاد، لم تظهر على وجهه لمحة استنكار، ولم تبد منه بادرة تدل على أن شعرا ينشد أو هجاء يقال، وحينما أتم ابن الحجاج إنشاده التفت إليه أبو الطيب، وقال : لقد أجهدت نفسك يا صاحبي بالوقوف في هذه الشمس المحرقة. ثم أرخى عنان فرسه وأطلقه للمسير.
وكلما طالت إقامة المتنبي ببغداد زادت الحملة قوة وتأجج لهيبها. وكانت تجري هذه الأحاداث وهو ساكت لا ينبس، رزين لا يطيش، ولكن نفسه كانت تتقد غيظا وقلبه يتفتت كمدا، جلس مرة مطرقا حزينا، وقد مرت بذهنه هذه الصورة المخزية، وهذه الحرب الكريهة التي ألقى فيها سلاحه ليصون كرامته من أن تنزل في هذا الميدان، ثم أخذ يحادث نفسه ويقول: إلى متى هذه المطاولة؟ وإلى متى هذا الحلم الذي قد يعده الناس جبنا؟ أين شعرك يا أبا الطيب؟ إن بيتا واحدا منك كفيل بأن يلقف ما صنعوا وأن يلتهم حبالهم وعصيهم. إنهم ذباب قذر يكفي أن تمر بنعلك عليهم فتمحوهم جميعا. ولكنك إذا هجوتهم كنت لهم قرينا، والموت خير ألف مرة من أن تكون قرينا لهؤلاء. اهج المهلبي إذا، اهجه أبا الطيب، اهج معز الدولة، نعم اهج هذين أو واحدا منهما، فإن مثلك لا يهجو إلا الملوك والوزراء، وأقسم بالشعر ومناته وعزاه إن قصيدة واحدة منك في هجائهما لن تكون ألفاظا، ولن تكون حروفا، ولكنها تكون صاعقة تحطم العروش وتبعثر التيجان. ولكن كيف تهجوهما؟ إنك إن فعلت فلن يكون لك مسكن إلا في السماء، نعم إن هجاءهما لا يبقي لك في الأرض مكانا، لقد غاضبت مصر وجفوت الشام، فإذا فررت من العراق فأين تذهب؟ قد يجول بنفسك أن تذهب إلى بلاد فارس، وأظن أن ملكها عضد الدولة لا يلاقي من هجا عمه معز الدولة بالقبل والعناق. لا يا أبا الطيب، اصبر ما استطعت الصبر، واكظم غيظك المحموم ما قدرت، فإذا لم تقدر فارحل إلى الكوفة، وادفن نفسك بين الكتب، فقد أصبحت ميت الأحياء. وجاء ابن حمزة ذات مساء فدخل على المتنبي مهموما يمسح عرقا تصبب من وجهه، وقال: لقد قابلت الساعة أبا علي الحاتمي، فأخبرني بأنه سيزورك غدا. - من أبو علي الحاتمي؟ - إنه من أعلام بغداد وكبار أدبائها، وهو أستاذ كثير من شعرائها وكتابها. - وماذا يريد مني؟ - يريد أن يسعد بلقائك، وأن يجاذبك الحديث في الشعر والأدب، اسمع يا أبا الطيب. إن الحاتمي رجل مهيب رفيع المكانة في بغداد، وليس هو ممن يقابل بالإعراض والسخرية كما قابلت ابن الحجاج وصاحبيه، فرجائي إليك أن تبسط له من نفسك وحديثك، وأن تقابله بما يليق بمنزلته وكرامته، فقد كفانا ما لقينا من الفضائح في دروب بغداد وأزقتها، وكفانا أننا أصبحنا اليوم حديثا لأدعياء الأدب وسخفاء المجان. - اجعل كل هذا دبر أذنك يا ابن حمزة. - اجعله دبر أذني إن استطعت، ولكني لا أضيف إليه كارثة جديدة بإهانة أعظم أدباء بغداد. - لا. لن نهينه ما أحسن الكلام والتزم الأدب.
وجاء الحاتمي في الغد وقد اعتزم أن يسقط المتنبي من سماء كبريائه، وأن ينكس رأسه في التراب، وأن يظهر جهله بالشعر والأدب واللغة، ثم ينشر في طول بغداد وعرضها أنه حطم الصنم، وخرق الطبل الأجوف، وأن هذا المتنبي الذي يظن أن شمس العراق لم تطلع على مثله ليس إلا دعيا مغرورا أفاقا.
جاء الحاتمي وقد ركب بغلة فارهة وحوله عدة من الغلمان بين مماليك وأحرار، فلما بلغ الدار ولمحه أبو الطيب غادر مجلسه ودخل حجرة أخرى واستأذن الحاتمي وأذن له، فاستقبله ابن حمزة أحسن استقبال وحياه أجمل تحية، وكان بالمجلس أبو الفتح بن جني والقاضي أبو الحسن المحاملي، ثم دخل أبو الطيب فسلم عليه الحاتمي مبتسما، وقال: لقد لمحتك يا أبا الطيب في هذه الحجرة وأنا بباب الدار، فلما علمت بقدومي تركتها، أفعلت ذلك لكي لا تنهض إلي بالسلام؟ فسكت أبو الطيب ولم يجب، ثم جلس على كرسيه معرضا بنظر إلى السقف والحيطان، ولما فرغ من هذا اتجه إلى ابن جني، وقال: إن البيت هو:
حالفته صدورها والعوالي
لتخوضن دونه الأهوالا
والضاد في «تخوضن» مضمومة؛ لأن الفعل مسند إلى واو المذكرين مؤكد بالنون.
فقال ابن جني: كنت أقرؤه «لتخوضن» بفتح الضاد على أن الفعل مسند إلى ضمير مؤنث يعود على الصدور والعوالي، وكيف يا سيدي يسند الفعل إلى واو المذكرين المحذوفة في «تخوضن»، وهي خاصة بالعقلاء؟ - حينما قلنا: إن صدور الخيل وعوالي الرماح حالفت الممدوح أجريناها مجرى من يعقل من الذكور.
كان يدور هذا الحديث والحاتمي متفزز متوثب، ينفخ من الغضب، فالتفت إليه المتنبي، وقال: كيف حالك؟ فأجاب الحاتمي وهو يتميز من الغيظ: أنا بخير لولا ما جنيته على نفسي من قصدك، وجشمت دابتي من السعي إلى مثلك، أجبني بالله أيها الرجل! فيم تيهك وخيلاؤك؟ وعجبك وكبرياؤك؟ وهل عدوت أن تكون شاعرا متكسبا؟ إذا قصدك شريف في نسبه تجاهلت نسبه، أو عظيم في أدبه صغرت أدبه، أو متقدم عند سلطانه خفضت منزلته، فهل المجد تراث لك دون غيرك؟
فأطرق المتنبي وعلم أن الرجل ليس بهين، وأنه يمكنه أن يلين معه بعض اللين، فقال: خفض عليك واكفف من غربك واستأن فإن الأناة من شيم مثلك. فهدأ الحاتمي قليلا، ثم قال: إني جئت أسألك عن أشياء وأراجعك في أشياء، حدثني عن قولك:
ناپیژندل شوی مخ