خریطه معرفت
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
ژانرونه
16
كان لا بد لكل هذه الكتب أن تنسخ؛ لذا ليس مستغربا أن صناعة النسخ ازدهرت في قرطبة في القرن العاشر. فعين مئات الناس لإنتاج ما يقدر بنحو 70 ألفا إلى 80 ألف كتاب يؤلف في المدينة كل عام، في أكبر سوق للكتب في العالم الغربي.
تألق نجم قرطبة، لكنه سرعان ما خبا. فعندما مات الحكم في عام 976، مات معه الاستقرار والحرية الفكرية. فقد ترك ابنه، الهشام، البالغ من العمر أحد عشر عاما، على العرش، ورأى الوزير المنصور أن الفرصة مواتية للاستيلاء على السلطة. ولم يكن لجنون العظمة لدى المنصور حد. فشرع في تدمير ونهب مدينة الزهراء ليبني قصرا جديدا لنفسه على الجانب الآخر من قرطبة. وتدريجيا غرقت المدينة الشاسعة الساحرة على سفح التل التي تعلو قرطبة في الغبار، واستخدمتها الفصائل المتناحرة قاعدة لها مع سقوط الخلافة، وسلبت كنوزها؛ أنابيبها، وأعمدتها، ومنحوتاتها، وأبوابها، وأصولها كلها بيعت بأغلى الأثمان. على الرغم من هذا، فإن أنقاض مدينة الزهراء مثيرة للذكريات بقوة. فلا تزال الأقواس الكبيرة لقاعات المجلس، وأحواض الفناء، والموقع المثير للمشاعر تنال إعجاب آلاف السياح في وقتنا الحاضر، لكن التفاصيل الصغيرة هي ما يعيد الحياة إلى المدينة؛ كالثقوب الدائرية التي كانت قوائم الأبواب تركب فيها، والتابوت الحجري الروماني المعاد استخدامه على هيئة حوض سقاية في إسطبلات القصر، وقطع أنابيب الرصاص المكسورة التي كانت جزءا من نظام الري.
أيضا صب المنصور جام غضبه على قرطبة نفسها. فتحت تأثير علماء الدين المحافظين، نهب مكتبات المدينة العظيمة، باحثا عن كل الكتب التي «تتناول العلوم القديمة من منطق، وفلك، ومجالات أخرى، مبقيا فقط على الكتب المتعلقة بالطب والرياضيات. حفظت الكتب التي تناولت اللغة، والنحو، والشعر، والتاريخ، والطب، والسنن، والحديث، والعلوم المشابهة التي سمح بها في الأندلس». وأمر بتدمير البقية و«لم ينج إلا عدد قليل؛ أما البقية فإما أحرقت وإما ألقي بها في آبار القصر وغطيت بالتراب والأحجار». كان تبريره أن «هذه العلوم لم تكن معروفة لأسلافهم ومقتها أئمتهم السابقون».
17
كانت تعد كتب هرطقة وكان أي شخص يبحث عنها مدانا بعدم اتباع الشريعة الإسلامية. إن الكيفية التي تخيروا بها أي نصوص يبقون عليها وأيها يدمرونها تبقى لغزا؛ لا بد أنه كان من الصعب تحديد إذا ما كانت نصوص مثل كتاب «المجسطي» لبطليموس تعد كتبا رياضية أم متخصصة في الفلك. نهبت قرطبة مرات عديدة في عقود الفوضى التي تلت، ودمرت مكتباتها. أما الكتب التي كتب لها البقاء فقد «تبعثرت في كل أنحاء الأندلس»،
18
فقد أخذها باحثون فارون إلى مدن أخرى من بينها إشبيلية وغرناطة وسرقسطة وطليطلة. ظفرت هذه الإمارات الصغيرة التي عرفت باسم دويلات «الطوائف»، باستقلالها في أواخر القرن الحادي عشر وازدهرت في الوقت نفسه الذي تراجعت فيه قرطبة. سعى حكامها جاهدين إلى جعل قصورهم مراكز عظيمة للتعلم، تضم مكتبات وباحثين نابغين. واعتمد نجاحهم على مزيج من الحظ والمال واهتماماتهم الفكرية الخاصة. فاشتهرت سرقسطة بفلاسفتها وفي أواخر القرن الحادي عشر، حكمها يوسف المؤتمن بن هود، الذي يحتمل أنه كان عالم الرياضيات الأكثر موهبة في سائر إسبانيا المسلمة، والذي من المؤكد أنه كان الأكثر أصالة وابتكارا. يتضح من كتاباته أن مكتبته كانت مزودة بكل نص رياضي مهم كان متاحا في القرن العاشر، مع وجود أطروحة «العناصر» لإقليدس باعتبارها مؤلفا أساسيا في تلك المكتبة.
لم تسترد أبدا قرطبة مجدها الذي نعمت به في ظل حكم الأمويين، لكنها بقيت مركزا للتعلم والكتب. في القرن الثاني عشر، ولد في المدينة اثنان من أعظم مفكري العالم؛ موسى بن ميمون (نحو 1135-1204)، الفيلسوف اليهودي الذي أثرت كتاباته على الباحثين في أنحاء الشرق الأوسط وأوروبا، وابن رشد (1126-1198) الذي يعرف بأنه مؤسس الفكر العلماني في أوروبا الغربية بسبب تعليقاته الواسعة الانتشار على فلسفة أرسطو؛ وكان الشخص الوحيد غير اليوناني الذي صوره رافاييل في لوحته «مدرسة أثينا». مع الاحتلال التدريجي لإسبانيا مجددا على يد ممالك الشمال المسيحية، أصبحت كتب هذين الباحثين وأفكارهما بمنزلة جسر بين العلوم العربية في أوائل العصور الوسطى والثقافة اللاتينية في أواخر العصور الوسطى. ولم ينج إلا نسخ قليلة للغاية باللغة العربية. ونعرف أن نسخا من أطروحة «العناصر» لإقليدس، وكتاب «المجسطي» لبطليموس ومجموعة مؤلفات جالينوس جاءت إلى قرطبة من الشرق، حيث نسخت ووزعت في أنحاء البلاد وعكف على دراستها الباحثون. أخذ بعض تلك الكتب إلى طليطلة، حيث ترجمت إلى اللاتينية. كان مصير كثير من الكتب الأخرى مختلفا. ففي عام 1492، سقط آخر معقل إسلامي، مدينة غرناطة الجميلة، في أيدي المسيحيين. كانت الشروط المتفق عليها سخية ومستنيرة؛ فقد سمح للمسلمين الإسبان أن يعيشوا في سلام، وأن يمارسوا دينهم ويتبعوا عاداتهم. لكن هذه البدايات المفعمة بالأمل سرعان ما انطمرت تحت موجة من التعصب والاضطهاد. لم يكن ثمة مكان لثقافات أو ديانات غريبة في إسبانيا في عصر فرديناند وإيزابيلا؛ فطردوا آلافا من اليهود، وقمعوا ونفوا المسلمين، وبدأت عملية تدمير حضارة إسلامية قوامها 700 سنة. وبلغ ذلك ذروته في عام 1499، عندما وصل رجل الدين المتعصب الكاردينال خيمينيز دي سيسنيروس إلى غرناطة وهو ينوي تبديل ديانة السكان ومحو أي آثار للثقافة الإسلامية. فأخذ محتويات مكتبات المدينة وبنى موقدا هائلا في الميدان الرئيسي للمدينة، ليحرق ما يناهز مليوني كتاب؛ كانت «محرقة ثقافية» استندت إلى مبدأ أن «تدمير الكلمة المكتوبة هو تجريد للثقافة من الروح، ويؤدي في النهاية إلى تجريدها من هويتها».
19
ناپیژندل شوی مخ