خریطه معرفت
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
ژانرونه
1
إن ردة فعلهم مفهومة؛ فنظرا لأنهم جاءوا من صحارى شمال أفريقيا والشرق الأوسط، لا بد أنهم اعتقدوا أن هذه الأرض الخضراء المعتدلة كانت أشبه بجنة على الأرض.
لم يكن الغزاة المسلمون هم أول من اكتشف عجائب شبه الجزيرة الإيبيرية؛ إذ كان اليونانيون والفينيقيون قد بنوا مدنا تجارية على امتداد ساحل البحر المتوسط قبل قرون من وصول الرومان في عام 218ق.م، وسيطرتهم كذلك على معظم الأراضي الداخلية. بكفاءة معتادة، قسم الرومان هسبانيا (كما كانوا يطلقون عليها) إلى مقاطعات، منشئين عواصم في قرطبة ومريدا وتاراجونا، وبدءوا عملية إحداث تحول في صفحة الأرض، مسخرين الموارد الطبيعية ومنشئين مجتمعا جديدا تماما. باحتياطياتها الهائلة من الذهب والفضة والمعادن الأخرى، أصبح التعدين عملا تجاريا كبيرا؛ فوفقا لتقديرات بلينيوس الأكبر، بلغ إنتاج إيبيريا 20 ألف رطل روماني من الذهب شهريا، بما يعادل 6578 كيلوجراما أو 6,5 أطنان. تبدلت الزراعة وكانت الحبوب وثمار العنب والزيتون تصدر في أنحاء الإمبراطورية. بنى الرومان شبكة ضخمة من الطرق، إضافة إلى علامات المسافات، وأماكن المبيت والجسور؛ شبكة لا تزال تشكل أساس شبكة النقل الإسبانية. كذلك ازدهرت صناعة الصيد؛ فكانت ملايين من أسماك التونة والماكريل والسردين تملح وتباع في كل أرجاء منطقة البحر المتوسط، إلى جانب كميات هائلة من الجاروم؛ وهي صلصة سمك حارة تستخدم في تتبيل الطعام. حكم الرومان إسبانيا سبعة قرون، واستقروا وتزوجوا من السكان الإيبيريين الأصليين. وفي ظل هذا المناخ من الهدوء النسبي، نمت المدن وازدهرت الثقافة وأصبحت شبه الجزيرة مشهورة بخيولها وحبوبها ومعادنها.
بحلول نهاية القرن الرابع، كانت الإمبراطورية تتهاوى داخليا على نفسها وفي أوائل خريف عام 409، عبر 200 ألف من أفراد قبائل الوندال والسويبيين والألان جبال البرانس إلى هسبانيا وحطموا السيطرة الرومانية على شبه الجزيرة. ومع ذلك، في معمعة القرن التالي، دانت السيطرة لقبيلة جرمانية مختلفة، هي قبيلة القوط الغربيين، واستمرت تترأس خلال قرنين من التدهور العام. ونظرا لكونهم محاربين، ارتكز نجاح مجتمعهم على الحاجة إلى انتصارات مستمرة؛ ومن ثم إلى معارك تبقيهم سعداء بالغنائم والأراضي. حكموا الإيبيريين باعتبارهم صفوة صغيرة العدد نسبيا، دون أن يحدث لهم استيعاب حقيقي أبدا أو أن ينشئوا مجتمعا جديدا، كما فعل الرومان. وأسفر الاقتتال الداخلي المستمر والسلوك القمعي المتزايد تجاه رعاياهم (وبخاصة الطائفة اليهودية الكبيرة في إيبيريا) عن ركود في كل مناحي الحياة تقريبا. تراجعت التجارة تراجعا كبيرا، وحدث تناقص في عدد السكان في المناطق الحضرية، وتقلصت الثقافة لدرجة أن بعض المؤرخين أطلقوا عليهم لقب «القوط الخفيين».
حلت فجأة نهاية هذه الفترة الكئيبة في التاريخ الإيبيري في عام 711، عندما وحد رجال القبائل العربية من أنحاء الشرق الأوسط صفوفهم مع البربر من المغرب وعبروا المسافة البالغة ثلاثة عشر كيلومترا في البحر إلى الساحل الجنوبي لإيبيريا. واجهوا المقاومة غير الفعالة لنظام القوط الغربيين الحاكم بقوة عسكرية كاسحة وشروط استسلام سخية؛ لذا في غضون ثلاثة أعوام، كانت السيطرة قد دانت لهم على المدن الرئيسية والنصف الجنوبي لشبه الجزيرة بأكمله. تلقت مهمتهم عونا من قبل السكان المحليين، الذين كانوا قد سئموا من قمع القوط الغربيين والذين استنزفتهم سنوات من المجاعة،
1
فكادوا يرحبون بهم ترحيب المحررين. أجريت تسويات مع الحكام المحليين، ووزعت الأراضي والأموال بين العرب والبربر الفاتحين. وهكذا كان الفصل التالي في تاريخ إيبيريا قد بدأ. كانت العقود التالية حافلة بالاضطراب والفوضى، مع وصول موجات من المستوطنين الجدد من أفريقيا والشرق الأوسط. في هذه البوتقة التي انصهرت فيها الأعراق والعقائد والقبائل، كافحت فصائل مختلفة للاستحواذ على السيادة. حاول عدد من الحكام المتعاقبين الذين عينهم أمير تونس - الذي كان من جانبه تحت حكم الخلافة في دمشق (حتى نحو سنة 747، كانت لا تزال في قبضة الأمويين) - توحيد وإحلال الاستقرار في المنطقة ولكنهم فشلوا في ذلك. وكانت الطريقة الوحيدة التي كان من الممكن بها إحكام السيطرة على هذا الخليط المتقلب من البشر هي قيادة قوية مباشرة. كانت الأندلس بحاجة ماسة إلى حاكم قوي وكان عبد الرحمن بحاجة ماسة إلى مكان ما يعيد منه تأسيس سلالة الأمويين. لا بد أن الشك لم يخالج قلبه أو قلوب أتباعه في أن الأمر كله كان جزءا من تدبير إلهي.
شكل 4-1: مشهد لقرطبة من أوائل القرن الثامن عشر.
وصل عبد الرحمن إلى إيبيريا سنة 755، في بلدة المنكب، التي تقع إلى جهة الشرق مباشرة من ملقة، وعلى الفور بدأ في حشد الدعم. ومع انتشار أخبار النجاة والهروب المعجزين من العباسيين، هرع الناس يعرضون عليه ولاءهم، وكان كثيرون منهم سوريين لهم صلات أموية، وكانوا قد هاجروا إلى الأندلس في أربعينيات القرن الثامن. سقطت إشبيلية بسرعة وبطريقة سلمية، وفي ربيع عام 756، وجد عبد الرحمن، الذي لم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره، نفسه على الطريق إلى قرطبة. عندما وصل، كان نهر الوادي الكبير فائضا؛ فكان وابل من الطين والماء الجائشين يتحرك في دوامات تحت الجسر الروماني القديم المؤدي إلى المدينة، وكان الأمير الحالي، الفهري، في انتظاره. في المعركة التي أعقبت ذلك، هزم عبد الرحمن الفهري، وقاد منتصرا جواده عابرا فوق النهر ودخل إلى المدينة. وأخيرا وبعد سنوات أمضاها في هروب مستمر، وجد موطنا جديدا. دخل إلى قصر القوط الغربيين الحصين، ونصب نفسه الأمير عبد الرحمن الأول ومضى في توطيد سيطرته على الأندلس. وبدأ أيضا برنامجا ضخما للبناء في قرطبة، مستوحيا إياه من بقايا الحضارة الرومانية المجيدة التي كانت موجودة حوله في كل مكان؛ معابد متهدمة، وحمامات مهجورة، ومبان مدنية متداعية، وتماثيل، وفسيفساء وهيكل نظام ري متطور.
شكل 4-2: ناعورة عربية مرممة بالقرب من الجسر الروماني القديم على نهر الوادي الكبير في قرطبة.
ناپیژندل شوی مخ