خریطه معرفت
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
ژانرونه
كانت الترجمة الجديدة لكتاب «عن المواد الطبية» نقطة تحول في تطور الطب الأندلسي؛ إذ أتاحت له أن يتخطى إنجازات الشرق ويؤسس تقليدا طبيا مستقلا في إسبانيا. ولكن، قبل أن يتسنى لهذا أن يحدث، تعين على القرطبيين أن يترجموه من اليونانية إلى العربية، ولم يكن يوجد من يتحدث اليونانية في الأندلس. على الفور كتب حسداي بن شبروط إلى الإمبراطور في القسطنطينية، طالبا منه العون، وبعد بضع سنوات، وصل راهب بيزنطي يدعى نيكولاس لينضم إلى فريق المترجمين الذين كانوا عاكفين على النص. لقن نيكولاس اليونانية للمستعربين الناطقين باللاتينية؛ حتى يتمكنوا من ترجمة الحديث المتبادل بينه وبين الباحثين العرب ترجمة فورية، وبهذه الطريقة، ترجم هذا العمل العظيم تدريجيا إلى العربية؛ وأمكن التعرف على كل النباتات تقريبا في البيئة المحلية. كان هذا المشروع المتعدد اللغات والأعراق تحت إشراف حسداي بن شبروط، الذي شجع ودعم فريق الباحثين، وساهم دون شك بخبرته الكبيرة عند الحاجة إليها. وكما كان حاله في العصور القديمة، كان كتاب «عن المواد الطبية» واحدا من أكثر النصوص الطبية تأثيرا في العصور الوسطى؛ إذ ظل المرجعية الأساسية في موضوعه على مدى 1500 سنة، ونسخ باليونانية واللاتينية والعربية، وتنوقل على نطاق واسع. وإبان القرنين السادس عشر والسابع عشر، ترجم إلى الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية والإسبانية، وشكل الأساس لكثير من كتب الأعشاب في عصر النهضة. كانت الرسوم التوضيحية التي احتواها إيذانا بمولد نهج رسم النباتات المنتشر عبر عالمي الفن والعلم إلى يومنا هذا. وقد خطت أقدم مخطوطة مصورة باقية إلى يومنا هذا في القرن الخامس الميلادي في القسطنطينية لحساب الأميرة البيزنطية أنيسيا جوليانا، وهي الآن موجودة في مكتبة في فيينا. كانت النسخة العربية من كتاب «عن المواد الطبية» من النصوص الأساسية في تطور علمي النباتات والأدوية الأندلسيين؛ إذ كان بمثابة نقطة البداية لتقليد طويل من دراسة ووصف «الأعشاب الطبية»، علاجات تصنع من نبتة واحدة، وبحلول القرن الثالث عشر، أدرج الباحثون الأندلسيون أكثر من 3000 منها. وقد نفذوا هذا العمل في حدائق نباتية، حيث أجروا عمليات تكاثر للنباتات وزرعوها وعكفوا على دراستها بالإضافة إلى دراسة خصائصها الطبية، وابتكروا علاجات ووضعوا أسس علم الأدوية المعاصر، سائرين على النهج الذي بدأه لأول مرة عبد الرحمن الأول في حديقته في الرصافة.
انضم عمل ديسقوريدوس العظيم إلى أعمال جالينوس، التي كانت بالفعل تدرس في إيبيريا بترجمات عربية وضعها حنين بن إسحاق ومجموعته في بغداد. وعلى نحو رائع لخص أحد الباحثين الشبان، الذي كان يجمع، مثل كثير جدا من أبناء وطنه، بين الاهتمام بالعلم والموهبة في كتابة الشعر، الأمر في هذا المقطع الشعري:
عندما لا يكون لدي ضيوف ولا رفقاء،
أحتفي بأبقراط وجالينوس،
أتخذ كتبهم علاجا لوحدتي؛
إنها علاج لكل جرح أداويه .
10
سافر الكثير من الأطباء شرقا ليتعلموا من أساتذة العراق العظماء. غادر شقيقان، يدعيان عمر وأحمد، الأندلس وأمضيا عشر سنوات في بغداد يدرسان كتب جالينوس مع ثابت بن سنان، ابن الباحث الصابئي الشهير ثابت بن قرة، وطب العيون مع طبيب عيون متخصص. وعندما عادا إلى الديار في عام 962، عينا طبيبين للبلاط واشتهرا بعلاجاتهما، وتحديدا بقدرتهما على معالجة علل العيون. في الفترة نفسها تقريبا، كان يعيش في البصرة باحث أندلسي آخر، يدعى الجبلي، ويدرس الطب والمنطق. ومن هناك، انتقل إلى مصر، حيث عمل مديرا لأحد المستشفيات وبعد ذلك عاد إلى إيبيريا في عام 971.
10
وقد اكتسب سمعة باهرة بصفته طبيبا، مشتهرا بدرايته الواسعة وفهمه العميق للطب. فحقيقة أن الباحثين درسوا في الشرق منحتهم دون شك مجدا ما إن عادوا إلى ديارهم، ولكن لا بد أن المكانة العالية التي حظي بها هؤلاء الأطباء الثلاثة قد اعتمدت أيضا على ممارساتهم الطبية ومقدرتهم على شفاء الناس. وقد كانت إسهاماتهم في عملية النقل حيوية؛ إذ عادوا بأحدث الأفكار الطبية وترجمات لنصوص قديمة ونشروا تلك النصوص بين أطباء الجيل التالي في الأندلس.
ناپیژندل شوی مخ