هذه هي نفس أبي الطيب حينما عاد إلى الكوفة. وهذه بعض خواطره التي كانت تضطرب في صدره.
بلغ المتنبي داره فطرق ابنه الباب فأسرع «مفلح» إلى فتحه، ودخل أبو الطيب ومحسد وبعض عبيده، فصاح محسد: أين أمي؟ فأطلت من أعلى السلم امرأة في نحو السابعة والثلاثين، لا تزال تزهى بريان شبابها، وتدل بنضرة عودها، وكان في وجهها نبل واستسلام وثقة، وفي نظراتها حيرة وذهول ودهشة. وهي من أسرة عريقة بالشام فتن بها المتنبي وفتنت به، وكانت تشبهه في قوة الجلد وبعد الهمة ومضاء العزيمة.
لم تكد الأم تسمع صوت محسد حتى أسرعت إليه، فوثبت فوق درجات السلم وثبا، ثم مدت ذراعيها في شوق وحنان فطوته إلى صدرها وهي تغمغم: وهكذا يا ولدي يلتقي الشتيتان وإن طال الزمان. ويعود القارظان بعد قنوط وإياس. ثم ألقت على جبينه قبلة فيها كل معاني الحب والشوق، واتجهت نحو المتنبي في إجلال وشغف فعانقته عناق المحب الواله المهجور، ثم قالت: الحمد لله على سلامتك يا سيدي. لقد طالت الغيبة وانقطعت الرسائل منذ بعثت بي إلى هنا، ورحلت وحدك إلى مصر، ولقد كادت الوساوس تعبث في لولا ما كان يملأ المدينة من أخبارك بين الحين والحين، فإنك يا سيدي ما كنت تنشد قصيدة بمصر حتى تطير إلينا أبياتها بعد قليل. ما لي أرى سيدي مضنى هزيلا؟ - لقد لوحتني الصحراء يا فاطمة، وكان القيظ شديدا والسير مجهدا والطريق وعرا كثير المخاطر، ولكن شوقي إليك هون علي كل شيء. كيف الحال؟ وكيف قضيت هذه السنوات الخمس؟ - بخير يا سيدي، ولقد كان لسيدتي زينب زوج الشريف الحسن بن عمر العلوي الفضل الأكبر في إزالة وحشتي، فإنها كانت تكثر من زيارتي وتنقل لي عن زوجها أخبارك بمصر، ومنذ شهر وصلت قصيدتك التي هجوت بها عبد الإخشيد، وكانت سمر الناس وحديث الأدباء، ولقد علمت منذ أيام بقرب قدومك إلى الكوفة، فقد أرسل إلينا الوالي أحد أعوانه ليتحقق من عودتك، فلما أخبره مفلح بأنك لا تزال غائبا أسر إليه بأنك خرجت من مصر منذ أشهر، وأن معز الدولة بعث إلى الوالي طلبا منه استقصاء خبرك. فأطرق المتنبي مفكرا ثم رفع رأسه، وقال: معز الدولة الديلمي الغاشم مقطوع اليد اليسرى يسأل عني؟ ما هذا النحس الذي يلاحقني؟ أأفر من الأسود الماكر في مصر ليطاردني بأمثال هؤلاء. لن أقول من الآن شعرا، ولن يظفر مني أمثال هؤلاء المناكيد ببيت واحد. ثم لمح على الحائط بيتا من الشعر كان كتبه بخطه وهو في العاشرة فقرأ:
وإلا تمت تحت السيوف مكرما
تمت وتلاق الذل غير مكرم
فأخذته رعدة، وطافت بنفسه ذكريات وأحلام وصاح: نعم، إنني خلقت فارسا قبل أن أخلق شاعرا، وقد ألقيت عناني للشعر طويلا، فأحلني دار الهوان وزحزحني عن قمة المجد وسأسكت اليوم شعري ليتكلم سيفي:
من اقتضى بسوى الهندي حاجته
أجاب كل سؤال عن هل بلم
ثم قام فخلع ثيابه واستلقى على فراشه شاخص العينين شارد الفكر مضطربا، فقد كانت تطول بذهنه أطياف من الماضي القريب والبعيد، وصور من الحوادث، وتهاويل من الآمال والأحلام التي ذهبت بددا وآضت حطاما. مرت به أيام صباه، وما كان فيها من أمل مكبوت كالزهرة المنطوية في كمها، والناء المخبوءة تحت رمادها، ومرت به أيام رحلته إلى دمشق في طلب العلم والأدب وهو بعد غلام لم يطر شاربه، وما قاسى في تلك الملاوة من فقر وضنك وسغب، ومرت به أيام استجدائه بالشعر ذليلا متصاغرا ينتقل على قدميه من بلد إلى بلد. ويمدح من هو بالصفع أجدر منه بالمديح، وينثر الدر فوق رءوس الخنازير، ثم مرت به أيام حلب وأيام سيف الدولة حين بلغ القمة ووصل بعد طول الكد إلى الغاية، فاختلج فؤاده وهاجت بلابله، وطافت بوجهه سحابة حزن غائمة، وضرب كفا على كف، فقد كان ينبغي ألا يفارق سيف الدولة، وكان ينبغي أن يصل حظه بحظه في ميزان القدر، ثم مرت أيام كافور وما كان فيها من آمال طارت قبل أن ينبت لها جناح، ودفنت قبل أن تلمح نور الحياة، ثم دار فكره دورة سريعة نحو ما يستقبله من أيام وأحوال، وما ينتظره من أحداث وخطوب، هذا معز الدولة يسأل عني. لقد علم بفراري من مصر. ماذا يريد مني؟ إنه رجل خبيث ماكر منتقم، ووزيره المهلبي شر منه وأشد نكرا، إنني سأطوي صحائف الشعر، لقد نلت من جرائه ما كفاني، سأقيم في داري، وسأنكب على دراسة الأدب واللغة، ولن يدوي لأبي الطيب بعد اليوم في الآفاق صوت، ولن يشعر أحد بمكانه. لقد نال من الشهرة والمال فوق ما تطمح إليه الشهرة، ويصبو إليه حب المال، ولكن تلك النفس النزوع لا تطيعني، وهذه الروح الوثابة لا ترضى بالسكون كأنها الطائر القلق لا يستقر في وكن ، إنني خلقت من عصف الرياح وهدير السيول وقعقعة الرعود، فلن أستطيع أن أجلس هادئا في عقر داري ألفن هذا بيتا من الشعر، وأصحح لهذا كلمة في اللغة. لم أولد وفي يدي مغزل، ولكني ولدت وفي يدي سيف بتار. لست ممن يجلس في شمس الشتاء، ويستظل من لفحات الهجير بدوحة أو جدار.
طوال الردينيات يقصفها دمي
ناپیژندل شوی مخ