فلم تستطع جهان كتم تأثرها، وإخفاء كدرها، وقد علا خديها اصفرار، واغرورقت عيناها بالدموع. - وما عسى أن يجري الآن؟ - سيحاكم أبوك على خيانته. - ألجأ إلى مراحمك، أرجوك مساعدتي، كلمة منك ...
خنق البكاء صوتها؛ فتساقطت العبرات على خديها. - لو أنك جئت قبل الآن. - إني مخطئة أعترف بخطئي. - خلت أنك تستغنين عني، وأنك قادرة أن تستخفي بي. إذن لماذا لم تأتي قبل الآن؟ - تريثت قليلا لعلي أرى منك ما كنت أتأمل، فتفد علي لتراني، أو تراسلني في الأقل. - وإذا رأيت أنني لم أقم بما تأملت ذهبت تقابلين غيري من أولياء الأمر، أليس كذلك؟ - كلا. - كلا! ألم تسترحمي غيري! - كلا. - عفوا أيتها الحسناء، أيتها العزيزة جهان (قال هذا وهو يربط قفا يدها بأنامله).
اسمحي لي أن أخبرك ماذا فعلت مؤخرا، ذهبت أولا إلى وزير الخارجية لتقابليه في منزله، فأرسل إليك كاتم أسراره قائلا: إنه لا يستطيع مواجهتك بشأن أبيك، ولقد نصح لك أن تبتعدي عن السياسة، وأن تقتصري على شغلك في المستشفى، ثم ذهبت إلى الباب العالي تسترحمين وزير الداخلية فلم تتمكني من الوصول إليه، ولقد حدثك عثماني من أبناء جنسك في الرواق إذ هممت بالخروج، ونصح لك أن تحتجبي عن الناس، وقد هلل لك بعض الشبان إذ ظهرت أمام الباب العالي، فأسكتهم نفر من البوليس، وبدد شملهم، وفي اليوم التالي ذهبت إلى يلدبز مؤزرة، ولكن جلالة السلطان لم يستطع أن يعينك في مثل هذه الأحوال، فأشار عليك أن تتكلي على الله، وبدلا من أن تعملي بمشورته، وتلقي اتكالك عليه تعالى جئت الآن إلي، ألا ترين أيتها الحسناء، أيتها العزيزة أني واقف على سائر أعمالك وحركاتك؟
فارتاعت جهان، وذعرت لما تجلى لها من سلطان هذا الرجل، ومن اتساع دائرة عرفانه، إن مقدرته لسحرية، فقد قاومها في البدء متدرجا إلى كشف أمرها، ثم أدهشها بما يعلم، فصغرت أمامه، وأحست أنها أسيرة بين يديه، بل أسيرة بين تلك القوة السحرية الألمانية التي تحد كل شيء. - ولكني اعترفت لك بخطئي. - ليس لمثلك أن يخطئ، وليس لمثلك أن تغفل اعتذارا هو دين لي عليك. - ولماذا الاعتذار؟ - ألم أكتب إليك أني قادم لأراك؟ - لقد كنت في المستشفى صباح زيارتك، ولم يكن باستطاعتي إهمال واجباتي، أولم يقدم إليك أبي عذري بهذا الشأن؟ - إن أباك سلك مسلكا لا يليق بمقامه، ولا بمقام عثماني كريم الأصل. - ولهذا قبضت عليه، أليس كذلك؟
قالت هذا بسرعة من يتحقق في الحال ظنونه. - أخطأت، أنا لست ممن يتنازلون إلى الانتقام. - بل أصبت في ظني، بلى، قد أدركت أيها الجنرال غايتك، ولكنك لا تستطيع أن تنال مرامك مني بمعاملتك والدي هذه المعاملة.
فأخذ الجنرال يدها بكلتا يديه غير مكترث بما بدا في عينيها من نار الغيظ: ها قد اقتربت من الموضوع، وذلك ما يسرني، فأسألك مرة ثانية مغضيا عن هواجسك، وعتابك الذي لا أساس له، ولا حاجة إليه أن تقبلي بي زوجا.
فسحبت جهان يدها مجيبة: ذلك مستحيل.
فنهض الجنرال إذ ذاك ساخطا: مستحيل؟ ولماذا؟ - لا أقدر أن أقترن بمسيحي. - لا يليق بك مثل هذا الاعتقاد. - إني أشعر بما أعتقد، وإني متيقنة أن الأمراء العثمانية لا تكون سعيدة إذا اقترنت بأوروبي. - وما أنت؟ - ما أنا من هذا القبيل سوى امرأة عثمانية.
قالت هذا ببطء وهدوء فيهما تهكم واستهزاء. - أنت امرأة عثمانية، ولكنك تفوقين باقي النساء في تهذيبك، فلقد تغذيت بلبان آدابنا ومدنيتنا. أيتها الحسناء، أيتها العزيزة جهان، عودي إلى معقولك، إلى صوابك، أنت تعلمين مقدار حبي لك، وإجلالي إياك، وتعلمين أيضا أني أعجب بشعبك، وأحترم تقاليده، ولهذا أحب أن أعيش بينهم، وأن أكون نصيرهم، أسلم بدعواك التي تخلصين بها النية، أنا مسلم أغار على صوالح شعبك مثلك، وسيتولى شيخ الإسلام إذا شئت عقد الزواج. - في موضوع الزواج لا فائدة من الكلام. - ماذا إذن؟
فترددت قليلا ثم أجابت: جئت لأراك بشأن والدي وابن عمي لا لأبحث معك بغير ذلك من الشئون. - قضية ابن عمك ليست بيدي، أما قضية أبيك ففيها نظر، ولربما تجهلين أنه لولاي لوقع أبوك في مخالب أعدائه قبل اليوم من زمان طويل، وقصته سياسية محضة، ولقد أبيت استعمال الوسائط التي رغبت فيها الجمعية في معاقبته. - والآن؟ - ثقي أن أمنيتك هي أمنيتي، ولكن لماذا التصلب بالرأي، ولماذا التحفظ والمخالفة؟ تقولين إنك لا تستطيعين الاقتران بأحد من أبناء أمتك، وترفضين الآن ما أقترحه عليك. - أرفض آسفة. - إنك تتصنعين. - أنا مخلصة، أقسم بالله إني مخلصة بما أقول. - لا تركي ولا أجنبي! أوروبي! يا لك من امرأة صعبة المراس. - آه ما أشقاني، تزوجت مرة، ولا أستطيع أن أتزوج مرة ثانية، أنا متزوجة من الحرية. - مواربة سفسطة كلام. - حقا ما أقول، صدقني، ثق بصفاء نيتي. - إذا صدقتك وجب علي أن أسألك أن تكوني خليلتي.
ناپیژندل شوی مخ