خریطه معرفت
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
ژانرونه
كتاب «تاريخ الممالك الإسلامية في إسبانيا»
في وقت ما في منتصف القرن الثاني عشر، يصل شاب إلى بوابات طليطلة، ويقف على حافة مضيق نهر تاجة قبل أن يعبر الجسر إلى المدينة. بعيدا بالأسفل منه، يتمخض النهر الجليدي وهو يمضي في مجراه بلا هوادة عبر الصخور بينما يحدق الشاب بناظريه نحو المدينة الرابضة على قمة تلها الجرانيتية. اسمه جيرارد وهو مهتم اهتماما خاصا بعلم الفلك؛ فبعد أن تعلم كل شيء يمكنه تعلمه من معلميه في إيطاليا، سافر آلاف الأميال عبر اليابسة والبحر من موطنه في كريمونا بحثا عن المعرفة. كان قد قيل له إنه، هنا، في مدينة طليطلة، في إسبانيا، سوف يكون في مقدوره أن يدرس اكتشافات العرب، وإن كان محظوظا حقا فسوف يكون بمقدوره العثور على نسخة من أعظم كتاب كتب في علم الفلك على الإطلاق؛ كتاب «المجسطي». يشعر بالتعب ويكسوه التراب جراء أيام كثيرة قضاها في الطريق، ولكن أخيرا بلغت رحلته الطويلة منتهاها؛ فقد وصل. يرتجف ترقبا للكنوز التي تنتظره متجها بناظريه نحو الشوارع الضيقة المتشابكة المظلمة. وبينما هو يقف على أعتاب فصل جديد في حياته، توشك أوروبا أن تكون على مشارف فصل جديد في تطورها الفكري. إن جهد جيرارد البحثي في طليطلة سوف يجعل المدينة أهم مركز لنقل المعرفة العلمية بين العالمين الإسلامي والمسيحي؛ سوف يمضي بقية حياته هنا، يترجم الكتب من العربية إلى اللاتينية. سوف تسافر نسخ من هذه الكتب في كل أنحاء أوروبا، وتتناقلها الأيدي، وتجمع في صناديق، وتكدس في السروج، وسوف ترتج وهي تنقل عبر الطرق من دير إلى مدرسة كاتدرائية، ومن قاعة محاضرات جامعة إلى مطالعة باحث. من مونبلييه إلى مرسيليا، ومن باريس إلى بولونيا وشارتر وأكسفورد، وبيزا وما وراءها، سوف تشكل هذه الكتب إطار المعرفة العلمية لقرون آتية. أكثر من أي فرد آخر، سوف يكون جيرارد الكريموني مسئولا عن جلب الأفكار العظيمة لليونان القديمة وإسلام العصور الوسطى إلى أوروبا الغربية.
تبين رحلة جيرارد أن شهرة المعرفة العربية كانت بالفعل قد انتشرت انتشارا واسع النطاق في أوروبا الغربية. فموقع طليطلة على الحدود بين العالمين الإسلامي والمسيحي جعل من المدينة، مثل باليرمو في صقلية وأنطاكية في سوريا، بوابة تدفقت من خلالها المعرفة. كان النصف الثاني من القرن الحادي عشر فترة نهضة مهمة لأوروبا الغربية؛ فقد استولى النورمانديون على صقلية من حكامها المسلمين، وفي عام 1095، ألقى البابا أوربان الثاني عظة دعا فيها إلى الحملة الصليبية الأولى، ليرسل المسيحيين من كل أنحاء أوروبا الغربية من أجل مساندة البيزنطيين في حربهم مع الأتراك، ثم يمضون ليستولوا على الأرض المقدسة من الإمبراطورية الإسلامية. في صيف عام 1099، دخل الصليبيون بيت المقدس ونجحوا في إعادة المدينة المقدسة إلى المسيحية. كانت هذه هي الحملة الأولى ضمن سلسلة من الحملات الصليبية ضد القوات المسلمة في الشرق؛ إذ جرت حملتان إضافيتان في القرن الثاني عشر والعديد من الحملات في القرن الثالث عشر، فقد تصارعت الديانتان الكبريان من أجل بسط مناطق نفوذهما، التي كان مركزها في بيت المقدس، والحفاظ عليها. أقيمت الإمارات الصليبية وقاتلت للاستيلاء على أنطاكية وطرابلس وأديسا؛ وجرى بعض التبادل الثقافي في ظل هذا الوضع، ولكن غياب الاستقرار السياسي وعمليات الاندلاع الدائم للعنف كان يعني أن انتقال الأفكار الثقافية كان محدودا، وحجبه ما كان يحدث في صقلية، وبدرجة أكبر، في طليطلة.
بدأت عملية استعادة شمال إسبانيا بصورة جدية في النصف الثاني من القرن الحادي عشر؛ إذ سقطت طليطلة في عام 1085. وفي غضون بضعة عقود، كانت أوساط الباحثين تعج بالشائعات حول العجائب التي يمكن العثور عليها هناك. أغرت هذه الشائعات رجالا من أقصى أطراف أوروبا؛ من إنجلترا، ومن ألمانيا، وفرنسا، والمجر، والساحل الدلماسي. ربما كان جيرارد نفسه يتبع، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، خطى مواطنه أفلاطون التيفولي، الذي كان يترجم كتبا علمية - ومن بينها كتاب لبطليموس - في برشلونة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الثاني عشر. وسواء كان جيرارد قد التقى بأفلاطون أو لم يلتق به في الواقع مطلقا، فمن الممكن بلا شك أن يكون قد درس كتبه وأنها دفعته إلى البحث عن المزيد. إلا أنه لا شك إطلاقا في أن جيرارد قد سافر إلى طليطلة «بسبب ولعه بكتاب «المجسطي»».
1 «على الرغم من أنه كان قد تعلم في كنف الفلسفة منذ مهده»،
2
فلا بد أن جيرارد قد بدأ الدراسة في كريمونا، وربما كان ذلك في البيت على يد معلم، وتبع ذلك بضع سنوات في مدرسة دير محلي . ومن هناك، ربما يكون قد ذهب إلى بولونيا القريبة، التي كانت بالفعل مركز دراسة القانون في جامعتها الناشئة؛ التي كانت الأولى في أوروبا. وربما يكون تعليمه قد تضمن بعض مبادئ الرياضيات والفلك بوصفهما جزءا من العلوم الأربعة التقليدية، ولكن في حين أن الكتب المدرسية الرئيسية التي درسها ذكرت بطليموس باعتباره حجة في الفلك وإقليدس باعتباره حجة في الهندسة، فإنها لم تقدم أي تفاصيل. لا بد أن واحدا على الأقل من معلميه كان مهتما بالجوانب العلمية للعلوم الأربعة، وأشعل حماسة في نفس جيرارد الشاب، الذي شد الرحال بعد ذلك بحثا عن معرفة أعمق. أين من الممكن أن يكون قد ذهب بعد ذلك؟ كان المكان الأنسب في هذا الجوار هو دير بوبيو،
1
الذي يبعد ثمانين كيلومترا فقط إلى جنوب غرب كريمونا، والذي ضمت مكتبته واحدة من مجموعات المخطوطات الفلكية التي لم يكن يوجد في أوروبا الغربية غيرها آنذاك.
في القرن التاسع، كان دير بوبيو مقرا لراهب من أيرلندا، يدعى دانجال، الذي كان بمقدوره، على نحو لافت، أن يشرح، في خطاب إلى شارلمان، الجانب العلمي وراء الكسوفين الشمسيين الكبيرين اللذين حدثا في عام 810. وكان دانجال هو من جمع مجموعة كبيرة من المخطوطات لمكتبة الدير. في زمن جيرارد، كانت المجموعة قد توسعت لتشمل العديد من الأعمال عن الفلك لراهب القرن الحادي عشر اللامع هيرمانوس كونتراكتوس، الذي كتب أيضا أطروحة عن الأسطرلاب واستخداماته. يدرج فهرست يعود إلى القرن العاشر من بوبيو ملخصا لكتاب «المجسطي» كتبه بوثيوس، «الرجل الذي جعل علم الفلك لبطليموس متاحا للإيطاليين».
ناپیژندل شوی مخ