بسم الله الرحمن الرحيم كنت - حفظ الله عليك دينك، وقوى في ولاء العترة الطاهرة يقينك - سألتني أن أصنف لك كتابا يشتمل على خصائص أخبار الأئمة " الإثنى عشر صلوات الله عليهم، وبركاته، وحنانه، وتحياته " على ترتيب أيامهم وتدريج طبقاتهم، ذاكرا أوقات مواليدهم، ومدد أعمارهم، وتواريخ وفاتهم، ومواضع قبورهم، وأسامي أمهاتهم، ومختصرا من فضل زياراتهم، ثم موردا طرفا من جوابات المسائل التي سئلوا عنها، واستخرجت أقاويلهم فيها، ولمعا من أسرار أحاديثهم، وظواهر وبواطن أعلامهم، ونبذا من الاحتجاج في النص عليهم، وحقيقة البرهان في الإشارة إليهم، موضحا من ذلك ما يزيد به الولي المخلص إخلاصا في موالاتهم، وصفاء عقد في محبتهم، ويصدع عن عين عدوهم العمى، ويكشف عن قلبه الغمى، حتى يستشف أنوارهم فيسعوا إليها، ويستوضح أعلامهم فيتتبعها، ويقتفيها سالكا في جميع ذلك طريق الاختصار، ومائلا عن جانب الاكثار، لأن مناقب موالينا الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، لا تحصى بالعدد، ولا تقف عند حد، ولا يجري بها إلى أمد، فإني أعتقد أن جميع أعداد هؤلاء الغرر الذين هم قواعد الاسلام، ومصابيح الظلام، والذين خفض الله الخلق عن منازلهم، وقصر الألسن والأيدي عن تناولهم، وميز بين العالم وبينهم، وأماط (1) العيب والعار عنهم، بين مغموس القلب في الجهالة،
مخ ۳۶
ومطروف العين بالضلالة، لا يفيق من سكرة الهوى، فيتبين الطريقة المثلى، وبين عالم بفضلهم، خابر بطيب فرعهم، وأصلهم، يكتم معرفته معاندة، ويغالط نفسه مكايدة، ترجيبا (1) لغرس قد غرسه، وتوطيدا لبناء قد أسسه، وتنفيقا قد قامت له، وائتجارا (2) لجماعة قد التفت عليه.
وكل ذلك طلبا لحطام هذه الدنيا، الوبيل مرتعها، الممر مشربها، المنغص نعيمها، وسرورها، المظلم ضياؤها ونورها، الصائرة بأهلها إلى أخشن المصارع، بعد ألين المضاجع، والناقلة لهم إلى أفزع المنازل، بعد أمن المعاقل، على قرب من المعاد، وعدم من الزاد، ثم تتقلب بهم إلى حيث " تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا " (3).
فعاقني عن إجابتك - إلى ملتمسك - ما لا يزال يعوق من نوائب الزمان، ومعارضات الأيام إلى أن أنهضني إلى ذلك اتفا اتفق لي فاستثار حميتي، وقوى نيتي، واستخرج نشاطي وقدح زنادي، وذلك أن بعض الرؤساء - ممن غرضه القدح في صفاتي، والغمز لقناتي، والتغطية على مناقبي، والدلالة على مثلبة - إن كانت لي - لقيني، وأنا متوجه عشية عرفة من سنة ثلاث وثمانين هجرية، إلى مشهد مولانا أبي الحسن موسى بن جعفر، وأبي جعفر محمد بن علي بن موسى عليهما السلام، للتعريف هناك، فسألني عن متوجهي فذكرت له إلى أين مقصدي، فقال لي: متى كان ذلك؟ يعني أن جمهور الموسويين جارون على منهاج واحد في القول بالوقف، والبراءة ممن قال بالقطع، وهو عارف بأن الإمامة مذهبي، وعليها عقدي ومعتقدي، وإنما أراد التنكيت لي، والطعن على ديني، فأجبته في الحال بما اقتضاه كلامه، واستدعاه خطابه، وعدت وقد قوى عزمي، على عمل هذا الكتاب إعلانا
مخ ۳۷
لمذهبي، وكشفا عن مغيبي، وردا على العدو الذي يتطلب عيبي، ويروم ذمي وقصبي، وأنا بعون الله مبتدئ بما ذكرته على الترتيب الذي شرطته، والله المنقذ من الضلال، والهادي إلى سبيل الرشاد. وهو تعالى حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.
مخ ۳۸
خصائص مولانا أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام ولد عليه السلام بمكة في البيت الحرام لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، بعد عام الفيل بثلاثين سنة، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وهو أول هاشمي في الاسلام، ولده هاشمي مرتين ولا نعلم مولود ولد في الكعبة غيره (1).
وقبض عليه السلام قتيلا بالكوفة، ليلة الجمعة لتسع ليال بقين من شهر رمضان، سنة أربعين من الهجرة، وله يومئذ ثلاث وستون سنة على الرواية الصحيحة، وكان بقاؤه مع رسول الله صلى الله عليه وآله ثلاثا وثلاثين سنة، وكونه بعده حجة الله في أرضه ثلاثين سنة، ونقش خاتمه - وهو عقيق أحمر - الله الملك وعلي عبده، ويقال: الملك لله (2).
واختلف الناس في موضع قبره، فقال قوم في رحبة القضاء، وقال قوم:
في دار الإمارة، وقال قوم: حمل إلى المدينة، والصحيح الذي لا شك فيه، ولا لبس عليه أنه عليه السلام بالغري (3) من نجف الكوفة، ومما يدل على ذلك أن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام، زاره في هذا الموضع لما أشخصه المنصور إليه.
مخ ۳۹
فضل زيارته عليه السلام روي عن الصادق عليه السلام عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله إنه قال: من زار عليا بعد وفاته فله الجنة (1).
وقال الصادق عليه السلام: إن أبواب السماء لتفتح عند دعاء الزائر لأمير المؤمنين عليه السلام.
وقال عليه السلام: من ترك زيارة أمير المؤمنين عليه السلام لم ينظر الله تعالى إليه، ألا تزورون من تزوره الملائكة والنبيون عليهم السلام، إن أمير المؤمنين عليه السلام أفضل من كل الأئمة، وله مثل ثواب أعمالهم، وعلى قدر أعمالهم فضلوا (2).
مخ ۴۰
طرف من الاحتجاج للنص عليه، عليه السلام مما يدل على ذلك أن الشيعة جماعة كثيرة لا يحصرهم العدد، ولا يشتمل عليهم بلد، وقد طبقوا البلدان، وملؤا الأقطار، وساروا شرقا وغربا وانتشروا برا وبحرا، على اختلاف أوطانهم، وتباعد ديارهم، وتفاوت هممهم، وأهوائهم، وتباين أقاويلهم وآرائهم، وانتفاء الأسباب الموجبة للشك، والوقوف في خبرهم، وفيهم مع ذلك عدد كثير، وجم غفير، من أهل بيت النبي عليه السلام، وذويه وأصحابه ومواليه، ينقلون نقلا متصلا متواترا أن النبي صلى الله عليه وآله، قد استخلف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، على أمته بعد وفاته، ونص عليه، وفرض طاعته في أمر الدين كله، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعل ذلك ظاهرا مكشوفا، فوجب قبول هذا الخبر علما ويقينا.
فإن قال قائل: إنهم إنما كثروا الآن، وإن أولهم كان قليلا، وسلفهم كان يسيرا مغمورا، قيل له: ما الفضل بينك وبين من احتج عليك بمثله من الملحدين، وسائر المخالفين؟ فقال: إن آيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا تصح لأن عدد المسلمين الناقلين لها كان قليلا في الأول، وإنما كثر الآن فلا تجد بينهما فصلا.
مخ ۴۱
فصل فيما روي من الأشعار في نص النبي على أمير المؤمنين عليهما السلام والصلاة في يوم الغدير فمن ذلك ما رواه نقلة الآثار أن حسان بن ثابت الأنصاري (1) استأذن النبي عليه السلام، يوم الغدير بعد فراغه من المقام أن يقول شعرا في ذلك، فأذن له فأنشأ يقول:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالرسول مناديا فقال: فمن مولاكم ووليكم * فقالوا: ولم يبدوا هناك التعاديا إلهك مولانا، وأنت ولينا * ولم تر منا في المقالة عاصيا فقال له: قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادى عليا معاديا فقال له النبي صلى الله عليه وآله: لا تزال يا حسان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك (2).
واتفق حملة الأخبار على نقل شعر قيس بن عبادة (3) وهو ينشده بين يدي
مخ ۴۲
أمير المؤمنين عليه السلام، بعد رجوعه من البصرة في قصيدته التي أولها:
قلت لما بغى العدو علينا * حسبنا ربنا ونعم الوكيل حسبنا ربنا الذي فتح * البصرة بالأمس والحديث طويل إلى أن بلغ فيها إلى قوله:
وعلي إماما وإمام * لسوانا أتى به التنزيل يوم قال النبي من كنت مولاه * فهذا مولاه خطب جليل إنما قاله النبي على الأمة * حتم ما فيه قال وقيل (1) وهذان الشاعران (2) صحابيان شهدا بالإمامة لأمير المؤمنين عليه السلام شهادة من حضر هذا المشهد، وعرف المصدر والمورد.
ثم هذا الكميت بن زيد الأسدي (3) وهو غير مشكوك في فصاحته، ومعرفته بالعربية يقول:
ويوم الدوح دوح غدير خم * أبان له الولاية لو أطيعا ولكن الرجال تبايعوها * فلم أر مثلها خطرا منيعا (4) وهذا السيد بن محمد بن الحميري (5) وليس بدون في الفصاحة، ولا بمتأخر في البلاغة يقول من قصيدة:
قالوا له لو شئت أعلمتنا * إلى من الغاية والمفزع فقام في خم النبي الذي * كان بما قيل له يصدع فقال مأمورا وفي كفه * كفه علي لهم تلمع من كنت مولاه فهذا له * مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا
مخ ۴۳
وعلى ذكر هذه الأبيات فإني مورد حديثا طريفا سمعته في معناه وهو متعلق بها... حكى أن زيد (1) بن موسى بن جعفر بن محمد عليهم السلام، رأى رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام كأنه جالس مع أمير المؤمنين عليه السلام، في موضع عال شبيه بالمسناة، وعليها مراق، فإذا منشد ينشد قصيدة السيد بن محمد الحميري هذه، وأولها:
لأم عمرو باللوى مربع * طامسة أعلامه بلقع (2)
مخ ۴۴
حتى إنتهى إلى قوله:
قالوا له لو شئت أعلمتنا * إلى من الغاية والمفزع قال: فنظر رسول الله إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليهما، وتبسم ثم قال: أولم أعلمهم؟ أولم أعلمهم؟ أولم أعلمهم؟ ثلاثا، ثم قال لزيد: إنك تعيش بعدد كل مرقاة رقيتها سنة واحدة، قال: فعددت المراقي فكانت نيفا وتسعين مرقاة، فعاش زيد نيفا وتسعين سنة.
وهو الملقب بزيد النار، وإنما سمي بذلك لأنه لما غلب على البصرة أحرق نفرا من أهلها، وأسواقا كثيرة منها (1).
وما أشد استحساني لجواب كان بعض المتقدمين من الشيعة يجيب به من سأله عن قعود أمير المؤمنين عليه السلام، وتركه طلب الأمر، ودعاء الناس إلى نفسه، وهو أنه كان يقول: أمير المؤمنين عليه السلام كان في هذا الأمر فريضة، من فرائض الله تعالى أداها نبي الله صلى الله عليه وآله إلى قومه، مثل الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، وليس على الفرائض أن تدعوهم إلى أنفسها، وتحثهم على طلبها، وإنما عليهم أن يجيبوها، ويسارعوا إليها، وكان أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الأمر أعذر من هارون لأن موسى عليه السلام لما ذهب إلى الميقات، قال لهارون: " اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " (2).
فجعله رقيبا عليهم وزعيما لهم، وأن نبي الله تعالى صلى الله عليه وآله نصب عليا عليه السلام لهذه الأمة علما، ودعاهم إليه وحضهم عليه، فعلي عليه السلام في عذر من لزوم بيته، وإرخاء ستره، والناس في حرج حتى يخرجوه من مكمنه، ويستثيروه من مربضه، ويضعوه في الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله.
مخ ۴۵
ومن أعلامه ودلائله عليه السلام على الاختصار منها، والاقتصار على بعضها، فلو أني نشرت ما طويت منها لرماني الناس بيد واحدة عن قوس واحدة، وكذلك أنا في أخبار سائر الأئمة عليهم السلام.
روي أن أمير المؤمنين عليا - عليه السلام - كان جالسا في المسجد إذ دخل عليه رجلان فاختصما إليه، وكان أحدهما من الخوارج، فتوجه الحكم إلى الخارجي فحكم عليه أمير المؤمنين عليه السلام، فقال له الخارجي: والله ما حكمت بالسوية ولا عدلت في القضية، وما قضيتك عند الله تعالى بمرضية، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام وأومأ إليه إخسأ عدو الله، فاستحال كلبا أسود، فقال من حضره: فوالله لقد رأينا ثيابه تطاير عنه في الهواء، وجعل يبصبص لأمير المؤمنين عليه السلام، ودمعت عيناه في وجهه، ورأينا أمير المؤمنين عليه السلام وقد رق فلحظ السماء، وحرك شفتيه بكلام، لم نسمعه فوالله لقد رأيناه وقد عاد إلى حال الإنسانية، وتراجعت ثيابه من الهواء، حتى سقطت على كتفيه، فرأيناه وقد خرج من المسجد، وإن رجليه لتضطربان.
فبهتنا ننظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال لنا: ما لكم تنظرون وتعجبون؟ فقلنا يا أمير المؤمنين: كيف لا نتعجب وقد صنعت ما صنعت.
فقال: أما تعلمون أن آصف بن برخيا، وصي سليمان بن داود عليهما السلام قد صنع ما هو قريب من هذا الأمر فقص الله جل أسمه قصته حيث
مخ ۴۶
يقول: (أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين. قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي، أمين. قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك. فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) إلى آخر الآية (1).
فأيما أكرم على الله نبيكم أم سليمان عليهما السلام؟ فقالوا: بل نبينا عليه السلام أكرم يا أمير المؤمنين قال: فوصي نبيكم أكرم من وصي سليمان وإنما كان عند وصي سليمان عليهما السلام من اسم الله الأعظم حرف واحد، فسأل الله جل اسمه فخسف له الأرض ما بينه وبين سرير بلقيس فتناوله في أقل من طرف العين، وعندنا من اسم الله الأعظم اثنان وسبعون حرفا، وحرف عند الله تعالى استأثر به دون خلقه. فقالوا له يا أمير المؤمنين: فإذا كان هذا عندك فما حاجتك إلى الأنصار في قتال معاوية وغيره، واستنفارك الناس إلى حربه ثانية؟ فقال: (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) (2) إنما أدعو هؤلاء القوم إلى قتاله لثبوت الحجة، وكمال المحنة، ولو أذن لي في إهلاكه لما تأخر، لكن الله تعالى يمتحن خلقه بما شاء، قالوا فنهضنا من حوله ونحن نعظم ما أتى به عليه السلام (3).
الحميري عن أحمد بن محمد، عن جعفر بن محمد بن عبيد الله، عن عبد الله بن ميمون، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن آبائه عليهم السلام، قال مر أمير المؤمنين عليه السلام في ناس من أصحابه بكربلاء فلما مر بها إغرورقت عيناه بالبكاء، ثم قال: هذا مناخ ركابهم، وهذا ملقى رحالهم، وهاهنا تهراق دماؤهم، طوبى لك من تربة عليها تهراق دماء الأحبة (4).
مخ ۴۷
وبإسناد عن الأصبغ بن نباتة، عن عبد الله بن عباس، قال: كان رجل على عهد عمر بن الخطاب وله فلاء (1) بناحية أذربيجان قد استصعبت عليه فمنعت جانبها، فشكى إليه ما قدنا له وإنه كان معاشه منها، فقال له: إذهب فاستغث بالله عز وجل، فقال الرجل: ما زال ادعوا وأبتهل إليه وكلما قربت منها حملت علي، قال: فكتب له رقعة فيها من عمر أمير المؤمنين إلى مردة الجن والشياطين أن يذللوا هذه المواشي له، قال: فأخذ الرجل الرقعة ومضى فاغتممت لذلك غما شديدا، فلقيت أمير المؤمنين عليا عليه السلام فأخبرته بما كان، فقال:
والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ليعودن بالخيبة، فهدأ ما بي، وطالت علي سنتي، وجعلت أرقب كل من جاء من أهل الجبال، فإذا أنا بالرجل قد وافي وفي جبهته شجة (2) تكاد اليد تدخل فيها، فلما رأيته بادرت إليه فقلت له: ما وراءك؟
فقال: إني صرت إلى الموضع ورميت بالرقعة فحمل علي عداد منها فهالني أمرها فلم تكن لي قوة بها، فجلست فرمحتني أحدها في وجهي فقلت : اللهم إكفنيها.. فكلها يشتد علي، ويريد قتلي، فانصرفت عني، فسقطت فجاء أخ لي فحملني، ولست أعقل، فلم أزل أتعالج حتى صلحت، وهذا الأثر في وجهي فجئت لأعلمه يعني عمر.
فقلت له: صر إليه فاعلمه فلما صار إليه وعنده نفر فأخبره بما كان فزبره، وقال له: كذبت لم تذهب بكتابي، قال: فحلف الرجل بالله الذي لا إله إلا هو، وحق صاحب هذا القبر لقد فعل ما أمره به من حمل الكتاب. وأعلمه أنه قد ناله منها ما يرى، قال: فزبره وأخرجه عنه. فمضيت معه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فتبسم ثم قال: ألم أقل لك؟ ثم أقبل على الرجل فقال له: إذا انصرفت فصر إلى الموضع الذي هي فيه وقل: اللهم أني أتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، وأهل بيته الذين اخترتهم على علم على العالمين، اللهم فذلل لي
مخ ۴۸
صعوبتها، وحزانتها، واكفني شرها، فإنك الكافي، المعافي، والغالب القاهر.
فانصرف الرجل راجعا، فلما كان من قابل قدم الرجل ومعه جملة قد حملها من أثمانها إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فصار إليه وأنا معه، فقال:
تخبرني أو أخبرك؟ فقال الرجل بل: تخبرني يا أمير المؤمنين، قال: كأنك صرت إليها، فجاءتك، ولاذت بك خاضعة ذليلة، فأخذت بنواصيها واحدا بعد آخر فقال الرجل: صدقت يا أمير المؤمنين، كأنك كنت معي، فهذا كان، فتفضل بقبول ما جئتك به.
فقال: امض راشدا بارك الله لك فيه. وبلغ الخبر عمر فغمه ذلك حتى تبين الغم في وجهه، وانصرف الرجل وكان يحج كل سنة وقد أنمى الله ماله.
قال، وقال أمير المؤمنين عليه السلام: كل من استصعب عليه شئ من ماله أو أهله أو ولد أو أمر فرعون من الفراعنة، فليبتهل بهذا الدعاء فإنه يكفي مما يخاف إن شاء الله تعالى، وبه القوة (1).
وروي بإسناد أن أمير المؤمنين عليه السلام كان جالسا في مجلسه والناس مجتمعون عليه بالمدينة، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، حتى وافى رجل من العرب فسلم عليه، وقال: أنا رجل لي على رسول الله صلى الله عليه وآله وعد، وقد سألت عن قاضي دينه، ومنجز وعده، بعد وفاته فأرشدت إليك. فهل الأمر كما قيل لي؟ فقال أمير المؤمنين: نعم أنا منجز وعده، وقاضي دينه من بعده، فما الذي وعدك به؟ قال: مائة ناقة حمراء، وقال لي: إذا أنا قبضت فأت قاضي ديني، وخليفتي من بعدي، فإنه يدفعها إليك وما كذب صلى الله عليه وآله. فإن يكن ما ادعيته حقا فعجل علي بها - ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله خلفها ولا بعضها - فأطرق أمير المؤمنين عليه السلام مليا، ثم قال يا حسن: قم فنهض إليه فقال له: إذهب فخذ قضيب رسول الله صلى الله عليه وآله الفلاني، وصر إلى البقيع فأقرع به الصخرة الفلانية ثلاث قرعات، وانظر ما يخرج منها
مخ ۴۹
فادفعه إلى هذا الرجل، وقل له يكتم ما رأى.
فصار الحسن - عليه السلام - إلى الموضع، والقضيب معه، ففعل ما أمره، فطلع من الصخرة رأس ناقة بزمامها، فجذبه الحسن - عليه السلام - فظهرت الناقة، ثم ما زال يتبعها ناقة ثم ناقة حتى انقطع القطار على مائة، ثم انضمت الصخرة فدفع النوق إلى الرجل، وأمره بالكتمان لما رأى. فقال الأعرابي: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله، وصدق أبوك عليه السلام، هو قاضي دينه، ومنجز وعده، والإمام من بعده، رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد (1).
وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام لما أقبل من صفين، مر في زهاء سبعين رجلا بأرض ليس فيها ماء، فقالوا له: يا أمير المؤمنين ليس هاهنا ماء، ونحن نخاف العطش، قالوا: فمررنا براهب في ذلك الموضع فسألناه هل بقربك ماء فقال: ما من ماء دون الفرات، فقلنا يا أمير المؤمنين العطش وليس قربنا ماء، فقال: إن الله تعالى سيسقيكم، فقام يمشي حتى وقف في مكان ودعا بمساح، وأمر بذلك المكان، فكنس، فأجلى عن صخرة، فلما انجلى عنها، قال: إقلبوها مرمناها بكل مرام فلم نستطعها فلما أعيتنا دنا منها فأخذ بجانبها فدحا (2) بها فكأنها كرة، فرمى بها، فانجلت عن ماء لم ير أشد بياضا، ولا أصفى، ولا أعذب منه، فتنادى الناس الماء، فاغترفوا، وسقوا، وشربوا، وجملوا، ثم أخذ عليه السلام الصخرة فردها مكانها، ثم تحمل الناس فسار غير بعيد، فقال: أيكم يعرف مكان هذه العين؟ فقالوا: كلنا يعرف مكانها، قال: فانطلقوا حتى تنظروا.
فانطلق من شاء الله منا فدرنا حتى أعيينا فلم نقدر على شئ فأتينا الراهب
مخ ۵۰
فقلنا له ويحك ألست زعمت أنه ليس قبلك ماء، ولقد استثرناها هنا ماء، فشربنا واحتملنا، قال: فوالله ما استثارها إلا نبي أو وصي نبي، قلنا: فإن فينا وصي نبينا عليه السلام، قال: فانطلقوا إليه فقولوا له: ماذا قال له النبي حين حضره الموت؟ قال: فأتيناه فقلنا له إن هذا الراهب قال: كذا، وكذا، قال:
فقولوا له إن خبرناك لتنزلن ولتسلمن، فقلنا له فقال: نعم فأتينا أمير المؤمنين فقلنا قد حلف ليسلمن، قال: فانطلقوا فأخبروه أن آخر ما قال النبي، الصلاة، الصلاة، إن النبي - صلى الله عليه وآله - كان واضعا رأسه في حجري فلم يزل يقول: الصلاة، الصلاة، حتى قبض.
قال فقلنا له ذلك فأسلم (1). وفي ذلك يقول السيد بن محمد الحميري من قصيدته البائية المعروفة بالمذهبة:
ولقد سرى فيما يسير بليلة * بعد العشاء مغامرا (2) في موكب حتى أتى متبتلا في قائم * ألقى قواعده بقاع مجدب (3) فدنا فصاح به فأشرف ماثلا * كالنسر فوق شظية من مرقب (4) هل قرب قائمك الذي بوأته (5) * ماء يصاب فقال: ما من مشرب إلا بغاية فرسخين ومن لنا * بالماء بين نقا وقي سبسب (6) فثنى الأعنة نحو وعث (7) فاجتلى * بيضاء تبرق كاللجين المذهب قال: إقلبوها إنكم إن تفعلوا * ترووا ولا تروون إن لم تقلب
مخ ۵۱
فاعصوصبوا في قلعها فتمنعت * منهم تمنع صعبة لم تركب (1) حتى إذا أعيتهم أهوى لها * كفو متى ترد المغالب تغلب فكأنها كرة بكف حزور (2) * عبل الذراع دحا بها في ملعب فسقاهم من تحتها متسلسلا * عذبا يزيد على الألذ الأعذب حتى إذا شربوا جميعا ردها * ومضى فخلت مكانها لم يقرب ذاك ابن فاطمة الوصي ومن يقل * في فضله وفعاله لا يكذب يعني فاطمة بنت أسد أمه رضي الله عنها. وفي هذه القصيدة يذكر رد الشمس على أمير المؤمنين عليه السلام، وسيرد ذكره فيما بعد بمشية الله، وذلك قوله:
ردت عليه الشمس لما فاته * وقت الصلاة وقد دنت للمغرب حتى تبلج نورها في وقتها * للعصر ثم هوت هوي الكوكب وعليه قد حبست ببابل مرة * أخرى وما حبست لخلق معرب إلا لأحمد أوله ولحبسها * ولردها تأويل أمر معجب (3) وحدث أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: حدثنا محمد بن سليمان الأصبهاني، قال: حدثني يونس، عن أم حكيم بنت عمرو (4) قالت: خرجت، وأنا أشتهي أن أسمع كلام علي بن أبي طالب عليه السلام، فدنوت منه وفي الناس رقة، وهو يخطب على المنبر، حتى سمعت كلامه، فقال رجل: يا أمير المؤمنين استغفر لخالد بن عرفطة، فإنه قد مات بأرض تيماء (5) فلم يرد عليه، فقال: الثانية
مخ ۵۲
فلم يرد عليه، ثم قال: الثالثة، فالتفت إليه فقال: أيها الناعي خالد بن عرفطة كذبت، والله ما مات، ولا يموت حتى يدخل من هذا الباب، يحمل راية ضلالة، قالت: فرأيت خالد بن عرفطة (1) يحمل راية معاوية حتى نزل نخيلة وأدخلها من باب الفيل (2).
وبإسناد عن الأصبغ بن نباتة، قال: كنت مع أمير المؤمنين عليه السلام بصفين فبايعه تسعة وتسعون رجلا ثم قال: أين تمام المائة؟ فقد عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله إنه يبايعني في هذا اليوم مائة رجل، فقال فجاء رجل عليه قباء صوف متقلد سيفين، فقال: هلم يدك أبايعك فقال: على ما تبايعني؟ قال: على بذل مهجة نفسي دونك، قال: ومن أنت؟ قال: أويس القرني فبايعه، فلم يزل يقاتل بين يديه حتى قتل فوجد في الرجالة مقتولا (3).
مخ ۵۳
خبر ميثم التمار رضي الله عنه وبإسناد مرفوع إلى ابن ميثم التمار، قال: سمعت أبي يقول: دعاني أمير المؤمنين - عليه السلام - يوما فقال لي يا ميثم كيف أنت إذا دعاك دعي بني أمية عبيد الله بن زياد إلى البراءة مني؟ قلت: إذا والله أصبر، وذاك في الله قليل ، قال: يا ميثم إذا تكون معي في درجتي.
وكان ميثم يمر بعريف (1) قومه فيقول: يا فلان كأني بك قد دعاك دعي بني أمية وابن دعيها فيطلبني منك، فتقول هو بمكة، فيقول: لا أدري ما تقول، ولا بدلك أن تأتي به. فتخرج إلى القادسية فتقيم بها أياما، فإذا قدمت عليك ذهبت بي إليه حتى يقتلني على باب دار عمرو بن حريث (2)، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر من منخري دم عبيط.
قال: وكان ميثم يمر في السبخة بنخلة فيضرب بيده عليها، ويقول: يا نخلة ما غذيت إلا لي، وكان يقول لعمرو بن حريث: إذا جاورتك فأحسن جواري، فكان عمرو يرى أنه يشتري عنده دارا أو ضيعة له بجنب ضيعته فكان عمرو يقول:
سأفعل، فأرسل الطاغية عبيد الله بن زياد إلى غريف ميثم يطلبه منه فأخبره أنه بمكة فقال له: إن لم تأتني به لأقتلنك فأجله أجلا وخرج العريف إلى القادسية
مخ ۵۴
ينتظر ميثما، فلما قدم ميثم أخذ بيده فأتى به عبيد الله بن زياد، فلما أدخله عليه، قال له: ميثم، قال: نعم، قال: إبرأ من أبي تراب. قال: لا أعرف أبا تراب قال:
إبرأ من علي بن أبي طالب قال: فإن لم أفعل؟ قال: إذا والله أقتلك. قال: أما إنه قد كان يقال لي إنك ستقتلني، وتصلبني على باب عمرو بن حريث، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر من منخري دم عبيط.
قال: فأمر بصلبه على باب عمرو بن حريث، فقال للناس: سلوني، سلوني - وهو مصلوب - قبل أن أموت، فوالله لأحدثنكم ببعض ما يكون من الفتن فلما سأله الناس وحدثهم أتاه رسول من ابن زياد - لعنه الله - فألجمه بلجام من شريط، فهو أول من ألجم بلجام وهو مصلوب، ثم أنفذ إليه من وجاء جوفه حتى مات فكانت هذه من دلائل أمير المؤمنين عليه السلام (1).
وبإسناد عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عن أبيه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقال يا علي: إذا أنا مت فاغسلني من بئري مرتين بسبع قرب فإذا فرغت من مهادي فضع سمعك على فمي، ثم اعقل ما أقول لك، قال: ففعلت ما أمرني به صلى الله عليه وآله فحدثني بما هو كائن إلى يوم القيامة (2).
وبإسناد أن أمير المؤمنين عليه السلام، كان يقول: ما من رجل من قريش جرت عليه المواسي إلا وقد نزلت فيه آية أو اثنتان تقوده إلى الجنة، أو تسوقه إلى نار، وما من آية نزلت في بر أو بحر أو في سهل أو جبل إلا وقد عرفت حين نزلت، فيم أنزلت، ولو ثنيت لي وسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل القرآن بقرآنهم (3).
مخ ۵۵