خریطه معرفت
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
ژانرونه
فينيسيا
مكان أشبه بعالم بأكمله أكثر من كونه مدينة.
ألدو مانوتسيو
قادوني عبر أطول طريق، يطلقون عليه اسم القنال الكبير، وهو واسع جدا حتى إن القوادس كانت على نحو متكرر يتجاوز بعضها بعضا؛ لقد رأيت سفنا وزنها أربعمائة طن أو أكثر راسية إلى جوار المنازل تماما وقد أنزلت المرساة. أعتقد أنه أجمل الطرق وأحسنها بناء في العالم ويمضي مباشرة عبر المدينة. تتسم المنازل بالضخامة والارتفاع ، وهي مبنية من الحجارة؛ والمنازل القديمة كلها مطلية؛ ولهذه المنازل المنتصبة منذ مائة سنة واجهات من رخام أبيض من إستريا، التي تبعد نحو مائة ميل، ومطعم برخام سماقي وصخور سربنتين. يشتمل معظم هذه المنازل على حجرتين لهما أسقف مذهبة، ومدافئ فاخرة، وهياكل الأسرة الذهبية اللون، ومداخلها من اللون نفسه، ومؤثثة بأثاث فاخر للغاية. إنها، بإيجاز، أروع المدن التي رأيتها على الإطلاق، وأكثرها احتراما لكل السفراء والغرباء، تدار بأعظم قدر من الحكمة، وتخدم الرب بأقصى قدر من الإجلال.
السفير الفرنسي فيليب دي كومين (نحو 1447-1511)، متجولا في فينيسيا في عام 1495
تبدأ قصة فينيسيا في القرنين الخامس والسادس، بينما كان العالم الروماني يتعرض للانهيار من الداخل وللهجوم من الخارج. تحولت الطرق المعبدة المستقيمة التي كانت تنقل الفيالق الرومانية، والتجار والحجاج بكفاءة حول الإمبراطورية لقرون إلى سبل للإرهاب، والجيوش الغازية تسير عليها نحو روما. وفي طريقها، كانت تمر بأعظم مدن شمال إيطاليا؛ أكويليا وألتينو وبادوا، وتتوقف لا لشيء إلا لتعيث فسادا بفرض الحصار والسيف والنار. فر أولئك الذين تمكنوا من الهرب صوب البحر، حاملين المتعلقات القليلة التي تمكنوا من إنقاذها. عندما وصلوا إلى حافة الماء، وجدوا أنفسهم في عالم جديد غريب. في الركن الشمالي الشرقي من إيطاليا، لم يكن يوجد تمييز واضح بين اليابسة والبحر، فلا أجراف لها خلجان وشواطئ، ولا فاصل صخري بين النطاقين. هنا، حيث ينعطف الساحل حول أعلى البحر الأدرياتيكي، يتحد العنصران على مساحة شاسعة مسطحة. ينزلق الماء فوق الرمال المتموجة، وتظهر الجزر وتختفي، وتنمو غابات من البوص في أراضي المستنقعات، ويظهر الضوء الساطع متلألئا عبر أعداد لا حصر لها من قطرات الماء المتبخر، ويفصل سديم متألق، يبدو كأنه خيالات خارقة مستحضرة في الأفق، الزرقة الساطعة للسماء عن زرقة الماء الشاحبة المائلة للخضرة.
على مدى آلاف السنين، كان النهران العظيمان، بادي وبيافا، قد رسبا كميات ضخمة من الطمي، المحمول من الجبال، في الخليج. شكلت التيارات الطمي على هيئة خط منحن من الأجراف الرملية، التي تجري موازية للساحل، مكونة بحيرة شاطئية ضخمة من المياه الضحلة في المنتصف، عازلة البحر المفتوح عن بضع قنوات يتدفق إليها الماء دخولا وخروجا مع ارتفاع المد وانخفاضه كل يوم. لم يكن ملاذا للطيور والأسماك والبعوض فحسب، وإنما أيضا للاجئين الذين تمكنوا من الوصول إلى الجزر العشبية المتغيرة في قوارب صغيرة مسطحة القاع؛ كانت هي الزوارق الوحيدة التي يمكنها الإبحار في المياه المتقلبة. جعل هؤلاء الناس، الذين كانوا يتسمون بالصلابة والدأب، حياتهم تتمحور حول هذا العالم المائي المنبسط، يحميهم البحر الذي فصل بينهم وبين البر الرئيسي، ولكن في الوقت نفسه، كانت موجات المد والجزر العالية التي كان بإمكانها أن تغمر بيوتهم في أي لحظة، تشكل لهم مصدر تهديد مستمر، وأحيانا تغمر المدينة إلى وقتنا هذا. تعلم هؤلاء الناس، الذين كانوا يعرفون باسم شعب فينيتو، البقاء، وأخيرا، الازدهار. اعتمدوا في تأمين احتياجاتهم من الغذاء على الأسماك الوفيرة في البحيرة الشاطئية وغمروا جذوع أشجار ضخمة في الماء لتكون أساسا لمنازلهم، وعادوا إلى المدن المدمرة في البر الرئيسي للحصول على الحجارة والرخام والطوب والخشب؛ وأي مواد بناء يمكنهم العثور عليها ونقلها.
بدأت مجتمعات صغيرة في النمو على مجموعة الجزر الصغيرة في وسط البحيرة الشاطئية. وتولى حكم هذا المجتمع، الذي تطور بنظام الحكم الخاص به، شخص يطلق عليه مسمى
dux (وتعنى القائد باللغة اللاتينية، والتي تحولت، بمرور الوقت، إلى كلمة دوق
doge )، والذي انتخب لأول مرة في عام 697 ليحكم مدينة فينيسيا الناشئة. كان الفينيسيون يتصفون بسعة الحيلة والتصميم؛ فوضعوا جسورا فوق قنوات المياه الضيقة، وأنشئوا السدود لمواجهة تيارات المد والجزر العالية، وجففوا الأرض من الماء، وبنوا قوارب ضيقة مسطحة القاع يمكنها أن تغطس في الماء وتنزلق عبره بسلاسة، وطوروا طرقا فعالة لتحقيق أقصى استفادة من الحياة في البحيرة الشاطئية. ليس من الممكن إنتاج المحاصيل في البحر، ولكنه مورد للربح وذلك عن طريق إنشاء أحواض الملح؛ وهي مناطق بها مياه ضحلة تتبخر في الشمس، تاركة هيكتارات من المعادن البراقة، التي فصلوها ببكرات وجدفوا بها وصولا إلى البر الرئيسي لمقايضتها بالقمح والشعير. لقد أجبرهم هذا الافتقار إلى الاكتفاء الذاتي على التجارة وعلى الإبحار ليس فقط في النهرين الكبيرين إلى الأسواق في كريمونا وبافيا وفيرونا، وإنما أيضا في البحر المفتوح على امتداد ساحل شبه جزيرة إستريا. كان التحكم في البحر الأدرياتيكي يمثل أمرا جوهريا لقدرة الفينيسيين على التجارة في البحر المتوسط والشرق، وسرعان ما أنشئوا سلسلة من المحطات التجارية على طول الساحل، وعرضوا الحماية على السكان من القراصنة الأشرار الذين روعوا المنطقة، في مقابل السلطة. وفي عام 998، أضاف دوق فينيسيا لقب قائد دالماسيا إلى قائمة ألقابه.
ناپیژندل شوی مخ