خریطه معرفت
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
ژانرونه
ويبدو أن مواهب حسداي كانت بلا حدود؛ حتى إنه نجح في شفاء ملك ليون، سانشو البدين، من سمنته المفرطة. انضم إلى حسداي في زمرة المقربين من عبد الرحمن المسيحي (المستعرب) أسقف إلفيرا، ريتموندوس، الذي بفضل ديانته وخلفيته، صار مناسبا تماما للبعثات الدبلوماسية التي كان مسئولا عنها إلى القسطنطينية وفرانكفورت. سعت التأريخات الحديثة للأندلس إلى الطعن في فكرة أن الأندلس كانت مكانا لتسامح ديني مميز، لكن أهمية ريتموندوس وحسداي في حكومة عبد الرحمن تثبت أن التفتح كان مهيمنا في الطبقة العليا من المجتمع. علاوة على ذلك، فإن حقيقة أنهما لم يكونا مسلمين كانت ذات أهمية بالغة في الدور الذي لعباه.
بحلول عام 929، كان عبد الرحمن قد أرسى دعائم الاستقرار في الأندلس، مستخدما مزيجا من القوة الغاشمة والتفاوض البارع. كانت قرطبة، في تلك المرحلة، مدينة كبيرة غنية. كانت شوارعها النظيفة نظافة تامة تضاء بفوانيس ليلا، وملأت رائحة الطعام الشهي والتوابل العبقة أسواقها، بينما تدفق الماء عبر نظام الري إلى عدد لا يحصى من النوافير في الأفنية الظليلة للمنازل القرطبية. في ورش المدينة، صنع الحرفيون أجمل المشغولات الجلدية والحلي المنقوشة نقشا معقدا والأقمشة الفاخرة والنحاس الأخضر الشهير والأواني الفخارية الزرقاء المضاف إليها المنجنيز؛ سلع فاخرة كانت تباع في كل أنحاء منطقة البحر المتوسط والشرق الأوسط، لتحقق ثراء هائلا للحرفيين وتجار المدينة. بنى القرطبيون الأثرياء قصورا مذهلة في الوادي الخصيب لنهر الوادي الكبير، مستوحاة من بقايا الفيلات الرومانية التي وجدوها هناك، ومشتملة على حدائق وبساتين ومغاطس ومكتبات. حتى أشد الكتاب معاداة للإسلام كانوا منبهرين، ووصفوا المدينة بأنها «زينة العالم الجميلة».
7
وجاءت اللحظة التي تخرج فيها قرطبة من ظلال منافستها القديمة، بغداد، من أجل المنعطف الأخير في العداء الكبير بين السلالتين. ففي عام 929، أعلن عبد الرحمن الثالث عن إقامة خلافة منافسة، قاطعا جميع العلاقات مع بغداد ومنزلا الانتقام النهائي بالعباسيين، الذين كانت إمبراطوريتهم تتداعى من حولهم.
غير أن عبد الرحمن أدرك أن مجرد إعلان نفسه خليفة لم يكن كافيا. فقد كان بحاجة إلى أن ينشئ لنفسه مقرا يعكس سلطته ومكانته الجديدتين. وهكذا، في عام 936، سافر بضعة كيلومترات خارج قرطبة، نحو الشمال الشرقي، صوب سييرا مورينا، وهي مجموعة من التلال التي تحيط بالوادي. فوجد مكانا في منتصف الطريق إلى منحدر جبل العروس يحظى بإطلالة بانورامية شاملة عبر سهل الوادي الكبير، وبدأ يبني المدينة - القصر المهيبة التي أسماها مدينة الزهراء. عمل آلاف من العمال، وكان كثير منهم عبيدا،
8
بإيقاع محموم لإنشاء مجمع حضري ذي اكتفاء ذاتي (على مساحة تتجاوز الكيلومتر المربع)، بحماماته، وورشه، ومساجده، ومخابزه، وثكناته العسكرية، وبالطبع مبان سكنية فخمة للخليفة وحكومته. حولت مجاري المياه الجبلية، عبر قناة رومانية مرممة، إلى خزانات ضخمة، بحيث كان لكل ركن من المدينة مياه جارية، بينما قسم الموقع أفقيا إلى ثلاث مصاطب، والقصور في المستوى الأعلى. عملت محاجر إيبيريا وشمال أفريقيا بسرعة على مضاعفة إنتاج الأطنان من أجود الرخام؛ الوردي والأخضر من قرطاج، والأبيض من تاراجونا. نهبت مبان قديمة من أماكن بعيدة مثل ناربون وروما لجمع 4000 عمود حملت عليها المدينة. في قاعة الخلفاء، تألقت الجدران برخام شبه شفاف وذهب، يعكس لؤلؤة ضخمة، أرسلت هدية من القسطنطينية، كانت متدلية من وسط السقف. على الأرض، يهتز حوض من الزئبق، يبعث الرعب والعجب في نفوس الزوار بإرساله أشعة الشمس في أرجاء القاعة.
استنادا إلى خلفية عظمة مدينة الزهراء، كان في مقدور عبد الرحمن الثالث أن يشغل مكانه على الساحة العالمية إلى جانب قادة العالم العظام الآخرين في العصور الوسطى. عجت قاعات المجلس المتألقة بالسفراء من الفرنجة واللومبارديين والسردينيين والإمبراطورية البيزنطية وممالك شمال إسبانيا المسيحية، بينما استخدم ممثله، حسداي، مهاراته الشخصية في أرجاء قاعات البلاط الملكي لأوروبا والشرق. كان لهذه الفورة من النشاط الدبلوماسي كثير من النتائج الإيجابية. فقد ترسخ وضع عبد الرحمن بصفته خليفة، وأصبحت الأندلس لاعبا أساسيا في السياسات الدولية ونعمت بتحالفات قوية، وكذلك، كما أشار حسداي مفتخرا: «ملوك الأرض، المعلوم لديهم عظمته وسلطانه [يقصد عبد الرحمن الثالث]، يجلبون إليه الهدايا، يستجلبون عطفه بهدايا نفيسة، مثل ملك القسطنطينية، وآخرين. كل هداياهم تمر من بين يدي، وأنا مكلف بتقديم هدايا في المقابل.»
9
وحرصا منهم على إثبات ثرائهم وترسيخ التحالف في مواجهة العباسيين، كان البيزنطيون كرماء بشدة. فتألقت مدينة الزهراء بجواهر ضخمة، وأعمدة رخامية، وأحواض مزخرفة مرسلة من القسطنطينية . في عام 949، أرسل الإمبراطور قسطنطين السابع، الذي سمع باهتمام عبد الرحمن بالعلم والمعرفة، شيئا أغلى من ذلك؛ إذ أرسل كتابا. كان الكتاب بعنوان «عن المواد الطبية» وقد كتبه ديسقوريدوس في القرن الأول الميلادي. ويعد الكتاب دستورا أو مرجعا للأدوية وهو ضخم إذ يتألف من خمسة مجلدات، يصف 600 نبتة وخصائصها الطبية. كانت هذه النسخة قد أضيفت إليها الرسوم التوضيحية بواسطة أكثر فناني النسخ موهبة في القسطنطينية وكانت مليئة بالصور الجميلة للنباتات والمعادن والحيوانات؛ لم تكن مجرد زينة، وإنما أدوات مهمة فيما يتعلق بالتعريف. كان نصا في غاية الأهمية، وكذلك ظل لقرون، مستخدما بواسطة أجيال من الأطباء، وكان مصدرا رئيسيا لأعمال جالينوس المتعلقة بعلم النبات الطبي. كان الباحثون الأندلسيون قد توصلوا بالفعل إلى ترجمة عربية ركيكة للنص وهي الترجمة التي كان حنين بن إسحاق قد عمل عليها في بغداد، لكن كثيرا من أسماء النباتات كان قد ترجم صوتيا فحسب إلى العربية بدلا من تحديده على نحو سليم (الأمر الذي كان من شأنه أن يكون له عواقب مخيفة عند استخدامها لصنع الأدوية)؛ فكثير من النباتات لم يكن في الواقع ينمو في العراق؛ لذا كانت غير معروفة لدى المترجمين الأوائل.
ناپیژندل شوی مخ