لما كان ياور الجنرال فون والنستين مجتازا البوابة والعربة تهيأ لركوبه، إذا ببائع جرائد قد دخل بصحيفة يومية رفعها الخادم إلى رضا باشا، فقرأ فقرة من مقالة التحرير في الصفحة الأولى، وفتح الجريدة ليطالع الأنباء الرسمية والمحلية في الصفحة الثانية، وإذ وقع بصره على جدول كبير من أسماء القتلى في الأسبوع الماضي، فنظر فيه قليلا وللحال قدم الصفحة إلى عينيه مرتعشا ليدقق النظر فيها، فشهق شهقة طويلة مرتميا على الديوان مرددا: مستحيل، مستحيل!
أما اسم مجيد بك ابن رضا باشا فلم يكن بين أسماء الأسرى ولا الجرحى، بل بين القتلى.
وفي عمود آخر من الجريدة فقرة خاصة عن بسالة العقيد، وإقدامه في ساحة الحرب استرسل بها قلم الجريدة إلى تعزية والده الشيخ الجليل، ولهذا لم يعد من باب للشك لدى رضا باشا، فتنهد قائلا: «لتكن إرادة الله تعالى، إلا أن نعمته لتأتينا إما متيسرة وإما بطيئة يوم لا نستحقها، ويوم نكون في غنى عنها.»
قال هذا وقد ترقرقت في عينيه الدموع، أما جهان فكانت ترسل من أعماق قلبها تنهدات ارتعش لها بدنها وهي جالسة على الكرسي، ساد على الأب والابنة سكون الحزن، وفي خلاله جاء الخادم معلنا قدوم شكري بك، فدعي إلى «الدارخانة»، أو للبهو الخاص، ولما مثل أمام الباشا قبل يده، وضغط على يد جهان بكلتا يديه مظهرا حزنه بعبارات متقطعة أثارها غضب مازجته الأحزان. - جئت الآن من وزارة الحربية حيث تناقل الموظفون من الوزير إلى أقل كاتب في الوزارة الخبر المشئوم، وكل ينهال باللعنات على الألمان مستنزلا عليهم غضب الله ... يا لها من فظاعة! رماه الأمير بالرصاص خطأ؛ ما شاء الله! الألمان لا يرمون أحدا بالرصاص خطأ، كذب كذب وافتراء، فقد استقيت الحقيقة من كاتم أسرار وزارة الحربية وهي هذه.
أمرت القيادة الجنود أن يهجموا على خط من خنادق الأعداء، ويستولوا عليه عنوة مهما كلف الأمر؛ فلما تراجع قسم منهم شاهدوا مسدسات ضباطهم مصوبة عليهم، فاحتج الأمير آلاي مجيد بك - وأنت تعلمين أخلاقه وإباءة نفسه - وقد رفض أن يطيع أمر ضابطه الأعلى قائلا: أنا لا أطيق أن أرى ألمانيا مصوبا مسدسا على جندي عثماني، فكان جواب الضابط الألماني وجيزا قاطعا؛ فقد صرع الأمير آلاي مجيد برصاصتين أصابتا قلبه، أما فرقته فقد وقفت بجانبه، متمردة على هذه الوحشية، ولكن - وا أسفاه - إن الذين بقوا في قيد الحياة منها بعد تلك الوقفة الباسلة قد هلكوا بمتفجرات مدافعنا. - أولم يبلغ الجنرال فون والنستين هذا الخبر؟ - لا مراء في أن يكون قد بلغه الخبر حال وصوله وزارة الحربية. - لا لا لا أظن بلغه الخبر، وإلا لما كتب هذا الكتاب، ولاستغنى عن إرسال وسام الصليب الحديدي، بل لكان حفظه لآخر. - الألماني يرمي بالرصاص بطلا عثمانيا! يا للفظاعة يا للعار! كفى ما احتملنا منهم!
دخل الخادم معلنا قدوم الجنرال فون والنستين، فنهضت جهان منتصبة، أما شكري فظل جامدا في مكانه. - أنا أقابله. - اذهبي يا ابنتي إلى غرفتك. - لا بل يجب أن أراه. - لن تريه اليوم يا ابنتي، اصبري ريثما يهدأ غضبك، واذهبي الآن إلى غرفتك.
فسقطت جهان في كرسيها وهي تستر وجهها بيديها، وسلم رضا باشا الجريدة إلى شكري بك قائلا: أره هذه الفقرة، وقل له إنني لا أستطيع أن أقابله اليوم.
كان الجنرال فون والنستين مصحوبا بمستشاره وياوره مرتديا لباسه الحربي، وعلى رأسه خوذة بيضاء، وفي رجله جزمة سوداء يشع مهمازها، وقد كاد يفرغ صبره وهو ينتظر في غرفة السلاملك كاظما غيظه؛ لأن الباشا - وقد علم بهذه الزيارة الشبيهة بالرسمية - لم يسرع لمقابلته عند الباب، وشد ما كان اندهاشه عندما جاء شكري بك لتأدية السلام، بل ليقدم إليه رسالة للباشا.
اطلع الجنرال على الخبر في الصحيفة، وأعادها متجاهلا الأمر، فقال: يا للأسف؛ ثم قطب حاجبيه، ونظر إلى شكري بك نظرة استنكاف قائلا: وما السبب في بقائك هنا حتى الآن؟ - سأبرح غدا إن شاء الله. - ولكن الأوامر صدرت إليك أن تبرح اليوم، وكان يجب أن تكون في طريقك. - لم أستطع أن أكمل استعداداتي للرحيل. - على الجندي أن يكون دائما مستعدا للانصياع إلى الأوامر أي ساعة من النهار أو الليل، عملك هذا مخالف للنظام.
ومر إذ ذاك بالضابط التركي، وعلى وجهه أمائر التذمر، وقد خرج من البيت تغلي في صدره مراجل السخط والغضب أقلها من سوء معاملة رضا باشا له، وأكثرها من عصيان شكري بك أوامره.
ناپیژندل شوی مخ